الفصل الأول

النبيذ الأحمر

عندما كان السيد جوليوس ريكاردو يتحدث عن سِمات «الرجل النبيل»، وهو لقب كان يتردَّد كثيرًا على لسانه، كان يقصد رجلًا أضاف إلى أسلوبه الأنيق معرفةً واسعة بالنبيذ الأحمر. ولم يكن بمقدوره محو هذه الجزئية من تعريفه. هذا محال! فالرجل النبيل يجدر به أن يعرف تاريخ النبيذ العتيق وفئات الخمور السبع مرتبةً في ذهنه ترتيبًا واضحًا مثلما كانت مدينة كاليه محفورةً في قلب الملكة التيودورية. كما يجدر به أن يتمكَّن، بنظرةٍ واحدةٍ على التربة، من تفسير سبب إنتاج كروم العنب على هذا الجانب من الطريق شرابًا ألذ من تلك الكروم التي تبعد ٥٠ ياردةً على الجانب الآخر منه. كذلك يجدر به أن يُميِّز، من الرشفة الأولى، الفحولة الكامنة في شاتو لاتور عن الأريج الأنثوي في شاتو لافيت. وفوق هذا، حري به أن يُدرك أنه لم يتعلَّم سوى الخطوات الأولى لطفل يتعلَّم المشي. ويجب ألا يعتبر نفسه يمتلك المعرفة الكافية حتى يتمكَّن من الاعتماد على صحة تصنيفه للنبيذ في أي مناسبة. فحتى تاجر النبيذ ربما يجادل بأن نبيذ موتون روتشيلد مُصنَّف على سبيل الخطأ ضمن الفئة الثانية. ولكن الخبير الذي كان يتخيله السيد ريكاردو ينبغي أن يكون مؤهَّلًا لأمور أهم بكثير من تلك. وكان مرجَّحًا أن يقول السيد ريكاردو إذا ما استُدعي على نحوٍ مفاجئ لتعريف الرجل النبيل بإيجاز: «الرجل النبيل هو من لديه حاسة تذوق قوية ومكانة اجتماعية مؤكدة، بالقدر الذي يكفي لتبرير تصريحه بأن زجاجةً مصنوعة من عنب بورجوازي جيد ربما تتفوق على زجاجة مصنوعة من أجود أنواع الكروم.»

كان جوليوس ريكاردو صاحب مبدأ لا يتجزأ. فكانت الالتزامات التي يفرضها على الآخرين في أفكاره، هي الالتزامات ذاتها التي يعيش بموجبها في حياته. اعتبر البقاء على معرفة دائمة ومتجددة بالأمور المرتبطة بالنبيذ الأحمر من مظاهر الشرف، ووضع خططًا لتكريس شهور الصيف من أجل تحقيق هذه الغاية. ومن ثم، في يوم سبتٍ من أسبوع سباقات «جودوود»، سافر بالقطار إلى إيكس ليبان. وكانت سيارته الجميلة بانتظاره، وظل طَوال خمسة أو ستة أسابيع يَنشُد بحماقة شفاءً من غير عِلة أصابته. كان مسعاه غير مجدٍ لأن العِلة الوحيدة التي كان يعانيها هي أنه رامٍ سيئ. فتصويبه كان سيئًا لدرجة أن وجوده في المستنقعات كان يثير السخرية دائمًا، وفي بعض الأحيان كان يثير الاستياء والإهانات إذا كان مُضيِّفه يرغب في صيد وفير. لهذا السبب، كانت إيكس ليبان هي ملاذه الوحيد خلال شهر أغسطس. ولما انتهت فترة التماسه للشفاء، شدَّ الرحال بتؤدة وأناقة عابرًا فرنسا نحو بوردو، وكان يخطط لأن يصل إلى هذه المدينة بحلول نهاية الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر. وعندما وصل إلى بوردو، أعاد تجهيز نفسه وأخذ قسطًا يسيرًا من الراحة، وبعد بضعة أيام، في الليلة السابقة لموسم حصاد العنب، بدأ جولةً في إقليم جيروند المضياف، متنقِّلًا في رحلات قصيرة من قصر إلى آخر، مستمتعًا بالكثير من الهواء النقي والصحبة المبهجة، ومتناولًا كميةً كبيرة من نبيذ الكلاريت الأحمر الذي لا مثيل له من مختارات مُضيِّفيه الخاصة، ووصل في بداية شهر أكتوبر إلى مدينة أركاشون الجميلة شاعرًا بأنه كان يُشرف على زراعة الكروم في فرنسا. كان هذا روتينه المعتاد في الصيف. لكنه ما إن يذق مرةً المباهج والإثارة في مدينة إيكس؛ فسرعان ما يرتجُّ وجدانه أجمعُه خلال زيارته الميمونة وجولاته التي اكتسبت صفة القدسية لديه في مزارع العنب. ودفعته اللمسة الجنائزية لهذه الأحداث إلى هذا الملاذ الشاعري النادر.

كان يقول في رضًا: «هذا الأمر جعلني أرى العالم من منظور مختلف. أراه وكأنه حجر أوبال هائل أقف في داخله. حجر أوبال معتم ومضيء بدرجة أُدرك معها وجود عالم آخر في الخارج يثير رعب سجين حجر الأوبال ورهبته. إنه ما يُطلَق عليه حجر الأوبال الناري، فمن آنٍ لآخر يُنير شعاع قرمزي ساطع، وكأنه وميض بندقية في ليلة معتمة، الظلمة التي تُغلِّفني. ومن حين لآخر، كنت أشعر بأن الأرض تحت قدميَّ هشة ومُنذِرة بالخطر مثل هشاشة حجر الأوبال»، وهلم جرًّا. في الواقع، كان السيد ريكاردو يبالغ في تصوره لحجر الأوبال كما كان يُفرط في تنميقه وتفصيله إلى درجة من الملل كانت استثنائية، حتى بالنسبة إليه شخصيًّا. ولكن الجريمة أثارت ضجةً تخَطَّت المنطقة الريفية الهادئة التي وقعت فيها. فسجلات المحاكمة لا تزال موجودة، حيث يمكن قراءة تفاصيل أفعال السيد ريكاردو وصديقه هانو، المحقق الفرنسي الشهير، وكل الأشخاص الآخرين الذين انساقوا، وانزلقوا، وتعثَّروا، وارتجفوا في واحدة من أحلك القضايا التي يتذكرها هانو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥