الفيكونت يطلي بوابته
جلس السيد ريكاردو على حافة فراشه واضعًا رأسه بين يديه، بينما كان الخادم يحزم أمتعته. كان ثمة صخب شديد يدور في رأسه. كان كل ما رآه وسمعه ذلك اليوم مختلطًا في ذهنه … آثار الأقدام، والقناع، والشمعة الذائبة، والسرير المبعثر، وصورة القناة الكبرى التي لم تعنِ له شيئًا، والقس وقضاياه الجدلية … آه، وسوار جويس ويبل … نعم، وتصريح هانو المذهل بأن قتلة إيفيلين ديفينيش لا يجرءون على تكرار جريمتهم … وما رآه هانو في غرفة ديانا تاسبورو ولم يره هو … وما استنتجه هانو من الكتب بجانب سرير روبن ويبستر ولم يستنتجه هو … وغضبُ روبن ويبستر الحاد والمروع على الشرفة. آلمه رأسه بينما كان يعدد مصادر حريته، وشعر بالامتنان لهانو على منحه طريقًا مريحًا للهروب من هذا المنزل المأساوي. وسيتوفر له في بوردو ما يكفي من وقت ليستعين بجداول ملاحظاته ويُعيد ترتيب الأمور، حتى لو كان الأمر يعني فقط ترتيب جهله في شكل مُنظَّم. كما كان سيُعفى من النفور الذي يبدو جليًّا أن ديانا تشعر به تجاهه. لذا، أشعل سيجارةً وحاول أن يطرد هذه الفوضى من ذهنه بالكامل.
ولكنه لم يتمكَّن من ذلك. فقد بدأت ذاكرته تنشط. فاعتدل في جلسته وشهق. رفع إلياس تومسون رأسه من داخل حقيبة السفر ورأى سيده يحدِّق في الفراغ مشدوهًا.
فسأله: «هل أنت بخير يا سيدي؟» ولكن لم يسمعه السيد ريكاردو. فقد قفزت إلى ذهنه فكرة، فكرة مكتملة الجوانب، فكرة ألمعية، فكرة وكأنها الشفق القطبي بالنسبة إلى الأفكار. أخذ إلياس تومسون ببراعة من بين أصابع ريكاردو السيجارة التي كادت أن تتسبَّب في اشتعال اللحاف. لم يلاحظ السيد ريكاردو ذلك. وعاد إلياس تومسون ليُكمل حزم الأمتعة.
وقال: «إنها تلك الجريمة الغريبة. لطالما كنتَ مغرمًا بالجرائم منذ أن حللتَ القضية التاريخية في إيكس، أليس كذلك يا سيدي؟»
ولكن لم تتخطَّ تلك الثرثرة صيوان أذن السيد ريكاردو. كان من شأن إطراء أكثر تملقًا أن يسعد قلبه. لقد لاحظ هو أيضًا أمرًا لم يلحظه أحد غيره. حتى هانو لم يسمعه أو يره. ولكنه على قدر من الأهمية أكبر من أي شيء آخر.
في تلك اللحظة سمع طرقًا على الباب. وكان الطارق هو جولس أماديه يخبره بأن ثمة سيارةً في انتظاره أمام باب المنزل وأن هانو ينتظره في بهو المنزل. قفز السيد ريكاردو واقفًا.
وصاح في إلياس تومسون قائلًا: «ضع الأمتعة في سيارة السيد هانو وسافر معها.» ومنح جولس أماديه نفحةً كبيرة وأسرع الخُطى على طول الرواق. وعند طاولة البهو، كان هانو واقفًا في لا مبالاة يُقلِّب في عدد من البطاقات التي تُركت عند باب المنزل عصر اليوم. اندفع السيد ريكاردو نحوه، وصاح في انفعال ونشوة.
قال: «ثمة ما أُريد أن أخبرك به يا صديقي.»
قال هانو في هدوء بينما كان إلياس تومسون وجولس أماديه ينقلان الحقائب إلى السيارة: «ولكنك مخطئ يا سيد ريكاردو.»
صاح السيد ريكاردو لائمًا: «ولكني لم أخبرك بما أريد إخبارك به بعد.»
ردَّ عليه هانو: «هذا صحيح. ولكن ما ستخبرني به سيكون خطأً. ولكني أريد أن أخبرك بشيء غريب ومثير للاهتمام.»
تراجع السيد ريكاردو خطوةً إلى الخلف وشعر بالاختناق. كانت ثمة عبارة لطيفة تتعلق بإلقاء ماء بارد على رجل. شعر السيد ريكاردو وكأن البِحار القطبية قد غمرته بالكامل. وسأل نفسه، هل ثمة غرور أكبر من هذا؟ لا شيء يستحق الملاحظة إلا ما لاحظه هانو. لا شيء يستحق الاستماع إليه إلا ما يقوله هانو. حسنًا! والآن يجب أن يُعاقب هانو على ذلك. لقد حان وقت تعليمه درسًا في التواضع. سيحتفظ السيد ريكاردو باكتشافه لنفسه. وسيبدأ بدراسة جميع الملابسات بمفرده في بوردو. وقد يستجديه هانو لكي يخبره به. ولكنه لن يفعل ذلك إلا في الوقت الذي يراه مناسبًا. فابتسم وقال بهدوء: «عليك أن تخبرني بهذا الأمر العجيب.»
نظر هانو عبر الباب المفتوح. كان تومسون وجولس أماديه مشغولين بتكديس الحقائب في السيارة التي لا تتسع لها.
وقال: «وجدت أنه من الغريب أنه من بين جميع الذين حضروا عصر اليوم لتقديم واجب العزاء، هناك شخص مهم غائب.»
قال السيد ريكاردو في لا مبالاة: «حقًّا؟»
قال هانو: «نعم» ثم صمت. لا ريب في أنه رجل مزعج للغاية. ففي تلك اللحظة، كان على السيد ريكاردو أن يسأله عمن يكون الشخص الذي لم يُعبِّر عن تعاطفه معه.
أجاب هانو: «الفيكونت كاساندر دي ميراندول.»
«أوه!» أدهش الخبر السيد ريكاردو. إن الأخلاق الحميدة أمر ضروري للغاية بالنسبة إلى الفيكونت كاساندر دي ميراندول، ولا يمكنه أن يتركها في المنزل وكأنها قفاز مهمل، حتى وإن أراد ذلك. ولكن كان ريكاردو ناقمًا على هانو في تلك اللحظة ولم يستطع أن يُقِر بذلك.
فقال: «إن السيد دو ميراندول ظل ساهرًا حتى ساعة متأخرة من ليلة أمس.»
ردَّ هانو وهو ينظر في ساعته: «ربما فعل، ولكننا أصبحنا في ساعة متأخرة من نهار اليوم.»
حاول السيد ريكاردو أن يجد مبررًا آخر: «ربما أصيب بنزلة برد وهو في طريقه إلى منزله.»
«لم يكن ذلك ليمنعه عن إرسال بطاقة.»
قال السيد ريكاردو بتعالٍ: «إنه موضوع تافه على أي حال.» كان يعني أنه تافه مقارنةً بالأمر الشديد الأهمية الذي قرَّر أن يحتفظ به لنفسه.
«هل هو كذلك؟ إنه أقرب جار على الإطلاق، وكان يتناول العشاء هنا ليلة أمس. أرى أن هذا غريب.»
وافقه السيد ريكاردو على مضض: «حسنًا إذن. إنه غريب»، وخرج الرجلان من قصر سوفلاك معًا. كان مورو وإلياس تومسون قد ركبا سيارة الشرطة الخاصة بهانو حقًّا، وأدار مورو السيارة بعد إيماءة من هانو.
قال هانو: «فلنتبعهما»، واستعاد السيد ريكاردو في ذهنه ذكرى لأمر حدث صباح اليوم، فصاح في سائقه سريعًا: «إلى بوردو.»
قال هانو بهدوء: «لقد أعطيت هذا السائق الممتاز تعليماته حقًّا»، وتحرَّكت السيارة الكبيرة من أمام الباب، وظل السيد ريكاردو يقفز إلى أعلى وأسفل على زنبركات مقعده في تململ. كان يرى أن تبلُّد مشاعر رفيقه فيما يتعلق بأدق التفاصيل السلوكية أمر لا يُحتمل.
قال هانو: «أنت منزعج مني يا صديقي.» وأخرج من جيبه علبة سجائر ماريلاند الزرقاء وأشعل لفافة تبغ مستدقة الطرف بعود ثقاب بدا وكأن شرره سيظل يتطاير إلى الأبد.
قال السيد ريكاردو في برود: «أُحب بعض الأمور، وأكره أمورًا أخرى.»
رد عليه هانو في جدية: «أنا أيضًا أحب أن تسير الأمور وفق نهج معين.»
«على سبيل المثال، أحب أن أكون أنا من يعطي التعليمات لسائقي.»
أبدى هانو فجأةً أسفًا شديدًا. وصاح في ندم: «لقد أخطأ هانو! لا يستحق هانو عفوك. سيفرض هانو على نفسه بعض الكفارات مثلما فعل القس فاورييه. ولكني لم أتمكن من منع نفسي عن إعطاء أمر لسائق سيارة رولز رويس، كما لو أنها ملكي! لا، لا يمكنك أن تتوقع أن يقاوم رجل شرطة فقير مثل هذا الإغراء.»
جعل هذا المبرر السيد ريكاردو يهدأ قليلًا. فقد كان ينطوي على إطراء. ربما لم يكن سريع البديهة مثل المحقق العظيم، ولكنه يمتلك سيارة رولز رويس. ومن ثم، كان تعبيره عن استيائه مما حدث أقل حدة.
وقال: «لا أُحب أن يتجاهلني أحد.»
«آه، ولكن هذا أمر مختلف! أولًا، لا يمكنني أن أُعبِّر عن مدى أسفي على ما فعلت! نعم، هانو؛ هذا العظيم يركع أمامك.» واستدار ليواجه ريكاردو وينحني وهو يضع يده على صدره. وقال: «ولكن فكر! فلترَ الصعوبات التي أمر بها! يمكنك أن تأتي عدوًا إليَّ في بهو المنزل مُحمَّلًا بالمعلومات، وجولس أماديه في إثرك حاملًا حقائبك. إذا ما تركتك تتحدث، فبمجرد أن نرحل، سيعدو هو أيضًا. ولكن إلى سيدته! تلك الفتاة المسكينة التي تحمل ما يكفي من البؤس على عاتقها حقًّا، ستعتقد جزافًا أننا نشك في أنها شريكة في الجريمة. جزافًا؛ نعم!» قالها مُؤكِّدًا في حسم. واستطرد: «فقد أخبرتنا صراحةً بأنها طافت بالسيارة بين منازل جيرانها. هل الأمر الأكثر ترجيحًا من ذلك هو أن تلتقي بالسيد تيدون، قاضي التحقيقات، أثناء تحقيقاته؟ وإذا ما التقته، فإن الأكثر ترجيحًا هو أن يقول: «لم يحظَ السيد ريكاردو بقدرٍ كافٍ من النوم ليلة أمس في قصر سوفلاك!» آه، اضطُررت لأن ألهيه في شيء.»
حدَّق السيد ريكاردو في وجه رفيقه في ذهول. ثم قال: «كنت تعرف إذن ما أردت إخبارك به!»
«بالطبع، كنت أعرف. هذا عملي. كنت تريد أن تقول لي بأعلى صوتك: «لم أخبر أحدًا بأني لم أنم جيدًا ليلة أمس إلا لشخصين؛ هانو والقاضي. ولكن ها هي الآنسة ديانا تعرف أيضًا!» أليس هذا ما كنت تريد قوله؟»
قال السيد ريكاردو في تواضع شديد: «أجل.» ذهب اكتشافه العظيم سدًى. كان هانو قد توصل إلى الاكتشاف نفسه في الوقت نفسه ولكنه فسَّره بالشكل الصحيح. وذلك في الوقت الذي لم يحاول هو تتبُّع تداعياته من الأساس.
واصل حديثه بنبرة مرارة في صوته: «نعم. الإلهاء! اضطُررت لأن تلهيه بشيء!»
ولكن أثناء حديثه، احتلَّت صورة وجدانه، صورة روبن ويبستر في الشرفة وهو يُحدِّق في ديانا بنظرة غضب نارية.
فصاح قائلًا: «ولكن، مهلًا! إذا ما اعتقدت أن ديانا تاسبورو قد ارتكبت خطأً، فقد فعل روبن ويبستر المثل! هذا التفسير اليسير البَدَهي؛ لا، لن يصلح. نعم، لقد التقيا بقاضي التحقيق! نعم، ولقد أخبرهم؛ ربما بكل ما أخبرته به في مبنى محافظة فيلبلانش. إنه أحمق، ذلك القاضي. ولكن كان من المتفق عليه أنها يجب ألا تعرف أي شيء أخبرته به عندما نلتقي في وقت لاحق …»
سأله هانو بحدة: «من المتفق عليه بين مَن؟»
«بين روبن ويبستر وديانا تاسبورو. ولكنها نسيت الاتفاق، وزل لسانها، الأمر الذي لا يجدر بنا أن ننساه.»
اضطجع السيد ريكاردو مسندًا ظهره وهو يشعر بالسرور أنه قلب الطاولة على صديقه الفخور بنفسه. وفرك يديه معًا وكأنه يقول: ما رأيك في ذلك؟ كان هانو منبهرًا بهذه الحُجج. فزمَّ شفتَيه وهز رأسه.
وقال مطرقًا: «لا أتفق معك على أن السيد تيدون أحمق. ولا أقول ذلك بسبب أنه رئيسي المباشر. لا! بل أعتقد أنه على النقيض تمامًا من ذلك، إنه داهية. ربما كان ثرثارًا في هذا الموقف، ولكن من المؤكد أنه كان هناك سبب لفعل ذلك. نعم، أعتقد أنه سيحصل على منصبه في بوردو، بما أنه يود ذلك. أما باريس، فهذا شأن مختلف. ولكن، بوردو، نعم.» وابتسم في سرور وكأنه يهنئ القاضي على منصبه الجديد. وعاد يقول: «أما بالنسبة إلى ويبستر، فهذا شأن آخر. ربما سأُكلِّفك بأمره، ما رأيك؟ فهو …» وحاول أن يستخدم تعبيرًا اصطلاحيًّا خاطئًا كعادته، فقال: «مادة جيدة!»
قال السيد ريكاردو مُصحِّحًا على الفور: «بل خامة جيدة.» كان يُفضَّل إذا ما استُخدمت التعبيرات الاصطلاحية الشائعة أن تُستخدم بالشكل الصحيح. لم يكد يُنهي تصحيحه حتى توقفت السيارة فجأة، وفتح رقيب شرطة الباب.
قفز هانو خارج السيارة وأبرز بطاقة هُويته وحصل على اعتذار مُغلَّظ. ولكنه لم ينتظر ليسمع الاعتذار. وقال: «لا بد أن يكون الحارس حازمًا. أرجو أن تُعامل الجميع بهذه الطريقة نفسها.» كانت السيارة قد توقفت أمام بوابة حديدية أنيقة، ومن خلفها، ظهر مسار عريض للعربات ينحني إلى ما هو خارج مجال الرؤية. فسأل هانو: «إلى منزل مَن يؤدي هذا الطريق؟»
أجابه الرقيب: «منزل السيد دو ميراندول.»
بدت الحيرة على وجه هانو. ونظر إلى الطريق من خلفه. كان قصر سوفلاك لا يبعد سوى نصف ميل من حيث يقف، بينما كانت الأبراج الحجرية لمنزل الفيكونت تظهر من خلف أَجَمة من الأشجار لا تبعد سوى ١٥٠ ياردةً عن البوابة الحديدية.
فقال: «كنت أعتقد أن منزل السيد دو ميراندول منزل أبيض طويل منخفض على قمة تل مقابل لقصر سوفلاك.»
وافقه السيد ريكاردو قائلًا: «لقد أخبرنا القاضي بذلك.» كان ريكاردو قد خرج من السيارة ووقف عند حافة الطريق بجانب هانو.
قال الرقيب مُفسِّرًا: «هذا منزل ميراندول الصيفي القديم. ويمكن الوصول إليه عبر هذا القصر أو عبر الطريق الذي يمر بالريف المفتوح أمام منزل سوفلاك. ويستخدمه الفيكونت محلَّ إقامة له. فهو منزل هادئ ويحتوي على مكتبة ضخمة. وأصبح القصر الكبير حاليًّا منزل ضيافة وإدارة.»
سأل هانو: «أعتقد أن سيدة قصر سوفلاك الشابة قد زارت هذا المنزل عصر اليوم، أليس كذلك؟»
«نعم يا سيدي.»
نظر هانو إلى السيد ريكاردو مبتسمًا. وقال: «لقد عرفنا أخيرًا السبب الحقيقي لعدم تقديم السيد دو ميراندول تعازيه. فقد قدَّمها حقًّا في منزله.» ثم نظر إلى ساعته، وقال: «سنحاكي ما فعلته سيدة قصر سوفلاك. تعالَ!»
ترك الرجلان السيارة في عُهدة الرقيب، وفتحا البوابة، وعبرا المسار إلى المنزل. عادةً ما تكون أقبية النبيذ مجاورةً لمبنى المنزل الرئيس بحيث يظل أمام الفناء والشرفة ممر دائم لدخول المنزل والخروج منه. تحدث هانو إلى رجل كان يُوجِّه أوامره لآخرين.
وقال: «أين أجد الفيكونت؟» أشار الرجل إلى امتداد لمسار العربات وعاد ليستكمل عمله. كان المسار يميل لأعلى عبر أَجَمة من الأشجار الصغيرة، ثم يضيق وينتهي أمام بوابة صغيرة بيضاء. ومن خلف البوابة، كان هناك ممر للمشاة يلتف بين الشجيرات، وفجأةً وجد هانو وريكاردو أنفسهما في قطعة مفتوحة من مرعًى بريٍّ بدلًا من العشب المُعتَنى به، وظهرت أمامهما الواجهة اللامعة للمنزل المكون من طابقين. وكانت ثمة بلاطة حجرية واحدة موضوعة أمام الباب. كانت عمارة المنزل بأكملها بسيطة، ومريحةً للعين والعقل. دق هانو جرس الباب، وأوحى الرنين العالي بأن المنزل خالٍ. ولكن بعد وهلة، فُتح الباب وظهر خادم يقف على عتبته. كان بدينًا وأصلع ذا مظهر خبيث، وألبسته سنوات خدمته الطويلة مظهرًا سطحيًّا شبيهًا بسيده. تساءل السيد ريكاردو عما إذا كانت يداه مبتلتين، وكان ممتنًّا أنه كان قادرًا على مواصلة التجول. فقال هانو: «هل الفيكونت موجود؟» قال الرجل: «إنه هناك عند نهاية هذا الدرب يطلي البوابة.»
«سنعثر عليه.» كان الدرب الذي حدَّده الخادم يحيط بقطعة أرض عشبية ثم يختفي بين شجيرات الورد في الاتجاه المقابل للاتجاه الذي أتيا منه. وشكَّل الضلع الثاني العمودي لمثلث قاعدته الخط المرسوم بين الدربين عبر الأرض العشبية من عند نقاط ظهورهما من بين الشجيرات. سار هانو والسيد ريكاردو على طول هذا الدرب الثاني، وبعد التفاتة أو اثنتين رأيا الفيكونت خالعًا معطفه، وممسكًا بعلبة طلاء في يد، وفرشاة ضخمة في يده الأخرى، وكان ينحني بجانب بوابة خشبية صغيرة مؤدية إلى طريق. كان قد رأى زائريه في نفس وقت رؤيتهم له، فنصب قامته.
وقال مبتسمًا: «سيد ريكاردو. للأسف! لا أستطيع مصافحتك. إن الطلاء يغمرني بالكامل.»
كان الطلاء أخضر اللون. وكان قد وضع طبقةً سميكة منه على البوابة، وكانت ثمة طبقة مماثلة على ملابسه ويديه، وطبقة على وجهه لا تقل سمكًا عنها. قال الفيكونت: «لم أحظَ بشرف التعرف إلى رفيقك يا سيد ريكاردو. ولكن أحضرت لي صديقتي الشابة التعسة من سوفلاك أخبارًا سيئة عصر اليوم، ويمكنني أن أُخمِّن من يكون. هل أنت السيد هانو؟»
انحنى هانو، وقال: «في خدمتك سيدي الفيكونت.»
«يا له من حدث غامض ومريع يا سيد هانو. من حسن حظ هذا الحي أنك كنت في بوردو بالمصادفة.»
«ولكنني في بوردو لشأن آخر يا سيدي الفيكونت. وأنا في طريق عودتي إليها الآن. وأصدقك القول، لم أحقق الكثير من التقدم هنا.»
حثَّه دو ميراندول في قلق: «ولكنك ستعود إلى سوفلاك. إن جريمةً رهيبة مثل تلك يجب ألا تُترك دون حل.»
«سأعود سيدي الفيكونت. ولكن، هل سأعود في الوقت المناسب؟ هذه مسألة أخرى. لقد ضاع يوم، وربما حتى بضع ساعات، ولم أتوصل إلى أي شيء.»
قال الفيكونت راجيًا: «سُمعة المقاطعة وأمنها على المحك.»
رد عليه هانو واجمًا: «سأبذل قصارى جهدي.» لم يكن صوته يوحي بالثقة. وبدا وكأن الإحباط يغمره حتى عنقه، ولكنه قال: «إلى أين ذهبت السيدة ديفينيش بعدما تسلَّلت خارجةً من نافذة غرفتها ليلة أمس؟ مَن يمكنه أن يخبرنا؟ كانت القرية أجمعُها نائمة. ولم يكن ثمة حراس على كل طريق ودرب مثلما هي الحال الآن. لقد أخذنا حِذرنا، كما قد يقول السيد ريكاردو، بعدما سبق السيف الاعتذار.»
ترك السيد ريكاردو المثل الخاطئ يمر مرور الكرام؛ فقد كان هانو يائسًا. وكان من القسوة أن يحاول تصحيح المثل له.
قال الفيكونت: «أرجو أن تعذراني، فلا بد أن أكمل عملي.» وعاد ينحني ليواصل أعمال الطلاء، وهو يقول: «يجب أن أنهي طلاء البوابة قبل حلول الظلام، ولكني لست ماهرًا في ذلك، كما تريان.» ونثر الدهان بفرشاته وهو يتحدث أثناء عمله، وقال: «كل رجالي يعملون في كروم العنب اليوم. أرجأت طلاء هذه البوابة حتى فقدت حرارة شمس الصيف قوتها. واستيقظت اليوم تراودني فكرة «إما اليوم أو أبدًا».»
قال هانو بأدب: «سيدي الفيكونت، أنت مثال يُحتذى به.»
أبقى الفيكونت على البوابة مفتوحة عبر مزلاجها بيده اليسرى المكسوة بقفاز بستاني سميك، بينما كان يدهن البوابة بيده اليمنى. انسلَّ هانو من خلفه وخرج إلى الطريق خلف البوابة. ووجد نفسه ينظر في خط مستقيم عبر أرض مفتوحة إلى قصر سوفلاك بلونه الزهري الفاتح. كان الطريق الذي يقف عليها تنحدر على التل عن يساره وتندمج في آخرها بطريق أوسع تمر بمباني مزرعة سوفلاك ومرأبها، ثم تصعد وصولًا إلى القوس الكبير في واجهة المنزل. وقف هانو يمسح المشهد بعينيه، وكان مشهدًا جميلًا وهادئًا تغمره شمس الأصيل، ولكن صدرت عنه بعد ذلك هفوة رأى السيد ريكاردو أنه من المستحيل تبريرها.
قال هانو: «هذا طريق مختصر.» كان يتحدث بأدب ويمد ذراعه عن آخرها نحو قصر سوفلاك. ولكنه لم يعد يُحكم قبضته على القناع تحت معطفه. فانزلق. ظهر المنديل الذي كان القناع ملفوفًا به، وعلى الرغم من أن السيد ريكاردو سعل، وتنحنح، وضرب بقدميه، ونقر بأصابعه، سقط المنديل على الأرض قبل أن يتمكن من لفت انتباه هانو. وما زاد الطين بلة أن المنديل انفتح. وأصبح القناع بشعره الأحمر، وملامحه الشاحبة، وشفتَيه الأرجوانيتين، ظاهرًا أمام العالم بأكمله ليراه.
وقف هانو للحظات مذعورًا. ثم انحنى فوق الشيء الذي من المفترض أن يكون سريًّا، وغطَّاه، وأدخله داخل معطفه وأغلق أزراره.
سأل السيد ريكاردو نفسه: «ما الفائدة مما حدث الآن؟» وكان يشعر بانزعاج شديد واستياء من هذا الإهمال. «لا ريب في أنه قد سبق السيف العذل.»
أما الفيكونت كاساندر دي ميراندول، فقد تظاهر بأنه لم يرَ شيئًا. وواصل طلاء بوابته بهمة.
وقال مخاطبًا السيد ريكاردو الذي كان يقف خلفه: «أنا فخور بعملي. بالنسبة إلى شخص مبتدئ قضى حياته بأكملها في الدراسة، هذا ليس سيئًا. لقد قضيت صباح اليوم كله أحرق الدهان القديم وأكشطه من على الخشب. وقضيت مدة العصر بأكملها أضع الطلاء الجديد.» وانفجر ضاحكًا عندما تناثرت نقطة كبيرة من دهان الزيت السميك على رأسه الأصلع. وتناثرت نقطة أخرى أو نقطتان من الدهان على بدلة السيد ريكاردو الرمادية الأنيقة، وجفل السيد ريكاردو ثم أدرك السبب في ذلك. لا ريب في أن الفيكونت لم يكن خبيرًا بمثل هذا العمل، ولكن كانت يداه ترتعشان أيضًا. كان المزلاج يرتج تحت يده اليسرى، وفرشاة الدهان ترتعش في يده اليمنى. نعم، كان قادرًا على التحدث بثبات والسيطرة على صوته؛ وكان يتحدث لكي يُخفي عن زائريه أنه لا يستطيع التحكم في يديه.

قال هانو وهو يتمالك أعصابه مرةً أخرى: «هذا طريق مختصر. إنه يُسهِّل زيارتك لأصدقائك، أو زيارتهم لك، وأرى أنكم تستغلونها على الوجه الأكمل.» وكان يُشير إلى آثار إطارات السيارات على الطريق. فكانت تشير إلى أن أكثر من سيارة توقفت أمام هذه البوابة واستدارت.
ثم عاد هانو إلى داخل الحديقة ووضع دو ميراندول فرشاة الطلاء في العلبة ووقف ومدَّد ظهره وقد ظهرت على وجهه أمارات الألم.
ثم قال ساخرًا من عدم شعوره بالراحة: «أوه! أوه! أوه! هذا العمل يُناسب من هم أصغر سنًّا. سألزم الفراش بسبب آلام الفقرات القطنية طيلة أسبوع كامل.»
قال هانو مبتسمًا: «عليك أن تأخذ حمامًا ساخنًا على الفور سيدي الفيكونت، وستكتب دراسةً متعمقة مليئة بالأفكار الجديدة قبل أن يحل موعد النوم. لن نُعطِّلك أكثر من ذلك.»
اعتذر الفيكونت إليهما. فقد كان يود أن يُري هانو الشهير كرم الضيافة الذي تشتهر به المقاطعة. ولكنهما شهدا بأنفسهما المأزق الذي وقع فيه. خلع الفيكونت القفاز الجلدي السميك عن يده اليسرى ومدَّها أمامهما ضاحكًا.
وقال: «هذا الجزء الوحيد من جسدي غير المغطى بالطلاء. أما بالنسبة إلى البقية»؛ ونظر في أسفٍ إلى يده اليمنى المُلطَّخة بالطلاء حتى المعصم، وقال: «لو اجتمع أبرع كيميائيي بوردو، فهل سيتمكنون من تنظيفها؟»
تركاه واقفًا في مكانه، وعادا عبر الدرب الذي أتيا منه حتى وصلا مجددًا إلى سيارة ريكاردو. لوَّح هانو بيده إلى رقيب الشرطة.
أمر السيد ريكاردو سائقه عبر البوق الداخلي قائلًا: «إلى بوردو»، وانسابت السيارة في سلاسة مبتعدةً على الطريق الأبيض المُتَرب. مرَّت السيارة ببضعة قصور تشتهر بكروم العنب، وعبرت قريةً تحف منازلها جانبي الطريق، ثم تحدث هانو قائلًا:
«إنه أكاديمي عظيم، أليس كذلك؟ بلى. ومثقف للغاية؟ أجل. إن دراساته في مجال الفلسفة تُعجب الشابات في بوردو كثيرًا. نعم! ولكنه، يا صديقي، لم يكن يدرس في مكتبته في تمام الثانية من صباح اليوم. لا! فمكتبته تقع في الطابق الأرضي من هذا المنزل الصيفي على يسار الباب. لقد نظرت داخل المنزل عندما مررنا أمامه. نعم، نظر هانو عبر النافذة ورأى الكثير من الكتب المُكَدَّسة تكاد تصل إلى السقف مستندةً إلى الجدران، وانسحق قلبه تحت ثقل كل هذه الكتب.» فقد صوته نبرته الساخرة، ومال ليقترب من ريكاردو قليلًا، وقال: «ولكن ما كان هانو يود معرفته حقًّا — ويراه — هو الغرفة الطويلة في الطابق الأول التي ظلت أنوارها مضاءةً حتى الصباح.»
غرق في الصمت مجددًا لوهلة، ثم قال وهو يبتسم ابتسامةً صفراء: «اليدان، يا لهما من خائنتين! يمكن للمرء السيطرة على صوته وتعبيرات وجهه. نعم، حتى المبتدئ الذي قضى حياته بأكملها في مكتبته يمكنه فعل ذلك. ولكن ماذا عن اليدين؟ لا يمكن لأحد السيطرة عليهما، حتى الأكثر دهاءً على الإطلاق.»
صاح السيد ريكاردو: «هل لاحظت أن يديه كانتا ترتعشان؟ ولكنك كنت بعيدًا تقف على الطريق.»
ابتسم هانو في تواضع زائف. وقال: «نعم، لقد لاحظت ذلك. هذا عملي يا صديقي العزيز.»
رد عليه السيد ريكاردو بانفعال شديد: «ربما كان عملك أيضًا أن تُسقط أقنعةً مميزة على طرق فرنسا السريعة.» ولكن جعله الخجل البادي على وجه هانو يهدأ بمجرد أن بدأ التحدث. إذا لم يكن من يُحدِّثه هو هانو من الأيام الخوالي، لكان أكثر لطفًا معه، ولحاول أن يُخفي عنه انتكاسته لأطول مدة ممكنة.
قال ريكاردو في تسامح: «أفاضلنا يخطئون في بعض الأحيان.»
وافقه هانو قائلًا: «وكذلك المجرمون.» واصل ريكاردو حديثه قائلًا: «لقد فعل الفيكونت شيئًا ماكرًا في النهاية. لقد أرانا يديه.» نظر له هانو سريعًا نظرةً غريبة مليئة بالتقدير، وقال: «نعم، لقد أراني كلتا يديه.»
صاح السيد ريكاردو: «ليُثبت لك أنهما لا ترتعشان. كان حريصًا على أن ترى أنهما ثابتتان تمامًا!» أشاح هانو بعينَيه عن وجه صديقه واضطجع في جلسته في راحة.
وقال ببطء: «كان هذا هو السبب إذن، أليس كذلك؟ لقد وصلنا!» توقفت السيارة بغتةً أمام مبنًى فخم في شارع ضيق.
قال السيد ريكاردو وهو يُمسك ببوق السيارة الداخلي: «وصلنا إلى بوردو! مستحيل!»
قال هانو في هدوء: «إلى بوردو، لا! ولكن إلى مكتب بريد بوياك. هيا بنا!»
خرجا من السيارة ودخلا البهو الكبير. أظهر هانو بطاقة هُويته أمام شباك واقتيد ورفيقه إلى غرفة خاصة. ودخل عليهما موظف ضئيل ملتحٍ يعرض خدماته.
قال هانو: «سأكون مدينًا لك، يا مدير مكتب البريد، لو أخبرتني بما إذا وصل للآنسة جويس ويبل أي طرد مسجل من إنجلترا في بداية هذا الأسبوع.»
أحضر مدير مكتب البريد كتابًا طويلًا ومرَّر إصبعه على مدخلات إحدى صفحاته المُصْفَرة.
ثم قال: «نعم، صباح يوم الثلاثاء.»
«هل جاءت لتسلُّمه؟»
خرج مدير مكتب البريد، وسأل أحد موظفيه، وعاد، وقال: «لا يا سيد هانو. شُحن الطرد لها في قصر سوفلاك.»
«ووقَّعَت على تسلُّمه بالطبع؟»
«بالطبع.»
سأله هانو: «هل يمكنني رؤية توقيعها؟» وعندما وُضع دفتر الإيصالات أمامه، نقله أمام السيد ريكاردو، وقال: «هل هذا توقيعها؟»
«نعم».
قال هانو مؤكدًا: «أنت واثق بذلك! هذا أمر مهم للغاية.»
رد عليه السيد ريكاردو بتوكيد أقل قليلًا: «لقد راسلتني ذات مرة لتُذكِّرني بالحديث الذي دار بيننا في لندن. كما أني رأيت توقيعها في دفتر الزوار.»
قال هانو: «يمكننا أن نتأكد.» وضع يده في جيب صدر معطفه وأخرج غلافًا أصفر اللون لرواية فرنسية. كُتب على الغلاف، تحت العنوان، اسم «جويس ويبل».
«كان الكتاب موضوعًا على طاولة في غرفة نومها. نُشر هذا الكتاب منذ بضعة أسابيع. وهو متاح في جميع المكتبات. ومن المُرَجَّح أن الآنسة اشترته من كي دورسيه خلال رحلتها إلى بوردو.»
وضع الورقة بجانب التوقيع في دفتر الإيصالات وكان الاسمان متطابقين تمامًا من حيث رسمُ الحروف.
قال هانو: «كُتب كلاهما باليد نفسها إذن. أصبح من المؤكد أن الآنسة ويبل قد تسلَّمت الطرد المُسَجَّل بيدها.» رفع عينَيه مجددًا إلى مدير مكتب البريد، وقال: «هل يمكنك أن تخبرني بوزن الطرد؟»
نظر مدير مكتب البريد في دفاتره مجددًا.
ثم قال: «اثنان هكتوجرام.»
قال هانو مفسرًا للسيد ريكاردو: «أي ما يعادل سبع أوقيات بالنسبة إليكم.» ثم ظل صامتًا ووجهه يتجهَّم وينبسط، ثم يتجهَّم من جديد بينما يُحاول أن يُخمِّن محتويات الطرد، ثم رفض التخمين، وقال فجأة: «أنا أُضيع الوقت. سأُرسل برقية.»
وضع مدير مكتب البريد نموذجًا أمامه، وأخرج هانو من جيبه خطابًا من السير هنري بريور من المختبر في ليدز، وكتب اسمه وعنوانه في متن البرقية الطويلة.
وقال: «سأرسل هذه البرقية إلى شرطة سكوتلاند يارد الإنجليزية. وسيخبرونني بما أريد بأقصى سرعة. هل ستُرسل البرقية على الفور؟ أشكرك. علينا أن نذهب نحن أيضًا.»
صافح مدير مكتب البريد. وقال: «سنذهب هذه المرة إلى بوردو حقًّا.» وظلَّ صامتًا حتى توقفت السيارة أمام الفندق الفاخر الذي ينزل فيه السيد ريكاردو في كور دو لينتندانس.
قال هانو: «ربما لن أتمكَّن من رؤيتك غدًا. ولكن إذا ما جدَّ جديد، فسأخبرك به. حتى ذلك الحين، ثمة مسألة علينا أن نفكر فيها. ما الضرورة التي جعلت الفيكونت كاساندر دي ميراندول يطلي هذه البوابة بالتحديد بيده؟ إن البوابة الأخرى التي مررنا بها ونحن في طريقنا إلى المنزل تحتاج إلى طلاء جديد أيضًا! لماذا لم يولِ اهتمامه إلا إلى تلك البوابة المؤدية إلى الطريق التي تنحدر وصولًا إلى قصر سوفلاك؟ هل بسبب أشعة الشمس الحارقة؟ محض هراء يا صديقي! لماذا لم تُطلَ قبل موسم حصاد العنب؟ لماذا لم يُؤجَّل طلاؤها إلى ما بعد موسم حصاد العنب؟» ثم أومأ برأسه مبتسمًا وسار مبتعدًا.