الفصل الخامس

من التنمية الاقتصادية إلى التنمية البشرية

أقام ميثاق الأمم المتحدة رابطًا بين الأمن الدولي والفقر في العالم. فقد آمن مؤسسو الأمم المتحدة بأن الحرب العالمية الثانية جاءت نتاجًا للكساد العظيم الذي ضرب العالم في ثلاثينيات القرن العشرين. وبعبارة أخرى، إن الاضطراب الاقتصادي تحول إلى اضطراب سياسي، مهَّد بدوره الطريق لاعتلاء النازي السلطة في ألمانيا. وأحد الأهداف المحورية للأمم المتحدة كان منع أي اختلال اقتصادي مشابه وما يتمخض عنه من تداعيات سياسية. وقد أمل المؤسسون — أو على الأقل بعضهم — في منع الانهيار الاقتصادي والحرب والثورة بواسطة جرعة من الإصلاحات الاجتماعية الديمقراطية والتنسيق السياسي بين الحكومات.

لكن في الوقت الذي يتحدث فيه ميثاق الأمم المتحدة عن تعزيز «مستويات معيشية أعلى» وخلق «ظروف للتقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، لم يكن ثمة اتفاق قط حول «الكيفية» التي ينبغي تحقيق هذه الأهداف من خلالها. فخلال السنوات القليلة التالية للحرب، كان الموضوع الرئيسي على جدول الأعمال هو تعافي أوروبا الغربية واليابان. وفي الخمسينيات والستينيات أدت عملية إنهاء الاستعمار وظهور ما سمي بالعالم الثالث إلى تحويل التركيز نحو قضايا عدم المساواة العالمية. ومع أن العلاقات الدولية خضعت للصراع بين الشرق والغرب، فإن الانقسام الدائم بين الشمال والجنوب ألقى بظلاله على جهود الأمم المتحدة في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي.

وظل الأمر على هذا الحال إلى أن تبنت الجمعية العامة «الأهداف الإنمائية للألفية» في سبتمبر عام ٢٠٠٠. كانت مهمة الأمم المتحدة الأساسية هي جعل العالم مكانًا أفضل من خلال عدة أمور من بينها القضاء على الفقر والجوع، ونشر التعليم في العالم، وتمكين المرأة، والحد من وفيات الأطفال. لم يكن أي من هذه الأهداف النبيلة للغاية جديدًا، وإلى اليوم تظل كلها «أهدافًا».

ومع هذا فقد لخص ميجيل ألبورنوز — مندوب الإكوادور لدى الأمم المتحدة — الأمر في خطبة ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ١٩٨٥ حين قال: «في الدول النامية، لا تعني الأمم المتحدة الإحباط أو المواجهة أو الشجب، بل تعني الصحة البيئية، والإنتاج الزراعي، والاتصال عن بعد، والحرب على الأمية، والصراع العظيم ضد الفقر والجهل والمرض.»1 فبالرغم من مشكلات الأمم المتحدة فإنه في نظر الكثير من الأطراف المتلقية، فعلت الأمم المتحدة أكثر بكثير مما فعلته أي منظمة أخرى أو دولة منفردة لتخفيف المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للدول الأقل تقدمًا. وهذا أمر لا يمكن تجاهله عند النظر بعين الاعتبار للأنشطة الاقتصادية للأمم المتحدة، مهما كانت النتائج النهائية غير مثالية.

(١) إعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية

في عام ١٩٤٥ كانت أوروبا في حالة من الخراب. كانت بنية أغلب العواصم القديمة منهارة، وسجلت البطالة أعلى مستوياتها، وكان هناك ملايين النازحين، وأطل شبح المجاعة برأسه. وفي آسيا، كانت اليابان والصين تترنَّحان تحت وطأة الدمار الذي لحق بهما جراء الحرب التي بدأت فعليًّا هناك في عام ١٩٣٧. وقد استمرت في الصين الحرب الأهلية حتى تكونت جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر عام ١٩٤٩.

الاستثناء الكبير الوحيد في هذه الصورة القاتمة كان الولايات المتحدة؛ الدولة التي كانت تنتج نصف منتجات العالم الصناعية في عام ١٩٤٥، ومن ثم لم يكن من قبيل المصادفة أن يشكل الأمريكيون العالم بعد الحرب. ومع ذلك، فبسبب التردي المتزامن في هوة الحرب الباردة، صارت إعادة الإعمار الاقتصادية في أغلب دول العالم خاضعة للتأثيرات السياسية على نحو كبير. وبين عامي ١٩٤٨ و١٩٥٢ ساعد مشروع مارشال — أو برنامج التعافي الأوروبي — دول أوروبا الغربية وحسب، بعد أن ضغط الاتحاد السوفييتي على دول أوروبا الشرقية للبقاء خارج مثل هذه البرامج. إن خوف الكرملين من فقدان السيطرة على الدول الجديدة التابعة له في أوروبا الشرقية جعله معارضًا لأي برامج اقتصادية أو سياسية ربما كانت ستساعد على تحرير المنطقة من السيطرة السوفييتية.

وفي الشرق الأقصى، وخاصة بعد عام ١٩٤٧، منحت الولايات المتحدة مساعدات سخية لإعادة إعمار اليابان، وفي كلتا الحالتين كان السبب الرئيسي وراء السياسة الأمريكية هو منع الانجراف اليساري المحتمل للدول التي صارت حليفاتها الرئيسية في الحرب الباردة، وفي الوقت ذاته ربط الاتحاد السوفييتي دولَ أوروبا الشرقية عن كثب بمداره الاقتصادي والسياسي؛ ومن ثم كانت النتيجة النهائية هي تكون ما أشير إليه لاحقًا بدول «العالم الأول» (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان) ودول «العالم الثاني» (الاتحاد السوفييتي والدول الأوروبية التابعة له).

لعبت مساعدات إعادة الإعمار فيما بعد الحرب العالمية الثانية دورًا كبيرًا في خلق هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد، بيد أنها كانت مرحلة عابرة، نابعة في الأساس من المخاوف السياسية والأمنية المباشرة، وعلى غرار الدور الذي لعبه حلف شمال الأطلسي في مجال الأمن، عمد مشروع مارشال إلى ربط الدول الأوروبية العظمى بالولايات المتحدة من الجانب الاقتصادي. كان الأثر الجانبي — والمقصود — لهذه الجهود هو إقامة حاجز بين ما سيطلق عليه سريعًا على نحو دعائي اسم «العالم الحر» وأجزاء العالم التي عاشت تحت تأثير شيوعية الاتحاد السوفييتي.

لكن هذا أيضًا كان يعني أن أحد الأفكار الأساسية بالميثاق؛ فكرة التزام المنظمة العالمية بتحقيق «التقدم والتنمية الاقتصادية والاجتماعية»، كانت في جوهرها ضحية للانقسام السياسي للعالم في أعقاب عام ١٩٤٥. بطبيعة الحال لم يختلف أحد في العلن بشأن الحاجة إلى التقدم الاقتصادي، لكن عم الخلاف بشأن الأدوات التي سيُعزَّز من خلالها، وتحديدًا كان لكل من العالم الأول والعالم الثاني أفكارهما الخاصة عن كيفية تعزيز التقدم الاقتصادي والاجتماعي. أكد الأمريكيون على التجارة الحرة ودور القطاع الخاص، وبشر السوفييت بالآثار الصحية للسيطرة الحكومية، ورفضوا الانضمام لشبكة التجارة العالمية. ومع أنه في عامي ١٩٤٤-١٩٤٥ رأى كثير من الأمريكيين أن الحكومات والشركات ينبغي أن يتعاونوا عن كثب في جهود إعمار ما بعد الحرب، فإنهم اعتبروا هذا على أفضل تقدير مجرد ظاهرة مؤقتة. وأثناء الحرب الباردة ألقى هذا الانقسام السوفييتي-الأمريكي، الاشتراكي-الرأسمالي، بظلاله على دور الأمم المتحدة في دفع التنمية وتقليل الفقر.

(٢) التجارة والنمو

كانت خطة العمل الاقتصادية للأمم المتحدة تقع بالأساس تحت سيطرة ما يسمى بمؤسسات بريتون وودز، والمسماة على اسم مدينة في نيو هامبشير، التقى فيها ممثلو خمس وأربعين دولة في يوليو عام ١٩٤٤ لدراسة النظام الاقتصادي في عالم ما بعد الحرب. لا تزال المؤسسات الثلاث الأساسية بهذا النظام عاملة ومؤثرة إلى يومنا الحالي، وهي: صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي (الذي سمي في بدايته بالبنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية)، ومنظمة التجارة العالمية (التي عرفت باسم الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (الجات) بين عامي ١٩٤٧ و١٩٥٥). عكست المؤسسات الثلاث نظرة أيديولوجية معينة بشأن الكيفية التي ينبغي أن يعمل وفقها الاقتصاد الدولي: فبينما تطورت منظمة التجارة العالمية/الجات إلى مؤسسة مؤيدة لمبدأ قواعد التجارة الأكثر حرية على الدوام (وإن لم تكن ناجحة على الدوام)، أنشئ صندوق النقد الدولي؛ لزيادة الاستقرار في أسواق العملات في العالم، واستهدف البنك الدولي (البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية) تقديم المساعدة المالية للدول الراغبة في الانضمام للسوق العالمية، لكنها عاجزة عن ذلك.

كان الهدف المتصور من هذه المؤسسات هو دعم السوق العالمية وتوسعتها وتنظيمها. كانت هذه المؤسسات — بصفة عامة — مؤسسات أنجلو أمريكية في تصميمها؛ فالبنك الدولي مثلًا تلقى ما يقرب من ٣٥ بالمائة من رأسماله الأصلي البالغ ٩٫١ مليارات دولار من الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، من المهم هنا أن نذكر أن صندوق النقد والبنك الدوليين تحديدًا أُنشِئَا كمنظمات تكمن فيها السلطة في يد الدول المانحة. بعبارة أخرى، كانت قوة التصويت داخل هاتين المنظمتين تميل لكفة الدول الغنية والقوية (كبار المساهمين)، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ومع أن الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية الثرية معنية — لا ريب — بالاستقرار الاقتصادي والأمن، فإن جدول أعمالها كان يسيطر عليه الإيمان بأن تعزيز التجارة الحرة من خلال المعاهدات والآليات الدولية كان الضمان الأمثل ضد الانهيار الاقتصادي الدولي المستقبلي، ويعد أفضل أمل لمستقبل من الرخاء يسود العالم.

وقد حققت هذه الصيغة النجاح؛ فمنذ عام ١٩٤٥ نمت التجارة الدولية في الحجم على نحو سريع، وساهمت كثيرًا في نمو الناتج الإجمالي العالمي والناتج القومي للفرد. فبين عامي ١٩٦٠ و١٩٩٣ مثلًا، نما الاقتصاد العالمي من ٤ تريليونات إلى ٢٣ تريليون دولار. وحتى بعد التعديل وفق النمو السكاني العالمي، لا يزال هذا يعني زيادة قدرها ثلاثة أضعاف في الناتج القومي للفرد.

لكن قصة النجاح هذه لها منتقدوها ومعارضوها؛ فقد رفض الاتحاد السوفييتي مشروع مارشال الذي مولته الولايات المتحدة في عام ١٩٤٧، ثم أتبع ذلك بخلق نظام اقتصادي اشتراكي داخل الكتلة السوفييتية. وبعد عام ١٩٤٩ رفضت جمهورية الصين الشعبية — بالقدر عينه من التصلب — الرأسمالية كسبيل لتعزيز «التقدم الاقتصادي والاجتماعي». وفي العقود التالية على ذلك ظل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والجات مؤسسات «غربية» تدعم رؤية أحد جانبي الصراع العالمي. وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، أثبتت نهاية الحرب الباردة ظاهريًّا أن الرؤية الغربية كانت صائبة، وأن الطريقة الاشتراكية كانت خاطئة، وقد أكد تفكك الاتحاد السوفييتي هذه النقطة.

جاء التحدي الثاني من عملية إنهاء الاستعمار؛ فقد تسبب النمو الهائل في عدد الدول الأعضاء في تغيير ميزان القوة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ إذ ظهرت في أوائل الستينيات حركة عدم الانحياز بوصفها أكبر تجمع للدول، وإن كان يغيب عنها التنسيق. نتج عن هذا التحول تأكيد كبير على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وتحديدًا التوزيع غير المتساوي للثروة بين دول الشمال والجنوب. عُقِد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الأول في عام ١٩٦٤، وأكد على هذا الأمر من خلال تكوين مجموعة الدول السبع والسبعين، وهي منظمة لتنمية دول أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا لا تزال تؤكد على أهمية المساعدة الإنمائية.

وبحلول عام ٢٠٠٨، ضمت مجموعة الدول السبع والسبعين أكثر من ١٣٠ دولة من الدول المسماة بدول الجنوب، أغلب هذه الدول فقير ومتخلف اقتصاديًّا مقارنة بدول أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن أعدادها الكبيرة — سواء كدول أو أعداد السكان بها — والحقيقة الدائمة لعدم المساواة الاقتصادية بين دول العالم مثلت تحديًا دائمًا لنظام الأمم المتحدة.

(٣) التنمية على رأس جدول الأعمال

(٣-١) البنك الدولي والمؤسسة الإنمائية الدولية

في الستينيات تحول جدول أعمال الأمم المتحدة من إعادة الإعمار إلى التنمية، وسريعًا ما صار البنك الدولي يركز على المساعدات الإنمائية، وفي عام ١٩٦٠ مول البنك هيئة فرعية تسمى «المؤسسة الإنمائية الدولية»، ومع أن الوكالة المقرضة الأصلية للبنك الدولي؛ البنك الدولي لإعادة الإعمار والتنمية، قد حولت تركيزها نحو ما يسمى بالدول ذات الدخل المتوسط، فإن مهمة المؤسسة الإنمائية الدولية كانت تقديم القروض والمنح بدون فوائد لأقل الدول نموًّا؛ تلك الدول التي كانت تسمى بالفعل في الخمسينيات بدول «العالم الثالث».

صُدِّقَ على أول قروض المؤسسة الإنمائية الدولية لكل من شيلي وهندوراس والسودان في عام ١٩٦١. وعلى مدار خمسة وأربعين عامًا تالية، منحت المؤسسة الإنمائية الدولية قرابة ١٦١ مليار دولار على صورة قروض (عادة تسمى اعتمادات) إلى ١٠٨ دول، ذهب السواد الأعظم من هذه القروض إلى أفريقيا، وفي عام ٢٠٠٨ ذهب نصف القروض إلى دول جنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا.

بالرغم من النوايا الطيبة الظاهرة، كثيرًا ما كانت المؤسسة الإنمائية الدولية موضع استياء من جانب الدول المتلقية؛ فالبنك الدولي مؤسسة يتحكم فيها من يمولون عملياتها؛ ومن ثم تملك الولايات المتحدة تأثيرًا مهيمنًا، بوصفها «المساهم» الأساسي، على تحديد أولويات البنك. هذه الحقيقة تتأكد أكثر من واقع الاتفاق على أن يكون رئيس البنك الدولي أمريكيًّا، وأن تكون مقرات هذه المنظمة في واشنطن، والأمر عينه ينطبق على صندوق النقد الدولي. أيضًا لم تساعد الاختيارات المثيرة للجدل لهذا المنصب — على غرار وزير الدفاع الأمريكي الأسبق روبرت ماكنمارا (١٩٦٨–١٩٨١) أو نائب وزير الدفاع بول وولفويتز (٢٠٠٥–٢٠٠٧) — في تحسين سمعة البنك الدولي. في الواقع، نظر العديد من دول الجنوب إلى البنك الدولي كنسخة متجددة من الاستعمار الغربي (الشمالي)، وبناءً عليه كانت هناك ضغوط منذ الستينيات داخل نظام الأمم المتحدة لإيجاد سبل بديلة لتعزيز التنمية.

(٣-٢) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية

أحد التعبيرات ذات المغزى عن هذه الرغبة كان الاجتماع الأول لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، الذي عقد في عام ١٩٦٤ في جنيف. كان لهذا المؤتمر نتيجتان مهمتان طويلتا الأمد؛ أولاهما: هي أنه قاد لإنشاء مجموعة الدول السبع والسبعين كمجموعة ضغط قوية تدافع عن مصالح الدول النامية، والثانية: هي أنه على مدار أربعة عقود، تبنى مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية قضية دمج الدول النامية في الاقتصاد العالمي باعتبارها مهمته الأساسية.

في الستينيات والسبعينيات ظهر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية كمنتدى رئيسي للحوار بين الشمال والجنوب (أو الدول المتقدمة والنامية)، وكبيت خبرة عالمي كبير مختص بقضايا التنمية، وقد لعب دورًا كبيرًا في دفع الاتفاقات الدولية التي منحت الدول النامية فرصًا أفضل لدخول أسواق الدول المتقدمة، وذلك من خلال التعريفات الجمركية المخفضة. وأسهم مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في تحديد المقدار الذي على الدول المتقدمة تكريسه للمساعدات الإنمائية (في عام ١٩٧٠ وافق المؤتمر على نسبة ٠٫٧ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي كرقم مستهدف)، وحدد مجموعة من الدول بوصفها الدول الأقل نموًّا (والمسماة أحيانًا بدول العالم الرابع).

يلعب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية دورًا مهمًّا في تحديد مسار سياسة التنمية بالأمم المتحدة، لكن حتى بمعايير الأمم المتحدة يظل عمل المؤتمر محدودًا، فبعد أربعة عقود من العمل، يملك مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية هيئة عاملين دائمة تقدر بنحو أربعمائة فرد (أغلبهم في جنيف) وميزانية سنوية منتظمة قدرها ٥٠ مليون دولار، وهو يقدم النصح ويعد البيانات ويقدم المساعدة الفنية وينظم مؤتمرًا كبيرًا كل أربعة أعوام (ومؤتمرًا يركز على احتياجات الدول الأقل نموًّا كل عشرة أعوام). يحشد مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية الدعم وينسق الجهود، لكنه لا يصوغ السياسات.

(٣-٣) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ‎

مثَّل إنشاء برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في عام ١٩٦٥ علامة فارقة في مسار السياسة الإنمائية العالمية. كان هدف البرنامج المبدئي هو التنسيق بين «البرنامج الموسع للمساعدة التقنية» و«صندوق الأمم المتحدة الخاص»، اللذين بدآ العمل في عامي ١٩٤٩ و١٩٥٩ على الترتيب، وذلك من أجل الاستجابة على نحو أفضل لاحتياجات العدد المتزايد من الدول المستقلة حديثًا.

وفي العقود التالية صار برنامج الأمم المتحدة الإنمائي — الذي اعتمد على الإسهامات الطوعية من جانب الدول الأعضاء — جزءًا متزايد الأهمية من الأمم المتحدة. من مؤشرات ذلك حقيقة أن مدير البرنامج — أو المدير التنفيذي — يحتل رسميًّا المرتبة الثالثة في هيكل الأمم المتحدة بعد الأمين العام والأمين العام المساعد، لكن في هذا الصدد لم يَصِرْ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي رمزًا لأمل العالم الثالث في تحاشي هيمنة الدول الغنية على المساعدات الإنمائية؛ فعلى غرار البنك الدولي، ظل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت هيمنة الأمريكيين أغلب الوقت، وقد كسر تعيين البريطاني مارك مالوك براون في عام ١٩٩٩ هذه العادة أخيرًا، وقد خلفه في عام ٢٠٠٥ كمال درويش، وزير الشئون الاقتصادية التركي الأسبق.

بدأ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والبرامج السابقة عليه كمؤسسات تقدم العون (والتدريب) الفني، وكبيت خبرة عالمي ينتج دراسات جدوى، لكن على مر العقود صارت المساعدات الإنمائية المقدمة من جانب الأمم المتحدة مشروعًا عالميًّا قيمته مليارات الدولارات، وبحلول عام ١٩٨٩ وصلت الإسهامات المقدمة للبرنامج إلى ١٫١ مليار دولار. يملك البرنامج ٤٧٠٠ عضو وأكثر من ١٣٠ مكتبًا ميدانيًّا، وقد عمل في ١٥٢ دولة وإقليمًا. وبعد ذلك بأقل من عقدين، تضاعفت الميزانية أكثر من أربع مرات لتصل إلى قرابة ٤٫٥ مليارات دولار (في عام ٢٠٠٥). أمر مثير للإعجاب، لكن لا يزال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي متخلفًا بقدر كبير عن البنك الدولي الذي أقرض نحو ٣٠ مليار دولار، وكان يعمل به أكثر من ثمانية آلاف موظف في العام ذاته.

هذه أرقام كبيرة، ومن الجلي أنه بحلول عام ١٩٩٠ تحقق بالفعل قدر كبير من التقدم. لخص برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أبرز الإنجازات على هذا النحو:
  • ما بين عامي ١٩٦٠ و١٩٨٧، زاد الأجل العمري المتوقع في دول الجنوب بمقدار الثلث (مع أنه لا يزال يساوي ٨٠ بالمائة من نظيره بالدول المتقدمة).

  • ما بين عامي ١٩٧٠ و١٩٨٥، تحسن التعليم المتاح لدول الجنوب تحسنًا كبيرًا؛ على سبيل المثال: ارتفعت معدلات معرفة القراءة والكتابة من ٤٣ بالمائة إلى ٦٠ بالمائة في دول الجنوب.

  • ما بين عامي ١٩٦٥ و١٩٨٠، ارتفع الناتج القومي للفرد بنحو ٣ بالمائة كل عام في الدول النامية.

  • ما بين عامي ١٩٦٠ و١٩٨٨، انخفضت معدلات وفيات الأطفال بمقدار النصف.

باختصار، أثناء مرور النظام الدولي بمرحلة التحول من الحرب الباردة إلى الحقبة الجديدة، بدت هناك وفرة من الأسباب الداعية للتفاؤل. وبالفعل، شهدت دول الجنوب إرساء «ظروف للتقدم الاقتصادي والاجتماعي». ومع انتهاء الصراعات الأيديولوجية بين الشرق والغرب، بدأ البحث عن وكلاء إقليميين من خلال المساعدات العسكرية يتلاشى لمصلحة عمليات حفظ السلام وبناء السلام العديدة في مناطق الصراع في العالم، وقد دفعت حقبة العولمة بمعدلات النمو العالمية إلى مستويات قياسية في التسعينيات، ومع أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ربما لم يلعب دورًا كبيرًا في الحث على مثل هذه التغيرات، فإنه استطاع — وله مبرره في هذا — الشعور بالثقة بأنه حان الوقت لوضع «البشر في مركز عملية التنمية من حيث النقاش الاقتصادي والسياسة الاقتصادية والدعم الاقتصادي»،2 وذلك حسبما ورد في «تقرير التنمية البشرية» الأول الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي المنشور عام ١٩٩٠.

(٤) العولمة والتنمية البشرية

عكست ثقة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحولًا فكريًّا متأخرًا للغاية عن أوانه، فبدلًا من النظر لمثل هذه الإحصائيات البسيطة على غرار نمو الناتج القومي الإجمالي أو متوسط مستويات الدخل في العديد من الدول، أراد تقرير التنمية البشرية «تقييم مستوى الرفاه طويل الأمد للبشر»؛ ومن ثم اعتُبرت مؤشرات مثل العمر المتوقع والتعليم والصحة والتغذية والمرافق الصحية والتفرقة على أساس النوع مساوية في الأهمية، إن لم تكن أكثر أهمية، عند تقييم موضع الدولة في «الدليل القياسي للتنمية البشرية». أنشئ هذا الدليل عام ١٩٩٠ على يد الاقتصادي الباكستاني محبوب الحق، وظل يستخدم في تقارير التنمية البشرية منذ عام ١٩٩٣.

إن هدف تقارير التنمية البشرية والدليل القياسي للتنمية البشرية هو اكتشاف كيف أثرت سياسات التنمية على الحياة اليومية للأشخاص العاديين. وكانت التقارير ستستخدم بعد ذلك لتحسين السياسات الاقتصادية والتأكد من أن دائرة المستفيدين من التنمية ستتسع. بلغة بسيطة، كانت مراكمة الثروة والأصول مجرد واحد من مؤشرات عديدة مستخدمة لتقييم التنمية البشرية.

كان التقرير الأول للتنمية البشرية، في واقع الأمر، محبطًا إلى حدٍّ ما. ومن بين النقاط التي أوردها في عام ١٩٩٠:
  • متوسط العمر المتوقع في دول الجنوب ظل أقل من نظيره في دول الشمال باثني عشر عامًا.

  • لم يتمكن ١٠٠ مليون طفل في سن الدراسة من ارتياد المدارس في دول الجنوب.

  • يعاني ٩٠٠ مليون بالغ الأميةَ (في جنوب آسيا بلغت معدلات معرفة القراءة والكتابة الإجمالية ٤١ بالمائة فقط)، فيما وصلت نسبة معرفة القراءة والكتابة لدى الإناث نحو ثلثيها لدى الذكور.

  • في الثمانينيات انخفض الناتج القومي للفرد بنسبة ٢٫٤ بالمائة في دول جنوب الصحراء الأفريقية.

  • يقضي ١٤ مليون طفل نحبهم كل عام قبل الوصول لسن الخامسة.

  • ٣ مليارات شخص (أي ما يقارب نصف تعداد العالم) يعيشون دون نظم صحية ملائمة.

من الجلي أنه كانت هناك العديد من التحديات المستقبلية وقدر كبير من العمل أمام العديد من وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، تمكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من تنسيق بعضها، لكن الوكالات الأخرى — مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، ومنظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) وغيرها — عادة كانت قادرة على الوفاء بالعديد من التحديات المحددة؛ ومن ثم في عام ١٩٩٤ أصدر الأمين العام بطرس بطرس غالي «خطة التنمية» التي أكدت على الحاجة للتنسيق بين وكالات الأمم المتحدة من خلال المنسقين المقيمين لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذين سترشدهم «الملحوظات الاستراتيجية للدول» المحددة، لكن عند الكشف عن هذه الخطة، أصدر بطرس غالي التحذير الآتي:
في الوقت الحالي تعلق آلية الأمم المتحدة في حلقة مفرغة؛ فهناك مقاومة لتعددية الأطراف من جانب مَن يخشون فقدان السيطرة الوطنية، وهناك تردد في توفير السبل المالية لتحقيق الأهداف المتفق عليها من جانب غير المقتنعين بأن الأنصبة المقررة عليهم ستصب في مصلحتهم، وهناك عدم استعداد للانخراط في العمليات الصعبة من جانب مَن يسعون للحصول على ضمانات بالوضوح التام والفترات الزمنية المحددة. ودون رؤية جمعية جديدة ملزمة، سيعجز المجتمع الدولي عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة.3
ومع الأسف، بحلول أواخر التسعينيات، بات من الواضح أن «خطة التنمية» قد فشلت في تقديم مثل هذه «الرؤية الجديدة الملزمة»، والأهم من ذلك أن التنمية البشرية كانت تسير على أساس غير منصف؛ فقد احتلت دول أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وأستراليا واليابان مراكز متقدمة على الدليل القياسي للتنمية البشرية، وقَبَعَت الدول الأفريقية — خاصة دول جنوب الصحراء الكبرى — في مراكز متأخرة حتى عما كانت عليه منذ عقد مضى. وقد أكد تقرير التنمية البشرية الصادر عام ١٩٩٩ وحمل عنوان «العولمة ذات الطابع الإنساني» على أن «الخُمس الأعلى من شعوب العالم في الدول الأغنى يتمتعون بنسبة ٨٢ بالمائة من تجارة التصدير المتزايدة، وبنسبة ٦٨ بالمائة من الاستثمار الأجنبي المباشر، فيما لا يتجاوز نصيب الخمس الأدنى نسبة ١ بالمائة».4

(٥) الأهداف الإنمائية للألفية

حفز عدم الإنصاف الذي يخيم على العالم في ظل عصر العولمة الجمعية العامة للأمم المتحدة على الإعلان عن خطة تنمية طموحة للقرن الجديد. حددت الأهداف الإنمائية الثمانية للألفية — والموضوعة في ١٨ سبتمبر ٢٠٠٠ — عام ٢٠١٥ كتاريخ مستهدف يتحقق بحلوله — من بين أشياء أخرى — تقليل الفقر المدقع إلى النصف، ووقف انتشار فيروس نقص المناعة البشرية، وتوفير التعليم الأساسي على مستوى العالم. باختصار، كانت الأهداف الإنمائية للألفية — التي جاءت نتيجة لمؤتمرات دولية عديدة في النصف الثاني من التسعينيات — معنية بالأساس برفع مستوى أفقر الدول (الدول الأقل نموًّا) من حالتها البائسة. وبحلول عام ٢٠٠٠ كان هذا يعني أن السواد الأعظم من نشاط الأهداف الإنمائية للألفية سيوجه إلى أفريقيا.

الأهداف الإنمائية للألفية، سبتمبر ٢٠٠٠

الأهداف الإنمائية للألفية هي خطة طويلة ومتوسطة الأمد للتنمية (٢٠٠٠–٢٠١٥) قدمتها الأمم المتحدة من خلال الأمين العام كوفي عنان، ووافقت عليها الجمعية العامة. والأهداف الإنمائية الثمانية للألفية هي:
الهدف الأول القضاء على الفقر المدقع والجوع.
الهدف الثاني تحقيق تعميم التعليم الابتدائي.
الهدف الثالث تعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة.
الهدف الرابع تخفيض معدل وفيات الطفل.
الهدف الخامس تحسين الصحة النفاسية.
الهدف السادس مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية والملاريا وغيرهما من الأمراض.
الهدف السابع كفالة الاستدامة البيئية.
الهدف الثامن إقامة شراكة عالمية.

كان تبني الأهداف الإنمائية للألفية بمنزلة نقطة تحول مبشرة في جهود الأمم المتحدة الإنمائية. أخيرًا صار هناك برنامج عمل من ثمانية أهداف «فقط»، مصحوب ببرنامج زمني، ومع هذا كانت المشكلات واضحة منذ البداية. إحدى هذه المشكلات أنه لم يتغير الكثير بشأن من يمنح المساعدات (الدول الغنية) ومن يتلقاها (الدول الفقيرة). كان هذا يعني وجود ترتيب هرمي واضح واعتماد متواصل لدول الجنوب على عطف دول الشمال، وهو يشير إلى السؤال الأبدي المتعلق بالمساعدات الإنمائية: هل ينبغي ربط المساعدات بالسلوك الجيد للدولة المتلقية (أو «الحكم الرشيد»، حسبما تراه الدول المانحة)؟ أم أن وضع مثل هذه الشروط المسبقة يعد إهانة لأحد المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة: حق الدولة في تقرير مصيرها؟

صعوبة أخرى تمثلت في معاناة الأهداف الإنمائية للألفية من العَرَض الملازم على الدوام للأمم المتحدة: محاولة تقديم شيء لكل مجموعة مصالح؛ فقد قُسمت الأهداف الإنمائية للألفية إلى ثمانية عشر هدفًا «قابلة للقياس» (على سبيل المثال: «تخفيض نسبة السكان الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد إلى النصف»). قيست هذه الأهداف من واقع ثمانية وأربعين «مؤشرًا» (على سبيل المثال: عدد الأشخاص الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد). لكن كما توحي هذه الأهداف، لم يمكن الاتفاق بسهولة لا على الأهداف ولا على المؤشرات. دار نقاش مستمر حول ما إذا كان «دولار واحد يوميًّا» يمثل نقطة مرجعية للفقر ينبغي استخدامها عند تصنيف البشر الذين يعيشون في «فقر مدقع» (مقارنة بمن يعانون الفقر «وحسب»). إلى جانب أن استخدام هذا الرقم من جانب البنك الدولي لا يرضي المنتقدين الكثيرين لتلك المؤسسة، لكن هذا لا يعني أيضًا أن المؤسسات العديدة العاملة داخل منظومة الأمم المتحدة والمنخرطة في أعمال التنمية لا تصنع أثرًا.

(٦) الجانب الناعم من التنمية: اليونيسيف

في ديسمبر عام ١٩٤٦، أنشأت الجمعية العامة ما يظل إلى الآن أكثر وكالات الأمم المتحدة نيلًا للإعجاب؛ منظمة الأمم المتحدة العالمية للطفولة (والمعروفة اختصارًا باليونيسيف، وإن كان الاسم قد تغير لاحقًا ليصير منظمة الطفولة التابعة للأمم المتحدة، لكن ظل الاسم المختصر، لحسن الحظ، كما هو). تهدف منظمة اليونيسيف — ومقرها نيويورك — لتقديم المساعدة الإنسانية والإنمائية للأطفال وأمهاتهم، خاصة في دول العالم النامي.

كانت أولى مهام اليونيسيف هي تخفيف المعاناة في أوروبا بعد الحرب، وبين عامي ١٩٤٦ و١٩٥٠، وزعت اليونيسيف ملابس على خمسة ملايين طفل، وطعَّمت ثمانية ملايين ضد السل، وقدمت وجبات تكميلية لملايين الأطفال. لا شك أن هذه الجهود سهلت من مهمة تعافي أوروبا من الحرب، لكن بداية من الخمسينيات، وسعت اليونيسيف نطاق عملياتها ليشمل أجزاءً أخرى من العالم لتصير نشطة على نحو متزايد في العالم المتحرر من الاستعمار. وقد ظلت الحملات الصحية، ومن ضمنها مشروعات التطعيم واسعة النطاق (ضد الملاريا والداء العُليقي والجذام)، في قلب برنامج المنظمة.
fig13
شكل ٥-١: طبيب ‎‎تابع لليونيسيف يضع المرهم في عين طفلة لعلاجها من الرمد الحبيبي، وهو مرض شديد العدوى.5

في الوقت ذاته، بينما ظهر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بوصفه ذراع التنمية التابع للأمم المتحدة، تحول دور اليونيسيف من وكالة للطوارئ متوسطة الأمد إلى وكالة إنمائية طويلة الأمد. وفي حين ظلت اليونيسيف تفي بالاحتياجات الطارئة للأطفال العالقين في مناطق الصراع أو الذين تسببت الكوارث الطبيعية في تشريدهم، فإنها تحركت بالمثل في اتجاه نافع طويل الأمد. فلرفع معايير التغذية للأطفال، ساعدت اليونيسيف الدول على إنتاج وتوزيع أغذية قليلة التكلفة عالية المحتوى البروتيني، ورَعَت برامج لتثقيف الناس باستخدامها. ولتوفير الرفاهية الاجتماعية للأطفال، قدمت اليونيسيف تدريبًا غير رسمي للأمهات في كل من تنشئة الأطفال وتحسين أحوال المنازل، وساعدت على تقديم الخدمات للأطفال من خلال توفير مراكز الرعاية النهارية والجيرة والاستشارات الأسرية ومراكز الشباب.

في العقود اللاحقة، وسعت اليونيسيف سياستها أكثر من خلال تبني ما يسمى بالنهج القُطْري. كان هذا يعني ربط المساعدات المقدمة للأطفال بتنمية الدولة (المستقلة حديثًا في أغلب الحالات)؛ من ثم صارت اليونيسيف معنية بالاحتياجات الفكرية والنفسية والمهنية للأطفال إلى جانب احتياجاتهم البدنية. كان هذا يعني أن اليونيسيف بدأت في تقديم العون لإعداد المعلمين وإصلاح المناهج في الدول النامية، بالإضافة إلى أشياء أخرى. باختصار، ربما أُسست اليونيسيف كوكالة معنية بالوفاء بالاحتياجات الملحة للأطفال المكروبين، لكن على مر السنين، توسعت مهمتها — التي تعكس التغيرات في تركيبة الأمم المتحدة ذاتها — وارتبطت بخطة التنمية الأوسع للمنظمة العالمية.

في القرن الحادي والعشرين تظل اليونيسيف أكثر وكالات الأمم المتحدة تفضيلًا في نظر أغلب البشر. لدى المنظمة مكاتب في أكثر من ١٢٠ دولة وأطقم عمل ميدانية تعمل في أكثر من ١٥٠ دولة، ويصل حجم إنفاقها إلى قرابة ١٫٦ مليار دولار، ممولة من الإسهامات الطوعية. ومن بين الصناديق الخاصة والبرامج والوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، لا يفوق اليونيسيف في الميزانية سوى البرنامج العالمي للأغذية؛ الذي كثيرًا ما يعمل بالشراكة مع اليونيسيف.

مع أنه من العسير تقييم الأثر الدقيق لبرامج اليونيسيف المتعددة على الدول النامية، فإنه يمكن القول إن هذه المنظمة ساعدت ملايين الأطفال على النمو بصحة أكبر وفي أمان أكبر وعلى تلقي تعليم أفضل؛ على سبيل المثال: في السنوات الخمس والعشرين الأولى من عمر اليونيسيف، طعَّمت المنظمة أربعمائة مليون طفل ضد مرض السل، وساعدت على إنشاء ١٢ ألف مركز صحي ريفي، وعدة آلاف من عنابر الولادة في خمس وثمانين دولة، ووفرت المعدات من أجل ٢٥٠٠ مدرسة لإعداد المعلمين و٥٦ ألف مدرسة ابتدائية وثانوية، ووفرت مليارات الوجبات التكميلية. وفي عام ١٩٦٥ فازت اليونيسيف — عن جدارة — بجائزة نوبل للسلام؛ لإحداثها فارقًا إيجابيًّا في حياة ملايين الأطفال.

(٧) دفع ثمن التنمية (أو عدم دفعه)

لطالما مثَّل المال — من أين يأتي أو إلى أين يذهب — قضية خلافية في سياسة الأمم المتحدة للتنمية. ومع هذا، منذ أواخر الستينيات وهناك إجماع مثير للدهشة للآراء بخصوص المقدار الذي على الدول الغنية أن تخصصه لمساعدة الدول الأفقر: ما لا يقل عن ٠٫٧ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لها. لكن للأسف، كان هناك عجز شبه تام عن الوفاء بهذا الهدف.

هذا الرقم مبني على تقرير أمر بإعداده رئيس البنك الدولي (ووزير الدفاع الأمريكي الأسبق) روبرت ماكنمارا في عام ١٩٦٨، في أول عام شهد فعليًّا انخفاضًا في المساعدات الإنمائية. ترأس «لجنة التنمية الدولية» رئيس الوزراء الكندي السابق ليستر بيرسون، الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عن دوره في إنشاء أول قوة حفظ سلام كبرى في أعقاب حرب السويس عام ١٩٥٦. اشتملت لجنة بيرسون على سبعة أعضاء آخرين جميعهم — باستثناء مندوب البرازيل — جاءوا من دول العالم المتقدم. وقد قدمت اللجنة تقريرها النهائي (بعنوان «شركاء في التنمية») في ١٥ سبتمبر عام ١٩٦٩.

كانت النقطة الأساسية بالتقرير هي أن «التدفق المتزايد للمساعدات سيكون مطلوبًا إذا ما استهدفت معظم الدول النامية تحقيق النمو ذاتي الاستدامة بحلول نهاية القرن». حدد تقرير بيرسون هدفين للدول المتبرعة: مع أن المساعدة الإنمائية الرسمية ينبغي أن تكون ٠٫٧ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، فإن المساعدة الإجمالية (بما في ذلك الموارد الخاصة) ينبغي أن تصل إلى نسبة ١ بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان التاريخ المستهدف لتحقيق هذه النسبة الخاصة بالمساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي هو عام ١٩٧٥.

بعدها بثلاثة عقود، وبالرغم من الاتفاقات والالتزامات المتكررة — التي عادة ما تُجرى خلال القمم العالمية التي تنظمها الأمم المتحدة أو إحدى وكالاتها — فإن خمس دول فقط هي التي أوفت بهذا الهدف المتواضع فيما يبدو، لكن بصرف النظر عن المقدار الذي تنفقه هذه الدول الصغيرة الغنية — وهي الدنمارك ولكسمبورج وهولندا والنرويج والسويد — على المساعدة الإنمائية الرسمية، فإن إسهاماتها النسبية ستظل دومًا متواضعة. في واقع الأمر، تظل الولايات المتحدة أكبر دولة مانحة للتبرعات، تليها اليابان، ثم المملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا. والجدير بالملاحظة أنه من بين الدول الخمس الأعلى إسهامًا، فإن المملكة المتحدة هي الدولة الوحيدة التي ارتفعت نسبة إسهاماتها في المساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي بين عامي ١٩٩٠ و٢٠٠٤. وتصل النسبة الإجمالية للمساعدة الإنمائية الرسمية/الناتج المحلي الإجمالي للدول الاثنتين والعشرين الأغنى على مستوى العالم إلى ٠٫٣٣ بالمائة في عام ٢٠٠٥؛ أي أقل من نصف الهدف الذي وضعه بيرسون وزملاؤه ليتحقق في عام ١٩٧٥.

جدير بالذكر أنه من ناحية القيمة النقدية الفعلية زادت المساعدات الإنمائية زيادة كبيرة: إذ زادت من ٧ مليارات دولار في أواخر ستينيات القرن العشرين إلى ١٠٦ مليارات دولار في عام ٢٠٠٥. لكن مع الوضع في الاعتبار الزيادة المهولة في الدخل العالمي وحقيقة أن المساهمين الرئيسيين كانوا دول العالم المتقدم، نجد أن نسبة ما تنفقه هذه الدول فعليًّا على المساعدات الإنمائية قد تناقص.

إحصائية أخيرة تستحق الذكر، مع كونها ليست مشجعة. في أعقاب الشهرة الواسعة للأهداف الإنمائية للألفية، وتحديدًا التدفق المفاجئ للمساعدات على الدول التي مزقتها الحروب كأفغانستان والعراق بعد عام ٢٠٠١، زادت المساعدات الإنمائية زيادة كبيرة في السنوات الخمس الأولى من الألفية الجديدة. لكن في عام ٢٠٠٦ قلت هذه المساعدات بنسبة ٥٫١ بالمائة تقريبًا مقارنة بالعام السابق عليه، ومن المتوقع أن يحدث الأمر عينه في عام ٢٠٠٧. ومن المتصور أن يستمر هذا الأمر.

إن عدم الوفاء بمستهدفات المساعدة الإنمائية الرسمية التي حددتها الأمم المتحدة ما هو إلا جزء من القصة بالطبع، فحتى لو التزمت جميع دول العالم المتقدم بدفع النسبة البالغة ٠٫٧ بالمائة، ما من ضمان بأن هذا المال سيُنفق على نحو سليم، فسيتوقف الأمر على حالة الأطراف المتلقية، وعلى التخصيص الملائم للموارد المتاحة.

لكن ليس الهدف هنا هو القول إن مهمة التنمية ميئوس منها تمامًا، بل الهدف هو التأكيد على أنه حتى وقتنا هذا لم تفِ الدول التي «تملك» — الدول المتقدمة — بالمستهدفات التي حددتها لنفسها عند تصميمها للوسائل الهادفة لمساعدة الدول التي «لا تملك».

(٨) أزمة التنمية

في عام ٢٠٠٧، أعلن الموقع الإلكتروني لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن «برنامج الأمم المتحدة الإنمائي موجود في ١٦٦ دولة، ويعمل معها للتوصل للحلول الخاصة بها لتحديات التنمية الوطنية والعالمية … وأنه يسعى لضمان الاستخدام الأكثر فعالية لموارد المساعدات الدولية وتلك الخاصة بالأمم المتحدة».

قد يبدو هذا التصريح مثيرًا للإعجاب، لكن يمكن لعملية حسابية بسيطة أن تضع الأمور في نصابها الصحيح. اطرح من العدد الإجمالي سبعة مكاتب اتصال موجودة في الدول المتقدمة للغاية (كندا، الدنمارك، فرنسا، اليابان، هولندا، النرويج، السويد)، ثم اسأل نفسك لماذا تحتاج الدول المتبقية البالغ عددها ١٥٩ دولة (التي تمثل ٨٣ بالمائة من دول الأمم المتحدة البالغ عددها ١٩٢ دولة) لمهام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. يبدو أن هناك شيئًا ما لا يسير على النحو الصحيح عندما يتعلق الأمر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فبالرغم من النشاط المحموم، والخطط والمبادرات العديدة، وانخراط عشرات المنظمات والمؤسسات، فالتنمية الاقتصادية والاجتماعية تظل غير متوازنة في ظل انقسام العالم إلى دول تملك وأخرى لا تملك، وفق التقسيم الجغرافي نفسه الذي كان سائدًا في ستينيات القرن العشرين.

بالطبع لم يسر كل شيء على نحو خاطئ، فهناك قدر من الحراك، ويمكن لنظرة مختصرة على التقدم المحرز على طريق تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية أن ترسم صورة أكثر تعقيدًا لسياسات التنمية وتأثيراتها. في أبريل من عام ٢٠٠٧ مثلًا، أعلن تقرير الرصد العالمي الصادر عن البنك الدولي في ثقة أن «العالم ككل سيفي بالهدف الأول من الأهداف الإنمائية للألفية والمتمثل في تقليل الفقر إلى النصف» بحلول عام ٢٠١٥. لكن في الوقت الذي كانت توجد فيه أدلة على أن معدلات «الفقر المدقع» (عدد الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولار واحد يوميًّا) و«الفقر» (الأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولارين يوميًّا) قد انخفضت، فإن هذا التقدم تحقق على نحو غير متساوٍ؛ ففي حين سارت دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط والشرق الأقصى «على النحو المخطط»، كانت دول أمريكا اللاتينية والكاريبي ووسط آسيا متأخرة عنها. وأسوأ الدول قاطبة كانت دول جنوب الصحراء الأفريقية، التي وصفت بأنها «بعيدة للغاية ومن غير المرجح أن تتمكن من الوفاء» بالهدف المتمثل في تقليل الفقر المدقع إلى النصف بحلول عام ٢٠١٥.

الدول الهشة في عام ٢٠٠٥ وفقًا للبنك الدولي

وُصفت الدول والأقاليم الخمس والثلاثون التالية بأنها «هشة» — بمعنى ذات مؤسسات وسياسات ضعيفة، عادة نتيجة للصراعات العسكرية الطويلة — في عام ٢٠٠٥ (لاحظ غياب العراق عن هذه القائمة): أفغانستان، أنجولا، بوروندي، كمبوديا، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جزر القمر، جمهورية الكونغو الديمقراطية، جمهورية الكونغو، ساحل العاج، جيبوتي، إريتريا، جامبيا، غينيا، غينيا بيساو، هاييتي، كوسوفو، جمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية، ليبريا، موريتانيا، ميانمار، نيجيريا، بابوا غينيا الجديدة، ساو تومي وبرنسيب، سيراليون، جزر سليمان، الصومال، السودان، تيمور الشرقية، توجو، تونجا، أوزبكستان، فانواتو، الضفة الغربية وقطاع غزة، زيمبابوي.

والقصة متشابهة مع عدد من الأهداف الإنمائية الأخرى للألفية، فبينما حققت أغلب الدول تقدمًا في تقليل معدلات وفيات الأطفال (الهدف الرابع)، «تأخرت» دول أخرى؛ أسوءُها حالًا، مجددًا، دول جنوب الصحراء الأفريقية. في الواقع، فقط ٣٢ دولة من ١٤٧ كانت تسير «على الطريق السليم» فيما يخص هدف تقليل معدلات وفيات الأطفال إلى النصف بحلول عام ٢٠١٥. يرجع هذا في أغلبه إلى سوء التغذية؛ المشكلة التي تسبب الارتفاع السريع لأسعار الغذاء العالمية في استفحالها. والمثير للإحباط أن تقرير البنك الدولي نوَّه إلى أن كل الأقاليم النامية تقريبًا كانت بها دول لا تحقق سوى تقدم بسيط، أو لا تحقق أي تقدم على الإطلاق، في هذا الجانب (وأسوءُها حالًا هي دول جنوب آسيا ودول جنوب الصحراء الأفريقية مجددًا). وأغلب الدول الخمس والثلاثين التي وصفها البنك الدولي بأنها «هشة» — بمعنى أنها ذات مؤسسات وسياسات ضعيفة، عادة نتيجة للصراعات العسكرية الطويلة — هي من دول جنوب الصحراء الأفريقية.

بالطبع تخبرنا الإحصائيات بالقليل عن الحقائق التي تواجهها وكالات المساعدة المتعددة في عملها. وهي لا تمنحنا أي نظرة مُرضية عن المعايير المحددة في الواقع؛ بالطبع يعني العيش على دولار واحد يوميًّا في بنجلاديش أمرًا مختلفًا عن محاولة العيش على المقدار نفسه في أفغانستان (تخيل محاولة فعل الأمر عينه في سويسرا أو الولايات المتحدة). علاوة على ذلك، نادرًا ما تظهر الإحصائيات ما يفلح، أو ما قد يفلح في المستقبل. لكن يبدو أنها تشير إلى أن التقدم ممكن، وأنه — ما لم يتبنَّ المرء موقفًا سوداويًّا بحق — أمر مرغوب فيه بالفعل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤