الغرض من غرفة الاجتماعات
مر أسبوعان قبل أن تنتهي الإجراءات الروتينية وتضع خيوط الجريمة المتشابكة بين يدَي المحقق العظيم. وحينئذٍ، ذهب مرةً أخرى لزيارة السيد ريكاردو وسيارته الرولز رويس الفارهة، وبعد ساعة كان الرجلان يقفان عند قمة الدرج أمام غرفة الاجتماعات. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا، وكانت أشعة الشمس تتدفَّق عبر جميع النوافذ وتلقي ببقع ذهبية كبيرة على الأرضية، وكان المنزل ساكنًا وكأنه مقبرة. فقد كان الفيكونت لا يزال قيد الإفراج المؤقت، وذهب إلى مسكنه في بوردو، ووضعت الشرطة يدها على القصر المطل على نهر جيروند. فقد أزيلت أشرطة الكَتان العريضة المختومة بالأختام الرسمية، ولكن الباب كان لا يزال موصدًا، وكان هانو في مزاج منزعج للغاية؛ فقد قضى وقتًا طويلًا في البحث عن المفتاح في جيوبه.
قال السيد ريكاردو بصوت متهدِّج: «لقد قُتلت إيفيلين ديفينيش في هذه الغرفة إذن.»
قال هانو: «لقد قُتلت هنا. ربما في اللحظة نفسها التي كنت تنظر فيها من نافذة غرفة نومك ناحية النوافذ المضاءة.»
قال السيد ريكاردو وهو يهز رأسه: «لم أسمع صراخًا.» لم يكن قد نسي المسافة التي تفصل المنزلين، ولكنه لم يصدِّق أن جريمةً رهيبة قد ارتُكبت في هذه الغرفة المبهجة من دون رسالة تطفو في الهواء عبر صمت الليل المظلم لتوقظه من غفلته.
رد هانو: «إنها لم تصرخ.» كان واثقًا تمامًا مما يقول وكأنه قد شارك في الجريمة. ثم قال: «ربما أطلقَت أنينًا، أو حشرجةً من حلقها، وحتى هذه الأصوات ربما كانت تُطلقها بالكاد …» ثم أدار المفتاح في مزلاج الباب وفتحه.
كان قد أعد مؤثراته وكأنه مخرج مسرحي بارع. لم تعد الغرفة الطويلة تبدو وكأنها غرفة اجتماعات، وأصبحت تبدو وكأنها مكان للتجمع. فقد تغيَّر تصميم الطاولة الطويلة، وقصر طولها كثيرًا، وأصبحت تشغل بالكاد أحد أركان الغرفة. من ناحية أخرى، أصبحت المقاعد، التي كانت مصطفةً على الجدار الجانبي، مرتبةً الآن في صفوف منظمة تواجه المنصة، مع ممر مستقيم يمتد من الباب يقسمها إلى نصفين وكأنه ممشًى. ولكن كان مظهر المنصة نفسها ما استرعى انتباه السيد ريكاردو وجعل عينَيه تطرفان في حالةٍ من عدم التصديق. فقد وُضعت الطاولة أمام الجدار وعلى مسافة منه، وبدلًا من مفرش الجوخ الأخضر، كانت الآن مكسوةً بغطاء كفن أسود يُطوِّقه شريط أبيض. وفوق الغطاء، كانت هناك ثلاثة كتب ضخمة ذات شارات واسعة من الحرير القرمزي ومشابك ذهبية مغلقة، وكأس وصندوق مُطَعم بالذهب، وشمعدانان ذهبيان كبيران لكل منهما ستة أفرع، وكل فرع يحمل شمعةً سوداء طويلة مصنوعة من الكبريت والقار. كانت الشموع مضاءة، وكان يتصاعد منها لهب أزرق ورائحة شنيعة. وشُوهد صليب ضخم مقلوب رأسًا على عقب مصنوع من خشب الأبنوس مصلوب عليه تمثال عاجي للمسيح. أدرك السيد ريكاردو مصدومًا ومشمئزًّا أنه يُحدِّق في تقليد مريع لمذبح.
رفع عينَيه إلى ما يعلو المنصة. كانت الخزانة مفتوحة، وكان باباها ذوا القمة المستديرة مفتوحَين على مصراعَيهما على كلا الجانبين حتى لامسا الجدار، وكان الطلاء الأبيض الذي كان يُلطِّخ تجويف الخزانة بطبقة سميكة وطرية خلال زيارته السابقة، قد كُشط الآن بعناية فائقة. شعر كأنه يحدِّق في لوحة مذبح رسمها فنان منحط غمس فرشاته في ألوان كابوسية. كان مرسومًا على أحد الألواح أجسادٌ عارية تمسك بأيدي بعضها وترقص رقصةً وحشية وظهورها في ظهور بعض، وكانت أشبه بأجساد مشوهة ذات وجوه بشرية بيضاء بدينة تقذف الرعب في القلوب، وكانت تزحف وتحتشد في منبع الآلام. كانت المكافآت مرسومةً على جانب، والتعذيب على الجانب الآخر، وبينهما على جدار التجويف، رُسم جسد شاب، تجسيد للجمال الخالص، نحيل، وممشوق القوام، وأبيض كأنه فتاة، وكان ذا ملامح رقيقة لا تصلح لتكون ملامح رجل، وعينين زرقاوين لامعتين تجذبان جميع الأعين الأخرى وتحترقان بحزن يفوق الوصف. أبعد ريكاردو عينَيه مرتعدًا. والتفت نحو النافذة ورأى أشعة الشمس المبهرة تغمر كروم العنب الخضراء، والنهر البني، وأشرعة السفن البيضاء. ولكنه شعر، على الرغم من ذلك، بهاتين العينين الزرقاوين تواصلان حرق ظهره، وترجوانه أن يلتفت نحوهما ويشاركهما تعاستهما التي لا تهدأ.

سأل بصوتٍ خافت وكأنه رجل يتحدَّث داخل معبد: «هل كانت الغرفة على هذه الحال عندما نظرت نحوها من نافذة غرفتي في قصر سوفلاك؟» كان يتحدث دون أن يُحوِّل نظره بعيدًا عن النافذة المطلة على نهر جيروند، وتشبَّثت يداه بإطارها دون أن يشعر.
قال هانو من خلفه: «ثمة اختلاف واحد جوهري»، وللمرة الأولى على الإطلاق، خمد فضول السيد ريكاردو. كان يخشى حتى أن يخمِّن ذلك الفارق. وبحركة عنيفة، فتح مزلاج النافذة وفتح مصراعيها وانحنى إلى خارجها يتنفَّس الهواء النظيف المنعش. كان يخشى الآن أن يعرف ما حدث في هذه الغرفة. كان قد ألقى نظرةً خاطفة داخل الهاوية التي تقبع في قاعها مخلوقات بشعة مكدَّسة في مستنقع من الوحل. سمع هانو يتحرَّك في الغرفة وينفخ في الشموع ليطفئها.
فسأله: «ما هذه الكتب الثلاثة؟»
أجابه هانو بفخر وكأنه رجل تعلَّم شيئًا جديدًا الآن: «إنها «كتاب تعاويذ هونوريوس»، و«كتاب ليميجيتون أو مفتاح سليمان الأصغر»، و«كتاب التعاويذ الكبرى».»
لم يكن السيد ريكاردو يعرف شيئًا عنها. فسأل: «عمَّ تتحدث؟»
«استحضار الشياطين وطقوسه. هذا الكتاب» قالها وهو يلمس «كتاب التعاويذ الكبرى»، وقال: «يستدعي سيد الظلام الأكبر باستخدام عصا القوة التي طردت آدم وحواء من الفردوس. أما هذا» ولمس «كتاب مفتاح سليمان الأصغر»، وقال: «فيتحدث عن الصلوات التي يمكن باستخدامها استحضار الأرواح الشريرة لإلحاق الأذى بمن تكره، وهذا»، ولمس «كتاب تعاويذ هونوريوس»، وقال: «يُعتقد أنه يحث على القتل.»
كان قد بدأ حديثه بنبرة ساخرة، ولكنها لم تُسعفه إلا في الحديث عن الكتاب الأول. أما بالنسبة إلى الكتابين الآخرين، فلم يثيرا في نفسه إلا الازدراء والسخط؛ فقد كان يدرك الجريمة التي جُمعا معًا على الطاولة لارتكابها.
سأل السيد ريكاردو: «من الشاب المرسوم في لوحة المذبح؟»
أجاب هانو: «إنه سيد جميع الشرور. إبليس، الشيطان؛ وله اسم آخر أيضًا، أدونيس.» وبينما بدا الفزع على محيا السيد ريكاردو، قال: «نعم، أدونيس.»
ثم جلس بجانب ريكاردو في تجويف النافذة. وقال: «صديقي، لا يُجسِّد الناس الشيطان دائمًا على هيئة عنزة ليعبدوه. حتى خلال العصور القديمة، كان من المفترض أن يظهر الشيطان في كسوة من الحرير، شاب جميل وبارد كالثلج لا يعطي مقابلًا لمن يعبدوه إلا خيبة الأمل. وأدونيس أحد أسمائه.»
ولكن لم يكن السيد ريكاردو يفكر في ذلك الربط الغريب بين الشيطان وراعي الأساطير. فقد كان يستعيد في ذاكرته مشهد طاولة العشاء في قصر سوفلاك ليلة وصوله، عندما صاحت جويس في إيفيلين ديفينيش بحدة هستيرية، قائلةً: «لا تنظري نحوي. لست أنا من يوزع البرودة.» أدار السيد ريكاردو جسده ليواجه صورة الشاب الجميل، وأربطة نعله تلتف حول ساقه، وجلد النمر المرقط ملفوف حول خصره، ورمحه الطويل في يده. بدا وكأن العينَين الزرقاوَين تتبعانه أينما نظر، يُطِل منهما الحزن الذي لا يوصف، وتأمرانه بأن يُقْسم لهما بولائه.
قال مجبرًا نفسه على إبعاد عينَيه عن التأمل في هذا الجسد الجذَّاب المرسوم على الحائط: «كانت جويس تعرف إذن. كانت تعلم في تلك الليلة حقًّا بأمر هذه الغرفة!»
قال هانو مُصحِّحًا: «كانت تعرف بعض الأمور عن هذه الغرفة.»
«وكانت تفهم طقوسها.»
«كانت تفهم بعضًا من طقوسها أيضًا.»
«مثلما فعلت أنت على الفور. نعم»، وتعجَّب السيد ريكاردو بينما يتذكر تفصيلةً هنا وأخرى هناك ظلَّت بالنسبة إليه لغزًا مستغلقًا، بينما بدت منذ البداية جليةً كالزجاج لرفيقه.
ولكن قرأ هانو ما يدور في عقل السيد ريكاردو بسرعة أكبر من سبره أغوار أيٍّ من هذه الغوامض. فقال في إصرار: «لا يا صديقي. يمكنك أن تُحوِّل أدونيس ليكون الشيطان لو أردت ذلك، ولكن لا يجدر بك أن تحوِّلني إلى إله. لم أفهم في البداية حرفًا من العبارة التي قالتها جويس ويبل. كنت متحيِّرًا مثلك تمامًا؛ نعم، حتى ذلك الوقت عندما رأيتني أخرج من قصر رئيس الأساقفة في بوردو.»
صاح السيد ريكاردو: «ولكني لم أخبرك قط بأني رأيتك.»
«لا، ولكنك رأيتني. رأيت أنك رأيتني. كنت تقف في منتصف الميدان فاغرًا فاك وعيناك جاحظتان وتقول لنفسك: «يا للهول!»»
قاطعه السيد ريكاردو سريعًا: «لم أقل ذلك. ولم تكن عيناي جاحظتين. بل على النقيض. إنهما تغوصان داخل مِحْجرَيهما عندما أنفعل.»
واصل هانو حديثه في هدوء: «لقد قلت يا للهول، أو كلمات تحمل المعنى نفسه. ثم قضيت ساعةً مع أمين مكتبة نيافته، وعرفت أمورًا يمكنني أن أقصها عليك. أوه! أوه! أوه! للأسف الشديد، إنه الشيطان. حتى اللحم في أيام السبت القديمة تلك كان فاسدًا، وكان ينشر برودة الجليد من حوله.» مدَّ يده فجأةً نحو اللوح عن يساره في لوحة المذبح المرسومة ببراعة. وقال: «لا عجب في أنهم يرقصون بعنف، أولئك المساكين في مسارات الغابة. ولا عجب في أن الأفضل من بينهم هو من يرقص بسرعة أكبر من الباقين. كانوا مجبرين على الحفاظ على دفئهم.» وماتت على شفتَيه نبرة التهكُّم مجددًا. كان يقول: «ولكن دعنا لا ننسى. لقد أدَّت جميع هذه التخيلات الجنونية الغريبة إلى جريمة شنيعة … ارتُكبت هنا … في هذه الغرفة التي تغمرها أشعة الشمس التي نجلس فيها … مثلما ارتُكبت في أماكن أخرى في السابق.»
ثم جال ببصره في أرجاء الغرفة مُعيدًا في ذهنه تعاقب الأحداث، ثم تابع قائلًا:
«لم أُحضرك إلى هنا لأخبرك بما حدث. فبإمكان جويس ويبل أن تفعل ذلك أفضل مني بكثير؛ فقد رأت كل ما حدث بأم عينيها. ولكني أجهزك لذلك. لم أفهم شيئًا من صيحتها عندما قالت: «لست أنا من يوزِّع البرودة.» لا، ولكن ثمة أمور أخرى حيَّرتني. حقيقة أن القس فاورييه رسم الصليب على نفسه سرًّا. ما رأيك؟ أثار ذلك اهتمامي. ثم ملابس القس التي سُرقت — أمر غريب، أليس كذلك؟ — ثم إعادتها في صباح اليوم التالي أو في الليلة نفسها. آه! بدأ الشك يتسلَّل إلى نفسي. نعم! ثم رأيت شيئًا جديرًا بالملاحظة في غرفة الآنسة تاسبورو.»
قال ريكاردو: «نعم. بينما كنت في الغرفة. كانت هناك لوحة لقصر رئيس قضاة البندقية يُطل على القناة الكبرى، رغم أني طَوال حياتي لم أرَ أي شيء مميز فيها.»
قال هانو مُعلِّقًا: «لا يوجد شيء مميز فيها. لا. ما رأيته هو» ثم أشار بيده فجأةً نحو المذبح مرةً أخرى. وقال: «صليب مع تمثال من العاج للمسيح معلق فوق طاولة كتابتها الملصقة في الجدار وكان مقلوبًا رأسًا على عقب. ولم أُحرِّكه.»
قال ريكاردو: «نعم. أنت لم تمسَّ شيئًا.»
«ثم ذهبنا أنا وأنت إلى فيلبلانش، وبينما كنا هناك، أتى القس فاورييه إلى المنزل.»
وافقه السيد ريكاردو مجددًا، ولكن أضاف هذه المرة شيئًا إلى مخزن ذكرياتهما المشترك. قال: «اكتشفنا عندما عدنا أنه كان برفقة السيدة تاسبورو العجوز.»
«هذا صحيح. ولكن قبل زيارة السيدة، كان قد زار الآنسة التي كانت لا تزال راقدةً في غرفتها. ولقد رأى ذلك الصليب أيضًا. لم تكن قد عدَّلت من وضعيته. وربما لم تُفكِّر في فعل ذلك من الأساس.»
صاح السيد ريكاردو: «لقد عاد لتغيير وضعيته! كان يريد تعديل وضعيته سرًّا لتجنب الفضيحة. كان هذا السببَ في سيره متسللًا في الشرفة. وكان هذا السببَ في قولك إن التعديلات قد تمت!»
«نعم. في المرة الثانية عندما دخلنا الغرفة أزحت الصليب من على مسماره ووضعته على الطاولة المستندة إلى الجدار، في وضعية الصليب الطبيعية، بينما كنت أنت، يا صديقي، تحاول سبر غموض لوحة القناة الكبرى.»
لو كانا في ظروف أخرى، لشعر السيد ريكاردو بالإهانة من سخرية هانو ولرد عليه بكلمات مؤنِّبة على غرار: «آه، بالطبع!» و«لا ريب في ذلك.» ولكنه كان في هذه اللحظة يشعر بقدر هائل من الدهشة والحيرة جعلت كل شيء آخر تافهًا في نظره فيما عدا ما قد يرضي فضوله. انحنى هاوي الأحاسيس إلى الأمام في مقعده تحت النافذة، وعقله يثب مترقِّبًا أن يسمع ما قد يرضيه. حتى السؤال الذي كان على وشك أن يطرحه كان له انفعاله الخاص، وعدَّل من نبرة صوته إلى درجة الرهبة المناسبة.
وقال: «إذن، في هذا المعبد، في تلك الليلة، أُقيم قداس الشيطان؟»
«نعم».
«وكان روبن ويبستر من أقامه؟»
«روبن ويبستر، الكاهن.»
وبينما كان يتحدَّث، أخرج هانو علبة سجائره الزرقاء من جيبه. أما السيد ريكاردو، فعلى النقيض، شعر بالفزع لدرجة أنه كاد أن يمد يده ليمنع صديقه من تدنيس المقدسات التي يجلسان بينها. وحتى بعد أن تصاعد دخان السيجارة الأزرق في الهواء، ثم تحول إلى اللون البني واختفى، ناشرًا رائحته النفاذة في تجويف النافذة، انتابه شعور بأن صديقه ارتكب تصرفًا طائشًا. ولكن سرعان ما تحدَّث هانو.
وقال: «يا له من أمر غريب! يمكنني أن أستوعب طقوس أيام السبت القديمة بصورة أفضل. كان عبيدٌ مساكين جوعى لا يعرفون أيًّا من متع الحياة يثورون على الظلم الكبير الذي مَنَحَ كل متع العالم إلى حفنة من النبلاء، ومَنَحَ كل شقائه إلى الباقين. يمكن للمرء أن يتخيَّلهم وهم مستغرقون في نشوة توصلهم إلى ذروة التجديف والرذائل في غابة منعزلة أو في أرض دفن قديمة. أما قداس الشيطان. فهذا انحطاط تام. الأشخاص الذين خاب رجاؤهم في تحقيق طموحاتهم، والذين استنفدوا متع الحياة العادية فأصبحوا يسعَون خلف الملذات المحرمة، والذين على استعداد لبيع أرواحهم الخالدة في سبيل متعة جديدة، والذين يطلبون من الشيطان ما يُحرِّمه المسيح، زمرة كاملة من المنحرفين مع المبتزين الذين يقتاتون عليهم، مجرمون يبحثون عن شركاء، وسُميون يبحثون عن حماية، بالتأكيد سمعتَ بالأم تشيشول. ثمة أشخاص مهمون ستخونهم. تلك سمة الروح، وتلك سمة هذه الجماعة أيضًا. يتعاون المهمون مع ساحرات الأحياء الفقيرة، وجميعهم يسعون لأن يستفيدوا من أدونيس هذا»، ومرةً أخرى امتدَّت ذراعه بقوة، ويده الكبيرة مبسوطة تُلوِّح في إدانة للوثنية وقال: «أدونيس العقيم.»
قال السيد ريكاردو لنفسه مدركًا عدم كفاية تعليقه: «حقًّا! حقًّا!»
«كان الفيكونت دو ميراندول هو من أنشأ هذه الطائفة هنا. شخصية شاذة غريبة الأطوار، أصبح على حافة الجنون بسبب الليالي الطوال التي قضاها مستيقظًا، ويدعي معرفةً سطحية، ويشعر بقلة التقدير، ولا ريب في أنه وجد لنفسه أهميةً واستجاب لنزعة صوفية كامنة في نفسه. وأصبح وكيل الشيطان في جيروند! وهو منصب، كما تعلم، يأتي مع الكثير من الحفاوة. وهو يحتاج إلى رجل جريء. فوقف بمعزل عن الآخرين، مهيبًا، ملفوفًا في رداء من الشر كأنه عباءة سوداء. وصدَّق نفسه. وليس هو فقط. منذ أيام السيدة مونتيسبا والقس جيبور ولقداس الشيطان محفله. إن الملل يتحول إلى إثارة، وهي تتحول بدورها إلى يقين بضرورة ارتكاب الخطيئة التي لا تُغتفر والتي وردت في سِفر الرؤيا، والتي تورث الشعور بالنشوة الوحشية؛ كطفل غاضب من العقاب يُتمتم بعناد: «رَقَا، رَقَا» (كلمة عبرية وردت في الإنجيل بمعنى يا تافه)، رغم علمه أن من ينطق بهذه الكلمة لن يُغفر له. انضمَّ تيدون إلى المحفل؛ ومقره الأقرب منه هو باريس. وأصبحت ديانا تاسبورو ضمن المرشحين للانضمام. وهي شخصية ذات مكانة عالية، سيدة البلدة. وربما سمعت جين كوريسو بالمحفل. وهذا من بين الأمور التي تستميلها! والأم تشيشول! كانت ستستفيد كثيرًا من الأمر. فمَن يستخدم قداس الشيطان أُناس يريدون ارتكاب أفعال شريرة من دون أن يظهروا في الصورة.»
وبالتدريج، بدأت أجزاء اللغز تصطف في مكانها الصحيح أمام عينَي السيد ريكاردو. وتخيَّل همسات الطقوس تنتشر في هدوء شديد، وببطء شديد، ولكن بثبات في الوقت نفسه. هذا السر الشرير لا يمكن كبته. ومن يمتلك هذا السر سيمتلك أيضًا جميع العُبَّاد في راحة يده. وقد يُصر أو تُصر على وضع مراسم للقَبول، ويتحوَّل المحفل وأعضاؤه تلقائيًّا إلى مُنَظَّمة للشر والجريمة. وأصبح من السهل على الفور فهم هوس ديانا تاسبورو وعدم شعورها باستحواذ تابعتها الفظ على السلطة. ما الذي قد يعنيه التوبيخ المتواصل لفتاة أصبحت ممسوسة بالمتع الآثمة لعقيدة مخيفة ومُحرَّمة؟
«ولكن بالطبع كان حجر الأساس لكل هذا المحفل الشيطاني هو حقيقة أن روبن ويبستر كان الكاهن المُرسَّم. يفترض قداس الشيطان تسلُّط الرب. كما يفترض أنه يجب استدراج الرب وخداعه بالخبز والنبيذ قبل إخضاعه للشيطان. والكاهن وحده هو من يمكنه فعل ذلك. يجب أن يكون كاهن قداس الشيطان هو نفسه كاهن قداس الرب. كان القس جيبور، وجيل لوفرانس، ودافو، ومارييت جميعهم قساوسةً حقيقيين، مثل روبن ويبستر.»
سأل السيد ريكاردو: «نعم، كيف كان في الماضي؟»
«قصة حياته غريبة. إنه من منطقة جيروند. وتعود عائلته إلى العصر الذي كانت فيه بوردو مقاطعةً إنجليزية. تعمل عائلة ويبستر في زراعة كروم العنب وصناعة النبيذ في منطقة جيروند منذ العصور القديمة عندما أُحرق جوفريدي بتهمة السحر في آكس أون بروفانس. ثم تدهورت أحوالهم. وبعدما كانوا ملاك الأراضي، أصبحوا مديرين لها، وتجارًا لم يحقِّقوا نجاحًا كبيرًا في بوردو. وكان والد روبن ويبستر آخرَهم. وكان يُعتقد أن روبن الابن يمتلك موهبةً ليكون قسًّا، الأمر الذي ثبت خطؤه. أمر غريب، أليس كذلك؟ ولكن الناس غرباء بطبيعتهم. وإذا ما تمكَّنت من إخراج ما في عقولهم ووضعه على طبق مثلما يُخرج الجَرَّاح ما في داخل جسدك، فلن تجد أي إنسان يمكنك أن تقول إنه عادي. ثمة شيطان صغير غريب الأطوار داخل قلب كل منا. أُرسل روبن إلى كلية بومون، وكُلِّف بالعمل قسًّا في كنيسة في لندن — وكان هناك عندما تُوفي والده — ولكنه سئم هذا العمل وتركه.»
قال السيد ريكاردو في ثقة: «مع إيفيلين ديفينيش.» ولكن هز هانو رأسه نفيًا.
وقال: «كان لديها عشاق سابقون. يا له من شاب! أؤكِّد لك. بشعره الأبيض وملامحه الوسيمة، وسلوكه الذي ينم عن تميُّزه، وبلمحة الشغف التي تجعلك عيناه تراها للحظات، كان فتاكًا. كانت النساء تتعرقل عليه …»
قال السيد ريكاردو في ود: «تتهافت عليه أو تتعرقل عليه، والعبارة الأولى هي ما تعنيها. ولكني أُفضِّل لو أنك تعني الثانية.»
بدا هانو متحيِّرًا في البداية. وحدَّق في صديقه متشكِّكًا خشية أن يكون قد زل، ولكنه لم يجادل، وعاد يواصل قص قصته: «ندين بالفضل إلى الأعمال المكتبية في الحصول على الكثير من المعلومات. ولكننا كنا سنظل نُواجه صعوبات كبيرةً لولا أمر وحيد.»
قال السيد ريكاردو مندفعًا: «حزمة الخطابات التي عثرت عليها في غرفة روبن ويبستر وصورتها.»
ردَّ عليه هانو وهو يُشعل سيجارةً أخرى: «أنت محق هذه المرة يا صديقي. لقد أخبرتنا حزمة الخطابات بكامل تلك القصة الغريبة من الشغف والغرام اللذين أديا إلى بيع عِقد بلاكيت إلى الأم تشيشول ووصول الأحداث إلى ذروتها المرعبة في هذه الغرفة.»
صاح السيد ريكاردو مصعوقًا: «واحتفظ بهذه الخطابات!» ولكنه تذكَّر بعد لحظة قضيةً وقعت أحداثها في بلاده حُفظت فيها خطابات مرعبة بالقدر نفسه، فقال: «أليس من الغريب أن يُضلِّل الشغف الإنسان لهذه الدرجة؟»
قاطعه هانو قائلًا: «لا! لا! أخبرتك سابقًا بأنه كان في غرفة ويبستر سبب آخر غير الشغف جعله يحتفظ بالخطابات التي أوقعت به. وكنت أُفضِّل ذلك السبب الثاني منذ البداية. كان خُبثًا، نوع رهيب من الحيطة أقنع روبن ويبستر بالاحتفاظ بهذه الخطابات. كان الشغف يتملك الطرف الآخر. أما هو، فقد ساعدته الخطابات التي احتفظ بها على إحكام سيطرته على امرأة تغلي الغيرة في قلبها. فقد كانت خطابات خطيرة كتبتها إيفيلين ديفينيش، وكتبت بعضها في ذلك المنزل هناك، قصر سوفلاك.»
لم يكن هانو يعرف تحديدًا متى التقت إيفيلين ديفينيش بروبن ويبستر. لا ريب في أن لقاءهما حدث قبل أن يقدم ويبستر إيفيلين ديفينيش إلى ديانا تاسبورو في بياريتز. ولكن كان ثمة اتفاق بين الاثنين يقتضي إتلاف جميع الخطابات في يوم تَسلُّمها نفسه. والتزمت إيفيلين ديفينيش بالاتفاق التزامًا تامًّا معتقدةً أن الطرف الآخر ملتزم به أيضًا. فلم يُعثَر على قصاصة من خطابٍ بَين حاجياتها. وحتى وقت ما، عندما كانوا جميعهم معًا في بياريتز، كان روبن ويبستر ملتزمًا بكلمته أيضًا. ولكن بعد ذلك، أصبح شغف إيفيلين ديفينيش متطلِّبًا، بل وخطرًا. ومنحت الخطابات لعشيقها سيطرةً عليها. وتمكَّن من ردع التهديد بالتهديد.
واصل هانو حديثه قائلًا: «أُتلفت خطابات أحد الطرفين — خطاباته — تمامًا. وكان واثقًا بولاء إيفيلين له. ولم يكن ممكنًا إخراج صفحة واحدة كتبها من وسط الرماد لتدِينه. كان في وضع يؤهِّله لأن يقول: «لم أردَّ على هذه الخطابات»، أو «حرصت ألَّا أعطيها أي وعود»، أو «كان الهدف من جميع خطاباتي التي أرسلتها إلى إيفيلين هو إعادتها إلى رشدها.» ومن جانب آخر، كان في وضع يُمكِّنه من أن يقول لها في أي لحظة — وكانت هذه اللحظة آتيةً لا محالة — «لقد اكتفيت منك، وأرجو ألَّا تبوحي بكلمة عن علاقتنا وإلا فسأُسبِّب لك الكثير من الأضرار والمتاعب».»
صاح السيد ريكاردو: «ولكن بعدما ماتت إيفيلين ديفينيش، فقدت الخطابات قيمتها. كما أنها كانت خطرةً عليه، كما يبدو. كان يجدر به أن يُدمِّر هذه الخطابات في الليلة عندما ماتت إيفيلين ديفينيش.»
رد عليه هانو: «في تلك الليلة، كما ستعرف لاحقًا، كان روبن ويبستر الطيب مشغولًا للغاية. فقد طلع عليه الصبح وهو لا يزال يعمل. إن لم يكن ضروريًّا أن يعقد اجتماعًا مصغَّرًا في قصر ميراندول مع عزيزنا الفيكونت وذلك القاضي الشاب الطموح، لتحوَّلت هذه الخطابات إلى قصاصات صغيرة رمادية محترقة قبل حتى أن تقع أعيننا عليها.»
فتح هانو الحقيبة الجلدية التي وضعها على الطاولة، وأخرج منها نسخةً من صور الخطابات.
وقال: «انظر إلى هذه الفقرة.» وأشار إلى بداية إحدى الفقرات. كانت الفقرة كُتبت في بياريتز بعدما عاد روبن ويبستر ليزاول عمله في سوفلاك. قال: «آه، يا للمرأة المسكينة! طرف يُحِب وطرف يُحَب. إنها القصة الأزلية.» قرأ السيد ريكاردو:
قلب هانو بضع صفحات ووصل إلى آخر صفحة من إجمالي دزينة من الصفحات. وكانت قد وُضعت خطوط سميكة تحت فقراتها بقلم رصاص أزرق.
قال هانو: «اقرأها بالترتيب»، وأخذ السيد ريكاردو الخطابات ووضعها على ركبته.