الفصل الثاني

جويس ويبل

بدأت المتاعب التي يواجهها السيد ريكاردو في غرفة استقبال أحد منازل لندن في الأسبوع السابق لسباقات «جودوود». كان الرجال قد صعدوا للتو من غرفة الطعام وكانوا يقفون معًا، كما تقتضي عاداتهم، على مقربة من الباب بطريقة غير مريحة. رفع السيد ريكاردو بصره، والتقطت عيناه ابتسامةً مُرحِّبة مميَّزة من أجمل فتاة في المكان. كانت تجلس عن قصد بعيدًا عن رفاقها على أريكة لا تسع سوى شخصَين، وكانت تُوجِّه له ابتساماتها عن قصد أيضًا. لم يُصدِّق السيد ريكاردو عينَيه. لا ريب في أنه يعرف هذه الشابة. إنها فتاة من كاليفورنيا ذات اسم لا يقل جمالًا عن هيئتها، جويس ويبل، وكان يستمتع من آنٍ لآخر بالتعرف إليها من جديد في لندن، وفي باريس، وفي البندقية. ولكن ما الذي يُميِّزه، إنه مجرد شخص عادي لن يصبح يومًا شخصية بارزة، هاوٍ لمائة حرفة ولا يمارس أيًّا منها، وسيط شاي متقاعد من شارع مينسينج؛ ما الصفات التي يملكها لتُثير اهتمامَ مخلوقة مبهرة مثلها خلال الساعات التي تسبق انتهاء حفل العشاء؟ كانت باهرةً من قمة رأسها الصغير بشعره الناعم إلى أخمص قدميها بحذائها الرشيق المُطَرَّز. كان لون شعرها بنيًّا داكنًا، وكان مفروقًا من منتصفه ويتدلى في تموجات رائعة على أذنَيها. كانت بشرتها فاتحةً دون شحوب، وجبهتها رفيعة، وكانت تمتلك تلك المساحة التي تفصل بين عينَيها الرماديتَين الواسعتَين التي تدل على جمال حقيقي، وكان أنفها صغيرًا مائل الطرف، وكانت شفتها العليا قصيرة، وكان فمها كبيرًا إلى حدٍّ ما، وشفتاها تنبضان بالحُمرة. كان ذقنها صغيرًا ومشدودًا، وكانت ترتدي فستانًا لامعًا يتلألأ بألوان فاتحة تمتزج وتنفصل مع كل حركة تفعلها. كانت متأنقةً ومهندمة إلى حد أن الانطباع الأول الذي كان يؤخذ عنها أنها ليست جميلةً بقدر أنها مصقولة على نحوٍ رائع، وصولًا إلى أدق التفاصيل غير الملحوظة. كانت تبدو وكأنها أُرسلت إلى المنزل في صندوق من الورق المُقوَّى ووُضعت واقفةً على قدميها بكل عناية. لم يصدق السيد ريكاردو أن هذه الابتسامة مُوجَّهة إليه. كان يعتقد أنه اعترض طريق هذه الابتسامة بمحض الصدفة، وبدأ يتلفَّت حول نفسه بحثًا عن الشاب المحظوظ المقصود بهذه الابتسامة، ولكن تغيَّر التعبير المرسوم على وجه الشابة. في البداية، زحف تعبير ينم عن الاستياء على وجهها بسبب تردده في التقرب منها. كان تعبير الاستياء متبوعًا بصيحة تحفيز أطلقتها مُضيِّفته وهي تُحدِّق إليه من فوقه. اختفى تردد السيد ريكاردو. فأسرع عابرًا الغرفة، وأفسحت جويس ويبل على الفور مكانًا له على الأريكة بجانبها.

قالت جويس: «يجب أن نتحدَّث بصراحة تامة. وإلا فستُخطف مني يا سيد ريكاردو.» ثم مالت للأمام في جدية وكأنها تتحدث في مسألة حياة أو موت وقالت أول شيء تبادر إلى ذهنها.

«في زياراتي الأولى إلى إنجلترا، أخبرتني واحدة من نسائكم العظيمات، وكانت حكيمةً كعادة نسائكم العظيمات، أني إذا أردت التحدث إلى رجل بعينه، فستحين لحظتي عندما يختلط رجال آخرون بالنساء. وقالت إن هناك دائمًا بضع ثوانٍ عندما يقفون في حياء وإحراج وسط مجموعة سخيفة، متسائلات عمن يجدر بهن الترحيب به، ومن لا يجدر بهن الترحيب به. في تلك اللحظة، إذا ما وجَّهَتْ إلى أحدهم الفتاة أدنى نظرة تشجيع، فسيلقي بنفسه تحت قدميها لِمَا تبقَّى من الليل. ولكن كادت الخطة تَفسُد الليلة، رغم أني منحتك ابتسامة تشجيع شديدة الصراحة والوضوح.»

ردَّ عليها السيد ريكاردو بقوله: «اعتقدت أنه لا بد من وجود شاب في وسامة أدونيس يقف خلفي.» فتردَّدت مُضيِّفته التي لم تكن قد انتهت من مطاردته بعد.

لا ريب في أن السيد ريكاردو كانت له معايير محددة فيما يتعلق بقضاء الأمسيات. فلم يكن ميَّالًا إلى الانطلاق والرقص في الملاهي الليلية. لذا، كان يُعتمد عليه في لعب البريدج حتى نهاية الحفل. ورغم أنه، للأسف، كان يقول بين الحين والآخر ضاحكًا: «أين سنذهب الآن للحصول على المتعة والإثارة؟» أو يلقي دعابةً مدمِّرة على هذه الشاكلة، فإن أسلوبه في اللعب كان عاديًّا من غير جرأة أو ابتكار. ولكن كان واضحًا لمُضيِّفته أنه جاهز الليلة لقضاء الوقت في شيء أفضل. ابتعدت المُضيِّفة، وتنهَّدت جويس ويبل في ارتياح.

وقالت: «أنت تعرف واحدةً من صديقاتي، ديانا تاسبورو.»

أجابها السيد ريكاردو في تواضع: «إنها عطوفة بما يكفي لأن تومئ لي من على الطرف الآخر لقاعة الرقص عندما تتذكَّر من أكون.»

بدا بعضٌ من التأفف على مُحيَّا جويس ويبل.

وقالت: «ولكنك ستذهب بالطبع للإقامة معها في قصر سوفلاك، عندما تذهب للبحث عن النبيذ في الخريف.»

جفل السيد ريكاردو. لم يتخيَّل أن يسمع عبارةً تسيء بهذا القدر لرحلة حجه المبجَّلة عبر منطقتَي ميدوك وجيروند.

رد ببعض الفتور: «لا. سأقيم في المنطقة نفسها، ولكن مع الفيكونت كاساندر دو ميراندول.»

كان يملك كل الحق في نطق الاسم بتبجيل واضح. فلا ريب في أنه اسم يقع ضمن أشهر أسماء الخمور، كما أنه يحمل لمحةً من عصر الحملات الصليبية. ولكن كان السيد ريكاردو صادقًا، وبعد أقل صراع ممكن مع خُيَلائه، أضاف قائلًا: «ولكني لم أتعرف بالفيكونت بعدُ يا آنسة ويبل. ثمة مرض انتشر في المنزل الذي كنت سأقيم فيه، ونُقلَت إقامتي إلى منزل آخر طِبقًا لعادات الضيافة التي يتبعها الناس هناك.»

قالت جويس: «فهمت.» بدا جليًّا أن جويس ويبل أُصيبت بخيبة الأمل، بل وبالحزن الشديد أيضًا. ثم قالت: «بما أنني التقيتك في منزل ديانا، فأنا واثقة بأنك ستأخذ راحةً من رحلتك في قصر سوفلاك.»

هز السيد ريكاردو رأسه نفيًا. وقال: «ولكني سأقيم على مسافة تقل عن ميل واحد منها، وإذا كان بمقدوري فعل أي شيء من أجلك، فمن المؤكد أني سأفعله. في حقيقة الأمر، لم أرَ الآنسة تاسبورو أو عمتها منذ ستة أشهر على أقل تقدير.»

قالت جويس: «لا. لقد قضينا الصيف بأكمله في بياريتز.»

واصل السيد ريكاردو حديثه في سذاجة: «لم أُقِم من قبلُ في قصر سوفلاك، ولكن هذا لا يعني عدم رغبتي في ذلك. القصر يبدو رائعًا من الخارج. منزل زهري فاتح من طابق واحد على شكل حرف E كبير، به برجان دائريان صغيران ملحقان بالمبنى الرئيس وشرفة كبيرة مرصوفة بالحجارة في الجهة الخلفية منه تُطل على نهر جيروند …»

لم تكن جويس ويبل تهتم بوصفه للمنزل الريفي ذي اللون الزهري الفاتح، فصمت السيد ريكاردو. كانت جويس ويبل منحنيةً للأمام ساندةً مرفقها على ركبتها وذقنها مستقر على راحة يدها، وارتسم تعبير قلق على وجهها.

قال السيد ريكاردو مُغيِّرًا دفة الحديث: «نعم، في الواقع، هذا شيء غريب نوعًا ما.»

سألته جويس ويبل وهي تُدير وجهها نحوه: «وما الغريب في الأمر؟»

«الغريب أن عائلة تاسبورو قضت فصل الصيف بأكمله في بياريتز. فإن كان الناس يُحدِّدون أوطانًا لأرواحهم، فستكون لندن وطن الآنسة ديانا الروحي.»

كانت ديانا تاسبورو، الثرية من وراثتها لكروم سوفلاك، وإرثها من عمتها المطيعة المرافقة لها، قلب ومحور واحدة من تلك المجموعات المتحفِّظة التي ينقسم لها شباب لندن. كانت المجموعة مؤلَّفةً من أشخاص، أغلبهم في منتصف العمر، ممن حقَّقوا التميُّز أو كانوا في الطريق إلى تحقيقه. صحيح أن ديانا اصطادت الأسماك في أنهار اسكتلندا، واصطادت الحيوانات في ميدلاندز، ولكن لندن هي وطنها ومقر مجموعة أصدقائها الكبيرة.

قال السيد ريكاردو: «هل كانت مريضة؟»

«لا. كانت تراسلني، ولم تذكر شيئًا عن أي مرض. أنا أيضًا متحيرة مثلك. كانت ديانا عطوفةً للغاية معي عندما جئت إلى إنجلترا للمرة الأولى ولم أكن أعرف أحدًا. أكره أن يصيبها أي مكروه؛ أعني أي مكروه حقًّا.»

نطقت جويس الكلمة ببطء، ليس لأنها كانت تشك في أنها الكلمة المناسبة لاستخدامها، بل لكيلا يستخف بها السيد ريكاردو. جفل السيد ريكاردو بشدة. وجال ببصره في أرجاء الغرفة. لم تكن صفوف الورود، وإشراقة الأضواء، والأشخاص المتأنقون، متوافقة على الإطلاق مع تلك الكلمة التي نطقت بها.

فسأل: «هل تعتقدين حقًّا أن مكروهًا قد يحدث لها؟» كان يشعر بالانفعال، انفعال يشوبه بعض البهجة.

قالت جويس ويبل: «أنا واثقة بذلك.»

«وما السبب؟»

استدارت جويس بجسدها أجمعِه نحو السيد ريكاردو وثبَّتت عينَيها الواسعتَين الرماديتَين على وجهه، وقالت: «رسائل ديانا لي. أقول لك صراحةً إنني لم أتمكَّن من العثور في أيٍّ منها على جملة واحدة، أو حتى عبارة واحدة، ربما تبدو مثيرةً للقلق. أعلم ذلك لأني حللت هذه الرسائل بعناية مرارًا وتكرارًا. وأريد أن أُصدِّق أني لست واهمة، أو مضطربةً نفسيًّا، لا، لست كذلك على الإطلاق. ولكني لم أقرأ خطابًا أرسلته إليَّ ديانا من دون أن تورثني شعورًا مروِّعًا للغاية. يبدو أني أرى …» ثم صمتت لتُصحِّح ما قالت: «لا مجال لكلمة «يبدو» هنا. أنا أرى ما تخفيه تلك الخطابات المكتوبة بالحبر الأسود، وأتنقل جيئةً وذهابًا بين الكلمات المكتوبة والورق الأبيض الذي كُتبت عليه، وأرى مجموعةً من الوجوه المشوَّهة، وغير الكاملة، والمروِّعة، ودائمة التغيُّر. وتضمحل في بعض الأحيان — كيف يمكنني أن أصف ذلك؟ — إلى أقراص دائرية وردية من دون أي ملامح باستثناء عينَين حيتَين. وتنمو لها في أحيان أخرى قَسَمات بشرية مشوَّهة. ولكنها لا تكون كاملةً أبدًا. أنا واثقة بأنها إذا أصبحت كاملة، فستكون شريرةً بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. كما أنها لا تبقى ثابتةً في مكان أبدًا. فهي تتحرَّك جيئةً وذهابًا في كل مكان مثل» وضعت يدَيها على عينَيها للحظة وارتجفت لدرجة أن حجر الأوبال الأصفر الكبير على سوارها الذهبي الأملس لمع حول معصمها «مثل وجوه الغرقى الذين تتأرجح جثثهم على الأمواج على مدار أشهر.»

لم تعُد جويس ويبل تعبأ بتأثير حكايتها على السيد ريكاردو. كانت قد نسيت وجوده تقريبًا. كما أن عينَيها اللتين كانتا تتنقلان في أرجاء الغرفة ما بين طاولة لعبة البريدج ومجموعة من الناس يتحدثون، لم تكونا في الحقيقة تريان أيًّا من محتويات الغرفة. كانت تصوغ تجربتها الغريبة لنفسها للمرة المائة على أمل أنها ربما تعثر على تفسير لها داخل قصتها، حتى وإن جاء في صورة كلمة عابرة بمحض الصدفة.

figure
لم تعد جويس ويبل تعبأ بالسيد ريكاردو.

واصلت حديثها بصوتٍ خفيض ولكنه واضح تمامًا: «كما أني خائفة. أخشى أن أُضطر عاجلًا أو آجلًا إلى رؤية كل هذه الوجوه القاسية كاملةً وحية، وجوه أناس أحياء.»

قال السيد ريكاردو برفق حتى لا يقطع حبل أفكار جويس ويبل: «وجوه الأحياء الذين يهدِّدون ديانا تاسبورو.»

قالت جويس: «إنه أكثر من مجرد تهديد. إنهم سيؤذونها؛ أجل، إنهم يؤذونها الآن حقًّا أذًى ربما يكون قد فات الأوان على إصلاحه. ربما يبدو ما أقول مبتذَلًا وسخيفًا، ولكني أشعر بخوف شديد من هذه الأرواح الشرير بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ؛ إن قوى الطبيعة تتقاتل في الظلام من أجل السيطرة على روحها وهي لا تُدرك ذلك، ولكن سمحت قوة عليا ما بأن تصل الحقيقة إليَّ.»

رفعت جويس يدَيها في الهواء على نحو مفاجئ دلالةً على اليأس. ثم صاحت قائلة: «ولكن، كما ترى، في اللحظة التي بدأت فيها أجمع مخاوفي معًا في نمط من الكلمات، تمزَّقت إلى خصلات صغيرة مراوِغة للغاية ولا يمكن أن تعني أي شيء لأي أحد باستثنائي أنا.»

قال السيد ريكاردو معترضًا: «لا.» كانت الفكرة التي يفخر بها هي أنه مواطن في هذا العالم يملك عقليةً منفتحة للغاية. ثمة آلاف من الأحداث الغريبة، مثل الحدس الذي يُبرر في وقت لاحق، والتي لم يجد العلم تفسيرًا لها والتي لن يستهزئ بها سوى الأحمق. «لن أقول أبدًا إن القشرة التي تحيط بالعالم ربما لا تتشقق من أجل أحدنا ويتسرَّب عبرها شعاع من الضوء، ربما يكون مُضلِّلًا، وربما يكون حقيقيًّا؛ إما أن يكون سرابًا، وإما أن يكون شعاعًا من ضوء الشمس.»

بدا له أنه لا يوجد شخص قد يُفصح له عن مكنونات نفسه بهذه الطلاقة أكثر من تلك الفتاة ذات الوجه الرقيق الحساس، والعينَين الرماديتَين اللتين أضفت عليهما الرموش الحريرية الطويلة المنحنية نحو الأعلى، مظهرًا غامضًا لافتًا.

ثم واصل حديثه قائلًا: «في الواقع. من قد يعرف ما يكفي لينكر احتمالية أن تصل إلينا رسائل أو تحذيرات؟»

«نعم.» التقطت جويس ويبل هذه الكلمة. وقالت: «تحذيرات متكررة. إذا ما نحَّيتُ الخطابات جانبًا، وأخرجتُها بعد مدة وقرأتُها مجددًا، تراودني الرؤى المخيفة نفسها مجددًا. أرى نفس الحركة الموجية وتأرجح الوجوه غير الكاملة في الماء.»

بدأ السيد ريكاردو يُعيد بناء ذكرياته عن ديانا تاسبورو، واضعًا واحدةً هنا، وأخرى هناك، حتى يتشكَّل لديه تصوُّر واضح عن الفتاة. كانت طويلة القامة ذات شعر أشقر فاتح للغاية، وكانت بارعة الجمال ولكنها كانت تميل إلى التصنُّع في وجود غرباء. كانت لديها طريقة مميزة ترمش بها بعينيها وتزم بها شفتَيها أثناء الكلام، كما لو أن كل كلمة تتفوَّه بها لؤلؤة من أندر الأنواع. كانت ثمة خصلة أخرى.

قال ريكاردو: «كانت تميل إلى الانطواء دائمًا.»

قاطعته جويس في الحال. وقالت: «نعم، ولكنها انطوائية هادئة. ليس الأمر وكأنها تعيش حياةً سرية غامضة خاصة بها طوال الوقت. لا أعلم ماذا تقصد. ولكن لا يعني ذلك إلا أنها تحب قضاء الوقت مع نفسها أكثر من قضائه مع أصدقائها. إنها — ماذا يجدر بي أن أقول؟ — تمرح من دون مرح. ألَا ترى أن هذا السجن الذي فرضته على نفسها يزيد من مخاوفي؟ إنها الشخص الأخير الذي قد تتقاتل قوى الشر في الخفاء للفوز بروحه وجسده.»

حوَّلت حركة بين الضيوف أفكار السيد ريكاردو إلى اتجاه آخر. كان الوقت يتأخر. وأصبحت واحدة من طاولات لعبة البريدج خاليةً حقًّا. كان السيد ريكاردو رجلًا عمليًّا.

فسأل ريكاردو: «ما الذي بيدي أن أفعله حيال ذلك الأمر؟»

«ستكون في حي قصر سوفلاك في شهر سبتمبر، أليس كذلك؟»

«بلى.»

«تقيم ديانا دائمًا حفلًا لحصاد العنب.»

ابتسم السيد ريكاردو. فقد كانت حفلات ديانا مشهورةً في منطقة جيروند. طوال ١٠ أيام أو نحوها، تظل أنوار نوافذ القصر، ذي اللون الزهري الفاتح المبني في القرن السادس عشر، تشق ظُلمة الليل حتى مطلع الفجر. وكانت الشرفة الحجرية الواسعة تتزين بمجموعات من الشباب الراقصين، وكانت أصوات موسيقى رقصاتهم وضحكاتهم من حيث يوجد النهر تُسمع من قِبل البحارة في زوارقهم الذين ينتظرون تغير المد. وتَمنع الساعةُ المتأخرةُ الضيوفَ الذين يخلدون إلى النوم فيها من الاستيقاظ مبكرًا في صبيحة اليوم التالي، ربما فيما عدا اليوم الأول. ولكن كانوا يظهرون بطريقة ما في تمام الثانية عشرة في اليوم التالي يلتقطون العنب مرتدين ملابسهم الأنيقة، ويبدون أشبه بفرقة غنائية في كوميديا موسيقية تدور أحداثها في أحد حقول كروم العنب في فرنسا.

قال ريكاردو: «نعم، لا ريب في أنها ستقيم حفلًا بمناسبة حصاد العنب.»

أدارت جويس جسدها لتواجهه مرةً أخرى مُغرِقةً إياه، في ظلم بَيِّن، بكل السحر الذي يصاحب ثقة هذه الفتاة الجميلة وعينَيها الفاتنتَين، وقالت: «حسنًا إذَن، لقد فهمت ما أريد منك بشدة أن تفعله. هذا إن أردت، بالطبع. إنه رجاء بسيط، في الواقع. ولا حق لي في الإلحاح عليك. ولكني أعرف كم أنت عطوف.» هل رأت الرجل المسكين يجفل، وأن عليها أن تضيف الكثير من الإطراء إلى رجائها وأن تتوسَّل إليه بصوت يملؤه الحزن والكآبة؟ «أريد منك أن تقضي أكبر وقت ممكن في قصر سوفلاك. سيكون مُرحَّبًا بك هناك، بالطبع …» ونفت الفكرة السخيفة بأنه لن يكون مُرحَّبًا به بحركة خاطفة من أصابعها. «يمكنك أن تُراقب. ويمكنك أن تكتشف ماذا يحدث مع ديانا؛ إنْ كان هناك شخص يُشكِّل خطورةً حقًّا بين معارفها أم لا، وحينئذٍ …»

قال السيد ريكاردو: «حينئذٍ، سأُراسلك، بالطبع.» كان السيد ريكاردو يسعد بتلك المهام الشاقة التي تُوكل إليه بثقة. ولكنه دُهش عندما اكتشف أن مراسلة جويس ويبل بخصوص الموضوع ليست ضمن مهامه.

فقد أجابته مترددة: «لا. لا ريب في أني أُحب أن تراسلني — بطبيعة الحال، ليس بخصوص ديانا فقط — ولكن لا يمكنني أن أخبرك بمكان وجودي بحلول نهاية شهر سبتمبر. لا، ما أريد منك أن تفعله، هو أنه بمجرد أن تكتشف وجود خطب ما، أن تتدخل وتوقفه.»

اضطجع السيد ريكاردو في مقعده وقد ارتسم على وجهه تعبير ينم عن قلق شديد. على الرغم من أساليبه الشديدة التدقيق وعاداته المنهجية، كان رومانسيًّا في أعماقه. كانت متعته الأسمى تتمثل في أن يلعب دور الإله لمدة خمس دقائق كي يتمكن بعض الشباب المتعثِّرين في الظلام من السير بخطًى ثابتة في ضوء هادئ. ولكن هذا لا ينفي أن تكون الرومانسية معقولة، حتى وإن أخذت شكلًا شديد الجاذبية كشابة مثل جويس ويبل. ما كانت تعرضه مُهمة تليق بالأبطال، وليس برجل في منتصف العمر تقاعد عن عمله في شارع مينسينج. وبينما كان يُفتِّش في ذهنه عن أسماء أبطال أكثر ملاءمةً للمهمة منه، قفزت إلى ذهنه حقيقة مذهلة.

فتلعثم من فرط تحمسه، وقال: «ولكني واثق بأن ديانا تاسبورو مخطوبة. نعم، أنا واثق بذلك. إنها مخطوبة من شاب محترم. كان يعمل في وزارة الخارجية، ثم تركها، وبدأ يعمل في حي المال والأعمال في لندن، فلم يكن يرغب في أن يكون الزوج الفقير لامرأة ثرية.» كانت ذاكرة السيد ريكاردو تعمل بأقصى سرعة، والآن بعدما رأى مهربه يلوح أمامه، ممر يمر بين مطرقة الرفض وسندان الفشل، قال: «برايس كارتر! هذا اسمه! وهو اسم شركته. عليك أن تصفي له ما تمرين به يا آنسة ويبل، و…»

ولكن قاطعته الآنسة ويبل باقتضاب، وقد احمرَّ عنقها بشدة واصطبغت وجنتاها باللون الوردي. قائلة: «لقد سقطت طائرة برايس كارتر.»

صُعق السيد ريكاردو وأصيب بخيبة الأمل، وقال: «سقطت طائرته؟ لم أسمع بهذا الخبر. يؤسفني ما سمعت. سقطت طائرته؟ يا إلهي!»

قالت جويس في بطء: «أعني أن ديانا فسخت خطبتها به. هذا سبب آخر يجعلني أعتقد أنه يجدر بنا فعل شيء ما من أجلها. لقد كانت تحبه كثيرًا، ثم انتهى كل شيء في غضون أسبوع أو اثنين، ولم تُعطِه سببًا لذلك. أعتقد أنه لم يعد يصلح للتدخل، أليس كذلك؟ أشعر بأنه يجب ألا أقف مكتوفة اليدَين؛ ليس لأن الأمر لا يخصني، بالطبع …» سرعان ما أصبحت جويس ويبل غير قادرة على التعبير عن أفكارها، واشتعلت وجنتاها بحُمرة شديدة، ثم قالت: «لذا، إن لم تساعدني …»

ولكن شعر السيد ريكاردو بأن موقفه شائك بدرجة لم يمر بها من قبل. لم يَرُق له ارتباك رفيقته على الإطلاق، وبما أن طريق الهرب الذي كان يأمل في أن يسلكه قد أُغلق، بدأ البحث في يأس عن طريق آخر، وعثر عليه.

قال موجِّهًا إصبعه نحوها منتصرًا: «وجدته.»

سألته جويس في حذر: «ما الذي وجدته؟ الحل الممكن الوحيد للمشكلة.» وكان حازمًا للغاية. ولم يكن ثمة مجال للمناقشة على الإطلاق. يجب أن تتم ترتيباته كما هي.

قال: «أنتِ الشخص الوحيد المنوط بتصحيح الأمور. أنت صديقة ديانا. وتعرفين جميع أصدقائها. يمكنك أن تذهبي بنفسك إلى حفلها في قصر سوفلاك. إن لك تأثيرًا عليها. وإن كان هناك شخص … خطر … ألم تكن هذه هي الكلمة التي استخدمتها؟ … فلا أحد أفضل منك يمكنه اكتشاف من يكون؛ هذا صحيح.»

رفع بصره نحوها. ورأى وجهها يُشرق، ولمحة من شجاعة واستقلالية لاءمت تمامًا قوامها الممشوق النحيل ومظهرها الرقيق المهندم. بدا العزم على وجهها. إننا نعيش في عصر النساء الشابات. دع واحدةً منهن، في مثل جاذبية جويس ويبل، تنفخ في البوق، وسترى مشهدًا رائعًا لسقوط أسوار أريحا الجديدة. وهو نفسه سيُشاهد هذا المشهد من دون ذرة ندم من منزل الرجل النبيل ذي الألقاب الرنانة، الفيكونت كاساندر دي ميراندول.

صاح في إعجاب: «أنت! بالطبع، أنت!»

وعلى نحو مفاجئ، انقلبت الأدوار. كان ثمة رضًا واضح يظهر في حركات جويس ويبل ووجهها أذهل السيد ريكاردو. كان قد استغلَّ نقطة ضعف غير متوقعة في دفاعاتها. وأصبح يجدر بها هي الآن أن تتحدَّث برفق.

أقرت وقد علا الإحراج قَسَمات وجهها: «لا ريب في ذلك. نعم، ولقد طُلب مني الذهاب إلى سوفلاك … وسأذهب، إن استطعت. ولكني لا أعتقد أني سأستطيع أن أذهب.» ثم اندفعت تتحدَّث بانفعال، قائلة: «كم أتمنى لو استطعت الذهاب! ولكني لن أكون موجودة. سأكون في أمريكا. لهذا السبب قلت لك إنه لا جدوى من مراسلتي، وهو نفسه السبب في رغبتي في تحميلك مسئولية الأمر برمته.» ثم نظرت نحو السيد ريكاردو في خَجَل وسرعان ما أشاحت بوجهها بعيدًا عنه، وقالت: «كما تعلم، يجب على سندريلا أن تغادر الحفل قبل منتصف الليل.» ثم رفعت عينيها سريعًا نحو الساعة، وقالت: «وقد أوشك الليل أن ينتصف الآن.»

نهضت من جلستها سريعًا وهي تتحدَّث، وارتسمت على وجهها ابتسامة وقالت كلمة وداع، والتحقت بمجموعة صغيرة من الشباب يقفون بجانب نافذة حديدية محاطة بأحواض الزهور. يبدو أن هذه المجموعة كانت في انتظارها؛ فقد تمنَّوا لمُضيِّفتهم ليلةً هانئة ورحلوا على الفور.

لا ريب في أن السيد ريكاردو قد اكتنفته حالة من الرضا بعلمه أنه لم يُلزم نفسه بما ترمي إليه جويس ويبل. ولكن لم يكن هذا الرضا حقيقيًّا تمامًا. فقد كانت القصة الغريبة التي قصَّتها عليه من نوعية القصص التي تروق له؛ إذ كان لديه شغف عجيب بالأمور الغريبة. وحتى تلك اللحظة، كانت الراوية تروق له أكثر من الراوي. حاول بجدٍّ أن يثبت أفكاره على مشكلة ديانا تاسبورو. ولكن كانت مشكلة جويس ويبل تستحوذ على تفكيره. وقبل أن يدرك أن تصرفه لم يكن لائقًا، كان قد جعلها تتأنق وكأنها جميلة عَنود من حقبة الإمبراطورية الثانية. كانت هناك، تجلس أمامه بينما تُقلهما السيارة إلى منزله في ميدان جروسفينور، وكانت كتفاها البيضاوان تبرزان ساحرتين من ذلك الفستان الدائري ذي الحواف الصدفية الذي ترتديه، ولا أحد يعلم كيف يبقى في مكانه، وينشر طيات واسعة حول قدميها. ولكن حتى وهي ترتدي هذا الزي أمام عينَيه كما لو كانت لوحةً حية، بدأ يشك ويتساءل عمَّا إذا كان يتحوَّل إلى شخص عتيق الطراز ومتحيز في آرائه. ففي نهاية المطاف، هل كان بمقدور جويس ويبل، بأطرافها المستقيمة الرشيقة، ومعصمَيها ويدَيها وقدمَيها وكاحلَيها اللذين في هشاشة الزجاج، أن تبدو أكثر جمالًا في أي عصر آخر ممَّا بدت عليه في ذلك الفستان القصير المتلألئ الذي ارتدته تلك الليلة؟ جاء صوتها ليؤكِّد على أن العصر المناسب لها هو عصر الإمبراطورية الثانية حقًّا. فبدلًا من نبرات الصوت العالية الحادة التي اعتاد عليها، كان صوتها ناعمًا وخفيضًا ورخيمًا به بحة حزينة ضئيلة تحتاج إلى إرادة من حديد لمقاومتها. ولكن كانت هناك جوانب أخرى لم تؤثر به بالدرجة نفسها. لمَ تسبَّب لها اقتراحه في ذلك القدر الكبير من الارتباك؟ ما علاقتها ببرايس كارتر التي تجعل وجهها يحمر بشدة عند ذكر فسخ خطبته بديانا تاسبورو؟ و…

صاح وسط العزلة الهادئة داخل سيارته الفارهة: «يا إلهي، ما الهدف من كل ذلك الحديث عن سندريلا؟» كان الجزء المتعلِّق بالحذاء الزجاجي من هذه الأسطورة الجميلة ملائمًا ومناسبًا للغاية. ولكن ماذا عن بقيتها؟ جاءت الآنسة جويس ويبل من الولايات المتحدة مع إحدى شقيقاتها تكبرها بعامٍ أو عامَين، وفي مثل جمالها تقريبًا. تزوَّجت هذه الشقيقة مؤخرًا، وكانت زيجةً جيدة. ولكن قبل حدوث ذلك، وطَوال عامَين كاملَين، كانت الأختان ويبل تمرحان حيثما وُجد المرح. كانتا قد ذهبتا إلى دوفيل ودينارد، وكذلك مرتفعات اسكتلندا التي لم يزرها السيد ريكاردو. كان قد رأى بنفسه جويس ويبل تلمع على رمال شاطئ الليدو مرتديةً منامة من الساتان ذات لون برتقالي محروق. فالسيد ريكاردو كان أحد أولئك الأشخاص المحترمين الذين يزورون الليدو من حين لآخر فقط ليقف على مظاهر ابتذاله ويكوِّن معرفة دقيقة وشاملة عنه، ثم يلقي المواعظ حول ذلك فيما بعد. لا ريب في أن جويس ويبل كانت تبدو فاتنةً في منامتها ذات اللون البرتقالي المحروق، ولكن في تلك اللحظة، توقَّفت سيارة السيد ريكاردو أمام منزله قاطعةً حبل أفكاره. وربما كان ذلك أفضل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥