الوجه المطل من النافذة
قفز هانو خارج السيارة عند باب الفندق في شارع كور دو لينتندانس.
وقال مخاطبًا جويس ويبل: «انتظري هنا! سأُحضر عباءة»؛ وعاد بعد دقيقة. لفَّت جويس العباءة حولها ووُجهت نحو غرفة جلوس ريكاردو. دخل هانو الفندق معها، وصعد ريكاردو الدرج معهما، ولكنه استحضر في يده، بطريقة سحرية، طبقًا من البسكويت أثناء سيره.
قال وهو يعد كرسيًّا من أجل جويس أمام المائدة ويضع طبق البسكويت أمامها: «والآن يا آنسة، ستجلسين هنا، وستأكلين بعض البسكويت بينما أستكمل الترتيبات.»
ثم خرج من الغرفة، وعاد مجددًا بسرعة كما لو أن الوقت لم يتمكَّن من الصمود أمام طاقته. كانت جويس ويبل لا تزال تأكل قطعة البسكويت الثانية عندما رفع هانو الطبق من أمامها بهدوء.
وقال: «هذا يكفي.»
صاحت جويس وهي تتعلَّق بالطبق بكلتا يديها: «لا! أنا جائعة.»
علَّق السيد ريكاردو مؤنبًا: «إنها ليست وجبة عشاء كبيرة.»
قال هانو: «هذه ليست وجبة عشاء من الأساس. ولكنها ستسد شهيتها إلى العشاء. هلَّا تتركين الطبق من فضلك يا آنسة؟»
ولكن هزت جويس ويبل رأسها في إصرار وتشبَّثت بالطبق أكثر. كانت تبدو وكأنها صبي صغير عنيد لدرجة أن هانو بدأ يضحك، ولكنه ظل يجذب طبق البسكويت منها بيده الضخمة، وظلت متشبثةً بالطبق بيديها الصغيرتين.
وقالت بصوتٍ متهدج وعينين دامعتين: «أنا أتضور جوعًا.»
فرد عليها برفق: «أعرف يا صديقتي الصغيرة. أعرف ذلك جيدًا.» وأحاطت ذراعه الحرة كتفيها. وقال: «عليك أن تستمعي إليَّ وستعرفين كم أنا حكيم. انظري! لقد حجزت غرفةً من أجلك … رقم ١٨ … ها هي بطاقتها … غرفة ذات مغطس … آه، أنت لا ترين أنك متسخة مثل الصبي الذي يُنظِّف المداخن. كما أني طلبت عشاءً من أجلك ومعه زجاجة شمبانيا صغيرة، وسيدفع السيد ريكاردو ثمن كل هذا. واستعرت منامةً من مديرة الفندق. البيجاما ذات لون برتقالي داكن؛ لا! لقد فقدتها في فندق الليدو. ستلتقين إذن بصديقك هنا لدقيقة. ثم تستردين بياض بشرتك بالاستحمام. ثم تضعين نفسك داخل منامة المديرة وتذهبين إلى الفراش. ثم يُحضَر العشاء لك، وربما تواصلين الحديث مع صديقك أثناء تناول العشاء. ثم تغطين في النوم؛ ويجب ألا تخشي شيئًا؛ فقد وضعت حارسًا عند باب غرفتك. لا حاجة بنا إلى أي حارس، كما تعلمين. لقد وضعته هناك فقط لأني عطوف وحريص للغاية. وإذا ما استيقظت خلال الليل وتخيَّلت فجأةً أنك لست في مكان ترغبينه، فكل ما عليك فعله هو أن تنادي قائلة: «هل أنت موجود يا ألفونس؟» وسيرد عليك: «نعم يا آنسة، بكامل عتادي.» وإذا قلت: «هل أنت هنا يا هايسنث؟» فسيجيبك بالإجابة نفسها.»
ظل هانو يثرثر في محاولة منه لجعل ذلك الوجه الممتقع يبتسم، وضحكت حقًّا فجأةً ووضعت يدها الصغيرة على قبضته الضخمة.
قالت وهي تنهض على قدميها مترنِّحة: «حسنًا. ولكنك ظَلِلت تذكر صديقًا المرة تلو الأخرى. وفيما عداكما أنتما، لا صديق لي في بوردو.»
«سنرى.»
توجَّه هانو نحو الباب وفتحه ونظر خارجه، ثم دخل برايس كارتر الغرفة. أطلقت جويس صيحة دهشة عندما رأته.
وقالت: «أنت؟» جلست مرةً أخرى على مقعدها وهي تُحدِّق فيه. وقالت: «ولكن، متى أتيت؟»
قال برايس كارتر: «هذا المساء. نشرت الصحف في لندن خبرًا عنك ليلة أمس.»
«وهل شددت رحالك إلى هنا على الفور؟»
«بلا أدنى شك. لقد أتيت على الفور.»
«أوه!» مررت جويس إصبعها المتسخ إلى الأمام والخلف على مفرش الطاولة وزمَّت شفتَيها اللتين ابتسمتا ببطء.
وقالت: «هذا عطف كبير منك.» رمق هانو السيد ريكاردو وقلب يديه أمامه في يأس. لم تكن ثمة حاجة به لأن ينفخ في أصابعه الآن. هذا الرجل صاحب الخطابات الحارة كان يقف جامدًا مثل عمود وسط صحراء قاحلة لا يقول إلا «بالطبع»، و«أتيت على الفور»، وكأنه طبيب يؤدي عمله. وكانت هي جالسةً تنظر إلى أصابعها المتسخة وتقول في أدب: «يا له من عطف كبير منك!» ما أغرب هذا الشعب؛ اللعنة عليهم!
قال هانو محاولًا أن يجعل تصريحه مفاجئًا قدر الإمكان: «حسنًا، سننصرف، أنا والسيد ريكاردو.» ولكن جاء تصريحه عديم التأثير مثل تقديمه برايس كارتر. فلم يُكلِّف الشابان أنفسهما عناء السؤال إلى أين سيذهب هو وريكاردو، أو يوليان حتى أدنى اهتمام بتحركاتهما. كان برايس كارتر يحدِّق في جويس، وكانت جويس تحدِّق في مفرش الطاولة. حاول هانو مرةً أخرى. وجَّه إلى ريكاردو ابتسامةً واثقة، وكأنه على يقين بامتلاكه سحرًا نافذًا لجذب انتباه الفتيات.
وقال: «سنذهب لنجلب لكِ ملابسك يا آنسة.»
لا ريب في أن ما قاله كان له تأثير، ولكنه لم يكن التأثير الذي توقَّعه. كان ينتظر تعبيرًا عن الحماسة والامتنان. كل ما حدث هو أن جويس رفعت عينيها بخجل لتنظر إلى وجه برايس كارتر وتقول مع ضحكة خفيفة: «إنه يقول إني أُشبه صبية تنظيف المداخن.»

تفحَّص برايس كارتر ما أمكنه تفحُّصه منها بجدية. ثم رد قائلًا:
«لم أرَ صبية تنظيف المداخن من قبل، ولكني أعتقد أنه محق.»
لم يستطع هانو أن يتحمل المزيد. فخرج من الغرفة مسرعًا، ووجده السيد ريكاردو يستند منحنيًا إلى جدار الممر والذهول بادٍ على وجهه، وذراعاه يتحركان في حركات عشوائية تدل على العجز.
وصاح قائلًا: «ما أغرب هذا الشعب!»
أما السيد ريكاردو، فعلى النقيض، كان لديه منظور مختلف للأمر. فقد كانت التصرفات الرشيدة والسيطرة على النفس تمسان قلبه دائمًا.
فقال في صرامة: «لسنا معتادين على التعبير عن مشاعرنا على الملأ بهذه الطريقة حتى في ظل أقوى المغريات.»
قال هانو عابسًا: «كنت مخطئًا بشأن هذا الشاب. إنه لا يملك العقلية المناسبة. ولن يبلي بلاءً حسنًا في عالم الأعمال.»
ولكن رنَّت صرخة قصيرة من خلف الباب المغلق. وسرعان ما سُمع صوت برايس كارتر الخفيض الملتاع بعد الصرخة. «جويس! جويس!»
استدار هانو في لمح البصر وفتح الباب. وتسمَّر هانو في مكانه لجزء من الثانية وكأن دوره قد حان ليصبح عمودًا حجريًّا. رأى برايس كارتر واقفًا بجانب الطاولة وبين ذراعيه صبية تنظيف المداخن، وكان ذراعاها ملتفين بإحكام حول رقبته، ووجهها مدفونًا في معطفه. أغلق هانو الباب برفق.
وقال معترفًا بخطأ حكمه على الشاب: «إنه يملك العقلية المناسبة وسيبلي بلاءً حسنًا. هيا بنا!»
سارت السيارة هذه المرة في طريق فونداوديج وخرجت منه بموازاة طريق ميدوك. وبحلول العاشرة، كانت السيارة لا تزال تسير بين منازل البلدة. انتهى الشارع الطويل فجأةً بطريقة مفزعة، وانطلقت السيارة في ظلمة الريف المفتوح. ولكن كان الطريق ممتدًّا أمام مصابيح السيارة القوية وكأنها وشاح من الثلج، وكانت الأشجار التي تحف الطريق تلتقي باستمرار صانعةً غابة كثيفة ثم تنفتح لتسمح للمارة بالعبور. ومن وقتٍ لآخر، كانوا ينطلقون فوق طرق مرصوفة بالحجارة بين منازل بيضاء شاحبة تاركين قريةً أخرى تغرق في الظلام من خلفهم؛ ومن وقتٍ لآخر أيضًا، كانت نوافذ حانة مضاءة تنافس أنوار سيارتهم على إنارة الطريق، ثم تختفي من خلفهم. جلس هانو صامتًا تمامًا في عتمة السيارة الفارهة، وكان السيد ريكاردو يجلس على أحر من الجمر مانعًا نفسه عن قطع تأملاته. لا ريب في أن الرجل العظيم كان يضع الكثير من الخطط في ذهنه. في ذلك الوقت، لمع ضوء ضئيل ما دل على اقترابهم من بوياك. كانت مغامرات الليلة تقترب من نهايتها. ثم تحدث هانو فجأة. وقال: «كنت أفكِّر يا صديقي.»
«كنت حريصًا على عدم قَطْع حبل أفكارك.»
«كنت أراجع في ذهني كل ما قيل وحدث هذا المساء.»
«من الطبيعي أن تفعل.»
«ثمة أمر وحيد يحيِّرني.»
سأله السيد ريكاردو حاسدًا: «أمر واحد فقط؟»
رد عليه هانو: «أمر واحد يا صديقي. ولكنه أمر يمكنك أن توضِّحه لي.»
دلت سلسلة من الحركات البسيطة عند الركن الآخر من العربة أن السيد ريكاردو كان يُعدِّل من وضع ياقته، ويرفع كتفيه باعتداد، ويشد كميه، ويُعدِّل من هندامه بوجه عام بما يتناسب مع هذه المناسبة.
وقال: «سأبذل أقصى ما في وسعي. هاتِ ما عندك يا هانو!»
حينئذٍ، استسلم هانو لما يُحيِّره، وقال: «هل من عادة الإنجليز أن يجلسوا على الأرض ويقصوا حكايات حزينةً عن الملوك الراحلين؟»
«لا يا صديقي، ولكن هذا يُسمى اقتباسًا إنجليزيًّا، عندما يوظَّف بالطريقة الصحيحة.»
أدار هانو رأسه وسط الظلام في حماسة. وقال: «آه! الآنسة الفاتنة ويبل؛ هل قالت عبارةً على هذه الشاكلة في القبو؟ هل استخدمت تعبيرًا اصطلاحيًّا؟»
«يمكنك أن تُطلِق تلك التسمية على عبارتها.»
قال هانو في سعادة: «حسنًا. أنا أيضًا أستخدم التعبيرات الاصطلاحية.»
لم يكن السيد ريكاردو يفهم كيف يمكن لعقل محترف يضع خطةً محكمة ويعمل على تنفيذها أن ينتقل للتفكير في التفاهات بينما ينتظر نتيجة عمله.
فصاح: «هل تعني أنك طَوال تلك المدة كنت تجلس في ركن من سيارتي تُفكِّر في طرح سؤال سخيف عما إذا كان يمكنك أن تحشر في بعض الأحيان عبارةً غير معتادة سمعتها للمرة الأولى في حديثك؟ أنت تقترب من ميراندول. تنتظرك مهام رهيبة هناك؛ وأنت تفكِّر في عبارة اصطلاحية سخيفة. لا أريد أن أكون قاسيًا في الحكم عليك، ولكن التهاون يبقى تهاونًا.»
لم يؤثِّر هذا التوبيخ في هانو.
ردَّ قائلًا: «إن القادة الكبار، يا صديقي، بعدما يتجهَّزون لمعاركهم، ويعطون إشارة البدء، يمكنهم أن يحملوا سنانيرهم ويذهبوا لصيد الأسماك. فلن يمكنهم فعل المزيد. لن يمكنهم أن يُغيِّروا من استراتيجية المعركة متى بدأت. ينطبق الأمر نفسه على هانو. لقد اكتملت خطته. وأتباعه ينفِّذونها حاليًّا. وهو يتعلم تعبيرًا اصطلاحيًّا.»
كان قد انتهى من فوره من هذه المقارنة التي تخلو من التواضع عندما تأرجح فوقهم مصباح جيئةً وذهابًا، وتوقفت السيارة بعد ضغط جميع مكابحها بعنف. سقطت أنوار المصابيح الأمامية على حبل مثبت بعرض الطريق عند مستوى غطاء المحرك، وحوله ثلاثة حراس يرتدون أزياءهم الرسمية ومحقق محلي بملابس مدنية. فتح المحقق باب السيارة، وعندما رأى من بداخلها، أدَّى التحية.
وقال: «إننا نحيط بقصر ميراندول إحاطة السِّوار بالمعصم. كل ما عليك فعله هو أن تُطلق صافرتك وسنهب لمساعدتك على الفور.»
سأله هانو: «هل الفيكونت بمفرده؟»
قال المحقق ضاحكًا: «لا، قاضي التحقيقات برفقته. السيد الطموح تيدون. اشتهر عنه أنه يطمح لتولي منصبه نفسه في باريس، وهذه هي القضية التي ستُعلي من شأنه. إنه لم يدع الفيكونت دو ميراندول يغيب عن ناظريه طَوال اليوم، أؤكد لك ذلك.»
«وماذا عن سوفلاك؟»
«لم يخرج منه أحد طَوال اليوم.»
«حسنًا!» أخرج هانو رأسه من النافذة وتحدَّث مع المحقق همسًا. وسمع ريكاردو المحقق يرد: «نعم.» ثم يقول مجددًا: «نعم.» ثم وجَّه هانو رأسه نحو مورو الجالس على المقعد المجاور للسائق. وقال: «سندخل القصر عبر البوابة التي كانت تُطلى.» وعندما أزاح الحراس الحاجز عن الطريق، التفت هانو نحو المحقق مجددًا.
وقال: «لا حاجة بنا لهذا الحبل بعرض الطريق بعد الآن. وعليك ألَّا تدع أحدًا من قصر سوفلاك أو قصر ميراندول يمر. ولكن يمكنك أن تسمح لأي مارة آخرين بالعبور بحرية.»
هدرت السيارة وكأنها قطة ضخمة أثناء مرورها أمام بوابة ميراندول الحديدية على اليسار ومزارع سوفلاك على اليمين. وصلت السيارة إلى قوس مدخل منزل سوفلاك وكانت جدرانه الوردية تلمع تحت النجوم وكانت أنوار جميع نوافذه مطفأة. ثم دارت السيارة لتهبط المنحدر الذي يمر عبر مباني المزرعة والمرأب، وتعبر المراعي وتهبط التل. على بعد ٥٠ ياردةً من البوابة، طرق هانو على الزجاج الأمامي فتوقفت السيارة. ومن هذا المكان، أكمل الرجال الثلاثة الطريق سيرًا في هدوء. كان سفح التل ينحدر عن يمينهم، وسياج ملكية ميراندول يرتفع عاليًا عن يسارهم، بينما كانوا يسيرون على هدى الوميض الخافت للطريق الأبيض. عند إحدى النواصي، عثروا على فجوة في السياج. تقدَّم السيد ريكاردو إلى الأمام مطرقًا ومد يدًا نحو البوابة. ولكن جذبه هانو إلى الخلف بعنف.
وقال هامسًا: «لا تلمسها!»
رد عليه السيد ريكاردو بالنبرة نفسها: «القليل من الطلاء غير الجاف؛ ما أهمية ذلك؟»
«قد يكون هناك أكثر من مجرد طلاء غير جاف. فلنتوخَّ الحذر!»
وضع قفازًا على يده اليمنى. وعلى الرغم من أن الجماعة كانت تتحرك دون إصدار أي صوت، لم يلمس مزلاج البوابة إلا بعد أن بزغ شعاع من الضوء وسقط على وجوههم ثم خبا. تقدم رجل من بين شجيرات الحديقة وفتح البوابة لهم.
غمغم هانو: «أحسنت المراقبة. أشكرك.»
تسللوا بين الشجيرات العالية إلى المرج الذي يقع أمام المنزل المنخفض. وحول حواف الستائر الداكنة السميكة المسدلة على نافذة المكتبة، تسلل بعض الضوء. ولكن كان كل شيء آخر مظلمًا. فكَّر ريكاردو أنه في تلك الغرفة، كان قاضي التحقيقات الطموح يراقب المجرم الذي ستؤدي إدانته إلى انتقاله إلى باريس. فزحف إلى الأمام عبر الدرب على أمل أن تمنحه إحدى هذه الحواف التي يتسلل الضوء عبرها لمحةً عما يحدث داخل الغرفة. ماذا يفعل هذان الرجلان؟ هل يثرثران ويشربان زجاجةً من النبيذ وكأنهما صديقان؟ لمَ لا توجد أي دلالة على أنه على أحد جانبي المدفأة يجلس مجرم وعلى جانبها الآخر يجلس قاضٍ يعرف ما ارتكب من جرائم؟ أم أنهما يجلسان في صمت مطبق وعينا أحدهما تتنقَّلان من المقعد إلى الطاولة، ومن الكتب إلى التحف، ومن اللوحات إلى مِحراك النار اللامع؛ تجوَّل بعينَيه في أرجاء الغرفة كي لا تلتقيان بعيني الرجل الآخر الذي يجلس في ثبات محدقًا بعينين لا تطرفان في وجه جامد كالفولاذ. كان السيد ريكاردو يتوق لأن يعرف. فزحف مقتربًا من النافذة ونظر عبرها، ثم أطلق صرخةً مكتومة وقفز فجأةً إلى الخلف. أمسكه هانو من ذراعه.
وقال: «صه! ماذا رأيت؟» ولكن كان ريكاردو تعرض لصدمة مفاجئة، ولدفعة غريبة من الرعب جعلته غير قادر على الرد. شعر وكأن الدم قد تجمَّد في عروقه وأن معدته قد انقلبت.
قال لاهثًا وهو يشير نحو النافذة: «انظر! انظر!» اقترب هانو بدوره من النافذة ونظر عبرها. وجفل أيضًا. كان الفيكونت دو ميراندول يقف بين الستائر والنافذة ملصقًا وجهه في الزجاج، ويداه مكورتان حول عينَيه لتمنع أي لمعان من أنوار الغرفة عن الوصول إليهما، وكان يحدق في الظلام في الخارج، ولم يكن يتحرك وكأنه صنم هندي قديم. كان يراقبهما كما لو أنه طالب سهران يستذكر، وأقلقه صوت غصن يتكسر في حديقة منعزلة، فراح يراقب من وراء الستائر، وحين أدرك وجود لصوص، تجمد في مكانه من الذهول. لم يكن يفصل بين السيد ريكاردو وذلك الوجه الأبيض الكبير ذي الشفتين السميكتين البغيضتين والجبهة الصلعاء إلا سُمك زجاج النافذة، ولم يتحرك الوجه على الإطلاق. لم يرَ ريكاردو في حياته مشهدًا أكثر إزعاجًا وقبحًا من ذلك. ثم وقف بجانب هانو مترددًا ومضطربًا. وقف الرجلان على بعد قدم من النافذة مذهولَين. هل يعتقد الفيكونت أنه غير مرئي؟ إنهما يحدقان فيه دون أن يرياه؟ صحيح! ولكنه تحرك، وكانت حركته أكثر غرابة، بل وأكثر إثارةً للرعب من جموده. فقد انفرجت أساريره عن ابتسامة كشفت عن صفَّي أسنانه، ثم رفع إصبعًا سميكًا مشيرًا بإيماءة دعوة. وللحظة، انحسرت الستارة الثقيلة، ورأى الرجلان في الحديقة قاضي التحقيقات آرثر تيدون، ينحني نحو الأمام من المقعد حيث يجلس في الغرفة المضاءة، وعلى وجهه تعبير ترقُّب غامض. وسرعان ما أُسدلت الستارة مجددًا وأخفت المشهد. ولكن، منحت تلك اللمحة العابرة ريكاردو تصورًا جديدًا وغامضًا عن أرثر تيدون، قاضي التحقيقات. هل هو حقًّا ذلك القاضي البارع الذي يجالس ضحيته، ويتلاعب بها، مؤديًا دور داود مع جوناثان، حتى تصل الشرطة؟ لا! لو كانت الأمور جرت كما هو متوقع، لظهرت علامات الابتهاج على وجهه. ولكن كان الترقب هو البادي على وجهه. وسأل نفسه، هل هذه ملامح تعبر عن الخوف؟ لا. ربما بعض الحسابات الذهنية، ولكن الترقب هو الغالب بشفتَيه المفغورتَين وعينَيه الجاحظتَين المحدقتَين المترقبتَين.
سرعان ما توقفت تأملات السيد ريكاردو حين انفتح الباب فجأة، لينطلق منه شعاع ضوء كبير امتد فوق الحصى البيضاء في الممر.
وصل الصوت الجَهْوري البغيض إلى أسماع المراقبين يقول: «هل أنت السيد هانو؟»
«أجل، إنه أنا.»
«هلَّا تتفضَّل بالدخول؟ السيد تيدون معي هنا. كان من المقلق أن أرى الكثير من الزوار المفاجئين في حديقتي في تلك الساعة المتأخرة. ولكني أود أن تخبرني بكل ما فعلتموه في بوردو.»
قال هانو بصوتٍ جاف صارم: «كل شيء؟ لقد كنت مشغولًا للغاية يا سيدي الفيكونت. مورو!»
خرج مورو من الظلام، وتبع الزوار الثلاثة الفيكونت إلى داخل الردهة. ولكن مر اثنان منهم فقط عبر عتبة باب المكتبة. فقد ظل مورو واقفًا أمام الباب.