الفصل الثاني والعشرون

القاضي يدخِّن سيجارة

قفز السيد ريكاردو في الهواء حقًّا عندما سمع الاسم الثالث. ونظر نحو هانو في ترقُّب. كيف يمكنه أن يعرف ذلك؟ لقد تخطى تخمينه هذه المرة جرأته المعتادة، وكذلك ثقته المعهودة بنفسه. ولكن لم يتفوَّه أي من الرجلين بكلمة اعتراض، ما جعلهما متهمَين. فجلس القاضي تيدون محني الظهر في مقعده ووجهه شاحب مثل ورقة بيضاء، وعيناه مثبتتان على نار المدفأة. ووقف الفيكونت دو ميراندول وكأنه صبي ضخم مترهِّل أمسكت به مربيته متلبسًا بإحدى حماقات الطفولة. وكان يرتجف من قمة رأسه الأصلع إلى أخمص قدمَيه، وكانت تصدر من بين شفتَيه همسًا صيحات مكتومة ثم يتراجع عنها، ثم يهمس بها مجددًا. وتكشفَّت تلك الحُجة اللعينة تدريجيًّا مثل ورق البرشمان أمام عيني ريكاردو. لقد ذهبت إيفيلين ديفينيش إلى منزل الفيكونت بعدما نام العالم. ولاقت حتفها بعنف في غرفة الاجتماعات، وظهرت على يدها نفس التقرحات التي ظهرت على يدي القاضي تيدون وروبن ويبستر مدير قصر سوفلاك. ولهذا السبب قُطعت تلك اليد بعد موتها. كان إجراءً احترازيًّا وحشيًّا ارتكبه رجال أفزعهم الخوف ولم يكن عقابًا ساديًّا. لم يكن ليفيدهم إغراق جثة المرأة في نهر جيروند، حتى وإن ثُبتت في القاع بالرصاص، وفي راحة يدها الجرح نفسه الذي يؤلم يد كل من المدير روبن ويبستر والقاضي تيدون! لا، لا! إن الجثث يُعثر عليها في الأنهار. يجب استخدام العقاقير بالتأكيد. ويجب اتخاذ الإجراءات الاحترازية خشية أن تنكشف حقيقة أن القاضي تيدون والمدير روبن ويبستر عبرا البوابة نفسها في الليلة نفسها.

كان القاضي هو أول من استعاد رباطة جأشه، وقال: «لا أعرف أي شيء عن السيدة ديفينيش، بكل تأكيد. ولكني لا أُنكر أني استخدمت هذه البوابة منذ ليلتين. لمَ قد أُنكر ذلك؟ دو ميراندول صديقي. لقد ذكرت كلمة فِخاخ يا سيد هانو. نعم، إلا أنك قد تضع فخًّا لحيوان قاقم ولكن قد يفقد عصفور ساقه. الفِخاخ لا تصطاد إلا الأبرياء …»

فكر السيد ريكاردو، يا له من تغيير طرأ على الرجل! منذ خمس دقائق كان يقول: «اخرج! أنت مُعفًى من مهامك!» أما الآن فيقول: «ثمة تفسير لذلك. فقط اسمعني، واسمع كلامي المعسول!»

ولكن كان هانو مستعدًّا لذلك، فقاطعه قائلًا: «سيدي القاضي، أستميحك عذرًا. أنا، كما أوضحت لي، مرءوسك. لا يصح أن أستمع إلى … هل يمكنني أن أُطلِق على ما تقول تبرئة ساحة؟ … من رئيسي. ولكن من ناحية أخرى، كلَّفني محافظ بوردو بأن أُسلِّم خطابًا لك. فهو أيضًا قلق بشأن القضية. يبدو أن لها الكثير من الأذرع. إنها قضية أشبه بأخطبوط، ويتوق المحافظ لأن يسمع كل ما يمكنك أن تخبره به.»

قال القاضي مكرِّرًا: «محافظ بوردو.» مدَّ يده نحو هانو الذي أخرج الخطاب من جيبه. وقرأ الخطاب بتمعُّن مرة، ثم مرةً أخرى. وقال في صرامة: «كان يجدر بك أن تخبرني بأمر هذا الخطاب على الفور. ولكن يبدو لي أنك جرؤت على التلاعب بي يا سيد هانو. لقد عرفت الآن أن العيادة والمحافظة مصطلحان مترادفان. سأضع في اعتباري أن أعرض ما فعلت أمام الجهة المناسبة، كما أعتبر أنه من واجبي أن أمتثل لرغبة المحافظ وأرافقك إلى بوردو رغم تأخر الوقت.»

أخفى هزيمته بثقة مثيرة للإعجاب. أقرَّ له السيد ريكاردو بذلك. ولكنها كانت هزيمةً في نهاية المطاف. لم تعد ثمة حاجة إلى الاتصال بمفوض الشرطة هاتفيًّا في فيلبلانش وإبطال أوامر هانو. ثم نهض واقفًا من كرسيه.

وقال: «أعتقد أن سيارة هذا الرجل النبيل تحت إمرتك، أليس كذلك؟»

فانحنى هانو. وقال بأدب: «إن السيد ريكاردو يعاملني بكرم كبير.» وفتح باب الغرفة. وقف مورو في الرواق في وضع الانتباه. فقال له هانو: «مورو، القاضي يرغب في العودة معنا. هل يمكنك أن تصحبه إلى السيارة؟ سأتبعكما.»

تردَّد تيدون لجزء من الثانية عند عتبة باب الغرفة. هل أدرك أنه على الرغم من أن الكلمة لم تُقل بطريقة رسمية، فإنه، قاضي المقاطعة الطموح، قيد الاعتقال؟ أم أنه كان يُفكِّر بعمق في حُجة بارعة من شأنها أن تبرِّئه من أي مشاركة في الجريمة؟ لم يستطع السيد ريكاردو أن يُخمِّن. وضع القاضي قُبعته على رأسه، وسوَّاها فوق رأسه في رضًا، ثم خرج من الغرفة. بعد لحظات، سمع ريكاردو صوت خطواته وصوت خطوات مورو على حصى الدرب خارج المنزل. وداخل الغرفة، التفت هانو نحو الفيكونت دو ميراندول.

وقال: «سيدي، لا أعرف بعدُ إن كان يمكن إنفاذ القانون عليك أم لا. أم أنه من الأفضل ترك الرأي العام ينهشك حتى النخاع، ولا ريب في أن هذا سيحدث. في الوقت الحالي أنت قيد الإفراج المؤقت.»

دار هانو حول نفسه وخرج من المنزل. وأمسك بذراع السيد ريكاردو وقاده نحو البوابة.

وقال: «ثمة شيء آخر يُقلقني. سنرى.»

كان قاضي التحقيقات قد ركب السيارة حقًّا عندما عبر هانو وصديقه البوابة. وركبا السيارة بدورهما، حيث جلس ريكاردو بجانب تيدون، وجلس هانو في مواجهته على المقعد المقابل.

وقال: «شغِّل الأنوار الأمامية يا مورو وانتبه.» واستدار هو أيضًا في مقعده وظل يراقب الطريق من بين كتفي مورو والسائق. انسابت السيارة بسلاسة هبوطًا على تل، وعبرت المرعى، ومرت أمام المرأب قبل أن يحدث الأمر الذي كان يتوقعه هانو. تقدم رجل من جانب الطريق حاملًا حقيبة ملابس. توقفت السيارة، وسُلمت الحقيبة إلى مورو، وانحنى هانو إلى خارج النافذة.

وسأل في ترقُّب: «هل سمعك أحد؟»

«لا أحد. كانت السيدتان لا تزالان في غرفة الاستقبال عندما صعدت إلى الطابق العلوي. أنا واثق بذلك.»

«حسنًا!»

تحركت السيارة مجددًا، ودارت حول القوس الزهري الفاتح لقصر سوفلاك، ومثلما قد يفعل أي شخص يُدرك مدى فداحة المهمة وضيق الوقت، حافظت على تقدُّم سريع، وثابت، ومنتظم طَوال الطريق إلى بوردو.

تحدث قاضي التحقيقات بنبرة نَمَّت عن بعض الاهتمام. وقال: «أعتقد أن ما سُلم إليك في السيارة حقيبة ملابس، أليس كذلك؟»

أجابه هانو: «بلى.»

«هل هي من قصر سوفلاك؟»

قال هانو: «نعم، طلبت من المحقق المسئول عن هذا الطريق أن يحضرها لي دون أن يلفت الأنظار قدر الإمكان.»

تبع ذلك لحظة صمت، ثم قال القاضي: «هذا غريب. لا ريب في أنها تحتوي على بعض الأدلة المهمة.»

قال هانو: «لا، سأخبرك بما في الحقيبة أيها القاضي. كان من المهم أن أحصل عليها من دون أن يعرف أي من سكان قصر سوفلاك أي شيء عنها. ولن أتمكَّن من التحرك حتى الغد. لهذا، لم أكن لأتمكن من معرفة حقيقة الأمر كاملةً حتى الغد. لدي شكوكي، ولكنها ليست كافية. والآن، إذا ما عرف سكان القصر أن هذه الحقيبة قد أُعدت وأُخذت سرًّا، فمن الممكن أن يحدث تدخُّل من شأنه أن يُضر بمسار تحقيق العدالة.»

ظل القاضي صامتًا لوهلة، وظل ساكنًا أيضًا. ولم يتحدث إلا عندما كانت السيارة تمر كالبرق في بوياك.

فقال: «سأكون ممتنًّا يا سيد هانو لو تكرَّمت وأوضحت أمر هذه الحقيبة أكثر.»

ردَّ هانو في ود: «بالطبع. لا أسرار بين ثلاثتنا. تحتوي الحقيبة على بعض الملابس من أجل الآنسة جويس ويبل.»

سأل تيدون من رُكنه المظلم داخل السيارة: «لقد عثرتم على هذه الشابة إذن؟»

رد عليه هانو: «يُسعدني أن أقول نعم. كانت ضربة حظ، التي يجب أن أغتنمها في عملي، قادتني إلى منزل الأرملة تشيشول في شارع جريجوار. ووصلت في الوقت المناسب.»

«إنها على قيد الحياة إذن؟»

«نعم. تعرضت لمعاملة سيئة. ولكنها شابة. وأعتقد أنها حصلت الليلةَ على تعويض مناسب، وغدًا سنعرف كل ما حدث في قصر ميراندول منذ ليلتين بالتفصيل.»

قال القاضي: «أخبار عظيمة. لم أكن لآمل في أفضل منها.»

استمر هانو في الحديث عن موضوع الحقيبة بطريقة رآها السيد ريكاردو غير ضرورية: «لذا، يمكنك أن تتخيَّل مدى راحتي عندما حصلت على الحقيبة دون أن يعرف أي من أصحاب المنزل. إذا ما عُرف أن جويس ويبل في أمان وأن الحقيقة الكاملة ستظهر غدًا، فأنا أتوقع، كما قلت، أن يحدث شيء يعرقل مسار تحقيق العدالة …»

فكَّر السيد ريكاردو أن هذا معناه أنه قد تكون هناك حالة انتحار، وربما اثنتان، وربما ثلاثة. مَن يعلم عدد سكان سوفلاك المتورطين في تلك الجريمة الغامضة؟

قال القاضي: «أفهمك تمام الفهم.» وعاد إلى صمته مجددًا.

ولكن عندما بدأ شعاع من الضوء يلوح في السماء فوق بوردو، قال: «أريد أن أدخِّن.» ووضع يده داخل جيبه ليُخرج علبة السجائر.

ضحك هانو في راحة تامة، وقال: «كنت متشوقًا لأن أسمعك تقول ذلك.» ونبَّه صوت حفيف الورق السيد ريكاردو إلى أن علبة سجائر ماريلاند الزرقاء بين أصابع هانو.

وقال هانو: «معي ثقاب. اسمح لي.» صدر صوت احتكاك، وشعلة صغيرة، ثم ضوء أزرق متنامٍ استمر لبضع ثوانٍ، ثم سطع اللهب الأصفر، وتحول الظلام داخل السيارة الفارهة إلى مكان يعج بالظِّلال الراقصة مع وجهين فقط يظهران في بؤرة الضوء. أوصل هانو عود الثقاب إلى سيجارة تيدون، ثم أشعل سيجارته، وظل الرجلان يحدقان بثبات في بعضهما لبضع لحظات.

قال القاضي بهدوء: «أشكرك.»

figure
أوصل هانو الشعلة إلى سيجارة تيدون … وظل الرجلان يحدقان بثبات في بعضهما لبضع لحظات.

احترق عود الثقاب كله وانطفأ، وخيَّم الظلام مجددًا. ظل الرجلان يدخِّنان في صمت، وسيجارتاهما تتوهجان وتخفتان، ثم سقطت سيجارة تيدون على أرضية السيارة، وأثناء ما داسها هانو بقدمه، ملأت رائحة اللوز المر السيارة. فتح هانو نافذة السيارة.

وصاح قائلًا: «أخرج فمك في الهواء يا صديقي»، وأطاعه ريكاردو مبعدًا جسده عن ذلك الشيء الذي أصبح يهتز ويتمايل مع كل حركة تفعلها السيارة وهو راقد خلفه في أحد أركان السيارة. كانوا عائدين حقًّا إلى المدينة. وبعد بضع دقائق، وقفت السيارة أمام الفندق في شارع كور دو لينتندانس. كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف صباحًا، ولم تكن أي من غرف الفندق مضاءة، ولا أي غرفة في الشارع بأكمله.

قال هانو: «سيدق مورو الجرس ليستدعي البواب الليلي. ولن تتفوه بشيء عما حدث. أنا أخدم القانون. ولن أسمح لأحد بأن يلحق به العار إلا في حدود ما هو ضروري.»

قال السيد ريكاردو وهو يرتعد رعبًا: «لقد أعدمته.»

قال هانو عابسًا: «لست أفضل من الرجل الذي يستخدم المقصلة.» ساعد السيد ريكاردو على الخروج من السيارة وأسنده حتى عبر الرصيف. أجلسه على مقعد في بهو الفندق وأمر البواب أن يحضر كأسًا مليئة بالبراندي، ووقف بجانب ريكاردو حتى شربها.

ثم سأله باهتمام: «هل أساعدك في الصعود إلى غرفتك؟» ولكن هز السيد ريكاردو رأسه نفيًا. واستند إلى الدرابزين أثناء سيره؛ فقد كانت ساقاه ترتعشان تحته، وبدأ يصعد الدرج. عاد هانو إلى السيارة، وبعد دقيقة، أصبح الشارع فارغًا مجددًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥