الفصل الرابع عشر

هانو يجفل

توقَّف عن الاسترسال في حديثه عندما دخل «المتجولان» الشرفة، ورسم على وجهه ابتسامة تهنئة وجَّهها إلى ديانا تاسبورو التي استعاد وجهها بعضًا من حُمرته.

قال هانو: «لقد أصبحت في حال أفضل يا آنسة. هل أرسلت البرقيات؟»

قالت: «نعم.» ثم أضافت: «أقنعني السيد ويبستر بأن نطيل الرحلة قليلًا.»

تحدَّث روبن ويبستر مُبرِّرًا نصيحته تلك بمخارج الألفاظ الصحيحة والدقيقة تلك التي كان يراها السيد ريكاردو، في كل مرة، غريبةً لأن يستخدمها شاب على هذه الدرجة من الأناقة.

وقال: «قلت إن الآنسة تاسبورو ستستفيد من ذلك، وإننا لن نتسبَّب بعودتنا الفورية إلا في إعاقة مسار تحقيقاتك، وإننا ربما نقدم لك بعض العون إذا ما طرحنا بعض الأسئلة على الجيران.»

أطلق هانو، الذي كان يستمع لما يُقال بتركيز شديد، صيحةً مفاجئة باندفاع شديد لا يناسب الموقف:

«أنا واثق بأنكما ستفيدانني!» وعندما لاحظ بعض الدهشة على وجه روبن ويبستر، غيَّر من أسلوبه في الحديث. وقال: «هذه حكمة كبيرة منكما. هل أوصلتكما الأسئلة التي طرحتماها إلى شيء؟»

هزَّ روبن ويبستر رأسه نفيًا. وقال: «لم يرَ أحد جويس ويبل.»

تهدَّج صوته وشحبت وجنتاه لمجرد نطق اسمها، وغيَّم الحزن على عينَيه لدرجة أن السيد ريكاردو أراد أن يواسيه ببعض الكلمات. كان هذا الشاب واقعًا في الحب، ولطالما كان قلب السيد ريكاردو يرقُّ للشباب الواقعين في الحب. لا ريب في أن الشمعة التي ظلَّت تحترق حتى ساعة متأخرة من الليل في غرفته الفارغة تُثير بعض الشكوك. ولا يمكن التغاضي عن ذلك. ولكن ربما كان ذلك مجرد حيلة ليُخفي موعدًا مع جويس ويبل، لم تلتزم به في نهاية المطاف. ربما كان روبن ويبستر يبحث عنها في استماتة بينما الشمعة تحترق حتى نهاية فتيلها. ولا ريب أيضًا في أن هانو تخيَّل أنه قد عثر على كشف مهم آخر في الشاليه. لم يكن السيد ريكاردو واثقًا تمامًا من ذلك، ولكن تلك العبارة العرضية الحادة «أنا واثق» التي قالها منذ دقيقة، كانت تُؤكِّد هذا الكشف. ولكن قد يخطئ هانو مثل أي إنسان. فقد يصيح قائلًا «هذه بجعة» عندما يرى إوزة، وبصوتٍ عالٍ مثل أي إنسان آخر، والسيد ريكاردو لن يُكلِّف نفسه عناء أن يُصحِّح له معلوماته. ولكن بدا أن هانو أيضًا مندهش من صدق مشاعر الشاب. فقد كان صوته يحمل نبرة شفقة وهو يقول:

«يجب ألا تفقد الأمل. إن رجال السيد هيربستال يفتشون الحي بكل دقة، فمن المحتمل أن تكون تلك الفتاة المسكينة فقدت ذاكرتها، مثلما يحدث عادة. أما إذا كانت ثمة جريمة ارتُكبت بحقها، فأؤكد لك أن لا سيارة، أو عربة تجرها الخيول، أو حتى عربة يدوية يمكنها الفرار من الطوق الذي أحطنا به هذه المنطقة من دون أن تخضع لتفتيش دقيق لا يُفوِّت أدق التفاصيل. إن جميع الطرق، وجميع مسارات العربات، وجميع الدروب تحت المراقبة.» أومأ السيد هيربستال برأسه مُؤكِّدًا. وقال: «الحال على هذا المنوال منذ الصباح.»

قالت ديانا مؤكِّدةً في أمل: «نعم. لقد وقفونا أكثر من مرة عصرَ اليوم.»

ولكن لم يكن روبن ويبستر يشاركها أملها. فقد قال وهو يحدق في وجه هانو في تعاسة: «هذا كله جيد. ولكن جل ما أخشاه أن الوقت قد فات، وحتى لو أحضرت الجيش الفرنسي بالكامل وجعلته يُعسكر على الطرقات، فلن يعيدها ذلك إلينا. أخشى أن …» ولكن اختنقت الكلمة في حلقه ولم يتمكن من نطقها.

figure
قال ويبستر في تعاسة: «ولكن جل ما أخشاه أن الوقت قد فات، وحتى لو أحضرت الجيش الفرنسي بالكامل وجعلته يُعسكر على الطرقات، فلن يعيد جويس إلينا.»

قال هانو: «تخشى أن تكون قد قُتلت.»

اعترت وجه روبن ويبستر لمحة ألم. وأجابه هامسًا: «نعم.»

نهض هانو فجأةً من على الأريكة، الأمر الذي أدهش المحيطين به في الشرفة. كان التغيُّر الذي حلَّ عليه قد غيَّر من مظهره أيضًا. فقد وقف مهيبًا وضخمًا، وتحدَّث بنبرة حملت هيبةً لا مثيل لها.

وقال: «أنا واثق بذلك. إذا كانت جويس ويبل حيةً الآن؛ فهي لن تموت بسبب العنف.»

أخذ روبن ويبستر شهيقًا عميقًا كما لو أنه استمد شجاعةً من هذه الكلمات. وصاح: «أنت تعتقد ذلك! أنت؛ أوه، أنت عثرت عليها!» وتعلَّق بهذه الفكرة، واقتنع بها، وحدَّق في وجه هانو بشفتين فاغرتين وعينين لامعتين.

«لا! لقد عثرت على بعض آثار الأقدام؛ ليس أكثر من ذلك. لقد كانت تعدو عبر المرج ليلة أمس. ولكني لا أعرف عن مكانها الآن أكثر مما تعرف أنت يا سيدي.»

«ولكنك قلت إنها آمنة.»

«آمنة؟ لا. قلت إن القاتل لن يجرؤ على قتلها، هذا إن كان يُخطِّط لقتلها من الأساس. وللمرة مائة الألف خلال تاريخ العنف الطويل، يُثبت أنه يصعب القضاء على الضحية الميتة. فثمة قَدَر يتدخَّل في الأمر. ثمة عدالة تتدخَّل في الأمر. إن مَن قتل إيفيلين ديفينيش لن يجرؤ على أن يقتل مجددًا.»

«هل تُعلن أن قتل إيفيلين ديفينيش واختفاء جويس ويبل يتعلقان بالجريمة نفسها؟»

التفت هانو نحوه وقال: «انظر حولك. هذا الحي ذو المنازل المتناثرة. وعدد السكان القليل. هل من المحتمل أن يكون هذان العملان الفظيعان اللذان ارتُكبا في الليلة نفسها، وتحت سقف المنزل نفسه، عملين منفصلين؟ لا، لنكن عقلانيين. البديل الوحيد لذلك هو أن تكون جويس ويبل شريكةً في الجريمة»؛ وجفلت ديانا تاسبورو الجالسة على الأريكة بجانبه.

التفت هانو نحوها على الفور. كانت جالسةً وقد بدت على وجهها أعتى أمارات الرعب، فسألها: «هل تعتقدين ذلك يا آنسة؟»

هزَّت ديانا رأسها نفيًا بعنف. وقالت: «بالطبع لا. جويس صديقتي. لم أُفكِّر في ذلك على الإطلاق. كل ما هنالك أن كلماتك ذكَّرتني بأنه يبدو دائمًا أن …» لم تُسعف الكلمات ديانا للتعبير عمَّا تعنيه دون أن تتسبَّب في أي ضرر.

قال هانو مصرًّا برفق وهو ينحني ناحية الفتاة: «ماذا؟»

قالت ديانا في تردد: «كان يبدو دائمًا أن هناك ضغينةً بين جويس وإيفيلين.»

تراجع هانو في دهشة. وقال بتؤدة وبصوتٍ يحمل نبرة إدراك: «هكذا الأمر إذن؟» ولكن عارضته ديانا سريعًا. فلم تكن لتتركه يعتمد على هذا الكشف أو أن يعطيه وزنًا ضمن أفكاره.

فقالت في إصرار: «لا تلقِ بالًا لذلك. لم يكن ثمة توافق بينهما. هذا كل شيء؛ أنا واثقة بذلك. كان ثمة القليل من العداوة بينهما دون سبب محدد. أنا غبية أني ذكرت الأمر لك من الأساس. لم يكن يجدر بي أن أفعل، إلا إذا ذكرت أنت الأمر.»

أصبح هانو على الفور حريصًا على أن يزيل من نفسها أي شعور بتأنيب الضمير.

فقال: «أيتها الآنسة، صدقيني، كان من الأفضل بكثير أن تخبريني بالأمر بمثل هذه الصراحة والبساطة، بدلًا من أن أكتشف الأمر بنفسي فيما بعد. كنت سأضع وزنًا كبيرًا لهذه التفصيلة اليسيرة إذا ما اعتقدت أنك أخفيتِها عني.»

شعر السيد ريكاردو بالحيرة. كان منطق هانو سليمًا دون أدنى شك، ولكن لم تكن ثمة حاجة له. لم تكشف ديانا تاسبورو شيئًا عندما أقرت بوجود عداوة بين إيفيلين ديفينيش وجويس ويبل. كان قد قص صباح اليوم قصة كهف المومياوات، وأضاف إليها عصر اليوم حكايته عن ثورة غضب جويس الغريبة أثناء تناول العشاء. كان هانو يعرف حقًّا جميع التفاصيل التي كان ضروريًّا أن يعرفها حتى هذه اللحظة. وأضاع باستهتاره وقتًا ثمينًا عندما استخرج المعلومات نفسها من ديانا للمرة الثانية.

فكَّر السيد ريكاردو: «إنه يضل طريقه بين التشعُّبات الكثيرة لهذه القضية. يجب أن أُعيده إلى الطريق الرئيسة.»

كان قد بدأ يُصدر همهمةً خافتة تمهيدًا لإبداء اعتراضه، ولكن رمقه هانو بنظرة فاترة قاسية جعلته يعيد التفكير ويعدل عن موقفه.

وقال: «أعتقد أن السيد ريكاردو على وشك أن يقول تعليقًا مبررًا على أننا نُضخِّم كثيرًا من تفصيلة غير مهمة على الإطلاق.»

اتجهت جميع الأعين دفعةً واحدة نحو ريكاردو الذي شعر فجأةً بالعصبية ونقل ثقل جسده من إحدى قدميه إلى الأخرى. وقال: «هذا صحيح. كنت على وشك أن أقول هذا التعليق حقًّا.»

وشعر بالراحة عندما أُشيحت الأعين بعيدًا عنه، ولكن تخلَّل شعوره بالراحة هذا فكرة مؤرقة بأنهم تجاهلوه وكأنه شخص تافه. أعاد روبن ويبستر دفة الحديث إلى المشكلة الأخطر التي بدأ بها.

فقال: «أنت واثق، يا سيد هانو، بأنه إذا لم تكن جريمة قتل ثانية قد ارتُكبت، فإنها لن تُرتكب. من ناحيتي، أتمنى لو أمكنني تصديق ما تقول. ولكن مَن قتل إيفيلين ديفينيش سيكون يائسًا. ولا بد أن يستمر في مخططه. لقد تورَّط، وبغض النظر عن المخاطرة، يجب أن يستمر، هذا ما استنبطته من موقفه. وسيتخذ تدابير احترازية.»

قاطعه هانو قائلًا: «ألم يتخذ تدابير احترازية عندما قتل إيفيلين ديفينيش؟ إنه يعرف أن التدابير الاحترازية تفشل.»

رغم كل ما قيل، لم يبدُ روبن ويبستر راضيًا. فقد وقف في مكانه ممتقع الوجه وعيناه تنظران إلى المحقق ثم تتهرَّب منه. كان يدور في ذهنه خوف لا يمكنه التعبير عنه بالكلمات. ثم قال في نهاية المطاف كلمةً مريعة بصوت خافت خالٍ من أي نبرة: «الدفن.»

قالها في صيغة سؤال. ألم يكن هذا الإجراءَ الاحترازي الذي لن يفشل هذه المرة؟ وطار السيد ريكاردو بخياله، الذي أيقظته هذه الكلمة المرعبة، فوق كروم العنب والغابات وعثر على كومة من التراب لقبر صغير حديث مخبأ تحت أوراق الشجر، تهبط ببطء لتُصبح مساويةً لسطح الأرض من حولها مع تعاقب الفصول. ولكن دوَّت إجابة هانو عن هذا السؤال كهزيم الرعد.

قال: «جُرب هذا الحل في إنجلترا ومُني بالفشل. وجُرب في فرنسا ومُني بالفشل. سيدي، لو كنت مثل» تردد للحظة ثم أعاد صياغة كلامه «مثل شخص أعرفه، وكنت أريد إدانةً دامغة في محكمة الجنايات بدلًا من إنقاذ حياة، لقلت: «إنها دُفنت!» لن تكون ثمة حجة أقوى من ذلك!»

بعد هذا الاستنتاج المقيت الصادم، التفت نحو ديانا تاسبورو مجددًا.

وقال: «يا آنسة، نود أن نُعفيكِ من الإزعاج قدر إمكاننا. يجب أن تُغلَق غرفتا السيدتين بالطبع. وسيكون ثمة مندوب عن الشرطة حاضرًا داخل المنزل، ونواب آخرون في الأراضي المحيطة به. وأثق تمام الثقة بأنهم سيكونون محل ترحيب من قبلك ومن قبل عمتك الكريمة. أما بالنسبة إلي، فأعتقد أنه يجب أن أعود على الفور إلى بوردو لأنه لن يكون مقبولًا أن أحل عليكم ضيفًا في مثل هذه الظروف، وأرى أنه من الأفضل أن يعود السيد ريكاردو معي إلى بوردو.»

ردَّت عليه ديانا في امتنان: «هذا كرم كبير منك»، ثم أصبح صوتها جافًّا وهي تضيف: «ومن المؤكد أن السيد ريكاردو سينعم في بوردو بنوم أعمق مما فعل في قصر سوفلاك.»

واصل هانو حديثه مسرعًا: «سأتركك إذن بين يدي المفوض، وبالنسبة إليك يا سيد ويبستر، آمل أن يكون نجاح حصاد العنب بشارة خير.»

ثم انحنى في احترام شديد. ووجَّه حديثه إلى ريكاردو قائلًا: «سيتوفَّر لك وقت لتحزم أغراضك بينما أُجري والمفوض ترتيباتنا»، ثم دخل غرفة الاستقبال. انحنى ريكاردو بدوره وتبع هانو. عبر هانو الغرفة إلى الباب المؤدي إلى الردهة — الباب في الجدار الخلفي — وعندما أمسك مقبضه في يده، استدار نحو الخلف نصف استدارة. كان ينظر نحو الشرفة، وبدا ذاهلًا.

همس قائلًا: «يا إلهي! ألقِ نظرةً واحدة فحسب يا صديقي؛ ليس أكثر. إنك لم ترَ في حياتك شيئًا مثل هذا!»

ثم انسل عبر الباب إلى الردهة. حاكى السيد ريكاردو ما فعله هانو ونظر خلفه عبر النافذة الزجاجية إلى الشرفة غير مبالٍ. ولكن لم تكن ثمة حاجة إلى هذا القدر من التمثيل. فقد كان ينظر مباشرةً إلى روبن ويبستر الذي كان يقف شارد الذهن، لا يتحرك وكأنه تمثال حجري، في نفس المكان حيث تركوه. ولكن كان الغضب قد أشعل نارًا حمراء في وجهه. وكان ينظر نحو ديانا تاسبورو بعينين جاحظتين لا ترمشان. كان هانو محقًّا. لم يرَ السيد ريكاردو شيئًا مرعبًا مثل هذا في حياته. حتى القناع لم يكن ليُقارن بما يرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥