الفصل السادس

الحقوق والمسئوليات: من حقوق الإنسان إلى الأمن البشري

من القضايا العديدة الواردة على جدول أعمال الأمم المتحدة، لا يفوق قضية حماية حقوق الإنسان في الأهمية والصعوبة سوى القليل، لكن التأكد من أن الناس يمكنهم العيش في حالة «تحرر من الخوف» — حسب تعبير الأمين العام الأسبق داج همرشولد الذي لخص فيه فلسفته لحقوق الإنسان في عام ١٩٥٦ — ليس بالمهمة الهينة كما قد يبدو.1 المبدأ الأساسي بسيط: المنتهكون الأساسيون لحقوق الإنسان على الدوام هي الدول، والدول هي الكيانات الكبرى التي تؤلف الأمم المتحدة.

السؤال المحوري هو الآتي: هل الأهم هو حماية سلامة الدولة أم الفرد الذي تنتهك هذه الدولة حقوقه؟ ومن هذا السؤال ينبع عدد من الأسئلة الأخرى مثل: ماذا عن الأشخاص الذين تتسبب الصراعات العنيفة أو الكوارث البيئية في جعلهم عديمي الجنسية؟ ماذا عن حق الناس في الانتقال داخل الدولة أو بين الدول؟

استنادًا على الخبرة التاريخية، كثيرًا ما كانت إجابة السؤال المحوري غير مُرضية؛ فحماية حقوق الإنسان — مثل الاحترام العام لها — أمر مشروط؛ فالدولة — بصرف النظر عن طبيعتها (ديمقراطية، فاشية، شمولية) — عادة كانت أعلى منزلة من أفراد البشر.

(١) المبادئ الحاكمة: الشرعة الدولية لحقوق الإنسان

كانت حقوق الإنسان قضية أساسية عند تأسيس الأمم المتحدة، وقد أرسى حدثان بارزان في الأربعينيات خطة عمل الأمم المتحدة فيما يخص حقوق الإنسان: ففي ديسمبر ١٩٤٦، أسس الاجتماع الأول للمجلس الاقتصادي والاجتماعي «لجنة حقوق الإنسان» التابعة للأمم المتحدة. كانت إلينور روزفلت — السيدة الأولى السابقة للولايات المتحدة — أحد أعضاء اللجنة الأساسيين. وقد كان لمثابرتها دور كبير في إصدار الأمم المتحدة بعد ذلك بعامين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي الوثيقة التي ستعد جزءًا محوريًّا فيما بعد مما سيطلق عليه «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان». عند تقديم نص الإعلان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ١٩٤٨، تحدثت إلينور روزفلت بفصاحة قائلة:
إننا نقف اليوم على أعتاب حدث عظيم، سواء في حياة الأمم المتحدة أو في حياة البشرية. إن هذا الإعلان قد يصير وثيقة الحريات الدولية للبشر جميعهم في كل مكان. إننا نأمل أن يكون تبني الجمعية العامة لهذا الإعلان حدثًا يماثل في قدره إعلان عام ١٧٨٩ [إعلان «حقوق الإنسان» الذي أصدره الفرنسيون]، وتبني ميثاق الحقوق من شعب الولايات المتحدة، وتبني الإعلانات المماثلة في الأوقات المختلفة في دول أخرى.2
كان إعلان عام ١٩٤٨ مبنيًّا على فكرة بسيطة: «الكرامة الفطرية» لكل البشر. ربط الإعلان بين حقوق الإنسان والأمن الدولي من خلال التأكيد على أن احترام حقوق الإنسان «كان أساس الحرية والعدالة والسلام في العالم». حدد الإعلان أيضًا عددًا من أبرز الانتهاكات لحقوق الإنسان، كالعبودية والحرمان من الحق في حرية التعبير. وأظهرت الوثيقة قدرًا من الانحياز الغربي حين أكدت على الحقوق المتساوية للرجال والنساء. بيد أنها أيضًا وسعت مفهوم حقوق الإنسان ليشتمل على الحق في التعليم، و«الأجور المتساوية للأعمال المتساوية»، و«الحق في الراحة والترفيه» ضمن حقوق أخرى.
fig14
شكل ٦-١: إلينور روزفلت تتحدث أمام الاجتماع الأول للجنة التي ترأستها وأوكلت لها لجنة حقوق الإنسان التابعة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي وضع مسودة الشرعة الدولية لحقوق الإنسان عام ١٩٤٧.3

من المهام الأخرى التي أوكلت للجنة حقوق الإنسان وضع تشريع دولي آخر لحقوق الإنسان من شأنه أن يضفي الخصوصية والقوة على الإعلان العالمي. وفي عام ١٩٦٦ تمخض عن هذه الجهود تبني الجمعية العامة لعهدين جديدين لحقوق الإنسان هما: «العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية» و«العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية». كما يوحي الاسمان، يركز العهدان على جوانب مختلفة من الإعلان الأصلي الصادر عام ١٩٤٨.

يُعرف إعلان عام ١٩٤٨ إلى جانب العهدين الصادرين عام ١٩٦٦ باسم «الشرعة الدولية لحقوق الإنسان». ومما لا شك فيه أن هذه المواثيق تمثل إنجازًا مهمًّا وثوريًّا. بحلول منتصف الستينيات وُجدت سلسلة من المبادئ المتفق عليها عالميًّا من شأنها أن تحمي الرجال والنساء ضد أي شكل محتمل من أشكال التفرقة أو الانتهاك؛ سواءٌ على المستوى المدني أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.

لكن قائمة الحقوق الطويلة تطرح عددًا من المشكلات العملية. ربما أهم هذه المشكلات هو أن القائمة تبدو غير متوافقة مع عالم الدول القومية ذات السيادة، خاصة وأن العالم مليء بالدول غير الديمقراطية. وفي الواقع، لم يسر تطبيق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على نحو ناجح تمامًا.

الشرعة الدولية لحقوق الإنسان

لإكمال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٩٤٨)، صدَّقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على عهدين إضافيين في عام ١٩٦٦. تضم هذه الوثائق الثلاثة معًا المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان اليوم.

(١) يضم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية «حق الفرد في الحياة والحرية والأمن والخصوصية والملكية، والحق في الزواج وتأسيس أسرة، والحق في المحاكمة العادلة، والتحرر من الرق والتعذيب، والحق في التمتع بالجنسية، وحرية الفكر والضمير والعلاقات، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التجمع والارتباط، والحق في انتخابات حرة، وحق التصويت، وحق المشاركة في الشئون العامة».

(٢) يضم العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية حق الفرد في «العمل والإثابة المنصفة، والحق في تكوين اتحادات تجارية والانضمام لها، والحق في الراحة والترفيه، والحق في التمتع بإجازات دورية بأجر، والحق في مستوى معيشي يوفر الصحة والسلامة، والحق في التأمين الاجتماعي، والحق في التعليم، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع».

(٢) التطبيق: اللجان والمقررون وتعزيز حقوق الإنسان

خلال العقود الستة لوجود لجنة حقوق الإنسان، مرت بالعديد من مراحل التطور التي عكست التغير الإجمالي الذي شهدته الأمم المتحدة. فخلال العقدين الأولين من عمر اللجنة، ركزت على التعزيز العام لحقوق الإنسان، لا على إدانة انتهاكات هذه الحقوق. سميت هذه السياسة باسم ملائم هو سياسة «التغيب»، وبررها الالتزام الصارم لميثاق الأمم المتحدة بمبدأ السيادة القومية. علاوة على ذلك، نص قرار صادر عن الأمم المتحدة عام ١٩٤٧ صراحةً على أن اللجنة «ليست لها سلطة اتخاذ أي فعل بخصوص أي شكاوى تخص حقوق الإنسان». بعبارة أخرى، كانت الشكوى للجنة لا طائل من ورائها.

كثير من الدول المنتهكة لحقوق الإنسان — من بينها الاتحاد السوفييتي (بمعاملته لأي معارضة سياسية) والولايات المتحدة (بالعنصرية الراسخة مؤسسيًّا التي كانت سائدة في ولايات الجنوب) — تُركت دون حساب. وعند وصول الالتماسات والشكاوى، لم يكن في وسع اللجنة سوى الرد بأنها «لا تملك القدرة» على التحقيق فيها، ناهيك عن تقديم أي مجرمين للعدالة. وهكذا كانت سلطة لجنة حقوق الإنسان، كحكم محايد يراعي حقوق الإنسان، منقوصة منذ البداية.

في منتصف الستينيات، بدأت لجنة حقوق الإنسان في التدخل على نحو أكبر. جزء من السبب وراء ذلك كان تبني الشرعة الدولية لحقوق الإنسان عام ١٩٦٦. بيد أن القوة الدافعة الأخرى خلف هذا التحول كانت الزيادة في أعداد الدول الأفريقية التي دعت الأمم المتحدة لإدانة سياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا. تسبب التنافس الذي ساد فترة الحرب الباردة بين الأمريكيين والسوفييت على ولاء هذه الدول الجديدة في عدم اعتراضهما صراحة على خطة عمل حقوق الإنسان الجديدة. وبهذا صارت لجنة حقوق الإنسان «قادرة»؛ إذ مُنحت سلطة اتخاذ أفعال أحادية الجانب في حالة الانتهاكات السافرة لحقوق الإنسان، وبهذا تأسس منتدى جديد لمناقشة الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في دول معينة.

من ثم، في السبعينيات والثمانينيات توسع نطاق عمل اللجنة، وقد تلقت اللجنة دفعة قوية من جانب مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي عقد عام ١٩٧٥، والذي ربط بين حقوق الإنسان والأمن الدولي (وإن كان هذا في سياق أوروبا وحسب). تكونت مجموعات عاملة جديدة إقليمية (بل مختصة بدول بعينها) وموضوعية (لموضوعات مثل الأقليات أو التعذيب) للسماح بالتحقيق المتعمق في انتهاكات حقوق الإنسان. وأُرسل عدد من المقررين الخصوصيين في مهام تقصي حقائق لتقديم التقارير عن حالات خاصة. ونتيجة لمثل هذه الأفعال، تحسن توثيق انتهاكات حقوق الإنسان بكل تأكيد.

لمقرري الأمم المتحدة الخصوصيين ولاية محددة (عادة تمتد ثلاثة أعوام) للتحقيق في مشكلات حقوق الإنسان ومراقبتها واقتراح الحلول لها، وعادة يقودون مهامَّ لتقصي الحقائق في الدول التي يحققون فيها في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان، لكن ليس بمقدورهم إلا زيارة الدول التي تدعوهم. يقيِّم المقررون أيضًا شكاوى الضحايا المزعومين لانتهاكات حقوق الإنسان، في عام ٢٠٠٧ كان هناك أكثر من ثلاثين مقررًا خاصًّا، يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: المعنيين بدول محددة (روسيا البيضاء، كمبوديا، كوبا، كوريا الشمالية، السودان، وغيرها)، ومن يحملون تفويضًا في موضوعات محددة من جانب مجلس حقوق الإنسان (الحق في التعليم، حرية الاعتقاد، العنصرية، الاتِّجار بالأطفال، وما إلى ذلك).

مقررو الأمم المتحدة الخصوصيون

لمقرري الأمم المتحدة الخصوصيين ولاية محددة (عادة تمتد ثلاثة أعوام) للتحقيق في مشكلات حقوق الإنسان ومراقبتها واقتراح الحلول لها. وعادة يقودون مهامَّ لتقصي الحقائق في الدول التي يحققون فيها في الانتهاكات المزعومة لحقوق الإنسان، لكن ليس بمقدورهم إلا زيارة الدول التي تدعوهم. يقيم المقررون أيضًا الشكاوى من الضحايا المزعومين لانتهاكات حقوق الإنسان.

لا يملك المقررون سلطة قانونية وليس بوسعهم اتخاذ أي أفعال ضد الحكومات، بإمكانهم فقط الضغط على الحكومة وحثها على احترام حقوق الإنسان، وبإمكانهم أيضًا التنديد علانية من خلال إصدار البيانات الصحفية؛ نتيجة لذلك فإن فعاليتهم مشروطة ومحل شك.

في عام ٢٠٠٧ كان هناك أكثر من ثلاثين مقررًا خاصًّا، يمكن تقسيمهم إلى مجموعتين: المعنيين بدول محددة (روسيا البيضاء، كمبوديا، كوبا، كوريا الشمالية، السودان، وغيرها)، ومن يحملون تفويضًا في موضوعات محددة من جانب مجلس حقوق الإنسان (الحق في التعليم، حرية الاعتقاد، العنصرية، الاتجار بالأطفال، وغير ذلك).

إن قدرة المقررين على الإنفاذ محدودة؛ فليس لديهم سلطة قانونية وليس بوسعهم اتخاذ أي أفعال ضد الحكومات. بإمكانهم فقط الضغط على الحكومة وحثها على احترام حقوق الإنسان. وبإمكانهم أيضًا التنديد علانية من خلال إصدار البيانات الصحفية؛ نتيجة لذلك فإن فعاليتهم مشروطة ومحل شك؛ على سبيل المثال: لم يكن لوجود المقرر الخاص في ميانمار منذ عام ١٩٩٢ أي تأثير للتخفيف من السلوك الديكتاتوري للمجلس العسكري الذي يدير ذلك البلد. بل على العكس، انخرطت قيادة ميانمار في بعض من أكثر أعمال القمع قسوة في خريف عام ٢٠٠٧، واستمرت في احتجاز زعيمة المعارضة المسحوقة، أونج سان سو تشي، رهن الإقامة الجبرية (وهي الحالة التي «تمتعت» بها منذ أواخر الثمانينيات). إن الحكومة العسكرية — كحكومة ميانمار — المتمسكة بتجاهل الرأي الخارجي من غير المرجح مطلقًا أن تغير من سلوكها على أساس النقد الموجه لها من الأمم المتحدة.

مع ذلك، حقق الاحترام الكلي لحقوق الإنسان — في صورة إرساء الحكم الديمقراطي — تقدمًا سريعًا منذ أواخر الثمانينيات، ووصل إلى ذروته بانهيار النظام الشمولي في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي بين عامي ١٩٨٩ و١٩٩١، ونهاية سياسة التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، والإصلاحات الديمقراطية في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية. وحتى مع استمرار الانتهاكات — وأبرزها سحق الحكومة الصينية للطلاب المحتجين بميدان السلام السماوي في بكين في عام ١٩٨٩ — بدأت بلدان العالم أخيرًا في تبني الشرعة الدولية لحقوق الإنسان.

إلا أن دور لجنة حقوق الإنسان في هذه العملية لم يكن واضحًا؛ فقد سمحت اللجنة لأكثر حالات انتهاك حقوق الإنسان فظاعة أن تمر دون حساب؛ في جمهورية الصين الشعبية تسبب مشروع «القفزة العظيمة إلى الأمام» لماو تسي تونج في الخمسينيات في وفاة الملايين (ثلاثون مليونًا حسب زعم البعض) من مواطنيه، وكأن هذا لم يكن كافيًا، فدشن ماو أيضًا حملة ترهيب واسعة النطاق في أواخر الستينيات عرفت باسم «الثورة الثقافية»، وكان «العقاب» الذي نزل بجمهورية الصين الشعبية هو منحها مقعد تايوان بالأمم المتحدة، وأن تصير عضوًا دائمًا بمجلس الأمن في عام ١٩٧١. ضمت الحالات الأخرى التي مرت دون حساب حملات فرض النظام التي شنها السوفييت وحلف وارسو في ألمانيا الشرقية (١٩٥٣)، والمجر (١٩٥٦)، وتشيكوسلوفاكيا (١٩٦٨). وفي كمبوديا تمكن نظام الخمير الحمر من قتل الملايين (ثُمن سكان الدولة) في أواخر السبعينيات إلى أن أُطيح به في أعقاب غزو خارجي من جانب دولة أخرى تنتهك حقوق الإنسان على نحو مستمر؛ فيتنام. إن إرساء الديمقراطية والاحترام المتزايد لحقوق الإنسان الذي صاحبه كان بالأساس — إن لم يكن دومًا — ناتجًا عن تغير البيئة الدولية — انهيار النظام العالمي القائم على الحرب الباردة — أكثر من كونه ناتجًا عن نشاط الأمم المتحدة المتزايد في هذا المجال.

في الواقع، بحلول التسعينيات كانت لجنة حقوق الإنسان قد فقدت الكثير من مكانتها كحامٍ فاعل لحقوق الإنسان، وهناك أسباب عديدة وراء ذلك. فكما رأينا من قبل، لا يحق للمقررين الخصوصيين زيارة الدول إلا إذا دُعوا لذلك، ومن غير المرجح لدولة تنتهك حقوق الإنسان على نحو واسع أن تفعل هذا. واللجنة نفسها كانت تتكون من ثلاثة وخمسين عضوًا، أغلبهم يمثلون دولًا ترتكب — أو كانت متورطة في ارتكاب — انتهاكات لحقوق الإنسان (مثل جمهورية الصين الشعبية والجزائر وسوريا).

المشكلة الأساسية التي ظهرت — وظلت قائمة إلى الآن — يمكن تلخيصها على النحو الآتي: من المفترض بلجنة حقوق الإنسان أن تسمو فوق مصالح الدول القومية، وأن تقدم توصيات محايدة مبنيَّة على معايير قانونية معينة مقبولة على نطاق واسع. لكن على مر السنين، اصطبغت اللجنة بالصبغة السياسية على نحو كبير، ونتيجة لهذا عجزت عن القيام بمهمتها على نحو فعال إبان حقبة الحرب الباردة. وبحلول أوائل التسعينيات كانت اللجنة قد فقدت الكثير من مصداقيتها.

كانت الاستجابة لهذه المخاوف — بصورة ما — هي الاستجابة المعتادة من طرف الأمم المتحدة: أن تنظم وتعقد مؤتمرات كبيرة. عُقد المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان — الذي اقتُرح إقامته لأول مرة من جانب الجمعية العامة في عام ١٩٨٩ — أخيرًا في صيف عام ١٩٩٣ في فيينا، وقد جمع المؤتمر ممثلي ١٧١ دولة و٨٠٠ منظمة غير حكومية، إلى جانب المؤسسات الأكاديمية وغيرها من الأطراف المعنية. وفي ٢٥ يونيو ١٩٩٣، تبنى المؤتمر إعلان فيينا وبرنامج العمل، وهي الوثيقة التي أكدت على حماية حقوق المرأة والطفل والشعوب الأصلية. وأسس المؤتمر مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان الذي مثَّل خطوة تنظيمية كبيرة. لقد بدأت عملية الإصلاح.

(٣) خطط العمل والهياكل في الألفية الجديدة

كانت متابعة قرارات مؤتمر فيينا المنعقد في عام ١٩٩٣ شبه فورية. كان أول مفوض سامٍ لحقوق الإنسان هو الإكوادوري خوسيه أيالا لاسو، الذي تولي منصبه في أبريل عام ١٩٩٤. خلفته الرئيسة الأيرلندية السابقة روبنسون، ماري (١٩٩٧–٢٠٠٢)، التي يبدو أن الأمين العام كوفي عنان اختارها لهذا المنصب بنفسه. وقد صارت ماري روبنسون — السياسية الناجحة ذات الشعبية الكبيرة — مدافعةً عالميَّةً لا تكل عن حقوق الإنسان. لم تَهَبْ ماري روبنسون — أول مفوض سامٍ يزور إقليم التبت الذي تحتله الصين — القضايا المثيرة للجدل، حتى إنها انتقدت بلدها الأم أيرلندا لاستغلالها العمالة الأجنبية، والولايات المتحدة لتطبيقها عقوبة الإعدام.

لدى تقاعد ماري روبنسون في عام ٢٠٠٢ خلفها مفوض سامٍ مرموق آخر هو البرازيلي سيرجيو فييرا دي ميللو. عمل دي ميللو، المتمرس في عدد من أزمات اللاجئين، معظم حياته المهنية بالأمم المتحدة، وذلك منذ الستينيات. كان قد حظي بإطراء الصحافة الدولية لإدارته عملية انتقال تيمور الشرقية من الاحتلال الإندونيسي إلى الاستقلال بين عامي ١٩٩٩ و٢٠٠٢. رأى الكثيرون فيه خَلَفًا محتملًا لكوفي عنان، بيد أن حياته المهنية انتهت على نحو مأساوي؛ ففي مايو ٢٠٠٣، قبل دي ميللو الذهاب في مهمة أخرى شديدة الأهمية، وأن يصير المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق المحتلة، وفي أغسطس ٢٠٠٣، قُتل دي ميللو في بغداد في أعقاب هجوم إرهابي. كثيرًا ما تُنتقد الأمم المتحدة بسبب دبلوماسييها المنمقين الذين يتلقون رواتب عالية، كان هذا الوصف ينطبق على دي ميللو؛ بيد أن ظروف وفاته كانت تذكيرًا صادمًا — مماثلًا تقريبًا لمقتل الأمين العام داج همرشولد في الكونغو خلال مهمة وساطة — بالمخاطر التي ينطوي عليها العمل لحساب المنظمة الدولية.

منذ وفاة دي ميللو ظلت لويز آربور — محامية حقوق الإنسان الكندية — تشغل المنصب بمكتب المفوضية السامية. مَثَّل تعيينها في هذا المنصب تحولًا نحو منحى قانوني أكثر؛ فآربور — العضو بالمحكمة العليا الكندية — كانت رئيس هيئة الادِّعاء السابقة لجرائم الحرب أمام المحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في لاهاي. وفي هذه الوظيفة وجهت آربور الاتهام للرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش؛ لارتكابه جرائم حرب. مغزى هذا الفعل تمثل في أن ميلوسوفيتش كان أول رئيس دولة يواجَه بمثل هذا الاتهام وهو في سدة الحكم؛ ومن ثم استهدفت ولاية آربور كمفوض سامٍ مضاعفةَ الجهود من أجل إخضاع منتهكي حقوق الإنسان للمحاكمة.

إضافة إلى قوة الشخصيات التي خدمت في هذا المنصب، مثَّل تأسيس مكتب المفوضية السامية تحوُّلًا بارزًا بعدد من الطرق الأخرى؛ فبفضل مكانته كوكيل للأمين العام للأمم المتحدة، يقترب مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان من قمة الهرم الوظيفي بالأمم المتحدة. وبفضل وجود المقر الرئيسي للمكتب في جنيف، أرسى المكتب لنفسه حضورًا عالميًّا من خلال خلق شبكة من المكاتب الإقليمية والوطنية، ومن خلال تعيين مستشارين لحقوق الإنسان في مناطق معينة. كل هذا النشاط — إلى جانب تلقي دفعة عامة للتأكيد على خطة حقوق الإنسان من قبل الأمناء العموم المتعاقبين (بطرس بطرس غالي وكوفي عنان) — كان له أثر إيجابي، وفي القرن الحادي والعشرين صار مرور انتهاكات حقوق الإنسان دون حساب أمرًا متزايد الصعوبة.

ومع الأسف، لا يعني هذا أن مثل هذه الانتهاكات قد ولَّت إلى غير رجعة؛ ففي السنوات القليلة الأولى من عملها اضطرت المفوضية السامية لحقوق الإنسان لمواجهة سلسلة من الأزمات، مثل التطهير العرقي في يوغوسلافيا السابقة (ومن بينها مذبحة سربرينيتشا للبوسنيين على يد الصرب)، وعمليات الإبادة الجماعية في رواندا في عام ١٩٩٤ التي أدت إلى القتل الممنهج لما يقارب ٨٠٠ ألف من التوتسي. في النهاية، حتى أكثر المفوضين السامين نشاطًا — مثل ماري روبنسون — لم يستطع فعل الكثير لمنع المنتهكين من تجاهل المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، سواءٌ أكان هؤلاء حركة طالبان في أفغانستان أم نظام صدام حسين في العراق أم الحكومات الشيوعية في الصين أم نظيرتها — الأسوأ بكثير — في كوريا الشمالية، أم ديكتاتوريات الحزب الواحد العديدة بدول جنوب الصحراء الأفريقية.

لكن مثل هذه النقاط السوداء لا تعني أنه لم يتحقق أي تقدم؛ ففي أمريكا الوسطى حدث تقدم في عملية إرساء الديمقراطية في حين خلفت المنطقة وراءها إرثًا طويلًا من الحكم الشمولي اليميني وانتهاكات حقوق الإنسان. ولكي تضمن لجنة حقوق الإنسان إحراز تقدم على طريق تطبيق ممارسات حقوق إنسان إيجابية، تعمل اللجنة مع الحكومات الوطنية، وأحيانًا — كما حدث في عام ٢٠٠٤ في جواتيمالا — تفتح مكاتب ميدانية لها كي تراقب التطورات في بلدان بعينها. وفي أجزاء عديدة من أفريقيا، تمارس مكاتب لجنة حقوق الإنسان الميدانية الثلاثة عشر ضوابط وضغوطًا مشابهة؛ للتأكد من أن كل شيء — بداية من حقوق الأطفال وصولًا إلى حقوق التصويت — يُرصَد. إن التحديات عظيمة، ومنذ تحول جنوب أفريقيا من سياسة التفرقة العنصرية إلى الديمقراطية، قدم هذا البلد مثالًا مشجعًا للخطوات التي تؤخذ على طريق تعزيز حقوق الإنسان. ومع هذا ففي عام ٢٠٠٧، أورد مكتب لجنة حقوق الإنسان بجنوب أفريقيا في بريتوريا عددًا ضخمًا من الأهداف لعملياته، يتراوح من الحملات التعليمية إلى الضغط على الحكومة لتحسين جهودها في حماية الأقليات والمجموعات المهمشة.

في الواقع، التحدي الأكبر الذي يجابه لجنة حقوق الإنسان هو العدد الضخم للقضايا — أو الانتهاكات — الذي عليها التعامل معه؛ على سبيل المثال، في أسبوع واحد من شهر نوفمبر عام ٢٠٠٧، عقدت لجنة حقوق الإنسان اجتماعات بشأن الاحتجاز التعسفي، والضغط من أجل تأمين حقوق الشعوب الأصلية في غابات الأمازون المطيرة، والمطالبة بوقف العنف ضد المرأة في الشرق الأوسط وأفريقيا، ومناقشات حول حقوق العمال المهاجرين وأسرهم. المفارقة الكبرى في الأمر هي أنه بصرف النظر عما توصي به هذه اللجنة أو تلك المجموعة، لا تملك لجنة حقوق الإنسان من أدوات تنفيذ هذه التوصيات إلا القليل للغاية.

(٤) المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان

أشار التناقض بين الانتهاكات المهولة لحقوق الإنسان والتحسينات المشجعة في المجال عينه إلى الحاجة لمزيد من التقوية لهيكل الأمم المتحدة الموجود بالفعل. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين نتج عن هذا تطوران مهمان:

الأول: هو تأسيس المحكمة الجنائية الدولية في عام ٢٠٠٢. صارت المحكمة الجنائية الدولية — ومقرها لاهاي — المحفل الدائم لمقاضاة الأفراد المسئولين عن عمليات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب. بطبيعة الحال تعاني المحكمة الجنائية الدولية نقاط ضعف عديدة؛ إذ يسمح لها فقط بمباشرة الجرائم المرتكبة بعد الأول من يوليو عام ٢٠٠٢، ولا يمكنها محاكمة الأفراد على جرائم العدوان، إلى جانب أن عددًا من الدول لم يصيروا أعضاءً بالمحكمة الجنائية الدولية.

أهم ما في الأمر هو أنه بالرغم من توقيع الرئيس كلينتون على المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية (نظام روما الأساسي)، في أواخر عام ٢٠٠٠ (المعاهدة التي أسست المحكمة الجنائية الدولية وفقها، جرى التفاوض عليها في عام ١٩٩٨)، فإنه أعلن على الفور أنه لن يقدمها إلى الكونجرس للتصديق عليها إلا بعد إدخال بعض التعديلات عليها. وفي عام ٢٠٠٢ أعلمت إدارة بوش الأمم المتحدة بأنها لا تنوي الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية. لم يمثل هذا التوجه الأمريكي مفاجأة كبيرة؛ فكلا الرئيسين كانا في الواقع يمثلان اتفاقًا في الرأي بين الحزبين الرئيسيين بالولايات المتحدة يرى أن المحكمة الجنائية الدولية ستمثل خرقًا للسيادة الوطنية الأمريكية. وقد علق جون بولتون — مندوب إدارة الرئيس بوش لدى الأمم المتحدة — على الأمر بقوله: «إنه اتفاق يضر بالمصالح القومية للولايات المتحدة، ويضر بوجودنا في الخارج.» بشكل أساسي، كان الديمقراطيون والجمهوريون متفقين بشكل عام على أن المحاكم الأمريكية وحدها ينبغي أن يسمح لها بمحاكمة المواطنين الأمريكيين. تمثلت حجة أخرى ضد المحكمة الجنائية الدولية في أنه بما أن الولايات المتحدة لها قوات في أكثر من مائة دولة، فمن الممكن أن تكون عرضة «لاتهامات تافهة أو أخرى تحركها دوافع سياسية».4 ومرة أخرى، شهدت الأمم المتحدة تصادمًا بين المصلحة القومية والأممية.
ثانيًا: حل مجلس حقوق الإنسان محل لجنة حقوق الإنسان في عام ٢٠٠٦، وإلى جانب تغيير الاسم كان الهدف الأساسي للتغيير هو مواجهة الانتقادات التي دائمًا ما وجهت إلى اللجنة؛ أنها تميل لمنح مكانة مرموقة لدول يعرف عنها جيدًا أنها تنتهك حقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، مثَّل انتخاب ليبيا في عام ٢٠٠٣ كرئيس للجنة حقوق الإنسان القشة الأخيرة في كومة التشكيك المتزايدة. وهكذا، على مدار السنوات القليلة التالية صيغت مسودة القانون الأساسي وخضعت للتفاوض، ثم في ١٥ مارس ٢٠٠٦ تم التصويت عليها. وقد نص القرار الداعي لإنشاء مجلس حقوق الإنسان تحديدًا على أن «الدول الأعضاء بالمجلس [مجلس حقوق الإنسان] ينبغي أن تحمل أعلى المعايير في حماية وتعزيز حقوق الإنسان»، وتمت الموافقة على القرار بإجماع مثير للدهشة: إذ صوتت ١٧٠ دولة (من إجمالي ١٩١ دولة) بالموافقة على القرار بالجمعية العامة.5

أربع دول فقط صوتت ضد القرار، من بينها — كما هو الحال مع المحكمة الجنائية الدولية — الولايات المتحدة؛ فقد زعمت الولايات المتحدة — شأن جزر مارشال وبالاو وإسرائيل — أن مجلس حقوق الإنسان سيعاني نفس المشكلات التي عانتها الهيئة السابقة عليه؛ إذ سيكون لديه سلطات محدودة للغاية، ومن السهل أن تسيطر عليه دول انتهكت حقوق الإنسان على نحو منتظم. في الواقع، امتنعت عدد من الدول — من بينها روسيا البيضاء وجمهورية أفريقيا الوسطى وإيران وليبيريا وكوريا الشمالية وفنزويلا — عن التصويت.

لم يكن المنتقدون مخطئين في رأيهم تمامًا؛ إذ إن العديد من التغيرات كانت شكلية لا أكثر؛ فبدلًا من الأعضاء الخمسة والثلاثين الذين ضمتهم لجنة حقوق الإنسان، سيكون بمجلس حقوق الإنسان سبعة وأربعون مقعدًا، يشغل كلًّا منها دولة من الدول الأعضاء بالأمم المتحدة. وبعيدًا عن هذا التصميم، توزع المقاعد بين جماعات الأمم المتحدة الإقليمية كالتالي: ثلاثة عشر مقعدًا لأفريقيا، ومثلها لآسيا، وستة لدول شرق أوروبا، وثمانية لأمريكا اللاتينية والكاريبي، وسبعة لدول أوروبا الغربية والأوقيانوس. تُنتخب الدول لفترة قوامها ثلاث سنوات (قابلة للتجديد مرة واحدة) بواسطة التصويت بالأغلبية بالجمعية العامة، وفي اقتراع سري. كإجراء إضافي، أي عضو بالمجلس يمكن إيقافه من خلال تصويت ثلثي أعضاء الجمعية العامة على ذلك. قد يبدو الأمر منطقيًّا من ناحية التوزيع بين سكان العالم، لكنه لم يخف حقيقة أنه قد يكون من الصعب — في أي وقت — العثور على ثلاث عشرة دولة في أفريقيا أو آسيا ذات سجل حقوق إنسان مقبول (ناهيك عن كونه يحتذى به). ففي عام ٢٠٠٧ مثلًا، كانت نيجيريا وجمهورية الصين الشعبية وأذربيجان من الدول الأعضاء، بالرغم من تعرضها لانتقادات بسبب إساءة حكوماتها لاستخدام السلطة.

ربما يكون أبرز المواضيع المثيرة للجدل فيما يخص مجلس حقوق الإنسان — إلى جانب نظام حقوق الإنسان الإجمالي (بما فيه المحكمة الجنائية الدولية) في القرن الحادي والعشرين — هو دور الولايات المتحدة؛ فنتيجة لرفضها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية، اتَّحد عدد من الدول الأوروبية للتصويت من أجل إخراج الولايات المتحدة من لجنة حقوق الإنسان في عام ٢٠٠١، ومع أنه سمح للولايات المتحدة بالعودة بعدها بعامين، فإنها استجابت بأن قاطعت كلًّا من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان. إن ما منع الولايات المتحدة من الانضمام لنظام حقوق الإنسان الجديد هو — بالأساس — الإشكالية نفسها التي كبلت الأمم المتحدة في كثير من المجالات الأخرى أيضًا؛ المطالب المتعارضة للسيادة القومية والأمن القومي من جانب، والأممية من جانب آخر. في الوقت ذاته، استمرت الحكومة الأمريكية في تصوير نفسها كمناصر لحقوق الإنسان، وفي الواقع — عند مقارنة سجل الولايات المتحدة بدول عديدة أخرى أعضاء بمجلس حقوق الإنسان أو المحكمة الجنائية الدولية — يبدو سجل واشنطن ساميًا، وذلك حتى انتشار أنباء تعذيب المشتبه في قيامهم بأعمال إرهابية في القاعدة الأمريكية بخليج جوانتانامو بكوبا في عام ٢٠٠٣، واستخدام الأمريكيين للتعذيب في سجن أبو غريب بالعراق في عام ٢٠٠٤.

قد يكون مفهومًا لماذا لا يريد الأمريكيون أن يحاكم جنودهم أمام المحكمة الجنائية الدولية على جرائم الحرب التي ارتكبوها في العراق مثلًا، لكن بالاستمرار خارج كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الإنسان يبعث الأمريكيون برسالة سلبية للحكومات الأخرى، المنخرطة في انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، بأن تحذو حذوها.

نتيجة لذلك يكون السؤال الذي يواجه الأمم المتحدة هو كيفية مواجهة عواقب انتهاكات حقوق الإنسان المحتمل وقوعها. إن المحكمة الجنائية الدولية — مثلًا — أُنشئت لمواجهة جانب من هذا التحدي؛ الحاجة لتقديم من ارتكبوا الجرائم للمحاكمة، لكن تظل هذه العملية طويلة للغاية.

(٥) الأمن البشري و«مسئولية الحماية»

صار استخدام مصطلح «الأمن البشري» شائعًا بعد مؤتمر هلسنكي للأمن والتعاون الذي انعقد في عام ١٩٧٥. ومثَّل التوقيع على ما سمي ﺑ «اتفاقيات هلسنكي» في أوائل أغسطس عام ١٩٧٥ إنجازًا بارزًا للدبلوماسية متعددة الأطراف؛ إذ وافقت خمس وثلاثون دولة أوروبية — بالإضافة للولايات المتحدة وكندا والاتحاد السوفييتي — على وثيقة ترسي قواعد أساسية على غرار حرمة حدود الدول الأوروبية بعد عام ١٩٤٥. ومع هذا فقد ضمت اتفاقيات هلسنكي عددًا من البنود المثيرة للجدل وقتها — والموجودة خفية في «القسم الثالث» بالوثيقة — التي أكدت على احترام حقوق الإنسان كعنصر مهم في الأمن الدولي. وبهذا مثلت اتفاقيات عام ١٩٧٥ تحولًا من الاهتمام بالأمن من منظور ضيق متركز على الدولة إلى اهتمام شامل واسع النطاق. مُنحت حقوق الأفراد والصلات البشرية عبر الحدود القومية مكانًا خاصًّا بجوار الأسئلة التقليدية المتعلقة بالحدود. وفي ذروة الحرب الباردة لخص شعار قادم من مؤتمر هلسنكي الفكرة الأساسية وهو: «الأمن لا يتحقق بإقامة الحواجز، بل يتعزز ببناء الجسور.»

في القرن الحادي والعشرين بات مصطلح «الأمن البشري» يستخدم استخدامًا شائعًا كاختصار للمخاوف والممارسات المتعلقة بالأوجه العديدة للتحرر من الخوف والتحرر من العوز، والعلاقات الوثيقة بينهما. وقد أنشأ الأمين العام كوفي عنان — بما يعكس أهمية هذا المفهوم — «لجنة الأمن البشري» في أوائل عام ٢٠٠١. وقد قدمت اللجنة تقريرها النهائي في عام ٢٠٠٣ واقترحت فيه:

إطار عمل جديدًا للأمن يركز مباشرة وتحديدًا على البشر؛ فالأمن البشري يركز على وقاية البشر من التهديدات الحرجة والمتغلغلة، وتمكينهم من أخذ زمام أمور حياتهم، وهذا يتطلب إيجاد فرص حقيقية للبشر كي يعيشوا بأمان وكرامة ويكسبوا قوتهم.

وعلى هذا يضم الأمن البشري قضايا عديدة، أهمها الحاجة إلى مكافحة الفقر، وتحسين التعليم، وحماية الأطفال، وتسهيل الحصول على الرعاية الطبية، ومكافحة تجارة السلاح الدولية والمخدرات، وحماية البيئة.

ما من شك أن كل هذه القضايا كانت تمثل مشكلات جدية، لكن كان الأمر برمته يحمل مفارقة: فالأمم المتحدة لديها بالفعل منظمات مهمتها التعامل مع كل قضية من القضايا الموضحة في تقرير لجنة الأمن البشري؛ فقد انضم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في مكافحة الفقر كل من منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ومنظمة العمل الدولية، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية، وغيرها الكثير، وتحسين التعليم كان الهدف المحدد لمنظمة اليونسكو، ومساعدة الأطفال وحمايتهم كان مجال اختصاص اليونيسيف، أما منظمة الصحة العالمية فكانت تكافح من أجل تسهيل الحصول على الرعاية الطبية وتحسينها. وكان لدى الأمم المتحدة لجان لمكافحة تهريب السلاح والاتجار بالمخدرات. وهناك برنامج الأمم المتحدة للبيئة، الذي يتضح هدفه من اسمه، فإلى حد بعيد لم يكن «الأمن البشري» سوى اسم جامع يوضح ما كانت الأمم المتحدة تفعله بالفعل.

يمكن تلخيص الكثير من هذه الأمور في مفهوم «مسئولية الحماية»، وتعني أن الدول ذات السيادة تحمل مسئولية حماية مواطنيها من الكوارث التي يمكن تجنبها، لكن حين تعزف أو تعجز عن ذلك، يجب على مجتمع أوسع من الدول حمل هذه المسئولية. ومن جماعات البشر الذين يتعرض أمنهم البشري لخطر دائم والذين تُنتهك حقوق الإنسان الخاصة بهم على نحو متكرر اللاجئون.

(٦) اللاجئون‎، والنازحون، ومفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين

منذ فجر التاريخ والبشر يفرون من أوطانهم ويعزفون أو يعجزون عن العودة لخوفهم من الاضطهاد. في حالات عديدة كان سبب مشكلة اللاجئين هو الغزو العسكري، وفي حالات أخرى كان النظام الحاكم الذي ما إن يملك السلطة حتى يبدأ في اضطهاد مجموعة من البشر داخل حدود الدولة (كما حدث مع اليهود في ألمانيا النازية). وبصرف النظر عن سبب أي قضية بعينها للاجئين، عادة مثلت الحروب وتغير حدود الدول الأسباب التقليدية لما يشار إليه بالهجرة القسرية. وهذه الظاهرة قديمة قدم الحرب ذاتها.

ومع هذا لم تبدأ قضايا اللاجئين في جذب انتباه العالم إلا في القرن العشرين وحسب. فبعد الحرب العالمية الأولى نزح ملايين البشر في أرجاء أوروبا وغيرها من مناطق الصراع. وكانت أول وكالة دولية تتعامل مع مشكلة اللاجئين هي «المفوضية السامية للاجئين» التي أسستها عصبة الأمم في عام ١٩٢١، كانت مهمتها الأساسية هي التعامل مع قرابة ١٫٥ مليون لاجئ فروا من الثورة الروسية والحرب الأهلية، بيد أن النطاق سريعًا ما اتسع ليغطي الأرمينيين والأشوريين والأتراك. وفي عام ١٩٣١ تغيَّر اسم اللجنة السامية إلى «مكتب نانسن الدولي لشئون اللاجئين» (والمسمى بهذا الاسم تكريمًا لفريتيوف نانسن — رئيس المفوضية السامية — الذي توفي عام ١٩٣٠).

عانى مكتب نانسن — كما سيحدث مع خلفائه — من التمويل غير الكافي الآتي معظمه من المساهمات الخاصة، ومن السلوك غير المتعاون للعديد من الدول. ومع هذا فقد حقق مكتب نانسن بعض الإنجازات المهمة، من بينها إصدار ما سمي بجواز سفر نانسن، الذي أصدرته عصبة الأمم للاجئين عديمي الجنسية. صُممت جوازات السفر في عام ١٩٢٢، ومُنحت في البداية للاجئين الفارين من الثورة الروسية. أصدر قرابة ٤٥٠ ألف جواز سفر نانسن، تعترف بها اثنتان وخمسون دولة، بين عامي ١٩٢٢ و١٩٤٢. شجع نانسن أيضًا على إنشاء مكتب خاص للاجئين الفارين من الاضطهاد النازي، وأول أداة قانونية دولية لحماية حقوق اللاجئين: اتفاقية اللاجئين لعام ١٩٣٣ (التي وقعت عليها ثلاث عشرة دولة). ويقدر أن مكتب نانسن ساعد قرابة المليون لاجئ قبل إنهاء عمله بنهاية عام ١٩٣٨.

تضاعف عدد اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. ومع أنها كانت قضية عالمية، فإن التعامل مع مشكلة اللاجئين كان في معظمه مشكلة أوروبية في ذلك الوقت. اشتملت المشكلة على ملايين الهاربين من الاضطهاد النازي (من بينهم يهود أوروبيون) والفارين من غزو الجيش الألماني (والإيطالي). وحين مالت كفة الحرب لمصلحة الحلفاء، شكل الألمان أنفسهم مجموعة كبيرة من اللاجئين. وإجمالًا، مناطق قليلة للغاية من أوروبا هي التي لم تتأثر بالحركة الضخمة للمدنيين. وفي الشرق الأقصى، عانت مناطق كبيرة من الصين أزمات مماثلة بسبب الغزو الياباني، ويتراوح عدد اللاجئين والنازحين داخليًّا بنهاية الحرب العالمية الثانية بين ١١ و٢٠ مليون شخص.

في عام ١٩٤٣، أنشأ الحلفاء «إدارة الأمم المتحدة للإغاثة والتأهيل» لمواجهة هذا التحدي. وفي السنوات التالية قدمت الإدارة العون للمناطق المحررة من الاحتلال الألماني أو الياباني في أوروبا وآسيا. شمل هذا عودة أكثر من ٧ ملايين لاجئ لبلدهم الأم وإنشاء مخيمات للنازحين لأكثر من مليون لاجئ رفضوا العودة لأوطانهم. وحين أنهت الإدارة أعمالها في عام ١٩٤٩ نُقلت مهامها المتعلقة باللاجئين إلى «المنظمة الدولية للاجئين»، وبعدها بعام تغيَّر اسمها إلى «مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين». كانت ولايتها المبدئية ثلاثة أعوام، وكانت كافية على الأرجح لإعادة تسكين الجزء المتبقي من اللاجئين الأوروبيين وعددهم ١٫٢ مليون شخص. لكنْ بدايةً من عام ١٩٥٣ تجددت ولايتها على نحو متكرر كل خمسة أعوام. وفي عام ٢٠٠٣ أزالت الأمم المتحدة القيد الزمني لتصير المفوضية دائمة «إلى أن تُحل مشكلة اللاجئين».

فئات الأشخاص محل الاهتمام من طرف مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين

هناك ملايين البشر ممن صاروا عديمي المأوى وفي ظروف يائسة، لكنهم غير مؤهلين قانونًا لأن يوضعوا تحت فئة اللاجئين (ومن ثم غير مستحقين للمساعدة أو الحماية). ولهذا جرى التوسع في أنشطة المفوضية كي تشمل المجموعات الآتية على الأقل:

اللاجئين (قرابة ٨٫٤ ملايين شخص في عام ٢٠٠٦):

مَن فروا من أوطانهم والتمسوا الملاذ في دولة ثانية؛ كي يهربوا من الاضطهاد أو الحرب أو الإرهاب أو الفقر المدقع أو المجاعات أو الكوارث الطبيعية.

النازحين داخليًّا (٧٫١ ملايين شخص):

مَن فروا من منازلهم، عادة خلال حرب أهلية، لكنهم ظلوا في بلدهم الأم بدلًا من السعي لملجأ خارجها.

عديمي الجنسية (٣٫٣ ملايين شخص):

مَن لا يملكون الجنسية نتيجة عدد من الظروف المحتملة، منها: (أ) أن تكون الدولة التي منحتهم جنسيتهم السابقة قد انتهت من الوجود دون أن تخلفها دولة أخرى. (ب) أن تكون جنسيتهم قد أسقطت عنهم من جانب دولتهم الأم. (ج) أن يكونوا أفرادًا في جماعة محرومة تنكر عليها الدولة التي ولدوا بأراضيها حق الجنسية، وغير ذلك.

العائدين (١٫١ مليون شخص):

مَن عادوا إلى أوطانهم لكن لا يزالون يتلقَّوْن العون من المفوضية أثناء عملية إعادة الاندماج.

طالبي اللجوء السياسي (٧٧٠ ألف شخص):

مَن طلبوا حق اللجوء لدولة أخرى لكن لا يزالون في انتظار القرار.

تبدو المشكلة غير قابلة للحل؛ فبناء على الخبرة السابقة، ثمة أمل ضئيل في أن تنتهي مشكلة اللاجئين تمامًا، فمع أن أغلب لاجئي الحرب العالمية الثانية إما عادوا لأوطانهم أو استقروا في أماكن أخرى بحلول بداية الخمسينيات، فقد أسهمت أزمات أخرى في إبقاء حجم اللاجئين على مستوى العالم مرتفعًا (ومتزايدًا). ومنذ الخمسينيات، ساعدت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين ما يقرب من ٥٠ مليون شخص على بدء حياتهم من جديد، لكن يتوالى تزايد المشكلات. ففي عام ١٩٥٥، قُدر عدد اللاجئين في العالم بنحو ٢٫٢ مليون شخص، وبحلول منتصف الستينيات، ارتفع العدد إلى ١١ مليونًا، وفي عام ١٩٩٥، وصل إلى ١٤ مليونًا. في عام ٢٠٠٧، كان موظفو المفوضية وعددهم ٧ آلاف يعتنون باحتياجات أكثر من ٢٠ مليون شخص في ١١٦ دولة. يضم العدد أيضًا «الأشخاص محل الاهتمام» من طرف المفوضية وهم: النازحون داخليًّا وعديمو الجنسية والعائدون وطالبو اللجوء السياسي.

إلى جانب نمو الأعداد في حد ذاته، تغير التوزيع الجغرافي للاجئين أيضًا؛ ففي الخمسينيات، كان نصف «زبائن» المفوضية السامية يوجدون في أوروبا، لكن شهدت الستينيات والسبعينيات توسعًا في نطاق عمل المفوضية في العالم النامي، خاصة في آسيا وأفريقيا. وفي أوائل السبعينيات، عرَّض نطاق الأزمة الإنسانية بشبه القارة الهندية — حيث فر أكثر من ١٠ ملايين بنغالي من قمع الجيش الباكستاني إلى الهند في عام ١٩٧٠ — المفوضية السامية للعديد من التحديات، منها إدارة العدد الكبير من اللاجئين المتدفقين، وبناء مخيمات لاجئين واسعة، وتوفير وتوزيع الغذاء ومؤن الإعانة الأساسية على نطاق لم يتخيله أحد من قبل قط. وبحلول الثمانينيات، صارت كل أعمال المفوضية السامية تقريبًا في مناطق العالم النامي وتبوَّأت مكانها كمنظمة عالمية بحق. استمر هذا النمو على مر العقود الماضية حتى مع معاناة المفوضية — في ظل اعتمادها على المساهمات الطوعية — من النقص المستمر في التمويل (بلغت ميزانيتها السنوية عام ٢٠٠٧ حوالي مليار دولار).

شأن كل ما تفعله الأمم المتحدة، أثارت أنشطة مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين مشاعر متضاربة من الإعجاب والإحباط، وقد فازت المفوضية — تقديرًا لعملها المهم — بجائزتي نوبل للسلام (١٩٥٥ و١٩٨١)، وهو الشرف الذي لا يفوقها فيه سوى اللجنة الدولية للصليب الأحمر. ومن المحزن أن المفوضية كانت — ومن المرجح أن تظل — إحدى أهم منظمات المساعدة الإنسانية في العالم. والأمر محزن لأنه مع ازدياد حالات الطوارئ الإنسانية في الحجم والتعقيد، تعاني المفوضية صعوبة القيام بدورها كمنظمة محايدة لتقديم المساعدة الإنسانية. في بعض الأوقات، جُند اللاجئون كمقاتلين في الحروب الأهلية (كما حدث في أنجولا منذ السبعينيات أو أفغانستان منذ الثمانينيات). ومع الأسف، ينتهي المآل أحيانًا بالمساعدات الإنسانية باستخدامها لتمويل عمليات شراء السلاح بدلًا من مساعدة اللاجئين. في الواقع، ليست مخيمات اللاجئين نفسها بالشيء الذي تود معظم الحكومات أن تراه على أراضيها؛ بسبب ميلها لنشر الصراع الذي تسبب في فرار اللاجئين في المقام الأول. والوجود الممتد في مخيمات اللاجئين — نتيجة للصراعات الممتدة التي كثيرًا ما أججتها المساعدة الآتية من طرفي الحرب الباردة الأساسيين — زادت هذه المشكلات سوءًا.

أيضًا لا يحل إنهاء مثل هذا الوجود طبيعيًّا المشكلات؛ فمع نهاية الحرب الباردة انتهى العديد من الصراعات الدائمة؛ عاد ملايين اللاجئين إلى أوطانهم في أفريقيا وآسيا، لكن ظهرت مشكلات جديدة: الحاجة لمساعدة العائدين الذين قضوا ما يزيد على العقد بعيدًا عن أوطانهم، وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم التي دُمرت بنيتها الأساسية الاجتماعية والاقتصادية في أحوال كثيرة؛ على سبيل المثال: على مدار عامين بعد عودة ٤٥٠ ألف لاجئ إلى ناميبيا في جنوب غرب أفريقيا، وجد ٧٥ بالمائة منهم فقط فرص عمل.

(٧) تضاعف مشكلات اللاجئين ‎

هكذا تواجه مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في القرن الحادي والعشرين تحديات عديدة مختلفة. فإعادة توطين اللاجئين يهدد استقرار البلدان التي تريد عودة أبنائها الغائبين عنها منذ زمن طويل، ويستمر لاجئون جدد في الظهور. وقد تسبب التدخل الدولي — بقيادة أمريكا — في أفغانستان عام ٢٠٠١ وغزو العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣ في حركات نزوح ضخمة من — وإلى — هذين البلدين (وهو ما أدى بالتبعية إلى إثارة مشكلات إعادة التوطين واللاجئين). وفي عامي ٢٠٠٦ و٢٠٠٧، طغت المناقشات حول عمليات إبادة جماعية تحدث في إقليم دارفور غرب السودان على حقيقة أن الأزمة قد تسببت بالفعل في وجود ٢٫٥ مليون لاجئ. إنه مؤشر مثير للحزن عن حالة العالم أن تُترك منظمة المساعدة «المؤقتة» التي أسست منذ أكثر من نصف قرن في هذه الحالة الضعيفة لعقود قادمة.

أصدرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين — استجابة منها للتحديات المتعاظمة لحقبة ما بعد الحرب الباردة بالأساس — خطة الحماية في عام ٢٠٠٢، أكدت الخطة على الحاجة للتعاون متعدد الأطراف للوفاء بمسئولية المجتمع الدولي في حماية الأفراد المعرضين للخطر بسبب الظروف الخارجة عن سيطرتهم. من المنطقي أن الوثيقة أكدت على الحاجة للتشارك في الأعباء والمسئوليات والبحث عن حلول دائمة (متعلقة بالأمن). وأوضحت الجانب الذي يحتاج لاهتمام خاص؛ احتياجات اللاجئين من النساء والأطفال.
fig15
شكل ٦-٢: الأمين العام كوفي عنان يتحدث إلى بعض النساء في مخيم زمزم للنازحين في إقليم دارفور بالسودان عام ٢٠٠٤.6

لم يكن أي من هذا بالأمر الجديد أو الثوري؛ فالمفوضية — في الواقع — لها تاريخ طويل من التعاون مع العديد من وكالات الأمم المتحدة وما سواها في التعامل مع قضايا الأمن البشري؛ من هذه الوكالات البرنامج العالمي للأغذية، واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، والبنك الدولي، والمنظمة الدولية للهجرة. عمل ما يقارب الستمائة منظمة غير حكومية مع مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين. كان هذا التعاون جوهريًّا لتقديم مساعدة فعالة للاجئين. وعلى مدار العقود الستة الماضية — باستثناء بعض الأخطاء في حماية اللاجئين ونظام المساعدة — تظل المفوضية، إجمالًا، جزءًا ناجحًا لا غنى عنه من الجهود الرامية لحماية أكثر مجموعات البشر ضعفًا على سطح الأرض.

(٨) المفارقة الدائمة لحقوق الإنسان

لا مفر من هذه المفارقة: فمن ناحية، ظلت حقوق الإنسان جزءًا أساسيًّا من برنامج عمل الأمم المتحدة منذ البداية، وتحقق النجاح في رفع مستوى الاحترام للعديد من الحقوق الفردية التي حددها الإعلان العالمي عام ١٩٤٨. لكن من ناحية أخرى، ظل الاحترام العالمي لحقوق الإنسان مرهونًا بأهواء البيئة الدولية ونزوات الدول. وحقوق الإنسان — بالرغم من مراقبتها دون شك بدأب في القرن الحادي والعشرين أكثر مما كان عليه الحال سابقًا — تُنتهك على نحو متواصل في كل قارة.

الحقيقة الباعثة على الحزن عينها تنطبق على أكثر الأشخاص الذين يسهل التعدي على حقوقهم؛ اللاجئين؛ ففي غياب حماية الدولة تعتمد حياة ملايين الأشخاص «موضع الاهتمام» من جانب مفوضية الأمم المتحدة السامية لشئون اللاجئين في نهاية المطاف على تعاطف المجتمع الدولي، لكن حماية حقوق الإنسان الخاصة بهم تتعارض بسهولة مع حقوق الدول ذات السيادة (سواء تلك التي فر منها اللاجئون أو التي يستقرون بها على نحو مؤقت).

بعبارة أخرى، فإن عدد النازحين داخليًّا — المقدر بأربعة ملايين شخص — في السودان يستحق أن يكون موضع اهتمام المفوضية السامية، لكن قد يمثل هؤلاء النازحون أيضًا تهديدًا محتملًا لسيطرة الحكومة السودانية على مقاليد السلطة (بصرف النظر عن أي جوانب أخلاقية يشتمل عليها الأمر)؛ ومن ثم فهم يمثلون خطرًا على بقاء الدولة ذات السيادة. وعلى نحو مشابه، يمثل وصول مئات الآلاف من اللاجئين إلى تشاد المجاورة من إقليم دارفور منذ عام ٢٠٠٣ حالة طوارئ إنسانية ذات حجم ضخم تفرض تصرفًا دوليًّا واسع النطاق، لكن تنظيم اثني عشر مخيمًا كبيرًا للاجئين يمثل أيضًا تهديدًا محتملًا للديمقراطية الوليدة في الدولة المضيفة؛ تشاد. وبداية من عام ٢٠٠٥، صار هذا الأمر واضحًا على نحو مؤلم مع انتشار صراع دارفور إلى المناطق الشرقية من تشاد. إضافة إلى ذلك، تحتَّم على تشاد فجأة أن تواجه مشكلة أخرى: فبحلول عام ٢٠٠٧، وصل عدد التشاديين النازحين داخليًّا إلى ٢٥٠ ألف شخص، وهم يحاولون الحصول على اهتمام المفوضية السامية شأن اللاجئين السودانيين البالغ عددهم ٢٢٠ ألف شخص.

ليست أزمة دارفور سوى مثال وحيد لثلاث حقائق ملحوظة عن حقوق الإنسان والأمم المتحدة؛ الأولى: أن احترام حقوق الإنسان يظل أمرًا هشًّا في أجزاء عديدة من العالم. والثانية: أنه لا يمكن لأي إعلان عالمي أو لجنة تحقيق أو مقرر خاص أو منظمة دولية أن تكون الحل السحري؛ لأنه في النهاية من يملكون السلطة السياسية هم من يحددون التوازن بين الحقوق والمسئوليات داخل المنطقة. والثالثة، التي قد تبدو ميئوسًا منها أحيانًا: هي أن الأمم المتحدة تحديدًا لا غنى عنها في هذا النطاق بوصفها الكيان الدولي الوحيد المعترف به عالميًّا القادر — من خلال أدواته العديدة — على الضغط على الدول لتعديل سياسات حقوق الإنسان التي تتبعها ومساعدة من يعانون بسبب إساءة استخدام السلطة، وهو الأمر الشائع للغاية في كل أنحاء العالم اليوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤