الفصل السابع عشر

كيف يدفع تاجر المجوهرات ضرائبه

وقف دومينيك بوشيت — وهو رجل ضخم الجثة، رسمي في مظهره، وذو لحية بنية مربعة، ويرتدي سترةً طويلة عتيقة الطراز مصنوعةً من الجوخ — عند عتبة الباب وانحنى، وأخذ من مورو حقيبة أوراق سوداء صغيرةً ووضعها على الطاولة. وتلقَّى مورو بعد ذلك إيماءةً من هانو خرج على إثرها من الغرفة وأغلق بابها. أخرج دومينيك بوشيت مفتاحًا صغيرًا من جيب صدريته، وفتح الحقيبة وأخرج منها علبة مجوهرات. ثم نقل بصره بين هانو، وريكاردو، ودينيس بلاكيت، ثم سلَّم العلبة دون تردُّد إلى الأخير. كانت العلبة بالية، وكان الجلد الذي يكسوها مقطوعًا في عدة أماكن، وظل بلاكيت يقلب العلبة بين يديه لبضع لحظات، وبدا خائفًا من فتحها. ثم فتح العلبة بحركة سريعة عنيفة، وأخرج العِقد منها، وترك اللآلئ الناعمة الملساء تنساب بين أصابعه. كانت ثمة ابتسامة مرتسمة على شفتَيه، ولكنها ابتسامة مريرة. كان يمسك بين يديه ٢١ عامًا من عمره. كانت كل حبة من حبات اللؤلؤ جائزة صفقة ناجحة تمَّت بعد عملٍ مضنٍ، وجميعها كانت من أجل ابنته الحبيبة.

قال بلاكيت: «نعم، هذا هو العِقد. هذا هو المشبك الماسي الذي يحمل أول حرف من اسمها «إ».» ثم ألقاه على الطاولة وهو ينظر له كما لو كان أفعى ملونةً ذات لسان مشقوق تستعد للانقضاض عليه.

قال هانو: «حسنًا! أصبحنا واثقين بالأمر الأول. هذا العِقد يخص السيدة ديفينيش. والآن بالنسبة إليك يا سيد بوشيت. كنت مُتردِّدًا في شراء العِقد رغم أن سعره أقل بكثير من قيمته الحقيقية. ما السبب؟»

ردَّ عليه التاجر بحذر: «لقد عرضه عليَّ شخص لا أثق به تمام الثقة.»

«رجل أم امرأة؟»

«امرأة.»

«امرأة شابة؟»

«لا.»

كانت الإجابة، التي خرجت من فمه بعد تردد، مفاجئةً لكل الجالسين حول الطاولة، ولكنها كانت مفاجئةً مفاجأةً خاصة للسيد ريكاردو. كان يُمعن التفكير في التواريخ التي ذكرها بلاكيت. كان اليوم عندما رأى إيفيلين ديفينيش في كهف المومياوات يتوافق معها تمامًا. لم يكن يساوره أدنى شك، حتى هذه اللحظة، في أن إيفيلين ديفينيش نفسها هي من باعت عِقد اللؤلؤ إلى بوشيت، وأنها سافرت إلى بوردو خصوصًا في ذلك اليوم من أجل بيعه.

صاح هانو بنبرة غاضبة: «إنها امرأة عجوز إذن. أخبرني عنها من فضلك. من تكون وما سبب عدم ثقتك بها.»

قال تاجر المجوهرات معترضًا وهو يضغط بأناقة على أطراف أصابع إحدى يديه بأطراف أصابع يده الأخرى: «مهلًا. يتضمن عملي الكثير من العلاقات السرية ولن يزدهر إذا لم تُراعَ السرية. أنا في موقف عصيب. إن العلاقة بيني وبين عملائي يجب أن تكون مماثلةً للعلاقة بين الطبيب ومرضاه.»

قال هانو الذي بدأ صبره ينفد: «أخشى أن القانون لا يعترف بهذه العلاقة. وستتكرَّم بإخباري بكل شيء تعرفه عن هذه المرأة.»

بدا بوشيت وكأنه يولي اهتمامًا خاصًّا بهذه العبارة وهو يقول: «كل ما أعرفه؟! في الحقيقة أنا لا أعرف شيئًا عنها.»

«كل ما لديك مجرد شكوك إذن.»

بدأ دومينيك بوشيت يتلفَّت حوله. ثم داعب لحيته بيده برفق، وقال: «إن الشكوك قد تؤدي بالرجل إلى مواقف سيئة للغاية. إني أستميحك عذرًا.»

انحنى هانو فوق الطاولة فجأة، وقال: «وأنا أرجوك ألَّا تضيع وقتي. ما الأمر؟ لقد ارتُكبت جريمة وما يُعطِّلنا تردُّد تاجر مجوهرات!»

جفل بوشيت وصاح: «جريمة؟»

«حسنًا! لا بد أنك قرأت عنها في الجريدة الصباحية. ولا بد أنك سمعتني أذكر اسم مالكة هذا العِقد منذ دقيقة؛ السيدة ديفينيش.»

تلعثم تاجر المجوهرات بوشيت وهو يقول: «معذرةً يا سيدي؛ أنا لم أربط بين الاسم والجريمة التي وقعت في سوفلاك.»

«آه! آه! آه! هل تحاول أن تتذاكى عليَّ أنت أيضًا؟ كفانا من التردد يا صديقي. هيا قُل، من المرأة؟»

وبالطبع، رفض بوشيت أن يخبر أحدًا باسمها سوى القاضي، وأشارت تهديدات هانو إلى أحد الحاضرين في الغرفة أنه يدرك مدى ضعف موقفه. ولكن بما أن دومينيك بوشيت سيُصبح متورطًا في القضية لا محالة، فقد كان فطنًا بما يكفي ليدرك أن موقفه سيصبح أقل ضعفًا إذا ما أخذ جانب الشرطة عن طيب خاطر.

فقال: «الأرملة تشيشول مَن أحضرت العِقد لي.»

كرَّر هانو الاسم ببطء كما لو كان يبحث في ذكرياته: «الأرملة تشيشول.» ثم هز رأسه، وقال: «لا أعرفها.»

استطرد بوشيت حديثه: «صحيح أنها لم تتعرض لأي اتهامات في السابق، على حد معرفتي. ولكن هذا لا يعني أنها تتمتع بسمعة حسنة. وأؤكد لك بكل صراحة يا سيد هانو أن سمعة الأرملة تشيشول سيئة. إنها من المواطنين السيئين في هذه البلدة. إنك لن تسمع اسمها إلا في أقذر مستنقعات عالم الجريمة.»

«ولكنك تعرفها رغم كل هذا يا سيد بوشيت.»

رد بوشيت: «سأشرح لك الأمر.» ومد ذراعيه في حماسة نحو هانو لدرجة أن أكمام معطفه انحسرت إلى الخلف، وظهرت أساور قميصه. ثم قال: «لا شيء مريب. مهلًا لحظة! لقد جاءت لي مرةً أو مرتين سرًّا وكان معها دائمًا شيء قيم لتبيعه. أنا لا أعرف شيئًا عنها. وبعدما فحصت الشيء الذي تريد بيعه، قلت لها: «لا أعرف إن كنت سأتمكن من بيعه أم لا. خذيه وارحلي وعودي بعد ثلاثة أيام.» وكما تعرف يا سيد هانو، نحصل من الشرطة من وقتٍ لآخر على قوائم بالمجوهرات المسروقة أو المفقودة. ولطالما كنت أفحص هذه القوائم بعناية فائقة. ولكني لم أعثر على أي وصف يتوافق مع القطع التي عرضتها عليَّ الأرملة تشيشول. ورغم ذلك، كنت لا أزال مترددًا. وجعلت شغلي الشاغل أن أعرف مَن تكون الأرملة تشيشول. نعم — أصدقكم القول — سمعتها سيئة للغاية. وسمعة منزلها سيئة وشريرة. لا، إنها ليست حسنة السمعة. وعندما عادت مجددًا بعد ثلاثة أيام، سألتها صراحةً عن كيفية حصولها على هذه الأشياء القيمة للغاية. وفسَّرت لي الأمر. ثمة سيدات نبيلات يرغبن من وقت لآخر في بيع بعض من مجوهراتهن دون أن يعرف أحد. وتحصل هي على عمولة صغيرة مقابل تلبية رغباتهن. وكان هذا التفسير واقعيًّا تمامًا. هؤلاء النساء النبيلات لهن شئون خاصة. وأنا من جانبي لدي تجارتي.»

figure
ماطل السيد بوشيت في حذر: «لا أعرف إن كنت سأتمكن من بيع هذا العِقد أم لا. عودي بعد ثلاثة أيام.»

ابتسم السيد دومينيك بوشيت. وكان السلوك الذي اتبعه على قدر كبير من الصراحة والأمانة. كان تاجرًا أمينًا يعمل وفقًا للقانون، ويتحمل حصته من عبء الضرائب القومية الكبير عن طريق المواظبة على إتمام صفقات تجارية ناجحة.

قال بوشيت: «لذا وضعت شكوكي الضعيفة تلك في جيبي ومعها تلك المجوهرات القيمة. ولكن حدث أمر ما. ربما اعتقدتُ أن تعليمات الشرطة في نهاية الخطاب مبالغ فيها. لا أعرف. ربما كان يجدر بي أن أضع لها معنًى أشمل. يجدر بك أن تخبرني أين أخطأت.» قالها مُوجِّهًا ابتسامةً عريضة نحو وجه هانو الجامد. كان تاجرًا يقظ الضمير يتوق لأن تُصحح له أخطاؤه إن كان قد فسَّر فحوى توصيات السلطات بطريقة حرفية بإفراط.

قال هانو بجفاف: «سأخبرك.»

قال بوشيت بامتنان: «سيكون هذا كرمًا منك. حسنًا، أحضرت الأرملة تشيشول لي خاتمًا مرصعًا بزمردة كبيرة جميلة للغاية، من بين أحجار أخرى لامعة غير ذات قيمة تُذكر. كنت أرى أن هذه الزمردة خالية من العيوب تمامًا، وعليكم أن تعرفوا أيها السادة أنه من الصعب للغاية العثور على زمردة خالية من العيوب. كانت زمردةً ذات لون أخضر داكن نقي، وكان في داخلها لون ممتزج به وكأن شعلةً تحترق في داخلها. كان حجرًا يخص أميرًا هنديًّا. كان، على ما أعتقد، هديةً من أمير هندي.»

وفجأة، قفز هانو من مقعده واقفًا بعد أن ظلَّ جالسًا دون حراك وكأنه مومياء مسندًا يديه على ذراعي مقعده، وأخذ يُحدِّق في وجه تاجر المجوهرات.

وقال بصوت مختنق: «هدية إلى جين كوريسو؟»

«أظن ذلك. أعتقد أن هذه الشابة كانت موجودةً في بوردو في أوائل فصل الصيف.»

كانت جين كوريسو واحدةً من تلك النجمات الشقراوات اللاتي يتألَّقن طَوال موسم كامل في سماء منتصف الليل. ربما تمكَّنتُ من رؤية إحداهن في بوردو إن كنت محظوظًا، ولكن من المؤكَّد أنك تستطيع رؤيتهن في أبهى صورهن من دوفيل عبر باريس إلى مونت كارلو. إذا ما كنت في واحدة من أماكن الرؤية الشهيرة تلك، فسوف تراهن وهن يرتبطن بتابعين جدد بينما يتمايلن وينطلقن ويُثرن الشغب ويُحْدِثن قدرًا كبيرًا من الاضطرابات بين النجوم الرزينة. وفي نهاية المطاف، يصطدمن بالقمر الذي لطالما كن يردن الاصطدام به، أو الأرض أو المريخ، ويدرن حول أنفسهن إلى أعماق الظلام، ويدخلن إلى أحد متاجر الرهونات حاملات أجزاءً من شعلاتهن لبيعها. انفصلت جين كوريسو عن أميرها الشرقي منذ نحو ستة أشهر. واختفت من على وجه البسيطة إلى ركن مظلم من العالم لا يعلمه أحد، ولم يهتم به أحد. فهناك نجوم لامعة أخرى تنبض بحيوية الشباب تحاول جذب الأنظار بانحناءاتهن ورقصاتهن. كانت جين كوريسو «واحدةً من تلك النساء»، مراعاةً للأدب، ولكن ولَّت أيامها.

الأمر الذي كان يعرفه السيد ريكاردو جيدًا؛ فقد كان خبيرًا بأمور الحياة. كان يعرف أنه من الطبيعي أن تبدأ ببيع قطع من مجوهراتها هنا وهناك. ما لم يفهمه ريكاردو هو السبب الذي جعل هانو يهتم بهذا الأمر الذي يحدث بصورة يومية. وها هو ذا ذاهل بسبب كشف مفاجئ، ويبدو مريعًا، نعم، ويبدو خائفًا أيضًا. عاد هانو يجلس على مقعده مجددًا ببطء.

وقال: «ماذا بعد؟»

واصل بوشيت حديثه قائلًا: «حسنًا. أنا لم آخذ هذه الزمردة. لم أعرض سعرًا لها. لا. وقلت للأرملة تشيشول: «أحضريها لي بعد ثلاثة أيام.» لم أكن أعرف أن هذا الخاتم موجود في قائمة الأشياء المفقودة. ولكنه كان كذلك. نعم يا سيد هانو، لقد أخرجت القائمة من خزنتي بمجرد أن خرجت الأرملة، ووجدته في القائمة.»

قال هانو: «ولكنك لم تُبلغ الشرطة.»

«آه!»

قرَّب دومينيك بوشيت مقعده من مقعد هانو قليلًا. والتفت نحوه وهو يبتسم بثقة وبراءة.

وقال: «ها أنا ذا أُرحِّب بنصائحك. إنني أقرأ رسائل الشرطة بعناية شديدة. وهي واضحة تمامًا. يجب إخطار مخفر الشرطة فور أن تُصبح أي من هذه القطع في حوزتي. هذا نَص الكلمات. ولكن هذا الخاتم لم يدخل في حوزتي. ولم يحدث ذلك قط. فقد رفضت شراءه بعد ثلاثة أيام. ربما كان يجدر بي أن أُضفي معنًى أكثر شمولًا على هذه العبارة. لا أعرف. لقد قلت لنفسي مبررًا: «إن الشرطة تعرف ما تريد. ومن أكون أنا لأعرف أكثر منهم؟» والآن عليك أن تخبرني إذا كنت مصيبًا أم مخطئًا.» واضطجع بوشيت في جلسته ولا يزال يبدو بريئًا ومبتسمًا.

ولكن نحَّى هانو السؤال جانبًا. وطرح سؤالًا آخر بدلًا منه: «متى عرضَت عليك تلك المرأة المدعوة تشيشول الخاتم؟»

«أمهلني لحظة!»

أخرج بوشيت مفكرةً صغيرة من جيب صدريته وطالعها، ثم قال: «كان هذا في الثاني من يونيو. يمكنني أن أتذكَّر التاريخ. فقد كنت مدعوًّا إلى مأدبة غداء مهمة مع شركائي في «شابون فين». وصلت الأرملة تشيشول في العاشرة من تلك الليلة.»

رفع هانو حاجبيه، وقال: «إنها ساعة متأخرة لتبقى في مكتبك يا سيد بوشيت.»

ظهرت لمحة خاطفة من عدم الارتياح على وجه دومينيك بوشيت، ثم قال: «لقد جاءت إلى شقتي وليس إلى مكتبي.»

كان هذا الاعتراف كافيًا بالنسبة إلى هانو. وتقبَّله. ربما ألقى بشبهة مقيتة على العلاقة بين الأرملة تشيشول ودومينيك بوشيت تاجر المجوهرات. لقد أحضرت الأرملة تشيشول بضاعتها تحت ستار الليل؛ نعم! وصمت دومينيك عندما عُرضت عليه البضاعة التي كان يدرك أن شراءها يُعد تهورًا؛ نعم! يجب التفكير في هذه المسائل غير المهمة في وقتٍ لاحق. أما الآن، فثمة حاجة مُلِحة للاهتمام بجويس ويبل التي يجب العثور عليها مخبوءةً في مكان ما تحت كل هذه الفوضى من الجريمة والخداع.

«ومن ثم، رفضت شراء زمردة جين كوريسو يا سيد بوشيت. نعم، أعرف ذلك. وأصبحت حذرًا للغاية، منذ تلك اللحظة فصاعدًا، عند التعامل مع الأرملة تشيشول. ولكنك اشتريت عِقد إيفيلين ديفينيش.»

«نعم!» انتهى السيد بوشيت من تبريراته بزفرة راحة تشبه كما لو كان سبَّاحًا انتهى من الغوص في مياه عميقة، ثم قال: «لم تكن الشرطة مهتمةً بهذا العِقد. وتأكَّدت من ذلك. ولم يرد على أي قائمة. ولكني كنت أعرف أن السيد دينيس بلاكيت سيدفع بسخاء مقابل الحصول عليه. فاشتريته.» ثم هبَّ من مقعده، وقال: «وأرجو أن يُشرِّفني السيد دينيس بلاكيت غدًا لتحديد السعر المناسب.»

أخذ العِقد من على الطاولة من أمام دينيس بلاكيت، وتأرجح العِقد في يده ولمع ثم اختفى داخل علبته، كما لو كان ثعبانًا يختفي بين الشجيرات، وكان على وشك أن يعيد العلبة إلى داخل الحقيبة عندما مد هانو يده.

«سأصادر هذا العِقد. وسأعطيك إيصالًا مقابله. وثمة شهود حاضرون سيشهدون أني أخذته.»

ثم خط بعض الكلمات سريعًا على ورقة على طاولة الكتابة، ووقَّعها باسمه وأعطى الورقة إلى بوشيت.

ثم قال: «والآن، أريد منك أن تخبرني بعنوان الأرملة تشيشول.»

أطرق السيد بوشيت مفكرًا. ولم يكن ثمة أدنى شك لدى أي من الحاضرين في أنه يُفكِّر. هل سيكون من الحكمة أن ينكر معرفته بعنوان تلك المرأة العجوز؟ هل يمكنه أن يقول: «لقد كنت أراعي جيدًا باعتباري تاجرًا أن أُبدي اهتمامًا ضئيلًا للغاية بوضعها ومحيطها.» ويُقنع الحاضرين بهذا الدفع؟ بوجه عام؛ لا، بالطبع لا!

فردَّ وهو يهز كتفيه: «هذه المرأة لا تسكن أيًّا من شوارعنا الراقية.»

قال هانو: «أنا واثق بذلك.»

«إنها تسكن شارع جريجوار.»

سأله هانو وهو يُدوِّن الاسم: «وأين شارع جريجوار؟»

قال دومينيك بوشيت وهو يُشير إلى النافذة المطلة على كور دو لينتندانس: «إنه هناك. ناحية الشرق من هنا. إنه يوجد ضمن أبرشية سان ميشيل. إنه يبدأ عند ميدان صغير في هذه الأبرشية، وهو شارع طويل وضيق ومظلم يمتد حتى أرصفة الميناء.»

لم يتمكن السيد ريكاردو من كبح جماح نفسه أكثر من ذلك. أبرشية سان ميشيل؟ حسنًا إذن! إن شارع جريجوار قريب من كهف المومياوات.

فصاح مخاطبًا بوشيت: «هل اشتريت العِقد يوم الإثنين من الأسبوع الماضي؟ اليوم الجمعة. هل اشتريت هذا العِقد منذ ١١ يومًا؟»

رد دومينيك بوشيت:

«أمهلني لحظة!» وطالع مفكرته مرةً أخرى. في خضم انفعاله، بدا للسيد ريكاردو مشهد الكتاب الصغير بين الأصابع العريضة للصائغ متناقضًا وسخيفًا.

رد دومينيك وهو يرمق المشارك الجديد في الحوار في ترقب ويحاول تخمين السبب في أن هذا التاريخ يجعله ينفعل هكذا: «لقد كتبت ملحوظة؛ نعم. رأيته للمرة الأولى يوم جمعة. واشتريته يوم الإثنين؛ منذ ١١ يومًا.» ولكن لم يرفع السيد ريكاردو عينَيه عن وجه هانو. لقد ظهرت حلقة أخرى من السلسلة أمام ناظريه.

وصاح: «هل تذكر؟ لقد رأيت إيفيلين ديفينيش عند برج سان ميشيل في عصر ذلك اليوم. لقد سلَّمت عِقدها إلى الأرملة تشيشول في شارع جريجوار. وكانت في طريق عودتها …»

قاطعه هانو بإيماءة من رأسه، وقال مُكرِّرًا: «كانت في طريق عودتها، فقد دُفع ثمنه، أليس كذلك؟ ثم زارت كهف المومياوات. ثم أطلقت هذه التنهيدة العميقة توقًا لأن تعود الأيام حينما كان الناس يُعاقبون بمثل هذه القسوة … أليس كذلك؟ هل هذا ما حدث حقيقةً في نهاية المطاف؟» … ونظر عبر الطاولة وعيناه تتقدان غضبًا وسط جمجمته الضخمة، ووجهه شاحب من الخوف. وقال: «هل دُفع مقابل عودة هذه الأيام مجددًا؟ … ولكن … نعم، ولكن حينئذٍ …!»

تمكَّن السيد ريكاردو من استكمال الجملة المبتورة. ولكن حينئذٍ … كانت إيفيلين ديفينيش هي من هلكت. هل دبَّرت عقاب جويس ويبل ودفعت مقابله؟ هل كانت تلك النظرات الحقود في غرفة استقبال سوفلاك تعني أن التنفيذ وشيك … ولكن حينئذٍ … كانت إيفيلين ديفينيش ذات اليد المقطوعة هي الضحية؛ ضحية انتقام سادي.

كان دومينيك بوشيت طَوال تلك المدة يداعب لحيته البنية بعصبية، ويُحدِّق من وقت لآخر في رفاقه الجالسين حول الطاولة. كانت ثمة أسئلة مطروحة في تلك اللحظة تمنَّى من أعماق قلبه ألَّا تكون له أي علاقة بها. فنهض واقفًا.

وقال: «هل يمكنني أن أنصرف الآن؟ هناك عمل ينتظرني. ويجب أن أُغلق مكتبي.»

نظر هانو نحوه بود أكبر ممَّا توقعه ريكاردو. كما كان هناك شبح ابتسامة على شفتَيه.

قال: «نعم. في نهاية المطاف، أنت لم تُصعِّب الأمور علي. ربما عارضتني وقلت إنك لن تفصح عن شيء إلا أمام قاضي التحقيق وفي حضور مستشارك القانوني. سأضع ذلك في الاعتبار لصالحك. وبالطبع، كان يجدر بك أن تبلغ الشرطة بمجرد أن عُرض حجر الزمرد القيم عليك. ولكن، نعم، الحياة صعبة والضرائب باهظة. هيا، اذهب!»

لم يكن تلميذ يغادر صفه عند انتهاء الدوام ليختفي بهذه السرعة التي أظهرها دومينيك بوشيت.

قال هانو مبتسمًا: «يا للمسكين! لقد صدمناه! إنه سيتبع التعليمات حرفيًّا بعد ذلك. لنعد الآن إلى عملنا.» ثم رفع صوته ليصيح: «مورو!»

وعلى الفور، ظهر مورو — الذي كان يقف حارسًا خارج الباب — داخل الغرفة وكأنه جني من إحدى الحكايات العربية.

قال هانو وهو يُدوِّن شيئًا على الورق بسرعة: «الأرملة تشيشول تسكن شارع جريجوار. هل معك جندي؟ نعم. ستُرسله بالخطوة السريعة إلى السيد المحافظ ليوصل هذه الرسالة. يجب مراقبة منزل الأرملة تشيشول بحذر ودون لفت الأنظار من الآن فصاعدًا؛ ضع رجلًا عند نهاية الشارع عند رصيف الميناء، ورجلًا آخر في الميدان الصغير عند بداية الشارع، وثالثًا عند المنزل نفسه. ثم نصِّب رجلًا كفُؤًا كي يشرف عليهم. يجب ألا يُقْدم أي منهم على أي تصرف، إلا عند الضرورة. ولكن يجب إخباري على الفور إذا ما دخل المنزل أي زوار.»

أغلق مظروف الرسالة وأعطاها إلى مورو. ثم التفت نحو دينيس بلاكيت.

وقال: «جزيل الشكر لك يا سيدي. سنفعل ما يمكننا فعله. وخلال ذلك، هل ستظل في بوردو؟»

قال دينيس بلاكيت: «نعم، سأظل هنا.»

«حسنًا! وأنت يا سيد ريكاردو، أرجو منك أن تقبل دعوتي لك على العشاء الآن في فندقي المتواضع. إنه ليس أنيقًا مثل هذا الفندق، ولكنهم يقدمون طعامًا جيدًا، وعندما يكون هناك عمل كثير على المرء أن يؤديه، فمن الحكمة أن يأكل جيدًا قبل أن يبدأ.»

كانت ثمة نبرة حماسة في صوته، وحملت عيناه تلك النظرة اللامعة الغريبة والقاسية التي تلوح في أعين كلاب الصيد عندما ترى بندقية. كان يبدو مثلما رآه ريكاردو ٢٠ مرةً سابقة عندما تبدأ أجزاء اللغز تتضح ولا يحتاج الأمر إلا إلى عين مدققة لترى الصورة الكاملة. الأمر باختصار أن هانو كان في تلك الحال المزاجية التي تتطلَّب من أي من أصدقائه المخلصين أن يُقَوِّموه، ولم يكن السيد ريكاردو ليتهرَّب من هذه المهمة.

فقال: «هناك أمر علينا فعله قبل أن نذهب إلى العشاء يا صديقي. أنا لا أتهمك بالإهمال. لا، هناك الكثير من التفاصيل لتفكر فيها. ومن المحتم أن تُهمَل بعض الإجراءات الاحترازية المهمة من وقتٍ لآخر.»

تغيَّرت تعبيرات وجه هانو، واختفت الثقة من أسلوبه، وتهدَّج صوته من فرط القلق، وصاح في يأس: «هل هناك إجراء احترازي أهملته؟» بدا وكأنه سيقتلع شعره من جذوره. وقال: «أخبرني أنا تابعك الذليل.»

ابتسم السيد ريكاردو في سماحة.

وقال: «لا حاجة إلى أي أفعال بطولية. يمكن تدارك هذا النسيان الليلة. يمكن لأي إنسان أن ينسى. أتحدث بالطبع عن قبطان الزورق وطاقمه الذين غادروا المرفأ الصغير في سوفلاك في عكس اتجاه المد قبل ساعاتٍ من موعد الانطلاق المحدد.»

figure
تلقَّى القبطان عقابًا قاسيًا في بوردو!

حلت خيبة الأمل محل الرغبة الصادقة في تصحيح الخطأ على وجه هانو. وهز رأسه مؤنبًا. وتحدث بنبرة ملؤها الإحباط. وقال: «صديقي العزيز، هل كنت تقصد موضوع الزورق فحسب؟ ولكن بالطبع … بالطبع … إن قبطان الزورق وابنيه محبوسون في زنازين منفصلة منذ وصولهم إلى بوردو ليلة أمس. إنهم لن يتمكنوا من الإبحار بقارب لو بوتي موس في حديقة البلدية عصر الأحد. هل ستأتي معي؟»

بدا الخجل الشديد على وجه السيد ريكاردو الذي تواضعت نبرة صوته.

وقال: «نعم، أمهلني لحظة» كان قد تأثر بعبارة دومينيك بوشيت المفضلة «أمهلني لحظةً لأغسل يدي.»

رد هانو: «بل لحظتين، وعليك أن تستدعي سيارتك. أنا رجل متغطرس. نعم. أُفضِّل ركوب سيارة رولز رويس. كما أنها تتحرك بسرعة من دون أن تشعر بأنها تتحرك بسرعة وسنتحرك بسرعة إلى مكان بعيد الليلة!»

كان ثمة حماس في صوت هانو، ولمعان في عينَيه بدَّدا على الفور استياء السيد ريكاردو. كان شديد الحساسية فيما يتعلَّق بموضوع الزورق. وشعر بالإهانة أن هانو تذكَّر أن يقبض على طاقمه. كان الزورق هو إسهامه في كشف غموض القضية، وشعر بالاستياء من أن الإسهام قدَّمه شخص آخر. ولكن من الواضح أن هانو كان في حالة ترقب. كان بصدد قلب الطاولة على الجميع. لقد حدَّد أعداءه. كان يُفترض أن يكون سريعًا ورهيبًا.

صاح ريكاردو متحمسًا: «على الفور.» وعدا نحو الباب واستدعى سيارته وعاد عدوًا أيضًا. وقال: «الرولز رويس جاهزة. يمكنك أن تُوجِّه الأوامر لسائقي. ستكون السيارة تحت تصرفك. سنتحرك بسرعة إلى مكان بعيد الليلة!»

رد هانو: «ولكن ليس على الفور يا صديقي. في خلال ساعة ونصف الساعة في فندق العصفور الذهبي. وحتى عندما يحين ذلك الموعد، سيظل ينتظر قليلًا. لهذا السبب، علينا أن نتصرف بطريقة مختلفة عن دومينيك بوشيت. إننا لن نُغلِق مكاتبنا الليلة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥