الحقيقة الصادمة عن الأرملة تشيشول
ظلوا واقفين صامتين لبضع لحظات، وكانوا يسترقون السمع، ويحبسون أنفاسهم. ولكن لم يسمعوا أي صوت آتٍ من أي اتجاه. لم يُسمَع حتى صوت خطوات أقدام على الأرضية. ولا حتى صرير لوح خشبي أو باب في هذا المنزل العتيق. ربما كانوا يقفون معًا داخل سرداب موتى على عمق ١٠٠ متر تحت الأرض. ثم شق شعاع رفيع من ضوء ذهبي الظلام مجددًا وسقط على جدار مغطًّى بالعفن وسقف فَقَدَ لونه، وسار في خط مستقيم بعد ذلك ليسقط على باب بعيد. تحرك هانو إلى الأمام ليدخل دائرة الضوء ويفتح هذا الباب برفق دون أن يُصدر صوتًا. وفتحه بما يكفي لأن يمر بجسده منه. وتبعه الآخرون؛ كان السيد ريكاردو يشعر برعدة خوف لذيذة تسري في عموده الفقري. لم يكن ليستبدل لحظةً أخرى في حياته أيًّا كانت بهذه اللحظة. كان منهمكًا في تمثيل دوره بتركيز شديد، لدرجة أنه لولا خشيته من هانو، لكان أمسك بزمام القيادة وأصدر الأوامر بصوت عالٍ. وكان يتفرج على نفسه أيضًا. تخيَّل نفسه يجلس بين المقاعد ويُبدي إعجابه بأدائه. وفكَّر في نفسه قائلًا: «أتعرف أعظم ممثلي العالم؟! تبًّا لهم جميعًا!» كان قد رآهم والتقاهم — كان قد رآهم أكثر مما التقاهم، لتحري الدقة — ولم يبهره أي شيء بهم على الإطلاق. مَن منهم تسلل تحت ستار الليل مع رجال شرطة بملابس مدنية إلى منزل امرأة سيئة السمعة ليبحث عن؛ حسنًا، عن ماذا؟ ثم وقف في مكانه، وطرح على نفسه هذا السؤال. هل من المعقول أن تكون الأرملة تشيشول هي المجرمة؟ لا ريب في ذلك، فالطوق الأمني حول سوفلاك محكم للغاية، ولا يمكن لأحد اختراقه. ولكن في نهاية المطاف؛ هل من الممكن أن تكون الأرملة تشيشول؟ هل جميع هذه الاحتياطات ضرورية؟
أمسك هانو بالمصباح اليدوي في يده، وبدأ يستكشف به هذا البهو الداخلي. ولكن كان أقرب إلى الرواق من البهو؛ فقد كانت في نهايته نافذة، وبابان على اليسار، ودرج عريض على اليمين، وبالقرب من قاعدة الدرج يوجد باب آخر مغطًّى بالجوخ الأخضر المُهلهَل. لم يُسمع أي صوت من خلف الأبواب الثلاثة، ولم يتسرَّب أي ضوء من تحت عتباتهم. فتح هانو البابين على اليسار ليتأكد من أمانهما. كانت الغرفتان تطلان على شارع جريجوار، ولكنهما كانتا مغلقتين وخاليتين. كانت إحداهما مفروشةً بأثاث غرفة جلوس رخيص، وكانت الأخرى مجرد مكان يحتوي على خزانات وأرضية عارية. بعد ذلك، وقف لوهلة ينظر إلى أعلى عبر الدرج ويُنصت بكل جوارحه، كما بدا حينئذٍ. ولكن كانت الطوابق العليا صامتةً مثل البهو الذي يقفون فيه. خيَّم صمت قاتل على المنزل كله.
قادهم الباب المكسو بالجوخ الأخضر إلى المكاتب والمطبخ، وهناك بدءوا يرون علامات الحياة؛ فقد كانت هناك ساعة تدق معلقةً على الجدار ورأوا في الموقد ضوءًا أحمر خافتًا لنار خابية.
قال هانو: «هناك أقبية كثيرة جيدة لهذا المنزل العتيق»، ورغم أنه كان يتحدث بصوتٍ خافت هادئ، بدا الصوت لحواس ريكاردو المتوترة عاليًا بما يكفي لإيقاظ البلدة بأكملها.
وصل في نهاية الرواق إلى دَرَج حجري ضيق يلتف هبوطًا إلى الظلام. حنى هانو رأسه ثم أدراه وهزه في إيماءة إلى رفاقه. بدا وجه هانو شاحبًا ومرتعبًا في ضوء المصباح اليدوي الذي يمسكه، وقفز الخوف من وجهه ليغزو وجوه جميع المحيطين به. شعروا جميعًا للحظات بصدمة نتجت عن شعور عارم بالفشل.
همس هانو: «ولكن يجب أن يكون هنا! يجب أن يكون هنا!»
لم يعارضه أحد، وكذلك لم يوافقه أحد. بل وتقارب الرجال بعضهم من بعض قليلًا كما يفعل الناس عادةً في مواجهة كارثة محقَّقة. تسبَّبت هذه الحركة اليسيرة في انتزاع الذعر من وجه هانو. ورفع رأسه في تحدٍّ.
وقال بعناد: «يا إلهي، ولكن كان من المفترض أن يكون هنا!»
وبثلاث إشارات خاطفة من يده، أمر اثنين من رجاله ومعهما ريكاردو بالبقاء حيث يقفون، وأمر الباقين بأن يتبعوه. وهبط هو أيضًا نحو الأسفل، ولكنه كان لا يزال في نطاق رؤيتهم عندما صدرت من تحت أقدامهم، من مكان قريب للغاية، على ما يبدو، صرخة حادة بدَّدت الصمت.
تملَّك السيدَ ريكاردو الفزع. واستحوذ الذعر على قلبه. وتراجع إلى الخلف ليستند إلى الجدار وهو يلهث. ولكنه كان مندهشًا بقدر فزعه نفسه. فقد كانت عيناه مثبتتين على وجه هانو ورأى الارتياح والظفر باديين على قسماته. استغرق الأمر بضع لحظات ليربط هذا التعبير بصرخة الرعب الرهيبة التي اعتقد أنها لو انطلقت من حلق إنسان، فلن يظل على قيد الحياة بعدها. ثم فهم ما حدث. لقد وصل هانو في الوقت المناسب، وكان هانو محقًّا.
سمع بابًا ثقيلًا يُصفق بعنف، وشعر وكأنه قد رجَّ المنزل أجمعه. ورأى هانو يقفز. ومن خلف هانو، بدأت المجموعة بالكامل تُصدر جلبةً وترتجف، ريكاردو والرجلان اللذان أُمرا بالبقاء معه، وكذلك بقية الرجال.
صاح السيد ريكاردو في إشارة غامضة لأبطال قوميين آخرين: «أعتقد أنه حان وقت عصيان الأوامر»؛ ثم سمعوا هانو يصيح بصوت رنان: «انتبهوا!»
وصل إليه التحذير في الوقت المناسب. فتوقف فجأةً عند حافة هوة في أرضية القبو، وتمكَّن بالكاد من استعادة توازنه. استعاد توازنه ليرى خطًّا من الضوء يتسلَّل من تحت عتبة باب عند الجانب الآخر من القبو وهو يختفي فجأة وليسمع صوت مصباح ثقيل يتحطَّم على الأرض. وقبل أن يتوقف صدى الصوت عن التردد، كان هانو قد وصل إلى الباب. كان الباب مصنوعًا من خشب سميك صلد. هزَّه هانو، ولكنه كان مقفلًا بالمزلاج. ولكن كانت ثمة فتحة عند مستوى العين لتهوية القبو في الداخل. وفتحها هانو عَنوة. ولثانية، سقط ضوء مصباحه اليدوي، الذي كان يمسك به في يده اليسرى، على الجدار والسقف والأرضية. ثم أدخل يده اليمنى في جيبه، وأخرجها وشيء يلمع فيها — فُوهة مسدس — وأدخل تلك اليد أيضًا داخل الفتحة.
وصاح قائلًا: «ساعدوني ثلاثتكم. هيا!» ثم تحدث مخاطبًا الرجال من خلفه. وقال: «أريد مصباحًا! أسرعوا!» اشتعل عود ثقاب، وأُضيء مصباح. «والآن، أيتها الأرملة تشيشول، افتحي الباب!»
مرَّت لحظة صمت، ثم سُمع صوت حفيف قدمين ترتديان خفًّا منزليًّا على بلاطات الأرضية. صاح هانو آمرًا: «يداك حيث أراهما يا أمي، حتى تصلين إلى الباب! هكذا أفضل!»
سحب المسدس خارج الفتحة مع اقتراب المرأة من الباب حتى لا تتمكَّن من خطفه من يده، ثم سُحب المزلاج بصعوبة خارج تجويفه، وانفتح الباب. دلف هانو عبر عتبة الباب وعلَّق المصباح على مسمار. وقف هانو في قبو مربع صغير طُليت جدرانه بالجص الذي كان مقشرًا عن جدران القرميد، ولم يكن الهواء يدخله إلا عبر الفتحة ومن تحت عتبة الباب. وعلى الفور، كنت تشعر بجو المكان الخانق ورطوبته اللزجة المزعجة. إذا ما أوصدت ذلك الباب الثقيل، وأغلقت تلك الفتحة بسرعة، لتحوَّل المكان إلى زنزانة مظلمة كالليل نفسه. تراجعت المرأة التي فتحت مزلاج الباب إلى ركن على يمين الباب، ورقدت على الأرض متكوِّمةً مع رفاقها. كان هناك ثلاثة منهم، جميعهن من النساء؛ شابة ذات وجه متجهِّم وشعر أسود فاحم كانت ترقد على الأرض، وامرأة في منتصف العمر ضخمة وعريضة وقوية مثل الرجال، وكانت يداها مغطاتين بالطين، ثم الأرملة تشيشول نفسها، وكانت امرأةً قبيحة ذات عينين غائرتين عميقًا داخل وجهها الملطَّخ ببقع سوداء كما لو أن جسدها قد بدأ يتعفَّن قبل أن تموت. على الرغم من أنها كانت ترتدي خفًّا منزليًّا، فقد كانت ترتدي فستانًا قديمًا من الحرير الأسود، مثلما يجدر ﺑ «سيدة» هذا المنزل أن ترتدي، وعلى الرغم من رثاثته، وأطرافه المهترئة والخرز القديم الذي يزينه، أضاف إلى هذا المشهد تنافرًا كابوسيًّا.
قالت المرأة منتحبة: «أنا لم أوذها يا سيدي. يمكنك أن ترى ذلك بنفسك.»
«إنك لم تؤذها حقًّا! لقد أعطيتها صالونًا جميلًا لترتاح فيه بينما تُجهَّز غرفتها المجاورة، أليس كذلك أيتها الأرملة؟» قالها هانو بسخرية لاذعة، وانكمشت المرأة العجوز أمامه وهي تُتمتم بأعذار ووعود.
وقالت: «هناك أناس آخرون في مراكز عالية في العالم يستحقون أن يُوجَّه إليهم اللوم أكثر مني. اسمعني جيدًا! أنا امرأة فقيرة وجاهلة؛ ماذا يجدر بي أن أفعل عندما يُوجِّه لي هؤلاء العظماء أمرًا ويرهبونني؟ أوه، يجدر بي أن أُخبرك بمن يكونون … سأخبرك بالطبع … إنهم أشرار، صدقني»؛ قاطعتها صيحة من هانو.
قال وهو يبسط ذراعيه عن آخرهما: «وما هذا؟» رأى السيد ريكاردو من فوق كتف هانو أنشوطةً مربوطة بحبل قصير تتدلى من خُطاف مغروز في السقف المنخفض حيث كان المصباح معلقًا. «هذا العِقد الجميل يتوافق مع الصالون تمامًا! إنه هدية من فتاة طيبة، أليس كذلك أيتها الأرملة؟ سيدي!» قالها وهو يلتفت نحو رجل يقف عند عتبة الباب ينظر ويبدو عليه أنه الأعلى سلطةً بين المجموعة. «هؤلاء الحيوانات رهن إشارتك.»
دخل الرجل واثنان من مساعديه إلى القبو، وأحاطوا بالنساء الثلاث، وأصبح الركن المقابل للباب مرئيًّا بالنسبة إلى السيد ريكاردو، وفي هذا الركن، عند أبعد نقطة عن الأرملة تشيشول ورفيقتيها، كانت تقف جويس ويبل ملتصقةً بالجدار.
وكان مظهرها غريبًا لدرجة أن السيد ريكاردو خرج من دهشة ليدخل إلى أخرى. هل يقف على رأسه أم على عقبيه؟ كان العالم بأسره يبدو له مقلوبًا رأسًا على عقب. والحقيقة الغريبة المتعلِّقة بترك جويس ويبل لفستانها اللامع ليلة اختفائها أصبحت الآن قابلةً للتفسير. ولكنها أصبحت قابلةً للتفسير بفضل ملابسات غير قابلة للتفسير. كانت جويس ترتدي في هذه اللحظة ما بدا للسيد ريكاردو وكأنه بدلة صبي أنيقة من المخمل الأسود، وسروال يصل إلى ركبتيها، وجورب من الحرير الأسود. ولا ريب أن الحذاء المصنوع من الساتان الأسود الذي في قدميها يخصها؛ أكَّدت آثار الأقدام في سوفلاك ذلك. ولكن، لم يتمكَّن السيد ريكاردو من فهم ما تعنيه تلك الملابس. وكي تزيد من جمال ملابسها، كانت ترتدي فوق البدلة المخملية سترةً قصيرة بلون قرمزي لافت. كانت السترة بلا أكمام ومكشوفة الكتفين لكي تُلبس من فوق الرأس مثل قميص بلا أزرار، وكانت تصل بالكاد إلى خصرها. سترة قصيرة مثل تلك التي كان الخدم يرتدونها في العصور الوسطى — نعم، هكذا كانت — أو ربما كانت رداءً كهنوتيًّا قرمزي اللون.
بدأ السيد ريكاردو يحادث نفسه قائلًا: «جميع ملابسها غريبة.» ولكنه نظر إلى وجه جويس ويبل، وزحفت عليه لمحة من الشفقة والرعب أنسته كل شيء إلا شدة محنتها. كانت عيناها الذاهلتان من فرط الرعب تلمعان وسط وجهها الشاحب الدائم الاختلاج. كانت ترتجف لدرجةٍ بدا معها أن قدرتها على الوقوف أمر إعجازي، وبشعرها الأشعث وملابسها الملطَّخة بالجص والتراب، ظلَّت تنقل عينيها من وجه إلى وجه في ارتياع. ولكن أشرقت عيناها عندما سقطتا على ريكاردو. فقد كان الشخص الوحيد ضمن هذه المجموعة الذي رأته من قبل، وظلت عيناها تنظران إليه وصارعت معرفتها به شكَّها في هُويته وسيطرت عليها تدريجيًّا.
قالت بصوت مبحوح وأجشَّ بسبب حلقها الجاف من العطش، فحتى لو صرخت بصوتٍ عالٍ لكانت غمغمة من أي من الحضور لتغطي صرختها: «هذا أنت! أنت!» مدَّت يديها نحوه فجأةً، ورأى أنهما كانتا مُكبَّلتين معًا عند الرسغ.
قالت متوسلة: «أزلهما عن يدي»، وهزت ذراعيها حتى تصدر حلقات السلسلة صليلًا. وقالت: «أرجوك! أسرع! وإلا فسأموت من الخوف.»

ولكن كان هانو قد وصل إلى جوارها حقًّا. وقال: «تشجَّعي يا آنسة! انظري، قُضي الأمر! لقد تحرَّرت!»
همست قائلةً وهي تُبعد يديها إحداهما عن الأخرى وتضمهما ثم تبعدهما مجددًا غير مصدقة أنها تحررت: «نعم. نعم، لقد تحررت.»
نقل هانو بصره منها إلى القيود التي كانت تُكبِّل يديها، ثم قلبها وحنى رأسه إلى أسفل وأومأ لنفسه.
وقال: «مورو! انظر هنا! وهنا!» كان يشير إلى بعض العلامات على الحديد، وصدر سباب من فم مورو.
وصاح قائلًا: «إنها ملك الدولة. آه! آه! إنها جرأة كبيرة من أولئك الأشخاص.»
قال هانو في هدوء شديد: «ولكن هذا كان متوقعًا. يجب أن نحافظ على تركيزنا! فالقيود لا تنمو على الأشجار. لا، عندما نحتاج إليها لتقييد الشابات الفضوليات، يجب أن نحصل على أفضلها. كان هذا متوقعًا بكل تأكيد يا مورو»، وبينما كان يُسلِّم القيود إلى مساعده، زفرت جويس ويبل وسقطت على الأرض بجانبه متكومة. وقف هانو ينظر إليها، وقال لها زاجرًا: «تشجعي يا آنسة!» وضحكت جويس ويبل بضعفٍ من مكانها على الأرض وقالت:
«من الرائع أن تقول: «تشجعي يا آنسة.» ولكن ماذا يمكن للآنسة أن تفعل يا سيدي، يا صديقي، إذا لم تستطع ساقا الآنسة أن تحملها؟ لا يمكنها إلا أن تجلس على الأرض، تلك الفتاة المسكينة، وتحكي قصصًا حزينة عن موت الملوك»، وخفت صوتها تدريجيًّا حتى اختفى وانحنى كتفاها بينما تزحف على الأرضية. ثم غطَّت وجهها بيديها فجأة، وعلى الفور أصبحت ترتجف من قمة رأسها وحتى أخمص قدمَيها وهي تبكي مثل طفل صغير، وكانت الدموع تنهمر من بين أصابعها.
لم يفهم هانو أيًّا مما قالته جويس ويبل، ولكنه كان يفهم ما تمر به جيدًا. ثم أمر بإحضار ماء بصوت حازم، وعندما أُحضر كوب الماء، ركع على الأرض بجانبها وأحاط كتفيها بذراعه الضخم، ورفع رأسها ووضع الكوب أمام شفتَيها.
تنهدت وهي تشرب الماء قائلة: «أوه!» وأمسكت معصمه وتعلقت به بكلتا يديها سريعًا خوفًا من أن يبعد الكوب عن شفتَيها قبل أن ترتوي.
سألها هانو بعد أن انتهت من الشرب: «هل تريدين المزيد؟» صاحت بصوتٍ أكثر قوة: «أوه، المزيد ثم المزيد»، وبدأت تضحك ولكن بطريقة غير هستيرية، وضحك هانو معها متعاطفًا. كان مورو يحمل دورقًا من الماء، فملأ الكوب مجددًا. وقف هانو أمامها بينما تشرب الماء، وأشار بيده لإخراج السجينات. دُفعت السجينات إلى الخارج بينما لا تزال جويس تشرب، وبعد وهلة أطلقت صرخةً واستندت على ركبتيها وألصقت جسدها بالجدار.
قال هانو: «أنت آمنة يا آنسة.» ولكنها لم تسمعه. كانت عيناها تنظران إلى الباب الذي خرجت منه النساء وإلى القبو المظلم خلفه. ركعت واقفةً على ركبتيها وآذت كتفها بسبب الضغط عليه بعنف إلى الجدار. وارتجفت. وبدا أنها على وشك الإصابة بنوبة ذعر مجددًا.
قال هانو: «لا، لا يا آنسة.» كان يتحدث بأسلوب آمر. أردف: «لم يعد ثمة ما تخافين منه. يجب ألا تخافي من شيء!» ثم وجَّه حديثه إلى مورو: «تأكد من حبس هؤلاء النساء في واحدة من الغرف حتى يحين وقت ذهابنا، وأرسل شخصًا إلى الميدان ليُحضر سيارة السيد ريكاردو.» ثم التفت إلى جويس ويبل مجددًا، وقال: «سأخبرك بما سنفعل. سننقلك في سيارة السيد ريكاردو الفاخرة إلى فندق السيد ريكاردو الفاخر حيث ينتظرك صديق لك …»
سألت جويس مقطِّبةً جبينها في حيرة: «صديق لي؟» ثم صرخت في ذعر: «ليس من …»
قاطعها هانو بنبرة حازمة للغاية: «لا، لا، لا، ليس من قصر سوفلاك. هل تتفضلين بالاستماع لما أقول؟ أنا أتولى أمرك الليلة. أنا رهن إشارتك.»
قال السيد ريكاردو موضحًا: «إنه يقصد مربيتك يا جويس.» وانخرط جميعهم في ضحك بدا سخيفًا ولكنه ينم عن إدراك الحقيقة في الوقت نفسه. كانت جويس ويبل تدرك غريزيًّا أن التمسك بالأمور الصغيرة والهزلية هو السبيل الوحيد لترميم ما أصابها من جراح وهلع خلال هذا اليوم، بينما كان هانو يرى في الضحك وسيلةً لإنقاذها، بشرط ألَّا يتجاوز الحد الفاصل ويتحول إلى نوبة هستيرية. ولكنه لم يكن يعرف يقينًا سبب الضحك. فلم يكن شيء مما قال هو ما أثاره. كان قد استخدم تعبيرًا اصطلاحيًّا مثيرًا للإعجاب في الوقت المناسب. ولكنه كان سعيدًا بأنهم قادرون على الضحك، وشحذ سمعه ليلتقط أول دلالة على حدوث نوبة هستيرية، وظل طَوال الوقت يصنع من كتفه العريضة حائلًا بين الفتاة المكومة على الأرض بملابسها الممزقة، والأداة التي كانت ستُستخدم في قتلها. كانت الأنشوطة والحبل القصير اللذان يتوعدان بعذاب بطيء وتشويه مريع يتدليان من الخطاف في السقف. ولكنهم ظلوا يضحكون تحتهما حتى رنت جدران هذه الغرفة المقيتة تحت الأرض بصوت جذل لم يُسمع من قبل قط. بدا الأمر للسيد ريكاردو وكأن ضحكاتهم تُعيد أشباح الكثير من الجرائم إلى سباتها وتُطهِّر القبو مما فيه من شرور.
قال هانو مخاطبًا الفتاة: «تعالي. سأحملك ما دامت قدماك لا تستطيعان حملك.»
أوقفها على قدميها، ثم حملها بين ذراعيه بسهولة كما لو كان وزنها لا يزيد على وزن طفل رضيع. لم يكن في القبو سوى ثلاثتهم في تلك اللحظة. فقال هانو: «هل تحمل المصباح؟ ستترك هذا القبو على حاله ليفحصه مفوض الشرطة، وستنير لي الطريق بحرص شديد حتى لا أصدم رأس هذه الشابة في الجدران.»
تقدمهما السيد ريكاردو حاملًا المصباح إلى القبو الخارجي. ورأى بوضوح تلك الحفرة التي تفادى الوقوع فيها بالكاد. كانت بعض ألواح الأرضية الخشبية قد أُزيلت، وحُفر خندق ضحل في الطين؛ إنه قبر. وفكَّر أنه إذا كان هانو استسلم لمناشداته في مطعم «العصفور الذهبي»، أو إذا كان استسلم لشكوك نفسه، أو إذا تأخر مورو في الحضور واستدعائهما، أو لم تُصدر صرخةُ الموت المريعة دويًّا من تحت أقدامهم، لأصبح هذا القبر مشغولًا بجثة، وجعلت هذه الفكرة قلبه ينقبض داخل صدره وملأته بِلوعة لا يمكن نسيانها. كان سيصبح شريكًا في هذه الجريمة. ولظل الندم يلاحقه لِمَا تبقَّى من حياته، وامتلأت نفسه بالامتنان لصديقه. وفي تلك اللحظة، ارتسمت ابتسامة على وجهه وهو يرى هانو حاملًا جويس ويبل بين ذراعيه ويجعل تلك الحفرة خلف ظهرها حتى لا تراها. وحقًّا لم ترها أثناء مرورهما من أمامها. كان مدخل الممر المسقوف الضخم مفتوحًا على مصراعيه، وكان هناك حراس يرتدون ملابسهم الرسمية يقفون الآن عند الباب وفي الشارع، وكانت السيارة تقف تحت الممر المسقوف وأنوارها مضاءة. حمل هانو جويس ويبل إلى السيارة ووضع قدميها على مرقاة الصعود إلى السيارة، وساعدها على دخلوها. وأشار إلى أحد الجنود الواقفين في الردهة أن يصعد إلى المقعد المجاور للسائق.
قال وهو يُغلق باب السيارة: «حسنًا! سنُعطِّلك لدقيقة. هل ما زلتِ تشعرين بالخوف؟»
أجابته وهي تبتسم في وجهه عبر نافذة السيارة وتأخذ شهيقًا عميقًا: «لا. ولكن …»
«ما الأمر؟ لا تترددي يا آنسة. إن العالم بأسره رهن إشارتك الليلة.»
«حسنًا إذن! سأطلب منك شيئًا واحدًا. أريد أن أستنشق الهواء الطلق، وأن أشعر به يصطدم بوجهي وعنقي. اختصارًا، هل تأمر بفتح سقف السيارة؟»
زحف على وجه هانو ببطء تعبير سرور حقيقي. وقال: «يا آنسة، سقف هذه السيارة لا ينفتح. إنها سيارة صديقي ريكاردو، وسقفها لا ينفتح. لا. صدقيني. إن الأنواع الأكثر فخامةً من السيارات فقط هي التي ينفتح سقفها. غدًا سأُقلك في سيارتي من نوع فورد، وستجدينها مختلفة.»
استدار ليواجه الردهة ووجَّه ابتسامةً ماكرة إلى السيد ريكاردو. ولكنه تراجع عن هذه الابتسامة بعد لحظة واحدة.
وقال: «هناك ما أريد قوله إلى الأرملة تشيشول. ويجب أن تسمع ما سأقول. سيكون من المثير أن ترى كيفية استقبالها للأمر.»
كان هانو يتحدث ببطء، ويتلذَّذ بكلماته المتباعدة وابتسامة صفراء مرتسمة على وجهه لم يرها السيد ريكاردو على وجهه إلا مرةً أو مرتين فحسب. وفي لحظة من الخيال الجامح، أطلق عليها اسم الضربة القاضية. أسرع عائدًا إلى المنزل متتبعًا خطوات هانو. فقد كان هانو يريده إلى جواره ليريه كم هو بارع في تسديد الضربات. كانت الأوامر قد أُعطيت حقًّا عندما وصل ووُضع مفتاح في مزلاج أحد الأبواب. فتح أحد الحراس باب غرفة الجلوس.
قال هانو: «أنتِ! أيتها الأرملة تشيشول. تعالي هنا!» وخرجت المرأة العجوز ذات الشعر الأبيض والبقع السوداء في وجهها إلى دائرة الضوء ورمشت بعينيها.
وقالت: «هل تريدني أنا يا سيدي؟ نعم؟ أنا رهن إشارتك. لعلك تتذكر أنه لم يلحق بها أي أذًى. ربما شعرَت ببعض الخوف! كان هذا هو كل ما كنا ننوي فعله؛ نعم! لا ريب في أن هذا لم يكن صوابًا ويجب أن نتعرَّض لبعض المعاناة؛ نعم.»
قاطعها هانو برفق: «أنصحك بأن تلتزمي الصمت. احتفظي بمبرراتك لتلقيها على سمع رئيس محكمة الجنايات، ولا ريب لديَّ في أنه سيستمع إليك. أما بالنسبة إليَّ، فثمة تحذير أريد أن أقوله لكِ، وأرجو أن يفيدكِ. لا ريب في أنكِ زُرت في أحد أيام الأحد تلك التحفة الرائعة التي تشتهر بها هذه البلدة: كهف المومياوات.»
قالت الأرملة تشيشول وعيناها مثبتتان بقلق شديد على وجه هانو: «نعم يا سيدي. لقد زرته.»
«حسنًا! أثناء أبحاث أجريتها اليوم في بوردو، صادفت حقيقةً مفزعة أثق بأنها ستهمك. هذا المنزل يا تشيشول» ورنَّ صوته في المكان بنبرة أعلى وأكثر حزمًا «هذا المنزل مبني فوق تلك المقبرة القديمة التي أُخرجت المومياوات منها.»
رمشت الأرملة تشيشول في وجهه بحثًا عن مغزًى لكلماته. ولم يتركها تترقب لمدة طويلة.
وصاح بصوتٍ عالٍ وهو يشير نحو الأرضية تحت قدميه: «هل هي هنا؟ هل هي هنا؛ جين كوريسو؟ والآخرون الذين اختفوا من على وجه الأرض؟ سنعرف غدًا.» وعندما استدار وسار نحو الباب، صرخت الأرملة تشيشول وسقطت على الأرض كحجر.