خطابات إيفيلين ديفينيش
في بداية الفقرات المُعَلَّمة، كتبت إيفيلين ديفينيش من بياريتز إلى سوفلاك تعلن موافقتها المتردِّدة على زواج ديانا تاسبورو من روبن ويبستر. «لا ريب في أنها تُحبك. لقد أرسلت برايس كارتر في حال سبيله حقًّا. ولا يمكنها أن تتحدَّث لخمس دقائق من دون ذكر اسمك — أتمنى في بعض الأحيان لو كنتَ مشوَّهًا وقبيحًا للغاية حتى لا يحتمل أحد في العالم النظر في وجهك إلا أنا — وسأُعوِّضك عن ذلك بحبي! ولكننا فقيران معدِمان، ولن تكون الحياة سعيدةً من دون مال.»
وبمجرد أن يتزوَّج من ديانا، سيمتلك مالًا كزبد البحر؛ لكليهما. ويجب أن تتوقف علاقتهما على الفور. ووضعت قواعد صارمة لتصرفاته، وفرضتها عليه فرضًا. يجب أن تصبح ديانا مملوكةً مهمَلة، مجرد جِوال أموال. وإذا تعرَّضت للمعاناة، فسيكون ذلك أفضل.
وكانت ثمة تلميحات للطقوس التي تُجرى في غرفة الاجتماعات. فكانت قد اعتنقت هذه الديانة بالقدر نفسه من حماسة السيدة دو مونتيسبا. كانت تريد أن تُجري طقوسًا شيطانية للحفاظ على عشيقها، ولكي تحط في الوقت نفسه من قدر ديانا إلى وضع مُذل كوضع زوجات المورمون. كان المقرَّر أن تُجنِّد ديانا في هذه الطلاسم. كانت ستُحفِّزها تلك الأمور الخفية التي ستُثير فضولها وحبها للمغامرة. وكانت ستُقنع بأنها قد ارتكبت الخطيئة التي لا تُغتفر. وسيُحوِّلها الندم وخوفها من افتضاح أمرها إلى دمية.
كُتبت بعض الخطابات الأخرى عندما كانت إيفيلين ديفينيش في بوردو، وبعضها عندما كانت وروبن ويبستر تحت سقف واحد ومعهما ماريان لتقوم على خدمتهما، والتي كانت تصف التطور التدريجي للمؤامرة. بعدما تورَّطت ديانا، كانت متردِّدةً تارةً ومرتعبة تارةً أخرى. كانت وكأنها تقف على حافة البحر، تغامر بوضع قدم في مياهه ثم تسحبها مجدَّدًا إلى دفء الرمال الصلبة، مفتونةً ومعذبة. لم تراودها أي شكوك في إيفيلين. وكانت تقول لها: «أعلم أنه يحبني. ولا يهمني على الإطلاق أيًّا كان ما فعله في الماضي، أو أي علاقة كانت تربطه بها. وسأُنفِّذ كل ما يتمناه — حتى ذلك الأمر! — نعم، نعم.»
وضع هانو يده الضخمة على النسخ المطبوعة. وقال: «أصبحت تعرف الآن مسار الأمور. كانت هاتان الشابتان واقعتين في حب روبن ويبستر، وخدعهما كلتيهما. كانت إيفيلين ديفينيش ستسمح له بالزواج من ديانا تاسبورو ما دام أمكنها الاحتفاظ به لنفسها. واحتفظ هو بخطاباتها في الوقت نفسه. وكانت ديانا واثقةً بأنه يُحبها، وإن كان يعبد الشيطان، فستفعل هي المثل. وماذا عنه؟ روبن ويبستر؟ لم يكن يهتم بأي منهما على الإطلاق. لا، إنه «زير نساء»، وأن تكون «زير النساء»، يا صديقي، يعني أنه يجب ألا تُغرم بأي امرأة. يجب أن تكون بلا رحمة، يجب أن يكن مجرد عوارض خشبية تحمل قضبان قدرك.» ونظر إلى السيد ريكاردو وابتسامة غريبة مرتسمة على وجهه. قال: «هل علمتم أن روبن هو أحد أسماء الشيطان؟ نعم. عرفت هذه المعلومة أيضًا عندما كنت في قصر رئيس الأساقفة أثناء بحثي في بعض الكتب القديمة. روبن أبيرون، وروبن فلان، وروبن علان … إنه الشيطان نفسه، أليس كذلك؟» ونظر إليه مرةً أخرى وهو يومئ برأسه بجدية، ثم قال في انفعال مفاجئ: «نعم، أنا أيضًا أتساءل. إذا كنا أنا وأنت، وقد عركتنا الحياة وتخطَّينا عنفوان شبابنا ورومانسيته بكل ما فيها، إذا كنا أنا وأنت نلتقط أنفاسنا بصعوبة ونهمس، «أنا أتساءل»، أليس غريبًا أن تقول هاتان الفتاتان، بعدما هاجت عواطفهن وانهارت أعصابهن، بدلًا من ذلك، «أنا أومن»؟ انظر إلى هذا!»
قلَّب بضع صفحات وعرض أمام عينَي السيد ريكاردو فقرةً لم توضع خطوط تحتها.
وقال: «تذكر أن ديانا تاسبورو، التي أصبحت صديقةً لإيفيلين ديفينيش، قد تعرَّضت للتلاعب من قبلها وكأنها سمكة علقت في صِنَّارة. ما نوع الشغف الذي كانت تسعى إيفيلين ديفينيش إليه حتى يمكنها كتابة ذلك إلى صديقها.» وقرأ السيد ريكاردو الآتي:
ما الذي أُريدها أن تكون عليه؟ لم أُفكِّر مرتين. أن تكون الكلب الذي يجري هنا وهناك حول سيده ورَسَنه في فمه. لم أجد صورةً مهينة أكثر من تلك.
شهق السيد ريكاردو عندما قرأ هذه النية المهينة، وشعر براحة غامرة عندما أدرك أنها لن تتحقَّق.
قال هانو: «هكذا سارت الأمور إذن، عندما فزعت جويس ويبل من الخطابات التي وصلتها من ديانا، أرجأت عودتها المُلِحة إلى أمريكا، وذهبت دون دعوة إلى قصر سوفلاك. ورأت جويس ويبل تلك الرؤى الغريبة غير القابلة للتفسير، التي ذكرتها ديانا أكثر من مرة في خطاباتها، متجسدةً أمام عينَيها. ما رأيك؟ نعم، غير قابلة للتفسير … إلا إذا كنت تميل إلى تصديق أنه في بعض الأحيان، الأشياء الخفية من خارج»، وبحركة واسعة من ذراعه، لمَّح إلى انحناء القبة السماوية التي تُشبه قبة السجن، وقال: «من خارج هذا العالم، تُكسَر هذه القبة لكي تعاقب أو تنقذ.»
صاح السيد ريكاردو: «تنقذ؟» فلم يكن قادرًا على تخيل كيف يمكن إنقاذ ديانا تاسبورو من مسئوليتها الواضحة في جريمة قتل إيفيلين ديفينيش.
استطرد هانو في حزم: «نعم، تنقذ. وهذا ما ستراه. ولكن، أولًا، عليك أن تعرف كيف قلب حضور جويس ويبل الأمور من رأسها إلى عقبيها!»
قال السيد ريكاردو في استسلام: «رأسًا على عقب.»
رد عليه هانو في ود: «إذا أردت قولها بهذه الطريقة، فسأتنازل.» ثم وضع طرف إصبعه الضخم على جملة، وقال: «اقرأ!» واضطر السيد ريكاردو إلى إبعاد إصبع هانو حتى يتمكَّن من قراءة الجملة.
إنك تُحدِّق فيها كما لو كنت صبيًّا مراهقًا يرمق فتاةً تصل ضفيرة شعرها إلى ما تحت خصرها. إنك تضطرب عندما تتحدَّث إليك. وتقفز عندما تقترب منك. إنك تبدو سخيفًا … نعم … سخيفًا يا روبن!
ومرةً أخرى، بعد بضع جمل:
إنها ليست جميلةً حتى. ومن المؤكد أنها لا تملك أي مميزات أخرى. إنها ساذجة يا روبن، فتاة ساذجة تصلح لصبي ساذج. أوه، كنت أعتقد أنك جاد!
ولكن هكذا سارت الأمور. لقد التقى روبن ويبستر بقدره، كما كان الناس يقولون في بداية القرن التاسع عشر. فمنذ أن وقعت عيناه على جويس ويبل للمرة الأولى، تحوَّل اللهيب الذي اعتاد على أن يغرسه في قلوب النساء لينغرس في قلبه هو ويتملَّكه. وأصبح مضطرًّا لأن يعطي الآن بعدما كان يأخذ فقط. انطبعت صورتها على شبكيتَي عينَيه، وأصبح يراها أينما نظر. لم يتمكَّن من إخفاء حبه لها، ولم يرغب في ذلك. كان نصرًا حقَّقه ويتمنى لو عرفه العالم بأسره.
«اسمك محفور على جبهتي وحاجبي.»
صُمَّ عقله عن همسات التعقل، وأعمى عينَيه عن مظاهر الغيرة. وظلت ديانا، التي تعيش وضمادات أحلامها تغمي عينيها، غافلةً عما يحدث. وكانت غافلةً عن التغير الجديد الملحوظ في أوضاع المنزل وكذلك عن تغير طباع رفيقها. ولكن كانت إيفيلين ديفينيش ذات طبيعة مختلفة. وبدأت تلقي الاتهامات، والتوبيخات، والتهديدات تارةً وتتوسل بعنف تارةً أخرى. وفي نهاية المطاف، أصبحت جميع التهديدات تهديدًا واحدًا، وجميع التوسلات طلبًا واحدًا. وكتبت له تقول:
لم يعد الأمر محتملًا. لا أريد أن أُهدِّدك، ولكن يجب عليك أن تفعل ما أريد. لقد فقدت عِقدي، وأنت تعرف أين ولماذا. ولن يكون من الصعب عليك استعادته. لم أعتقد للحظة أنها ستذهب إلى أمريكا. إنها تتجسَّس علينا. أنا واثقة بذلك. لقد رأيتها تتنصَّت علينا. إنها تريد أن تستخدم رحلتها إلى أمريكا عذرًا لكي تفر بعدما اكتشفت ما تريد، ثم ستثير كل ما يمكنها إثارته من متاعب حتى تتمكن من إنقاذ ديانا. أنا واثقة بذلك. ولكن يمكنك أن تستغل رحلة أمريكا باعتبارها عذرًا. إنها تقول إنها ستسافر من بوردو إلى شيربورج. يمكنك أن تقلها بالسيارة إلى بوردو الليلة السابقة لرحيلها. ليس لديها أي أصدقاء هناك يُودِّعونها. عليك أن تعيد الأوضاع إلى نصابها الصحيح وإلا فسأفعل ما تريد هي أن تفعل. نعم، سأفعل. سأفشي القصة بأكملها … قداس الشيطان، ومؤامرتنا بخصوص ديانا … نعم، أفضِّل أن أفضح هذه المنطقة بأكملها ويفتضح أمري معها بدلًا من أترك الأمور تتخذ المسار الذي هي عليه الآن. هل تعلم أني ذهبت إلى كهف المومياوات اليوم؟ هل تذكر ذلك الصبي؟ أحلم بأن يحدث المثل لها! يجب أن تدفع ثمن إقحام أنفها في الأمر؛ ثمن إلقاء نفسها عليك. لا داعي لأن تظن أنها تهتم لأمرك. إنك لا تعني أي شيء بالنسبة إليها. سنجتمع جميعنا في ميراندول ليلة الأربعاء. يمكنك أن تهتم ببعض الترتيبات الطفيفة التي تبقَّت هناك، ثم في يوم الخميس؛ يمكنها أن تذهب معك إلى بوردو.
كان هذا الجزءَ الأخير الذي لفت هانو انتباه السيد ريكاردو إليه. أخذ هانو نسخ الخطابات وأعادها إلى حقيبته وأغلقها.
وقال: «إليك ما حدث في هذه الجريمة حتى اللحظة عندما بدأت جويس ويبل قصتها. طلبت إيفيلين ديفينيش قتل جويس ويبل مهدِّدةً بفضح أمر الجميع، وكانت ديانا تاسبورو واقعةً في متاهة من الخوف والإثارة، ووقع روبن ويبستر في حب جويس بجنون لأنه لم يقع في حب أحد من قبل، وفكَّر في حل مشكلته بضربة سريعة من شأنها أن تورِّط الجميع؛ ديانا، والقاضي، وكاساندر دو ميراندول. ولا يمكن لأحد أن يوجِّه أصابع الاتهام نحوه. وتآمر الجميع على دفن هذه الجريمة بين الجرائم الغامضة التي حيَّرت الشرطة. نعم، وكاد ينجح؛ لولا جرأة وتفاني صديقتك جويس ويبل.»
ثم وقف بعدما أنهى حديثه ومدَّ يده والتقط قبعته. إلا أن السيد ريكاردو لم يتحرك من مكانه. جال ببصره في أرجاء الغرفة حزينًا.
قال: «أنا آسف. كنت آمل أن تُبرأ ديانا من تورُّطها في هذه الجريمة بطريقة ما. ولكن بما أنها كانت حاضرةً هنا في تلك الليلة — هنا في الغرفة التي كانت الأنوار تغمرها …» ولم يكمل جملته. ولكنه نهض بدوره وألقى نظرةً أخيرة على الغرفة. والتقت عيناه بالعينين المرسومتين على الجدار، وأصبح قادرًا الآن على النظر فيهما. وضع هانو يده على كتفه.
وقال بجدية: «يجب أن أُريحك من التفكير. لم تكن ديانا تاسبورو هنا في تلك الليلة. كنت أنا من أخبرها بمقتل إيفيلين ديفينيش. هيا بنا!»
أغلق باب غرفة الاجتماعات خلفه وسلَّم مفتاحها إلى الرقيب المسئول عن حراستها.