غاز الخردل
كان قاضي التحقيقات يُزرِّر قفازًا في يده اليمنى. وأومأ بود إلى هانو والسيد ريكاردو.
وقال آسفًا: «لقد خيبت ظني يا صديقي هانو. لم أزل في مكاني نفسه بعيدًا عن بوردو مثلما كنت منذ يومين.»
ردَّ هانو مبتسمًا: «بل على النقيض يا سيدي. لقد أصبحت هناك حقًّا.»
بدت بعض الدهشة على وجه قاضي التحقيقات تيدون. وقال: «ممتاز.» بدا وكأنه على وشك أن يطلب توضيحًا لما قيل، ولكنه عدل عن تفكيره وارتضى بتكرار تلك العبارة بحماسة أكبر: «نعم، ممتاز! آه، شرطة باريس! لا يمكن إخفاء شيء عنهم لمدة طويلة.»
هز هانو رأسه نفيًا. وقال: «سيدي، كلما طالت فترة مزاولتي لمهنتي، زاد تواضعي …» من بين كل الأكاذيب التي سمع السيد ريكاردو هانو يقولها، وهي كثيرة، كانت هذه هي التي أصابته بأكبر قدرٍ من الدهشة، وغمرته بشعور قوي بالإعجاب. ثم قال هانو: «لكي أوضِّح لك الأمر أكثر، يرجع القسم الأكبر من نجاحنا إلى الحظ والأخطاء التي يرتكبها الآخرون.»
قال قاضي التحقيقات في أدب جم: «يجدر بك أن تقنعني بذلك صباح الغد.» ثم نهض واقفًا ومد يده يلتقط قبعته بيده اليسرى.
لم يرد هانو على هذه الدعوة. بل عبر الغرفة في خط مستقيم وأصبح يقف حاليًّا أمام المدفأة، وكان أبعد الموجودين في الغرفة عن بابها. ولكن بدا للجميع أنه يمسك بمقبضه.
ثم سأل بهدوء: «هل ستنصرف سيدي القاضي؟» فتوقف تيدون، وبدا وكأنه رجل يستجدي الإذن بالانصراف وهو يجيب:
«إن سيارتي تنتظرني منذ مدة …»
قاطعه هانو: «منذ حوالي ساعة.»
«لا بد أنك مررت بها في فناء القصر.»
قال هانو: «جئنا عبر البوابة التي راعى السيد دو ميراندول طلاءها بنفسه بالأمس.» شعر السيد ريكاردو بوطأة أحداث رهيبة، ولكنه لم يستطع تخمين هذه الأحداث، فخاطب نفسه: «كل ما يحدث غريب. إن الرئيس، قاضي التحقيقات الواسع النفوذ، يطلب من أحد مرءوسيه أن يسمح له بالانصراف، وتحجَّر جميع من في الغرفة كأنهم أعمدة ملحية بمجرد أن ذكر ذلك المرءوس أنه أتى عبر البوابة التي طُليت حديثًا.»
لا ريب في أن الأمر كان عجيبًا. كانت هناك نبرة تهديد خافتة وغامضة للغاية في حديث هانو. فلم تكن من عادته أن يتباطأ في نطق الكلمات، ولكنه كان يتباطأ في نطق هذه الكلمات، وبدا الاضطراب على كلٍّ من الفيكونت والقاضي. كان القاضي هو أول من استعاد رباطة جأشه.
فقال مبتسمًا: «أوه، لقد جئت عبر هذا الطريق الطويل. إنه يجعلك تمر أمام قصر سوفلاك. نعم، أعرف أنك أكثر من يريد أن يعرف ما يحدث هناك.»
قال هانو: «لم تكن هناك أي أنوار تصدر من نوافذه.»
استغل القاضي تيدون هذه المقاطعة. وكانت هذه إشارتَه، واغتنمها على الفور، وكأنه ممثل عظيم.
فقال: «لا. نحن معشر الريفيين ننام مبكرًا»، ثم نظر إلى ساعته. وقال: «يا إلهي! يجدر بي أن أفرض على نفسي غرامة. ماذا سيقول أهل فيلبلانش الطيبون عندما يقضُّ صوتُ سيارة القاضي مضاجعَهم في تلك الساعة المتأخرة؟»
قال هانو: «من المؤكد أنك لن تذهب بعيدًا.» بدت كلماته وكأنها مطرقة دقت على سندان. فقد استدار القاضي على عقبيه، كما لو أن يدًا خفية ماهرة جذبته من ذراعه.
ولكن واصل هانو حديثه في لباقة: «إنه على مرمى حجر من هنا. على مرمى حجر.»
لم يكن ثمة مجال للخطأ في فهم ما تعنيه النظرات التي تبادلها الرجلان. كان أحدهما يسأل: «ما الذي تعرفه؟» وكان الآخر يجيب: «لن أخبرك.» فيسأل الأول مجددًا: «هل جرؤت على تهديدي؟» فيرد الآخر: «منحني واجبي هذه الجرأة.» ظلَّا واقفَين يحدق أحدهما في الآخر، وشعر السيد ريكاردو بأسًى شديد عندما أدرك أن قاضي التحقيقات لم يرقَ إلى تصوراته المسبقة عنه. كانت البنية الهرمية للقانون تنهار وتتحول إلى سحابة من الغبار مثل منزل عتيق ظل قائمًا لقرن من الزمان. أوه، هذا لا يصح. لا يصح على الإطلاق!
استطرد هانو حديثه قائلًا: «ولكن هناك بعض الريفيين يحولون الليل إلى نهار. إليك السيد الفيكونت مثالًا.»
لم يبد الفيكونت سعيدًا بجر اسمه إلى هذا النقاش. فابتسم ابتسامةً شاحبة. وقال: «نعم، نعم. أنا أعمل حتى وقت متأخر من الليل.»
«ولكن ليس في مكتبتك الزاخرة.» جاءت هذه العبارة في صيغة سؤال أكثر من كونها تصريحًا: «وهذا أمر أثار بعض الدهشة في نفسي.»
ولكن لم يجد الفيكونت صعوبةً في الرد. فقد رد بسرعة وبإجابة وافية، وكأنه قد سمع هذا السؤال المحرج من قبلُ وجهَّز إجابته النموذجية.
قال الفيكونت: «في الشتاء، أؤدِّي أعمالي غير المهمة هنا. فالأشجار تحجب الريح عني. ويصبح المكان هادئًا هنا بينما ترتج جميع النوافذ في الطابق العلوي، كما أنه دافئ. ولكن في الصيف، أنا أستخدم غرفتي الكبيرة في الطابق العلوي. وهي بالطبع الغرفة التي نُجري فيها لقاءاتنا الأدبية والفلسفية. نعم، كما أن لنا رابطةً صغيرة في ميدوك، ويُشرِّفني كثيرون بالحضور من بوردو ليحضروا هذه اللقاءات. وأغلبهم من النساء، للأسف! أعلم أن السبيل إلى إحداث تأثير دائم هو الوصول إلى الرجال، ولكننا نحن البسطاء لا يمكننا تحقيق ذلك. أما السيدات، فنعم، يمكنهن ذلك! قد تُفاجأ بعدد النساء المثقفات الكبير في هذه المنطقة الصغيرة من فرنسا …»
قاطع هانو بسخرية لاذعة تلك العبارات السلسة الأنيقة التي تخرج من ذلك الفم المتناهي الصغر ذي الشفاه الشديدة الحمرة.
وقال: «وهل تُحسب الأرملة تشيشول ضمن هؤلاء المثقفات؟»
تخيل السيد ريكاردو قلبَي هذين الرجلين بين مطرقة وسندان ويتلقيان الضربة. فقد تسمَّرا مكانهما ذاهلَين، وكأنهما دميتان أو رجلان حين أصيبا بإصابات مميتة. ثم ضم الفيكونت راحتي يديه معًا ومسح العرق الذي أغرقهما.
وقال مكررًا: «الأرملة تشيشول؟» في صوتٍ خافت وغريب، ولكن كانت شفتاه ترتعشان وكان ينطق الاسم على نحو خاطئ تمامًا. حدق تيدون في صديقه وارتفع حاجباه إلى وسط جبهته وكأنه يقول: «هذا الرجل مجنون»، ولكن كان وجهه شاحبًا كالموتى وعيناه حمراوين وكأنهما جمرتان. واصل دو ميراندول حديثه قائلًا: «من تكون الأرملة تشيشول؟ لم أسمع هذا الاسم من قبل. سيد هانو، قد يهمك أن ترى الغرفة التي أعمل فيها عندما يكون الطقس دافئًا. وسيُعجبك اختياري كثيرًا، على أي حال.»
هز هانو كتفيه، وردَّ قائلًا: «بما أنك دعوتني لرؤيتها يا سيدي، فلن يكون هناك ما يستحق أن أراه.» ولكن دو ميراندول لم يقبل الرد أو يفهمه.
فقال: «ولكنك مخطئ يا سيد هانو. لمرة واحدة فقط بكل تأكيد. أرجو أن تأتي وتحضر صديقك معك.»
كان قد عاد مبتسمًا ومهذبًا. فتح الباب ولكنه تراجع بحدة.
وقال: «نسيت أنكم ثلاثة.»
«السيد نيكولاس مورو، مساعدي.» سار هانو نحو الأمام من دون أي حماسة. فكان يلبي رغبة مضيفه وكان يتصرف وكأنه رجل أصابه الملل. أما السيد ريكاردو، فعلى النقيض، كان متحمسًا للغاية. كان يشعر بأنه من المرجَّح أن يلاحظ هو تفاصيل مهمة لم يلاحظها الآخرون. وفَّر له بضع دقائق في تلك الغرفة ليتمكن من استخدام عينيه والشعور بجوها والكشف عن أسرارها. كان في مزاج الكشف عن الغوامض. كان الفيكونت يسير أمامهم. التف الممر إلى اليسار خلف المكتبة، وعند جانب المنزل كان هناك سلم يصعد إلى بسطة صغيرة. وظهر أمامهم باب ضخم. فتح دو ميراندول الباب وأضاء الأنوار. دخل هانو والسيد ريكاردو غرفةً طويلة ذات جدار مغطًّى بالألواح الخشبية عن يسارهم وصف من النوافذ عن يمينهم.
لم يخطُ السيد ريكاردو داخلها في البداية. بل ظل واقفًا عند عتبة بابها. كانت تلك الغرفة الطويلة ذات السقف المنخفض تحوي رسالةً على صف النوافذ على اليمين، حيث كانت ثمة أنوار مضاءة حتى الثانية صباحًا ثم خبت. ما الرسالة؟ أفرغ السيد ريكاردو ذهنه من جميع الأفكار. وغرق بكامل وجدانه في الغرفة. دع جو الغرفة يرسل نبضات تحوي رسالتها، وسيكون هو أسطوانة الشمع في جهاز الديكتافون الذي سيستقبلها. ولكنه لم يستقبل أي شيء.
جال ببصره في أرجاء الغرفة. كان هناك صف من المقاعد مصفوف بجانب الجدار، مقاعد جاهزة لوضعها في أماكنها لعقد مؤتمر أو إلقاء محاضرة. وكانت هناك طاولة طويلة في المنتصف وُضعت على أحد طرفيها بعض الكتب، ونشافة حبر، وحبر، وقلم حبر ضخم أحمر اللون، وكومة أوراق لكتابة الخُطب بجانب نشافة الحبر. وعند طرفها البعيد المقابل للباب توجد منصة مثل تلك التي تراها في أي صف دراسي وُضع عليها مكتب المعلم ومقعده على مستوًى أعلى من مستوى أرضية الغرفة. كانت هناك طاولة مكسوة بالجوخ تقف على المنصة بجانب الجدار، وفوق الطاولة كانت هناك أبواب خزانة كبيرة. لم يكن في الغرفة شيء خفي، أو غامض، أو غير مألوف، أو إيحائي، أو غريب، أو مثير للقلق. لم تكن تنطوي على أي رسالة. كانت مكانًا مناسبًا لعقد المؤتمرات الفلسفية التي يتألف أغلب حضورها من النساء. شعر السيد ريكاردو بالحيرة. ووقف في منتصف هذه الغوامض مثل سفينة تقف داخل عين إعصار. وتحيط بها الرياح العاصفة من جميع الجوانب، بينما هنا في المركز يسود هدوء خادع. ولم يشعر في حياته بمثل هذا القدر من خيبة الأمل.
قال الفيكونت دو ميراندول: «أعتقد أنك أدركت الفارق بين هذه الغرفة والمكتبة خلال الليالي الصيفية. إنها معتدلة البرودة وجيدة التهوية. أجلس في مكاني إلى هذه الطاولة. إذا ما رفعت عيني، يمكنني النظر عبر النافذة المفتوحة ورؤية سوفلاك ونهر جيروند. وأرى أنوار السفن الطافية على سطح النهر. وأُغرِق نفسي في هدوء الليل ومداه البصري المفتوح. وتلوح الأفكار، ويستقبلها العقل.»
لم يرتكب الفيكونت خطأ ديانا تاسبورو نفسه ويقر بمعرفة أن السيد ريكاردو قد رأى الأنوار مضاءةً في الثانية صباحًا. وركَّز أكثر على تفسير سبب إضاءة الأنوار. فجلس على مقعده أمام الطاولة الطويلة مواجهًا النافذة، ولوَّح بيده ليُبيِّن مدى اتساع الريف المظلم وما يراه من أراضٍ ونهر ونجوم في السماء.
وغمغم قائلًا: «رائع! رائع!»
سأله هانو من فوق المنصة: «هل تلقي محاضراتك من عند هذه الطاولة؟»
قال الفيكونت: «نحن نبعد الطاولة إلى الأمام بعيدًا عن الجدار ونضع مقعدًا خلفها.» ثم ملأت وجهه ابتسامة. وقال: «أريد أن أعترف لك بشيء يا سيد هانو. لا تبدأُ حياتي إلا عندما أجلس في هذا المقعد خلف هذه الطاولة وأرى جميع هؤلاء المساكين تحت رحمتي طَوال ساعة كاملة.»
وجه هانو نظرةً خاطفة غريبة للغاية نحو دو ميراندول. وقال: «تبدأ حياتك إذن؟ نعم، سيدي الفيكونت، أعتقد أنك لم تقل شيئًا صادقًا أكثر من ذلك في حياتك. أنا أفهمك جيدًا.» كان جادًا للغاية وينطق بسلاسة الكلمة تلو الأخرى بوضوح تام. كان السيد ريكاردو لا يزال غارقًا في انفعال الحماسة. ولكن ظهر أمام عينَيه مشهد مختلف تمامًا. تخيَّل نفسه يجلس مرةً أخرى على أحد المقاعد التي تُتيحها الحكومة في المحكمة الرئيسة في أولد بيلي. وأمامَه يقف أحد المحامين المَلَكيين المشهورين، يخاطب هيئة المُحلَّفين التي تجلس عند الجانب الذي يقابله من المحكمة، مختتمًا مرافعة الادعاء في محاكمة جريمة قتل، بوضوح متزن واستخدام قاتل للكلمات اليسيرة.
رفع هانو يديه نحو أبواب الخزانة، ومنهما كان بابان يلتقيان عند منتصفهما ومقوَّسين عند قمتيهما. وقبل أن يحاول فتحهما، قال دو ميراندول:
«هناك درج في الطاولة يوجد به المفتاح.» رفع هانو طرف مفرش الجوخ الذي كان يتدلى على جوانب الطاولة وفتح الدرج. ولكنه نصب قامته مرةً أخرى فجأةً دون أن يترك مفرش الجوخ أو يرفع عينيه عنه.
قال الفيكونت قبل أن يطلب منه هانو أي تفسير: «كان المفرش القديم ملطخًا بالكثير من بقع الحبر وأصبح رثًّا للغاية فخجلت منه.»
قال هانو معلِّقًا: «فوضعنا مفرشًا جديدًا على الطاولة بالأمس، أليس كذلك؟»
رد دو ميراندول وارتعش صوته قليلًا: «بالأمس … أو أمس الأول … أو منذ شهر. خادمي يعرف متى حدث ذلك.»
قال هانو في إصرار هادئ: «أظن أن هذا حدث بالأمس.» ولم يعترض الفيكونت.
أخذ هانو المفتاح من الدرج وفتح مزلاجي بابي الخزانة ثم فتحهما على مصراعيهما حتى لامسا الجدار. ونظر داخل التجويف الصغير للخزانة، كانت خاويةً دون أي رفوف وتشع بطلاء أبيض. ضغط هانو طرف إصبعه برفق على الطلاء وسحبه وقد تلطَّخ باللون الأبيض.
وقال: «آه! أرى أنك لم تقم بطلاء بوابتك فحسب.»
قال دو ميراندول وهو يهز كتفيه: «قد تؤدِّي فكرة إلى أخرى.»
«نعم، نعم، وقد يؤدِّي الطلاء الأبيض إلى الطلاء الأخضر، وربما الطلاء الأخضر إلى الطلاء الأحمر، أليس كذلك؟ أعتقد أن الأحمر هو اللون الذي نطلي به مقاصلنا.»
ابتسم الفيكونت ابتسامةً شاحبة. ثم نظر نحو السيد ريكاردو، مُظهِرًا بتكلف، نوعًا من التوافق بينهما في الأخلاق والتربية الرفيعة. كانت تلك الدعابات السمجة متوقعةً من رجال الشرطة، ويجدر بالرجال الحكماء أن يتجاهلوها.
ثم سأل هانو: «هل رأيت كل ما تريد رؤيته؟»
رد هانو وهو يغلق باب الخزانة ويضع المفتاح في جيبه: «لقد رأيت أكثر مما توقعت أن أرى. كما أن قاضي التحقيقات ينتظرنا، وهذا لا يليق على الإطلاق.»
فتح باب الغرفة كما لو كان هو صاحب المنزل ودعا مرافقيه للخروج.
قال دو ميراندول: «لا ريب في أن السيد تيدون قد انصرف.»
رد عليه هانو وهو يبتسم بأدب: «لا أعتقد ذلك.» ثم أغلق باب قاعة المؤتمرات، وكان محقًّا فيما قال. فبعد أن هبطوا الدرج، رأوا على الجدار الرئيس للرواق الخيال المشوَّش للقاضي يسقط عبر عتبه الباب المفتوح بفضل مصابيح المكتبة. كان مورو لا يزال يقف حارسًا في الردهة حيث تحدَّث هانو إليه.
وقال: «هل يمكنك أن تُحضر المحقق إلي؟ سأنتظر هنا. الأمر مهم.»
أدَّى مورو التحية وخرج من المنزل. تحرك الخيال على الجدار فجأةً ثم هدأ مجددًا. بدا وكأن القاضي فكَّر في التدخل ولكنه عدل عن الفكرة وقرَّر أن ينتظر. لم يتحدث أي منهم طَوال مدة غياب مورو. كان قد ترك الباب مفتوحًا، وكان حفيف الأغصان الصغيرة التي تُحرِّكها الريح الخفيفة يملأ الرواق بصوتٍ يشبه صوت أمواج البحر وهي تزحف فوق شاطئ مليء بالحصى. غطَّى هذا الصوتَ صوتُ وَقْعِ أقدام، وظهر مورو والمحقق لدى الباب.
قال المحقق: «هل أرسلت في طلبي يا سيد هانو؟»
«نعم. في غرفة الطابق العلوي توجد خزانة فوق طاولة موضوعة على منصة. سأكون ممتنًّا لو وسمتها بختمك. وكذلك يجب وسم الغرفة نفسها بختمك بعد إغلاقها. وبالطبع ستحتاج إلى إذن المفوض. لذا، أستميحك عذرًا أن تُسرع في الحصول على إذنه في أسرع وقت ممكن، وأن تترك حارسًا على الباب حتى تفعل. ها هو المفتاح.»
استدعى المحقِّق رجلًا من الحديقة ونصبه حارسًا عند قمة الدرج، واحتفظ هو بالمفتاح.
وقال: «سأتولى الأمر»، وسُمع صوت تيدون يستدعي هانو إلى المكتبة. تبعه السيد ريكاردو حتى باب المكتبة، وهناك تردَّد في الدخول فقد كان الذوق والفضول يتصارعان في داخله. ولكن دعاه قاضي التحقيقات للدخول، وكان يجلس في مقعد وثير، ويرتدي قفازه، ويضع قبعته على ركبته، ويمسك عصاه بيده اليسرى.
وقال: «نعم، لا توجد أسرار لأخفيها. ادخل أنت أيضًا يا دو ميراندول. هل يمكنك أن تغلق الباب؟ حسنًا!»
كان القاضي يتصرَّف بتحضُّر، ولكن كان وجهه شاحبًا، وكانت قسمات وجهه تختلج من وقت لآخر بسبب تشنجات يسبِّبها ألم جسدي.
قال القاضي بصوتٍ هادئ وبطريقة رسمية: «سيد هانو، بينما كنت في الطابق العلوي، جلست أفكِّر في الفكرة التي شغلت ذهني طَوال اليوم. أنا قلق بالطبع من أن قضيةً على هذا القدر من الأهمية قد تُنهى على عجل، أو دون تحقيق العدالة. ولكني على قناعة تامة بأنه قد حان الوقت لأن أمارس سلطتي. أنا أعفيك من الآن فصاعدًا من أي مهام تتعلق بهذه القضية.»
بُهت السيد ريكاردو! لقد أُعفي هانو من مهامه بطريقة مخزية وغير مشرفة من قبل قاضٍ صغير من الأقاليم! كان إعلان مثل هذا يُعد تجديفًا يرتقي إلى مرتبة تدنيس المقدسات. كما أنه يُعد سخافةً أيضًا. لا ريب في أن السيد ريكاردو أُجبر لمرة أو مرتين على تصحيح مسار المحقق الشهير وتوجيهه إلى مسار أفضل. ولكن رغم إجراء هذه التصحيحات، كان هانو محقًّا في نهاية المطاف. وها هو السيد تيدون الصغير يورِّط نفسه من فرط جهله بالدوس في أعقاب هذا الرجل العظيم، كما قد يفعل كلب بكيني صغير مع كلب لابرادور ضخم. مجرد جملة واحدة قصيرة — كان هذا كلَّ ما يتطلبه الأمر — وستجد ذلك الكلب البكيني يُهرع ليختبئ تحت أقرب أريكة. وكان بمقدور السيد ريكاردو أن يتفوَّه بها. وتصاعد في داخله شعور عارم بالاستياء ونخوة جارفة. كان على وشك أن يتفوَّه بتلك الجملة لولا ابتسامة التقدير الغريبة التي ملأت وجه هانو. كان هانو مسرورًا.
استطرد قاضي التحقيقات الذي اندهش من ردة فعل هانو على عزله: «إن سمعة السيد هانو الحسنة المستحقة ليست خافيةً عني، ولا يجدر به أن يعتبر قراري تقليلًا من إمكاناته. هذا ليس صحيحًا على الإطلاق! وسأوضِّح ذلك في تقريري النهائي. ولكن هذه القضية بالذات معقدة بطريقة غير عادية ولا تندرج تحت فئة القضايا البَدَهية التي يُستدعى جهاز الأمن العام عادةً لتوليها. إنها ليست حادثة شجار لعصابة أباتشي في أحد الملاهي الليلية، ولا عملية سطو في شارع الشانزليزيه. إن الوضع الاجتماعي لجميع الأطراف المتورطة في القضية يفرض أكبر قدر ممكن من الدقة. ويجب أن يُتحرَّى في شأنها بدقة على الفور في سوفلاك. لقد كانت …» ثم اعتدل القاضي في مقعده. وزاد صوته قوةً وظهرت بوضوح نبرةُ استياء فيه. بدا وكأن كلماته قد أسكرته ومنحته ثقةً بالنفس. وقال: «لقد مُنيت بخيبة أمل كبيرة عندما ذهب السيد هانو إلى بوردو بنفسه. أعلم جيدًا أن هناك تحقيقًا مضنيًا تطلَّب منه كامل وقته وطاقته …» وأومأ هانو برأسه.
وقال مقاطعًا: «قضية الأرملة تشيشول.»
كان غريبًا بالنسبة إلى السيد ريكاردو أن مجرد ذكر اسم هذه العجوز الشمطاء يُحدث اضطرابًا. فقد انحنى الفيكونت دو ميراندول وكأنه شجرة في مهب الريح. وبدا السيد تيدون وكأنه قد سُلب لبه. فقد جلس بعينين جاحظتين فاغرًا فاه كأنه أبله، وتجمدت جميع كلماته الفصيحة على شفتَيه، وظلت يداه تختلجان على ذراعي مقعده. كانت الأرملة تشيشول هي عبارة الاختبار، ورقة عباد الشمس الخاصة بالتجربة. ولكن كما أدرك هانو منذ البداية، كان آرثر تيدون رجلًا ذا قوة كبيرة.
فتابع حديثه في ثبات قائلًا: «أيًّا كانت القضية، لا ريب في أنها تطلَّبت تركيزك ووجودك بشخصك. بِناءً على ذلك، سأطلب إذن دو ميراندول باستخدام هاتفه.»
صاح دو ميراندول فاركًا راحتَي يديه معًا: «بالطبع يا صديقي. اعتبر نفسك في منزلك.»
رفع قاضي التحقيقات نفسه من مقعده بيد واحدة. كانت كلماته توحي بالثقة ولكن لم تكن ساقاه قادرتين على حمله. فوقف حتى وازن نفسه على قدميه، وخطا خطوةً نحو الأمام. ولكن كان الهاتف عند الطرف الداخلي من الغرفة، وكان هانو يقف بينه وبين القاضي، ولم يتحرك هانو من مكانه.
وقال في احترام أدهش صديقه: «سيدي القاضي، مع فائق احترامي، أرجو أن تخبرني بالرسالة التي تريد إرسالها. أطلب منك ذلك باعتباره معروفًا.»
رد عليه تيدون بعطف: «لن أسبِّب لك أي ضرر. سأتصل هاتفيًّا بمفوض الشرطة وأخبره بأن خدماتك القيمة مطلوبة في بوردو، ومن ثم فإني أُنهي آسفًا خدمتك في سوفلاك …» ثم صمت للحظة، وقال: «بدايةً من هذه اللحظة.»
ولكن لم يتحرَّك هانو من مكانه.
وقال: «أرجو ألَّا تعتبر سؤالي وقحًا، ولكن هل يعني ذلك أن أوامري بإغلاق غرفة الاجتماعات ووسمها بالختم الرسمي لن تُنفَّذ؟»
«يعني ذلك أني أنا من سيقرِّر ما يجب فعله، وما يتعلق بجميع المتورطين في القضية، بنفسي. وأرجو منك أن تتنحَّى جانبًا.»
كان السيد ريكاردو يترقب تصرفًا بطوليًّا يُذكِّره بأمجاد العصور الغابرة، مثل تحدي قاضي التحقيقات، أو ربما طرحه أرضًا بلكمة واحدة إذا اقتضى الأمر ذلك. ولكنه كان في دولة تُقدس تسلسل السلطة. فتنحَّى هانو جانبًا. وقال في خضوع: «أمر مؤسف سيدي القاضي. كنت آمل أن تعود إلى بوردو معي الليلة.»
توقف تيدون عن السير ونظر نحو هانو بحدة، وقال بابتسامة صفراء: «أنت من سيعود، ولن أكون أنا بصحبتك.»
لا ريب في أنها كانت لحظةً غريبة لمراعاة إبراز الضمائر أثناء الحديث. وشعر السيد ريكاردو بالحيرة من تحذلق القاضي أثناء حديثه. ولكنه كان صاحب اليد العليا، وكان يراعي أن يستغلها إلى أقصى مدًى ممكن.
ردَّ عليه هانو وقد بدأ يتحدث بصورة غامضة: «يا للأسف. يدك تحتاج بشدة إلى رعاية ماهرة لن تجدها إلا في عيادة الطبيب. وحتى إذا حصلت عليها، فلن يُشفى الجرح قبل ستة أسابيع.»
صاح القاضي في غضب: «يدي!»
واصل هانو حديثه قائلًا: «يدك اليمنى. عندما تشرفت والسيد ريكاردو بمناقشة أمر جريمة سوفلاك مع السيد القاضي صباح أمس، كان من الجلي أنه يشعر بألم مبرح. وسيزداد الألم قوة، باستمرار، إذا لم تحصل على العلاج المناسب.»
وقف القاضي يحاول أن يُخضع هانو بنظراته. ولكنه كان قد فقد سيطرته خلال اللحظات الفائتة. كانت نظراته صارمةً بما يكفي لإخضاع جيش من المرءوسين، ولكنه كان قد فقد ثقته بنفسه. ثم صاح فجأة:
«إذا كنتُ قد أحرقت يدي يا سيد هانو، ما شأنك أنت بذلك؟»
رد عليه هانو ببرود: «لا دخل لي على الإطلاق بأنك أحرقت يدك. ولكنك لم تحرق يدك سيدي القاضي. لقد لمست بها بوابةً ما منذ ليلتين؛ وكذلك فعل روبن ويبستر.»
صاح تيدون: «بوابة ما! بوابة ما! هذا الرجل مجنون!»
واصل هانو حديثه في هدوء: «بوابة سيدي الفيكونت التي حرص على حرق طلائها القديم وتنظيفها وإعادة طلائها بالأمس. ولا ريب في أن لديه حقًّا ليفعل كل هذا. كان الورنيش اللزج الذي غطَّى تلك البوابة يحتوي بشكل أساسي على …» وأخرج برقيةً زرقاء من جيبه وراجعها؛ ثم قال: «مادة ثنائي كلورو إيثيل الكبريتيد …»
قاطعه قاضي التحقيقات في شفقة وهو يومئ برأسه نحو دو ميراندول: «يا للمسكين! يا للمسكين! لقد جُن الرجل.»
وافقة دو ميراندول قائلًا: «لا ريب في ذلك.» كان السيد ريكاردو قد توصل إلى الاستنتاج نفسه على استحياء، حتى أخرج هانو البرقية من جيبه. كان هانو قد أرسل الكثير من البرقيات مساء أمس من بوياك، ومن بينها واحدة أرسلها إلى شرطة سكوتلاند يارد لتوجيهها إلى رئيس أحد مختبرات العقاقير في شمال إنجلترا.
استطرد هانو حديثه قائلًا: «هذه المادة معروفة لدى العامة باسم غاز الخردل …» وصمتت في هذه اللحظة جميع الاتهامات التي وُجهت له بأنه مجنون، فقال: «اختُرع هذا الورنيش في عام ١٩١٧ عندما كانت موارد الحلفاء المالية ضئيلة. وعندما اقتضت الحاجة معرفة هُويات الأشخاص الحقيقيين الذين كانوا يجتمعون في مواعيد محددة داخل كوخ معين على الساحل الغربي لأيرلندا. فطُليت بوابة الكوخ بهذا الورنيش، وتلطخت أيدي كل من دخل الكوخ به. لا يحدث أي شيء طَوال ساعة كاملة. ولكن مع اقتراب الساعة من نهايتها، تبدأ قرحة في الانتشار. في أفضل الأحوال، تحتاج هذه القرحة ستة أسابيع حتى تندمل، ومن ثم كان تحديد هُويات هؤلاء الأشخاص أكثر دقةً وبساطة حتى من بصمات الأصابع. استُخدمت الطريقة المبتكرة نفسها على بوابتك منذ ليلتين يا سيدي دو ميراندول. ووقع ثلاثة أشخاص في شَرَكها.»
تعجب السيد ريكاردو الذي كان يستمع بفم مفتوح بعدما لم يستطع أن يتمالك نفسه أكثر من ذلك: «ثلاثة؟»
حوَّل هانو عينَيه من دو ميراندول، الذي كان يقف مسندًا مرفقه على رف المدفأة، إلى تيدون، الذي غاص في أحد المقاعد، وضحك مبتهجًا، وقال: «ستلاحظ يا سيد ريكاردو أنك الوحيد الذي تعجَّبت عندما قلت إنهم ثلاثة أشخاص. فهذا العدد ليس مفاجئًا بالنسبة إلى هذين الرجلين المحترمين.»
استدار الفيكونت وفرد يديه. وقال بصوت ساخر مرتعش: «من العجيب ألا يوجد أثر لهذا السم الغامض على يدي.»
رد عليه هانو في بساطة: «وكيف كان سيصل إلى يديك؟ لقد عدت إلى منزلك من قصر سوفلاك في وقت مبكر عبر الطريق المعتاد. لقد فعلت ذلك دون شك! عدت مبكرًا لأنه كان لديك بعض الترتيبات لتجهيزها، وعدت عبر الطريق المعتاد لأنك لم ترغب في لفت الانتباه إلى أنك غيَّرت من عاداتك. لم يطل غاز الخردل إلا بوابتك الصغيرة الخاصة التي استخدمها زوار مُعيَّنون في ساعة متأخرة من الليل بعدما خلد العالم بأسره إلى النوم.»
كرر السيد ريكاردو حديثه قائلًا: «ولكنك قلت إنهم ثلاثة؟» ربما أخطأ عندما تدخَّل في مناقشة رسمية، ولكنه لم يكن يطيق صبرًا ليفهم هذه النقطة قبل أن تُثار نقاط أخرى تنحِّيها جانبًا. ولكنه قال: «أتفق معك على اثنتين. السيد تيدون وروبن ويبستر؛ ولكن من الثالث؟ من غيرهما تقرَّحت يده بسبب لمس هذه البوابة؟»
قال هانو: «إيفيلين ديفينيش.»