السيد ريكاردو يتناول الغداء
قضى جوليوس ريكاردو يومًا شاقًّا كان من شأنه أن يرهق حتى شخصًا أكثر شبابًا وحبًّا للمغامرة، ووقعت على رأسه في نهاية اليوم صاعقة كبيرة أفقدته إدراكه. ولم يكن غريبًا على الإطلاق أن ينام كلوح خشب. تلاشت صور القاضي تيدون، والفيكونت دي ميراندول، وإيفيلين ديفينيش، وروبن ويبستر، وهانو، والسيدة المسنَّة المتعجرفة في سوفلاك، والقس ذي الخطوات المتسلِّلة، وديانا تاسبورو، وحتى جويس ويبل التي شغلت أرق مواضع قلبه، حتى صارت شبه شفافة مثل خيوط العنكبوت. وبدأت تختفي حاملةً معها ما أثارت من تساؤلات وحيرة. ولم يتخيَّل على وسادته أي شبح، ولم يغزُ أي سؤال أحلامه. نام كما ينام الصبية بعد لعب مباراة كرة قدم. ولم يكن سطوع شمس النهار ولا جميع دقات ساعات بوردو ليستطيعا إيقاظه. دقت الساعة منتصفَ النهار عندما رأى، في جزء من الثانية، أحد تلك الكوابيس المُعذِّبة التي تتجلى أحيانًا قُبيل لحظة الاستيقاظ الحقيقية. كان الكابوس معذِّبًا لأنه لم يستطع أن يصرخ أو يتحرك، وكان يجب أن يظل راقدًا كما لو كان ميرلين آخر سقط ضحيةً لتعويذة أبدية. كان يحلم بأنه يرقد في جحيم من الدخان الحار، بينما يمسك القاضي تيدون بيده ويشير قائلًا: «هناك! هذا هو المكان.» وقطعت السيدة تاسبورو المسنة ذراعه من عند المرفق بسكين فاكهة بسلاسة ودون أي جهد يُذكر. جلس في فراشه صارخًا وقلبه يدق في صدره بقوة. كان هانو يجلس بجانب فراشه، وسيجارة سوداء بين أسنانه وأصابعه تقيس عدد دقات قلب السيد ريكاردو.
بعدما بدأ السيد ريكاردو يسبح تدريجيًّا نحو استعادة وعيه وإدراك أنه صرخ من فرط خوفه، رمق زائره في استياء.
وقال هو يهز يده في الهواء إلى أعلى وأسفل كما لو كانت زعنفة سمكة: «ربما كنت رجعيًّا، ولكني لا أستطيع أن أتحمَّل في غرفة نومي إلا أخف أنواع التبغ التركي.»
ردَّ عليه هانو في ود: «حسنًا!» ولكنه لم يتوقَّف عن نفث الدخان من فمه. وقال: «هذا يعني أني كلما زدت من نفث دخان سيجارتي الماريلاند، نهضت أنت من فراشك أسرع.»
عادت أحداث الأمس تتزاحم في عقل ريكاردو. فصاح: «أنت تحتاج إليَّ. يجب أن أُدلي بشهادتي. لقد أقدم قاضٍ على قتل نفسه في سيارتي الرولز رويس. هذا أمر مهم للغاية. أرجوك تقاعد.»
كان السيد ريكاردو قد أزاح ملاءات السرير ورن جرس استدعاء إلياس تومسون. وفي خلال ساعة كان في طريقه إلى مبنى المحافظة، فلم يكن لديه ما يفعله خلال يومه إلا تأييد رواية هانو. ولكنه عرف كيف مات تيدون حقيقة. كان يحتفظ في علبة سجائره بسيجارة ذات سُمك خاص. وكانت محشوةً من عند طرفيها بكمية ضئيلة من التبغ، ولكنها كانت في الحقيقة مملوءةً بأنبوب يحتوي على جرعة من حمض البروسيك بتركيز ٩٠ في المائة.
قال هانو عندما جلس مع صديقه بعد ذلك لتناول الغداء في مطعم شابون فين: «لقد أخبرتك بأنه رجل بارع للغاية. كان قد استعدَّ لجميع الاحتمالات.»
قال السيد ريكاردو: «وكنت تعلم أنه قد استعدَّ لذلك.»
هز هانو كتفيه. وقال: «لقد شككت في الأمر، وأصدقك القول، شعرت بالسرور أنه اختار تلك الطريقة ليخرج من المأزق. إنه أحد أعضاء الهيئة القضائية. كانت الفضيحة ستصبح مدويةً عندما تُكشف جميع الحقائق في محكمة الجنايات. وكان من الخطر على سلك القضاء أن يعيش السيد تيدون حتى تُصدر المحكمة حكمًا ضده.»
سأل السيد ريكاردو متحيرًا: «هل كانت ستحكم عليه بتهمة قتل إيفيلين ديفينيش؟» فأسرع هانو بمقاطعته.
وقال: «أوه، لا، لا يا صديقي.»
فرفع السيد ريكاردو يديه في الهواء. وصاح: «أنا تائه وسط الضباب. يمكنني سماع صافرات الإنذار وأبواق التنبيه آتيةً من هذه الناحية وتلك لتخبرني بموقعي، ولكن كلما سمعت المزيد منها، زادت سماكة الضباب، وقلت ثقتي بصحة موقعي.»
قال هانو وهو يجول ببصره في أرجاء الغرفة: «جرِّب هذا السلمون المدخن. خلال المرات النادرة عندما يصحبني صديق ثري لتناول الغداء في مطعم شابون فين، لا أكون واثقًا بما إذا كنت أتناول الغداء في في مطعم شابون فين، لا أكون واثقًا بما إذا كنت أتناول الغداء في حديقة صخرية أم في قاع حوض أسماك.»
كان السيد ريكاردو معتادًا على ذلك المزاج المحير لذلك الضابط في جهاز الأمن العام عندما يؤدي دور الرجل الغامض رغم أنه يعرف كل شيء، فصاح بشيءٍ من اليأس: «أريد منك أن تخبرني بأمر واحد. أريدك أن تخبرني بكيفية اكتشافك أن تيدون آذى يده.»
أجابه هانو ضاحكًا: «نعم، هذا سيثير اهتمامك.» ثم ملأ كأس صديقه وكأسه بخمر لافيت من إنتاج عام ١٨٩٩. ثم قال: «طرأت عليَّ فكرة غير مؤكدة في البداية. ثم أيَّدها لي سائقك. ثم جئت أنت وأكَّدتها بصورة أكثر من رائعة.»
اعتدل السيد ريكاردو في جلسته. وتحدَّث بقدر كبير من الوقار.
وقال: «أتوقع منك دائمًا قدرًا معينًا من السخرية. أكثر من ذلك! عندما تُسهب في الحديث في سياق معين وأقاطعك أنا، أعلم يقينًا أنك ستهاجمني وتعلِّقني على حبل المشنقة. ربما لا يعجبني ذلك، ولكني لا أستاء منه. أعلم أني رجل مُسِن محدود الأهمية حاباه الحظ بأن أصبح صديقًا لشخص متميز للغاية. ولكن بعدما تُخبرني بأن الأمر برمته قد انتهى، ويصبح مزاجك هادئًا بينما أتحرق شوقًا لكشف ما لا أعرفه، فإني أُقر بأني أُفضِّل أن تُخفِّف عني حيرتي.»
وعلى الفور، خيَّم الندم على وجه هانو الضخم. وصاح قائلًا: «سيدي العزيز، قد لا يُقدِّر أحد علاقة صداقة مثلما أُقدِّر أنا علاقة الصداقة التي أتشرف بأنها تجمعني بك؛ أنا لا أتلاعب بك. لا! سأخبرك بالحقيقة!» كان يدافع عن نفسه بصدق، وكان متأثرًا بشدة، فقال: «اسمع! ذهبنا — أنا وأنت — إلى مبنى محافظة فيلبلانش. حسنًا! والتقينا السيد تيدون الذي اصطحبنا إلى مكتبه.»
وافقه ريكاردو قائلًا: «نعم.»
«ووضع قبعته على عصاه المستندة إلى طاولة جانبية. حسنًا! ولكنه لم يخلع قفازه. وظل يرتدي قفازه طَوال المقابلة. والآن اسمعني. نعم، لا يخلع الممثلون قفازاتهم وهم على خشبة المسرح. ولا أعرف السبب. السيد كليمنسو يفعل ذلك أيضًا. ولكن، بغض النظر عن الممثلين والسيد كليمنسو، يخلع الناس قفازاتهم في الغرف المغلقة. جعلني ذلك أتساءل. ثم حلَّت لحظة عندما كنت أنت تقص قصتك، وكانت لحظةً شديدة الغرابة. كنت تتحدث عن تلك الغرفة التي طرقت على بابها تحت جنح الليل. قلت: «وكانت غرفة ديانا تاسبورو.» وفي خضم غضبه من صعوبة المشكلة، ضرب سطح طاولته بيده اليمنى. هل تذكر ذلك؟»
«نعم.»
«ثم استدار على الفور موليًا ظهره لنا ووجهه إلى النافذة.»
«نعم.»
«ورفع ذراعه اليسرى وبدأ يعبث في مزلاجها.»
بدأ ذلك المشهد من غرفة القاضي يتضح أكثر فأكثر في ذاكرة ريكاردو بفضل تحفيز رواية هانو لها.
فوافقه قائلًا: «نعم.»
«ولكن بالنسبة إلي، بدا وكأنه يتشبَّث بهذا المزلاج. وتمايل جسده قليلًا. بدا لي الأمر بوضوح وكأن الرجل يكاد يفقد وعيه. ثم تحدَّث، ولكنه تحدَّث بصوتٍ ضعيف وخافت لدرجة أني أشفقت عليه. ولم يستدر ليُوجِّهنا مجددًا إلا بعد مدة طويلة. فزادت التساؤلات في داخلي. وتذكرت أن روبن ويبستر قد جرح يده أيضًا. وعندما وصلنا إلى قصر سوفلاك تلكَّأت لأجعلك تسبقني لأتحدث مع سائقك على انفراد. نعم، لم يعجبك أن أتحدث إلى سائقك. لا، ولكن كان من الجيد أن أتحدث إليه. فقد عرفت أمرين؛ نعم، أولهما عبارة اصطلاحية، سأستخدمها في الوقت المناسب، وثانيهما تأكيد مهم لفكرتي. قلت: «عندما تعلَّق ذلك الرجل بيده اليسرى في مزلاج النافذة، ما الحالة التي كان عليها؟» طرحت عليه هذا السؤال، وكانت إجابته، دعني أتذكر ما قال، كالآتي: «يا للهول، كاد يهلك. كان يحاول استجماع قواه.» كانت عبارة يا للهول جيدة، وقرَّرت أن أتذكرها، ولكن بقية الإجابة: «كاد يهلك. كان يحاول استجماع قواه.» فقد وجدتها صعبة إلى حدٍّ ما، رغم إلمامي بلغتكم. فأجريت بحثي، ووجدت أن السائق كان يعني ما توقعت. كان تيدون على وشك فقدان وعيه. كان قد صدم يده بسطح مكتبه، وشعر بألم مبرح لدرجة أنه اضطر لتعليق نفسه في مزلاج النافذة ليمنع نفسه عن السقوط مغشيًّا عليه. هذا بالنسبة إليَّ والسائق. والآن، لنتحدث عنك.»
قال السيد ريكاردو وهو يميل إلى الأمام في استمتاع وقد نسي كل شيء عن كرامته واستيائه: «نعم، لنتحدث عني الآن.» كان بصدد أن يسمع الدور الجيد الذي لعبه في هذا التحقيق. لم يكن واثقًا تمامًا بجدواه. ولكنه سيعرف الآن.
قال هانو: «كنا، أنا وأنت، في شرفة سوفلاك. ونظرت أنت عبر النافذة ورأيت في ظلال الغرفة رجلًا يوليك ظهره.»
«نعم.»
«وصحت قائلًا بثقة تامة: «هذا قاضي التحقيقات».»
«نعم.»
«ولكنه لم يكن قاضي التحقيقات. بل كان روبن ويبستر. إن هذين الرجلين يشبه أحدهما الآخر. أليس كذلك! ولكنهما، على النقيض، لا يشبه أحدهما الآخر كثيرًا. فسألت نفسي، وبالطبع سألتك، إذا تذكر، لمَ ارتكبت هذا الخطأ بهذا القدر الكبير من الثقة. ولم تتمكن من إخباري بالسبب. ولكن هذا لم يمنعني عن التساؤل. لا بد من وجود سبب. ثم توصلت إليه. ذلك الرجل المسكين كان يعلق يده اليمنى بين أزرار معطفه مثلما كان روبن ويبستر يعلق يده اليمنى في حامل. فتحت هذه الحقيقة اليسيرة عالمًا كاملًا من الارتباطات والاحتمالات أمام عيني. لا ريب في احتمالية أن الإصابة التي لحقت بويبستر سببها معصرة النبيذ. ولكني فكرت أكثر في احتمالية أن كلًّا من قاضي التحقيقات وويبستر قد أصيبا في المكان نفسه وبالطريقة نفسها. وبدأت أسأل نفسي، هل يُمثِّل قاضي التحقيقات الممتاز هذا خصمًا لي؟ لقد ساعدتني، على مدار التحقيق في هذه القضية، لقد ساعدتني كثيرًا.»
سأله السيد ريكاردو متشوِّقًا وهو يضع في طبقه شريحة لحم طرية: «كيف؟ كيف؟ هل يمكنك أن تعطيني مثالًا؟»
ردَّ عليه هانو: «سأعطيك مثالًا على المساعدات البسيطة وآخر على المساعدات المهمة. بالنسبة إلى المساعدات اليسيرة، أنت من أخبرني بالتغير الكبير الذي طرأ على الآنسة تاسبورو، وكيف أنها، بعدما كانت سيدة جماعتها الصغيرة، أصبحت تابعةً خانعة مسكينة ولم يبدُ أنها تلاحظ ذلك التغير في وضعها. كان هذا أمرًا مثيرًا للاهتمام جدًّا بالنسبة إلي. وجدَت امرأة عجوز، ظلت سنوات طوالًا من دون نفوذ، نفسها فجأةً في موضع السلطة، وتمسَّكت بها، واستماتت عليها، وأصبحت ناقدةً لتصرفات غيرها وفظة، هذا فهمته بسهولة. أما الملكة الشابة بملابسها الأنيقة، وأموالها، ومنازلها، فتخضع للأوامر والتوبيخ — في هذه الأيام — بل وتؤرقها … لا، لقد حيَّرني ذلك. إن المضايقات اليسيرة وتصيُّد الأخطاء المستمر من شأنهما أن يحطِّما الأعصاب. يظل استياء المرء منها يزداد أكثر فأكثر بدلًا من أن يكف عن ملاحظتها. كانت تلك التفصيلة مهمة، وربما كانت أكثر أهميةً من حقيقة أنها اختارت ترك لندن في ذروة موسمها لتقيم في بياريتز في مدة ركودها. لقد لفتَّ انتباهي إلى انقلاب غريب للغاية في شخصية الآنسة تاسبورو، ظهور هوس كبير. نعم.»
جلس هانو برهةً مبتسمًا. كان دأبه أن يذكِّر نفسه صباحًا ومساءً قائلًا لها: «عليك أن تتعاملي مع أشخاص، لا مع دمًى.» وكان يشعر بمتعة كبيرة عندما يكشف له أحد التغيرات الطفيفة في السلوك أو الشخصية، والذي قد يبدو للوهلة الأولى غير مهم، عن حقيقة تختبئ وسط غابة كثيفة من الألغاز. ولكن لم يكن السيد ريكاردو سعيدًا بأن يتركه مُعلَّقًا لمدة طويلة من أجل تأملاته الراضية.
فقال: «ماذا عن المساعدات الكبيرة التي قدَّمتها لك؟»
«لا ريب في أن هذا الجبن الأبيض ممتاز، أليس كذلك؟ في مطعم شابون فين، سواء كنت في حوض أسماك، أو في حديقة حجرية، ستستمتع بطعامك. ما رأيك! هل تريد بعض القهوة وبعضًا من المشروب الأفضل في المطعم؟ نعم؟ وسيجارًا ضخمًا سميكًا من شأنه أن يفسد تناسق بدلتك السياحية الفاخرة. حسنًا. سأشعله سريعًا، ثم سأخبرك بما تريد أن تعرف. وإلا فسأجد جرعةً مركزة بنسبة ٩٥ في المائة من حمض البروسيك داخل السيجار القادم الذي ستُعطيه لي. نعم يا صديقي، ثمة مساعدات كبيرة أعطيتها لي. إن لم تكن قد رأيت أنوار غرفة الاجتماعات في قصر ميراندول مضاءة في الثانية صباحًا، لكنا لا نزال تائهين في الضباب الذي تحدثت عنه، ولكانت جويس ويبل الجميلة راقدةً ساكنة وصامتة تحت التراب في شارع جريجوار بدلًا من التسكع بحالة اللامبالاة التي تُميِّز شعبها بفستانها الأزرق الأنيق، وجوربها الحريري الأسود، وحذائها اللامع المنقوش، وتتناول غداءها في مطعم شابون فين مع حبيبها.»
أضاءت وجهَه نظرة سرور وود أثناء حديثه، ودار السيد ريكاردو في مقعده لينظر خلفه. وكانت جويس ويبل تقف على عتبة مدخل المطعم دون أن تُبالي بأحد سوى برايس كارتر الذي كان يطلب من رئيس النُّدُل طاولة. لم يصل إلى علم الصحف بعدُ أي تطورات بخصوص جريمة سوفلاك لتُقدِّمها إلى قرائها. لم يكن أي من رواد المطعم، فيما عدا هانو وريكاردو، يعلم أن تلك الفتاة الأنيقة الجميلة التي تقف بجانب الباب هي الفتاة التي كان من المفترض أن اختفاءها حيَّر الشرطة. ولكن كانت ثمة علامات التقطتها عينا السيد ريكاردو على المحنة التي مرَّت بها تمثَّلت في شحوب وجنتيها والهالات السوداء حول عينيها الواسعتين، وفي إيماءة ونظرة معينة بدت عليها بينما تجلس على مقعدها أمام الطاولة، كما لو أنها لا تستطيع أن تُصدِّق أنها لا تزال حيةً وحرة. ولكن سرعان ما عاودت النظر إلى وجه رفيقها.

قال هانو: «يجدر بنا ألَّا ننظر نحوهما، أليس كذلك؟ ولا حتى نظرةً واحدة! ولا حتى نظرةً واحدة إلى هاتين الساقين النحيلتين الشابتين. أليس كذلك! سندعهما يتحدثان، وأعتقد أنهما لا يتحدثان عن الملوك الراحلين. لا، يا للهول!»
ترك جوليوس ريكاردو العبارة الفظة تمر دون تأنيب. إذا كان هانو يطمح في التحدث بطريقة سوقية، فهذا شأنه. لن يتدخل ريكاردو في الأمر. وشعر بالألم فجأة. فقد آلمه جور أصدقائه عليه.
كانت جويس ويبل جالسةً إلى طاولة عند الجانب الآخر من المطعم، وعيناها تلمعان، والحُمرة تكسو وجنتيها ثم تختفي، ولكنه لم يمر بخاطرها للحظة واحدة. هل روت قصة مغامرتها ذلك الصباح أم لم تفعل؟ نعم، فعلت. وهل يعرف هانو القصة؟ نعم، يعرفها. لا ريب في أنه قد تصرف بِناءً عليها، أليس كذلك؟ بلى، فعل. حسنًا، إذن! كان الرجلَ الوحيد الذي أُخفي الأمر عنه. يا للفضيحة!
صاح ريكاردو باسطًا يديه أمامه: «أنا لا أعرف حتى من قتل إيفيلين ديفينيش.»
رد عليه هانو في جدية: «يمكنني أن أجيبك كالآتي: قُبض على روبن ويبستر في الحادية عشرة من صباح اليوم بتهمة القتل.»
سأل السيد ريكاردو: «وماذا عن ديانا تاسبورو؟»
«لا، لا، لا، يا صديقي. هذه الشابة لا دخل لها بالأمر.»
«هل تقول ذلك على الرغم من الهوس الذي تحدَّثنا عنه؟»
أجابه هانو: «بل بسبب هذا الهوس.» وشعر السيد ريكاردو براحة غامرة، فتابع حديثه قائلًا: «وماذا عن الملكة المتوجة العجوز؟»
رد عليه هانو: «لا تزال جالسةً على العرش.» ولكن شعر السيد ريكاردو بالخجل من عدم شعوره بالراحة أو بأي شعور آخر.
ولكن تمكن أخيرًا من إقناع هانو بأن يُفصح عن مكنونات نفسه، وبدأ سيل من الأسئلة ينطلق من بين شفتَيه تقفز وتتصادم وتدور وكأنها مياه طاحونة تندفع عبر بوابة نصف مفتوحة.
«لمَ قتل روبن ويبستر إيفيلين ديفينيش؟ وأين؟ وماذا كانت جويس ويبل تعني عندما صاحت: «لست أنا من يوزِّع البرودة.» ولمَ رسم القس فاورييه علامة الصليب على نفسه ثم عاد إلى المنزل مُتسلِّلًا بعد ذلك؟ وماذا اكتشفت أنت، يا هانو، في غرفة ديانا تاسبورو؟ وأين كانت ديانا عندما أطفأت جويس ويبل أنوار الغرفة بينما كنت أطرق على بابها الزجاجي؟ وكيف وصل القناع إلى أعلى الشجرة؟ نعم، وأُريدك أن تحدثني عن الفراش المبعثر من فضلك. وكيف وصلت جويس إلى شارع جريجوار رغم طوقك الشرطي المحكم؟ وكيف عرفتَ بقدومها؟ ولم أغلقت خزانة فارغة، وغرفة لا تحوي شيئًا سوى بضعة مقاعد وطاولات؟ نعم، وبما أننا نتحدث عن قصر ميراندول، مَن وضع غاز الخردل على البوابة، ولماذا؟ أجبني عن بعض من هذه الأمور المحيرة وحينئذٍ سأطرح عليك مائة سؤال آخر. على سبيل المثال، كيف وصل سوار جويس ويبل إلى السلة؟ وكيف …؟»
ولكن في هذه اللحظة، أمسك هانو جبهته بيديه في غضب يائس جعل السيد ريكاردو يصمت.
وقال مُحذِّرًا: «إذا ما استمررت على هذا المنوال، فسأقول هراءً في دقيقة واحدة.»
قال السيد ريكاردو مُصحِّحًا كعادته في تحري الدقة: «سأقول هراءً في كلمة واحدة.»
فقال هانو: «قل هراءً إذن إذا أصررت — رغم أنه كان يجدر بي أن أقول — حسنًا، هاتِ ما عندك. إذا ما طرحت المزيد من الأسئلة، فلن يمكنني أن أقول إلا هراءً. نعم، ففي هذه اللحظة، لا يمكنني أن أُجيب على نصفها. ربما في خلال يومين. أوه، ستعرف كل شيء يا صديقي، لا تخف، ولكن دعني أولًا أرتِّب بعناية تاريخ هذه القضية المشئومة الشريرة.»
واعتدل في جلسته وبسط مفرش الطاولة الأبيض بحركات مسح رقيقة براحتَي يديه، كما لو أنه يُزيل التجاعيد والطيات من سجل هذه الجريمة المذهلة. ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة ورفع عينيه إلى وجه رفيقه.
وقال: «وحتى أفعل ذلك، سأُجيب عن سؤالين لم تطرحهما. لماذا كان هناك شيء مألوف في الطريقة المتحذلقة المدقِّقة لنطق روبن ويبستر للكلمات؟ آه! إنك تقفز. نعم، لقد نسيت الأمر. ولماذا قُطعت صفحة الغلاف من بعض كتب تلك المجموعة الغريبة التي وجدناها عند رأس الفراش؟ آه! إنك تقفز مجددًا. حسنًا! من الجيد أنك تقفز في مكانك. الإجابة عن هذين السؤالين واحدة: روبن ويبستر قس مارق.»
إذا كان ريكاردو قد قفز قفزات يسيرةً بينما يسمع الأسئلة، فقد قفز بقوة خارج مقعده عندما سمع الإجابة. وشعر للحظة وكأن شعره يقف فوق رأسه. ثم عاد يُجلس نفسه مجددًا ببطء.
وقال هامسًا: «بالطبع.» ثم رفع عينَيه في رجاء يقطع نِياط القلوب، وقال: «عندما أقرأ كتابًا، يجب أن أنظر إلى صفحته الأخيرة أول شيء. لا يمكنني منع نفسي عن فعل ذلك.»
فابتسم هانو. وقال: «أعتقد أن كل ما كان عليك فعله هو أن تجول بعينيك في أرجاء الغرفة وتنظر إلى الصفحة الأخيرة من هذا الكتاب.» ولكنه جفل أثناء حديثه، ورمق رفيقه بنظرة محذِّرة. فقد كانت جويس ويبل وبرايس كارتر يمران بالقرب منهما إلى طاولتهما. مدت جويس يدها لتصافح كلا الرجلين.
وسألت في صوت خافت: «لم أركما إلا الآن. كيف يمكنني أن أشكركما؟» ولكن اغرورقت عيناها بالدموع، وبدا هذا للرجلين شكرًا كافيًا.
فرد هانو: «سأخبرك كيف تشكريننا. أن تجلسي معنا وتحتسي بعض القهوة.»
ولكن هزت جويس رأسها. وقالت: «لا داعي للقهوة؛ فأنا أريد أن أعود إلى فراشي. يمكنني أن أنام ليومين كاملين»، ورغم أنها كانت تضحك، تثاءبت برقة. كان هذا أقصى ما أمكنها فعله لتحافظ على عينيها مفتوحتين.
صاح هانو: «لديَّ فكرة. يمكنك أن تنامي ليومين كاملين يا آنسة. هذا قدرُ الوقت الذي أحتاج إليه. وبعد يومين، سنتناول الغداء معًا، أربعتنا، وفي فندقي المتواضع في ساحة كينكونس، وحينئذٍ، سيخبر كلٌّ منا الآخرين بما يعرفه، وسيتمكَّن هذا المسكين، السيد ريكاردو، من النوم، يا للهول!»
بدا بعض الحيرة على وجه جويس ويبل، وسعد السيد ريكاردو بملاحظة أنها أيضًا ذات تربية راقية درَّبتها على تجاهل أي ألفاظ غير متوقعة.