آثار أقدام
كان هانو يشعر براحة حقيقية عندما وجد نفسه جالسًا من جديد في الشرفة المفتوحة بقصر سوفلاك. وكان يضحك بصوت قرقرة منخفضة وهادئة بدت للسيد ريكاردو مُقلِقةً وغريبة. أومأ هانو إلى ريكاردو بعينين تلمعان.
وقال: «لديك قصيدة. أنا أعرفه جيدًا. إنه بارع في نظم القصائد. الحياة حقيقة، الحياة جادة، والقبر هدف أحدهم بلا أدنى شك. نعم، أنا في مزاج جيد للغاية. فقد اقتربنا من كشف الحقيقة. والآن، لنرَ ما الذي يحرسه حارسنا الهُمام من أجل تحقيقنا.»
وهبط درجات السلم وعبر المرج العشبي نحو حوض الزهور المستدير. في هذه اللحظة تمكَّن السيد ريكاردو من رؤية أن الأشياء التي كانت تُحيِّره هي ثلاثة أطباق خزفية بنية اللون، كان أحدها مقلوبًا على الحافة العشبية للحوض المستدير، والاثنان الآخران مقلوبين على تربة حوض الزهور نفسه. حيَّا الحارسُ الواقف بالقرب من الأطباق هانو.
فسأله هانو مبتسمًا: «هل أنت من اكتشف هذه العلامات؟»
«نعم يا سيدي. أمرني المفوض أن أبحث عن أي أدلة في الحديقة. عندما اكتشفت هذه العلامات، أسرعت على الفور نحو المطبخ لأُحضر أطباقًا وأغطيها بها.»
قال هانو بابتسامة تقدير: «كانت هذه فكرةً جيدة.»
«ولكني عانيت معاناةً كبيرة حتى تمكنت من أخذها يا سيدي.»
أومأ هانو برأسه في شفقة، وقال: «ماريان.» شجَّع تقدير هانو الحارسَ على أن يتخلى قليلًا عن وقفته المتصلبة. ونفخِ أوداجه.
وقال: «إنها امرأة جبارة يا سيدي، إن كانت امرأةً من الأساس. لقد ضربتني على أذنيَّ يا سيدي. كنت أمسك الأطباق بين يدي. وتحدَّتني أن أُسقطها، وضربتني على أذنيَّ مجددًا. هل تدرك ما حدث يا سيدي، كنت عاجزًا. ثم قالت … ولكن اعذرني يا سيدي، لن يكون من اللائق أن أكرر ما قالت.»
قال هانو مصرًّا: «يمكنك أن تُكرِّر ما قالت. فلا نساء هنا.» احمرَّ وجه الحارس تحت قبعته العسكرية.
وقال: «لا، لم تكن وقاحةً من هذا النوع. بل كانت أسوأ.»
«لا عليك، كرره.»
قالت: «إذا لم تعجبك ضرباتي على أذنيك، أيها الوغد، يمكنك أن تنقلها إلى سيدك الغالي هانو، الذي لا أُكِن له أي احترام على الإطلاق.»
بدا المفوض هيربستال مصعوقًا بينما ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه هانو.
وقال: «أشعر بانجذاب نحو ماريان. حسنًا، وحصلت على الأطباق وأحضرتها إلى هنا. أليس كذلك؟»
«ثم ذهبت إلى المفوض الذي أمرني بأن أُواصل الحراسة حتى لا يعبث أحد بالعلامات.»
«حسنًا! هل اقترب أحد من حوض الزهور هذا بغرض العبث بالعلامات؟»
«لا يا سيدي.»
قال هانو: «هذا ليس جيدًا. والآن، أخبرني باسمك حتى أحفظه في ذاكرتي. ثم ابدأ بالكشف عن هذه العلامات على الأرض الواحدة تلو الأخرى.»
احمرَّ وجه الحارس في سعادة للمرة الثانية.
وقال: «بالنسبة إلى اسمي يا سيدي، فهو كوربي؛ فيكتور كوربي في خدمتك يا سيدي. أما بالنسبة للعلامات، فانظر!»
ركع الحارس على ركبتيه ورفع الطبق من على الحافة العشبية حول حوض الزهور. وفي المكان الذي كان الطبق يغطيه، كان العشب مسحوقًا، وبالقرب منه عند حافة التربة كان هناك أثر قدم صغيرة ترتدي حذاءً مدببًا بكعب عالٍ.
قال السيد ريكاردو مؤكِّدًا على أفكاره: «نعم. لقد انزلقت قدم امرأة في هذا المكان.»
بينما كان لا يزال راكعًا على الأرض، مدَّ فيكتور كوربي يده إلى الطبق الثاني عند منحدر حوض الزهور. ورفع الطبق وكشف عن أثر قدم أخرى. فحص السيد ريكاردو الأثر من حيث يقف.
وقال: «هذا الأثر صنعته المرأة نفسها.»
قال هانو: «ولكنك ستلاحظ أنه أثر القدم اليسرى، بينما ذلك الأثر الآخر عند حافة الحوض صنعته القدم اليمنى.»
قال السيد ريكاردو: «أُوافقك الرأي يا عزيزي هانو. نعم، أوافقك الرأي.»
لم يعد المفوض هيربستال، الذي كان يُحدِّق من وقت لآخر خلال الساعة الماضية في السيد ريكاردو، ثم ينقل عينَيه من السيد ريكاردو إلى هانو مُتحيِّرًا، يعرف في تلك اللحظة إلى أي فئة أو جانب ينتمي. أما هانو، فعلى النقيض، كان تجسيدًا حيًّا للسرور.
قال: «يُسعدني أنك تُوافقني الرأي.»
ثم أومأ إلى فيكتور كوربي الذي أسرع بالدوران حول حوض الزهور وأزال الطبق الثالث. كان هذا المكان هو الأقرب من المنزل، وبما أن آثار الأقدام تُشير إلى ناحية النهر في عكس اتجاه المنزل، فإن هذا الطبق سيكون تاليًا للطبقين السابقين. كان الأثر الذي كُشف عنه أثر قدم أيضًا، ولكنه أثر قدم رجل داخل حذاء ضخم ذي مسامير. كان الأثر أكثر ضحالة. ولكن لم يكن السيد ريكاردو ممن تثنيهم أي ملاحظات دقيقة. فقال بجرأة:
«من الواضح أن المرأة كانت تهرب، وأن الرجل كان يلاحقها.»
ولكن لم يكن هانو في تلك اللحظة يولي تصريحات السيد ريكاردو التقدير المعتاد. بل بدا أنه لم يسمع ما قال من الأساس. وقال:
«أعتقد أن أول ما علينا فعله هو اكتشاف أي من شابَّات قصر سوفلاك هي التي كانت تجري عبر حوض الزهور ليلة أمس، وإذا ما كانت قد جرت عبر حوض الزهور ليلة أمس وليس الليلة التي سبقتها. فيكتور كوربي، أحتاج إلى مساعدتك.»

أسرع هانو عائدًا إلى المنزل، واختفى داخل غرفة نوم ديانا تاسبورو في البرج، ولم تكد تمر دقيقتان حتى ظهر مجددًا عند نافذة غرفة الاستقبال. وظهر من خلفه فيكتور كوربي. ثم جرى عائدًا إلى حوض الزهور، وألقى كوربي بجانبه على العشب ثلاثة أحذية نسائية مسائية أنيقة. كان ثمة حذاء مطرز من الساتان يخص إيفيلين ديفينيش ولكنه كان أكبر من آثار الأقدام على الأرض، وكان الحذاء الثاني يخص ديانا تاسبورو ولكنه كان أعرض وأقصر من آثار الأقدام، ثم الحذاء الفضي الذي يخص جويس ويبل والذي طابق آثار الأقدام تمامًا.
قال هانو وهو ينهض واقفًا: «لقد اتضح الأمر، إذن. كان ثمة شخص يرتدي حذاء جويس ويبل يجري عبر المرج العشبي، ثم تعثر في الظلام في حافة حوض الزهور ما جعل قدمه اليسرى تغوص بالكامل في التراب ثم قفز عبره حتى العشب على الجانب الآخر من حوض الزهور. نعم … ولكن» وقلَّب الحذاء في يده «ولكنها لم تكن ترتدي هذا الحذاء الرقيق. لقد سار هذا الحذاء على سجاجيد، وربما في الشرفة، ولكنه لم يغص في تربة حوض الزهور ليلة أمس.»
رأوا جميعًا عدم وجود أي أثر للطخات على الجلد الرقيق أو النعل. ولم يكن ثمة أثر للتراب يُلطِّخ الحذاء. وكان الجزء الأمامي الداخلي من الحذاء جديدًا كما لو أنه خرج من عند الإسكافي الآن، ولم يكن ثمة تغيُّر في لون النعل تقريبًا.
«كان هذا الحذاء الذي ركلت جويس ويبل فردتيه كل واحدةٍ في اتجاه وهي في عجلة من أمرها ليلة أمس، عندما ألقت الفردتين في الهواء وغيَّرت ملابسها.»
التفت هانو نحو كوربي بينما يتحدث وأعطاه أزواج الأحذية الثلاثة.
وقال: «فلتسرع يا صديقي وأعد هذه الأحذية إلى مكانها في خزانة الآنسة ديانا حيث أخذناها. ثم افعل المثل مع حذاء السيدة ديفينيش التعسة. أما حذاء جويس ويبل، فسنأخذه معنا.»
وقف هانو يراقب كوربي وهو يعدو ليُنفِّذ ما كُلف به بقلق شديد لا يُبرِّره إلا مراعاة مشاعر سيدة قصر سوفلاك الشابة. ارتجف جسد السيد ريكاردو خوفًا عليها؛ فقد رأى هانو يعمل من قبل، ويذكر جيدًا أنه لم يكن يومًا أكثر رقةً ولطفًا مثلما يكون قبل أن ينقض على فريسته. لم يكد كوربي يقطع نصف المسافة بين حوض الزهور والمنزل حتى ارتفع أخيرًا صوت هدير محرك سيارة ثم توقف. أطلق هانو سِبابًا غير مسموع.
وغمغم قائلًا: «لم أكن أريد حدوث ذلك.» ثم رفع صوته وصاح: «اجرِ يا كوربي، اجرِ!»
ثم ظل ينتظر في ترقُّب حتى اختفى كوربي داخل غرفة البرج. ولم يرفع عينَيه عن الشرفة حتى رأى الحارس يعود عدوًا نحوهم من ناحية الطريق.
سأل كوربي بمجرد أن وصل إلى جواره: «ما الأمر؟ هل عادا؟»
رد كوربي قائلًا: «لا، ولكن انتشرت الأخبار المؤسفة. كانت هذه سيارة بعض الجيران الذين حضروا لتقديم بطاقاتهم وتعازيهم.»
هدأ هانو. وعلا وجهه راحة غامرة.
وقال: «حسنًا! صديقي مورو، أحضر الجص واصنع قوالب من آثار الأقدام الصغيرة تلك على الفور. أما بالنسبة إلى آثار الأقدام الكبيرة تلك، فسوف نرى! كوربي، أريدك أن تواصل الجري، ولكنك ستجري هذه المرة ناحية أقبية النبيذ لتحضر البستاني. إذا لم يكن هناك، فستجده يعمل بين كروم العنب.»
كان البستاني رجلًا ضخم الجثة مفتول العضلات ذا وجه بشوش أحمر مثل تفاحة يانعة، وكان يُشرف على نقل العنب من العربات الصغيرة ووضعِه في الحوض المُسطَّح لعصره. عاد البستاني مع كوربي، وكان هانو قد عاد ليركع على ركبتيه عند حافة حوض الزهور، وقال شيئًا مفاجئًا دون أن يرفع عينَيه نحو البستاني.
قال: «لقد أمطرت في نهاية المطاف.»
أجابه الرجل: «نعم يا سيدي. كما أردنا تمامًا، أمطار خفيفة استمرت لساعتين كاملتين. سيكون هذا العالم عامًا جيدًا، في نهاية المطاف.»
قال هانو بصوت خافت: «هذا رائع. في أي ساعة بدأ هطول الأمطار؟»
«عند منتصف الليل يا سيدي، أو بعده ببضع دقائق.»
نظر هانو لأعلى في حزم، وقال: «هل أنت واثق بذلك؟ هذا أمر على جانب كبير من الأهمية.»
ضحك البستاني، وقال: «سيدي، ليس من المحتمل أن أخطئ في ذلك. فكِّر في الأمر! كل منا مسئول عن رقعة صغيرة من كروم العنب. إن ساعتين من هطول الأمطار الخفيفة ليلة أمس من شأنه أن يحدث فارقًا كبيرًا في العنب الخاص بنا. فبدلًا من أن يكون ذابلًا، سيكون نضرًا. لم ينم جميع العمال في هذه المقاطعة جيدًا ليلة أمس، أؤكد لك هذا. من منتصف الليل وحتى الثانية صباحًا. نعم يا سيدي، لقد كان مطرًا خفيفًا جيدًا، وهو بمثابة الماء المقدس للعنب.»
كان امتنان الرجل الحار ومنطقية حجته مقنعَين. فقال هانو: «حسنًا إذن! لقد أمطرت السماء من الثانية عشرة وحتى الثانية. هذا واضح.»
قال البستاني في نَفَس واحد: «واضح مثل السماء بعد انقشاع السحب يا سيدي، واضح ومظلم. وبالنسبة إلى آثار حذائي الضخم على حوض الزهور التي كان السيد يفحصها بعناية فائقة، لا أرى أنها تضعني تحت طائلة القانون الجنائي.»
وجَّه هانو ابتسامةً ساخرة للسيد ريكاردو، وقال: «إنها آثار أقدامك إذن؟»
«نعم يا سيدي، أنا واثق بذلك.»
«أرني!» وضع البستاني قدمه في أثر القدم الضحل. وكان مطابقًا تمامًا.
سأل هانو: «متى تركت هذا الأثر؟»
«بالأمس يا سيدي. وكان من المفترض أن أمحو الآثار صباح اليوم، ولكن على الحديقة أن تراعي نفسها بنفسها خلال هذين اليومين أو الثلاثة أيام.»
«أشكرك! هذا كل شيء.»
«هل يمكنني العودة إلى أقبية النبيذ يا سيدي؟»
قال هانو: «أرجو أن تفعل»، وذهب البستاني سائرًا بطريقة خرقاء. في الوقت نفسه، وجَّه هانو ابتسامةً خبيثة نحو صديقه ريكاردو. وقال: «أهاهاهاهاها! ماذا عن قصة الفرار والملاحقة الرائعة التي قلتها؟»
احمرَّ وجه السيد ريكاردو. فقد كان يدرك أن المفوض يراقبه بنظرة فضولية محرجة. ففقد السيطرة على أعصابه ووجه اتهامًا خطيرًا.
قال: «البستاني هو من كان يلاحق جويس ويبل.»
قال هانو بسعادة غامرة وهو ينهض واقفًا: «آه! هكذا الأمر إذن. لقد أصبحنا نتمسَّك بآرائنا. لقد حُل اللغز. مرحى للسيد ريكاردو، العقل المدبر!» وأزال قبعته ذات الحافة العريضة المصنوعة من اللباد الناعم عن رأسه، وانحنى انحناءةً بالغة حتى كاد رأسه يمس الأرض. وقال: «نعم، إنه البستاني. كانت الآنسة ويبل تهرب بعد هطول الأمطار … انظروا إلى الآثار العميقة التي تركها حذاؤها الصغير! … كان البستاني قد بدأ ملاحقتها قبل يوم من هروبها … انظروا إلى الآثار الأكثر ضحالةً التي تركها حذاؤه الضخم ذو المسامير الحديدية في التربة الجافة. هل ترون؟ لا بد أنه أمسك بها. إنه لن يتمكن من مجاراة سرعتها؛ ذلك الرجل الأخرق، ولكن إذا بدأ ملاحقتها قبل يوم من هروبها، فسوف يتمكن من الإمساك بها في نهاية المطاف، رغم بطئه. أسرعوا! دعونا نضغط على البستاني، وسرعان ما سنعرف كل شيء.»
لم تكن ثمة إهانة تفوق ذلك الفعل المخزي الذي حدث. فقد أظهر هانو أسوأ ما فيه. قفز هانو على جسد صديقه وكأنه جاموس هائج. وترك هذا التصرف السيد ريكاردو معقود اللسان ومتلعثمًا. ثم قال وهو يلهث بعد مدة: «لن أرد عليك.»
وافقه المفوض هيربستال قائلًا: «من الأفضل ألَّا تفعل.»
لحسن الحظ، تغيَّر مزاج هانو سريعًا. ودار حول جانب الحوض إلى حيث كان الرجال الأربعة الآخرون يقفون. ونظر إلى آثار الأقدام الصغيرة ومنها إلى الباب الزجاجي لغرفة البرج.
ثم قال: «لعلَّكم تتخيَّلون ما أشعر به من حيرة. في وقت ما بعد الثانية صباحًا، كانت جويس ويبل تجري بسرعة كبيرة عبر المرج، وتغرس قدميها في حوض الزهور، ثم تواصل الجري. أنا واثق بهذا التوقيت لأن آثار الأقدام دقيقة وواضحة. ومن المؤكد أنها حدثت بعد توقف الأمطار ببعض الوقت ما جعل التراب رقيقًا — ما الكلمة التي تصف ذلك؟ — ولزجًا. لا ريب في أن هذا حدث بعد توقف الأمطار، وإلا لأصبحت هذه الآثار مُرَقَّطة بقطرات المطر ومطموسة. حسنًا، إذن! في الثانية والنصف، مرَّ شخص ما بسرعة من أمام نافذة المكتبة، واختفى داخل غرفة الآنسة تاسبورو، وأقفل الباب، وانتظر في ذُعر مُجهِّزًا إصبعه على مفتاح المصباح الكهربي. لقد سألت نفسي، هل كانت جويس ويبل ملاحَقة حقًّا من قِبَل شخص ما تمكَّن من الإمساك بها» ثم قال الكلمات التالية الواحدة تلو الأخرى ببطء «والذي كان يملك الحق في دخول غرفة الآنسة تاسبورو؟»
لم يكن ثمة شك في هُوية الشخص الذي يقصده هانو. ولكن لم يتمكن السيد ريكاردو من التوفيق بين هذا الاقتراح وصرخة الحزن التي انطلقت من بين شفتَي روبن ويبستر عند اكتشاف اختفاء جويس ويبل. ولكنه كان في هذه اللحظة قد فاض به الكيل من وضع النظريات وإعطاء التفسيرات. علاوةً على ذلك، رأى هانو ينظر إليه بقلق شديد.
ثم قال: «في نهاية المطاف، هل كنت مُحقًّا يا صديقي؟ هل حدث شيء رهيب في هذه الحديقة مباشرةً قبل أن تتسلَّل إلى المكتبة لتُحضر كتابًا؟»
قال المفوض: «لم يسمع أحد صراخًا.»
وافقه هانو قائلًا: «هذا صحيح، وفي ليلة هادئة، كانت صرخة واحدة تُسمع من مسافة بعيدة. نعم!» ثم صمت والقلق بادٍ على وجهه لبضع لحظات، ثم هزَّ كتفيه الضخمتين. وقال: «دعونا نتتبَّع مسار هذه الآثار. إنها لن تقودنا إلى حيرة أسوأ من التي نعيشها بالفعل.»
ترك مورو يصب الجص السائل على آثار الأقدام، وتقدَّم إلى الأمام ومعه كوربي حاملًا حذاء جويس ويبل. لاحظ السيد ريكاردو أن مسار خطوات الأقدام بدأ عند باب البرج وتقدم قُطريًّا عبر الحديقة وصولًا إلى حوض الزهور. ومن بعد حوض الزهور، كان يستمر نحو النهر، ويمر مباشرةً تحت الأشجار الأخيرة من طريق الأشجار. كان هانو يسير على طول هذا المسار متمهلًا وعيناه مثبتتان على الأرض ولسانه لا يكف عن الشكوى.
قال: «كانت النساء يحببن تقديم المساعدة عندما كنت شابًّا. كنَّ يرتدين دبابيس — دبابيس في شعورهن ودبابيس في ملابسهن — وكنَّ يُسقطنها في كل مكان بمجرد أن يبدأن العدو. آه!» ثم توقف عند حفرة صنعها كعب عالٍ، ثم واصل حديثه قائلًا: «كما كنَّ يرتدين تنورات، وكانت تعلق في الكثير من الأشياء وتترك أثرًا خلفهن. أما الآن، أصبحت ملابسهن تشبه القفازات و… أوه!» كان قد اكتشف حفرةً أخرى في العشب صنعها كعب مدبب. وقال: «على أي حال، نحن على المسار الصحيح»؛ وتحت أغصان الأشجار عند نهاية الطريق، توقف للمرة الأخيرة.
وقف رفاقه بجانبه، وأشار نحو الأرض من دون أن يتكلم. كان العشب تحت أغصان الأشجار مسحوقًا أكثر مما هو عليه في المساحة المفتوحة. لم تصل إليه أشعة الشمس لتُجفِّفه، كما أن الأشجار كانت تقطر عليه ماءً لمدة طويلة بعد توقف هطول الأمطار. وفي هذه البقعة من العشب المُبلَّل اللين، كان هناك أثر قدمَين ظاهرَين بوضوح، ولكنهما كانا متجاورَين وقريبين من بعضهما، كما لو أن شيئًا في هذا المكان جعل الهاربة تتوقف وتتسمَّر مكانها.
قال هانو: «نعم، لقد جفلت هنا وتسمَّرت مكانها، فجأة. أيها الشاب كوربي، طابق الحذاء.»
ركع كوربي على الأرض ووضع الحذاء اللامع في آثار الأقدام، ومرةً أخرى كان مطابقًا تمامًا، وراودت جميع الحاضرين رؤية واضحة خاطفة قبضت قلوبهم. رؤية عن فتاة تهرب في رعب، لكنها توقفت عن الهرب فجأة، وظلت واقفةً في الظلام تحت أغصان الأشجار بقدمين مضمومتين، وقد تصلَّب جسدها من الخوف، وقلبها يدق بعنف في صدرها وصرخة ماتت على شفتَيها.
وقف هانو خلف آثار الأقدام ونظر إلى الأمام. وجد أنه ينظر مباشرةً إلى المرفأ الصغير المبني على ضفة النهر. صاح السيد ريكاردو. وقال: «بالطبع! بالطبع! الزورق!»
التفت هانو نحوه بسرعة خاطفة.
«الزورق الذي يُحضر احتياجات القصر من بوردو، لا بيل سيمون. كان راسيًا هنا في المرفأ بالأمس ومعه خزين القصر. وكانوا سيبدءون رحلة العودة مع تغير المد في الصباح الباكر في تمام السادسة. نعم، لقد تحدَّثت مع قبطان الزورق عصر الأمس؛ في السادسة. لقد جرت جويس ويبل نحو الزورق لتحتمي به.»
سأله هانو بحماسة ومن دون أي أثر للسخرية أو الاستهزاء في صوته: «لماذا توقَّفت هنا تحت الأشجار إذن، في الثانية والنصف صباحًا؟»
كان السيد ريكاردو يمتلك تفسيرًا. فقال: «لقد رأت صارية شراع الزورق يشق السماء، وربما رأت ضوء مصباح أيضًا يهتز وسط حبال الصارية. إن المرفأ يبعد عن هنا بضع خطوات فحسب. لقد أدركت أنها أصبحت في أمان.»
كشف صوت السيد ريكاردو عن الراحة الكبيرة التي يشعر بها. كان يتمنى بشدة ألَّا يلحق بتلك الفتاة الحنون ذات الجمال الباهر أي أذًى، والتي فضفضت له بمشاعرها ومخاوفها على صديقتها في ليلة صيفية في لندن. كانت في أمان — كان هذا هو الاعتقاد الذي أبهجه — كانت آمنةً على متن الزورق، وربما أصبحت في هذه اللحظة قريبةً للغاية من الرسو على رصيف ميناء بوردو. ولكن لم يكن هانو يُشارِكه اعتقاده. فقد ظلَّ واقفًا في وجوم زامًّا شفتَيه ومُقطِّبًا جبينه.
فكَّر السيد ريكاردو في ضِيق وخيبة أمل: «هذا الرجل لن يقتنع بأي شيء لا يكتشفه بنفسه.» فإن لم يقتنع هانو، فربما كان يمتلك سببًا لعدم الاقتناع.
قال هانو: «لنرَ. أنا أدعوكم جميعًا لأن تظلوا واقفين حيث أنتم تمامًا.»
وتقدَّم بمفرده، بسرعة أبطأ كثيرًا مما سبق وظل يفحص الأرض بتدقيق أكبر. ومع كل خطوة خطاها، كان ريكاردو يتوقع أن يدعوهم للتقدم. ولكن لم يحدث ذلك. واصل هانو فحصه حتى وصل إلى رصيف المرفأ، وظل هناك لمدة طويلة يذرع المكان جيئةً وذهابًا عدوًا. ثم رفع يديه في الهواء تعبيرًا عن الإحباط، ثم أسرع عائدًا إلى رفاقه.
قال وهو يشير إلى فردتَي الحذاء الموضوعتَين جنبًا إلى جنب: «لقد توقفت هنا! ولا توجد أي آثار أقدام بعد ذلك. في المنطقة المجاورة للمرفأ، هناك حصًى ملطخ بالطين نثر عليه المد العالي المياه. من المفترض أن يكون هذا أكثر مكان نجد فيه آثار أقدام مطابقة لهذه. ولكن لا وجود لأي آثار أقدام. نعم، لقد وُجِدت آثار لحذاء ثقيل مدموج بالحديد، ولكن لا أثر لهذا الحذاء الصغير، لا! لم تقترب الآنسة جويس ويبل من المرفأ لما هو أبعد من هذه النقطة التي نقف عندها. مهلًا.»
تحرَّك فاحصًا الأرض الرطبة والنهر، ثم انتقل نحو أسفل الأشجار. كان هناك مسار واسع مرصوف بالحصى يمتد من منتصف الطريق، وعند نهايته يضيق إلى أقل من نصف عرضه، ثم ينحرف إلى اليمين باتجاه الرصيف. وعند نقطة التقاء العشب بالممر المرصوف بالحصى، وجد آثار الأقدام مرةً أخرى. وأشار إلى رفاقه أن يأتوا إليه. كان أثر القدم اليمنى يُشير إلى ناحية الطريق وكانت ظاهرةً عند حافة العشب. وكان أثر القدم اليسرى متأخرًا عن الأثر الآخر، وكان يُشير في اتجاه المرفأ الصغير، وكان الأثران يصنعان زاويةً منفرجة.
قال هانو: «لقد صارت القصة أكثر وضوحًا الآن. خرجت هذه الشابة تعدو من المنزل عبر المرج مذعورة. وكانت عيناها الخائفتان تنظران إلى الخلف باستمرار، ثم تتعثَّر في حوض الزهور، وتعبره، وتواصل العدو حتى تجفل بسبب شيء ما، ويُسمِّرها مكانَها. ثم تُفيق مما أصابها من رعب، وتستدير جانبًا لتختبئ بين الأشجار، ثم تبدأ العدو مجددًا، ولكن بخفة هذه المرة، على أطراف أصابعها، ولا تكاد قدماها تمسان العشب. وبمجرد أن اختبأت بين أغصان الأشجار، توقفت عن العدو، وشعرت بالأمان في هذه اللحظة، وظلَّت واقفةً في مكانها، ولكنها كانت تنظر خلفها، نعم، كانت تنظر في اتجاه المرفأ.» وبدأ يثبت فرضيته بأفضل طريقة رآها ممكنة. وراعى ألَّا يُفسد أثر القدمين على العشب وهو يُقلِّد الحركات التي كان يصفها. وعندما توقف، أخذت قدماه بطبيعة الحال الزاوية نفسها التي صنعها أثر قدمَي جويس ويبل بدقة.
وكرَّر ما كان يقول بمزيد من التأكيد: «نعم، لقد نظرت ثانيةً ولبعض الوقت في اتجاه المرفأ — لكي تتأكد — ولكن ممَّ؟»
ظهر الكثير من التخيُّلات المقيتة أمام عينَي السيد ريكاردو. ربما رأت خيالًا للسلة يوضع على متن الزورق، وربما خمَّنت بطريقة ما الرعب الذي تحويه. ربما رأت إيفيلين ديفينيش تُقتل ويدها تُقطع بفأس بكل وحشية. كما تخيلت قبطان الزورق وابنيه يطيعان الأوامر القاسية لشخص ما؛ ولكن قبل أن يركِّز ريكاردو على هُوية صاحب الأمر، انطلقت صيحة نصر قصيرة من بين شفتَي هانو. كان هو أيضًا يقف مُحدِّقًا في النهر في الأسفل، وكان هو أيضًا مصعوقًا، ولكن بسبب الأمل لا الذعر.
وصاح بصوت مفعم بالانفعال: «هذا مُؤكَّد تمامًا! مُؤكَّد تمامًا!» ثم عاد يجري نحو المكان حيث كانت فردتا الحذاء اللامع موضوعتين متجاورتين على العشب، ووقف خلفهما. ثم صاح مُحدِّثًا ريكاردو: «يمكنك أن تقول إنني قد أصبحت مسنًّا. نعم، نعم! هانو المسكين! لقد أصبح خَرِفًا بعقل مهترئ! لا بد أن الأمر كذلك! أوه أوه!»
كان ضروريًّا أن يقطع السيد ريكاردو هذا الحديث، لا لينهي تبجُّح هانو فحسب، بل أيضًا لكي يُشبِع فضوله.
فقال مقترِحًا بصوتٍ لاذع: «ألَا يجدر بنا أن نعتبر أن جميع باقات الزهور قد رُميت عليك حقًّا ونستمر في الاهتمام بالأمور المهمة؟» انحنى هانو بحدة حتى كاد يمس الأرض.
وقال: «سنفعل ما يأمرنا به مولانا. لا غاية لنا في الحياة إلا إرضاء مولانا. نحن خدم مولانا. مولاي، العربة تنتظر.» وحكَّ جلده وعبس وكأنه صبي يلعب في المجارير. لا ريب في أن السيد ريكاردو فكَّر أن هانو لا يُحتمل عندما يمرح. لحسن الحظ أنه لم يظل في تلك الحالة لمدة طويلة. فقد اختفى مرحه.
وقال: «لم يكن ما رأته جويس ويبل هو ما جعلها تظل واقفةً هنا وسلسلَ قدميها فلم تتحرَّكا. لا يا صديقي. إنه ما لم ترَه. لقد ظلَّت تجري في خط مستقيم تمامًا من المنزل وحتى الزورق. فقد كان هذا أملَها في النجاة؛ نعم، لا ريب في ذلك. وفجأة، هنا عند نهاية الطريق، عندما أصبح المرفأ في مجال رؤيتها. لم يكن هناك زورق. كان قد رحل.»
«قبل موعده؟»
«نعم».
«وفي عكس اتجاه المد؟»
«نعم.»
«لماذا؟»
أجاب هانو بجدية، ولم تكن ثمة حاجة لأن يُوضِّح أكثر من ذلك: «ألَا يُمكننا جميعًا أن نُخمِّن السبب؟» عادت إلى ذاكرة رفاق هانو تلك اللحظات عندما عثر الصبيان اللذان كانا يلعبان بجانب النهر في الصباح الباكر، حيث كانت السلة بحمولتها المأساوية تتأرجح برفق فوق تموجات الماء، وتقترب ببطء من الضفة الأقرب من البحر بمسافة تسعة أميال، الأمر الذي قدَّم سببًا مقنعًا لرحيل الزورق المتعجل.
واصل هانو حديثه في جدية: «سيد ريكاردو، يُقال إنك ذكرت في جميع أطروحاتك وكتبك أن ثمة فارقًا واحدًا كبيرًا بين الشرطة الإنجليزية والشرطة الفرنسية. فبينما تتقدمون أنتم بحذر كلما تكشَّفت حقيقة جديدة، فإننا نتخطى الحقائق ونثق بالحدس. ولا ريب في أني أثق بحدسي الآن. لقد وقفَت هنا، تلك الشابة، وقلبها يرتجف في يأس. ثم استدارت. عليها أن تعثر على مخبأ آخر. تعدو نحو الطريق حيث ستخفيها الأشجار، وعندما تصل إليها، تتوقف وتلقي نظرةً أخرى خلفها نحو المرفأ. فربما ضلَّلتها عيناها. وربما ترى صارية الشراع بارزةً وسط السماء. ولكن، لا! فتنطلق عدوًا من جديد!»
حرَّك ذراعه باتجاه طريق الحصى بحركة واسعة. تأثر السيد ريكاردو نفسه بقدرة صديقه على الإقناع وشغفه. لم يكن لديه أدنى شك في أن تفسيره هو التفسير الصحيح. كانت جويس ويبل تفر مرعوبةً على هذا الطريق. بدأ يربط الحقائق التي يعرفها بالحدس الذي يثق به، ثم فجأةً، حنى حِمل ثقيل من الندم ظهره لدرجة أن رفاقه قلقوا بشأنه. فقد شحب وجهه، ووقف مكانه يرتجف وكأنه دخل في حالةٍ من الذعر.
سأله هانو وهو يعدو ليقف بجانبه ويسنده من ذراعه: «ما الأمر؟ هل أنت مريض؟ لا، لا!»
قال السيد ريكاردو متلعثمًا: «لا، لست مريضًا. بل أشعر بالعار. ربما كانت جويس ويبل هي التي مرَّت مسرعةً بجانبي في الشرفة، وبعد ذلك فرَّت من هنا إلى الطريق. لنفترض أن هذا ما حدث! لنفترض أنها مَن تسلَّل إلى غرفة البرج! لنفترض أن الغرفة كانت فارغةً لسبب نجهله عندما دخلتها! لنفترض أن جويس هي من أقفلت الباب وانتظرت في رعب واضعةً أصابعها على مفتاح المصباح! لنفترض أنها بعد أن أطفأت الأنوار، تسلَّلت عبر الدرج إلى غرفتها! لعلَّك تذكر الفراش المبعثر والسؤال الذي طرحته أنت: «هل أُخذت من هذه الغرفة رغمًا عنها؟» حسنًا، كان بمقدوري إنقاذها. نعم، كنت أستطيع ذلك. كان كل ما عليَّ فعله هو أن أخرج من المكتبة إلى الشرفة مباشرةً عندما مرت أمامي كي أُريها من أكون.»
قال هانو معارضًا: «لم تكن لتنتظر حتى ترى.»
«ربما كان يجدر بي أن أتحدَّث عبر الباب الزجاجي بعدما انطفأت الأنوار. ولكني لم أفعل! تركتها تعتقد أني واحد ممن يلاحقونها؛ كنت مضطربًا و…» ثم صمت فجأةً ووقف مكانه دون حراك. وعاد يقول: «مضطربًا! لا! لقد كنت خائفًا. كان بمقدوري إنقاذ جويس ليلة أمس، ولكني كنت خائفًا.»
جعلت فورة غضب السيد ريكاردو الجميع يشعرون بعدم الارتياح، فربت هانو على كتفه برفق.
وقال: «ولكننا لم نفقد الأمل في العثور على جويس بعد.»
ولكن هذا لم يخفف عن السيد ريكاردو. كان جُبنه سيصبح، في خلال دقيقة أو اثنتين، رفاهيةً أمام ما كان سيحدث له، ولكن لحسن حظه اكتشف كوربي، الحارس، لغزًا آخر زاد الأمر تعقيدًا على تعقيد.
فقد صاح بصوت بحَّه الانفعال وقد جحظت عيناه من مِحْجرَيهما: «سيد هانو. انظر! انظر!»
كان يقف في المساحة الخالية من الأشجار عند نهاية الطريق على بعد بضع ياردات من حيث يقف الرجال الآخرون، وبذراع مرتعشة مبسوطة عن آخرها، أشار نحو الأغصان السفلية لواحدة من الأشجار.