الفصل الثالث

ذو اللحية

بعد شهر، تحالف الحظ، أو لنقل القَدَر، إذا ما كان من الممكن استخدام هذه الكلمة الكبيرة فيما يتعلَّق بالسيد ريكاردو، مع جويس ويبل. كان السيد ريكاردو يحتسي قهوته الصباحية في الساعة العاشرة في غرفة معيشته الأنيقة التي تقع في الطابق الأول من فندق ماجيستيك، وكانت خطاباته التي لم يفتحها بعدُ مُرتَّبةً في كومة بجانب مرفقه، عندما أثار انتباهه الكلمات المكتوبة على الظرف الموضوع على قمة الحزمة. كان يعرف الاسم، ولكنه لم يتمكن من تمييزه. فقد كان في مزاج لا يساعد على التفكير. كانت أشعة الشمس تملأ الغرفة عبر النوافذ المفتوحة. كان يستمتع بالجلوس دون حراك مُفكِّرًا في هُوية مرسل الخطاب أكثر من فتح الظرف واكتشاف من يكون. ولكنه تلقَّى منذ عدة سنوات درسًا في هذه الغرفة في إيكس ليبان عن موضوع الخطابات غير المفتوحة، وتذكَّر هذا الدرس، ففتح الخطاب ونظر إلى التوقيع على الفور. وبدأ يهتم بالخطاب عندما قرأ اسم ديانا تاسبورو. أخذ يقرأ الخطاب كاملًا بحماسة. في واقع الأمر، لم يعرض الفيكونت كاساندر دي ميراندول إخراج خدمه من بوردو وفتح قلعته لاستقبال حفل حصاد العنب. قد يقضي ١٠ أيام أو نحو ذلك بين كروم العنب الخاصة به من دون أن يكون معه أحد سوى خادمه وكبيرة خدم القصر. في ظل هذه الظروف، سيكون من الأكثر راحةً بالنسبة إلى السيد ريكاردو أن يقيم في قصر سوفلاك.

سنقيم حفلًا صغيرًا واحدًا، ولن يكتمل من دونك. ستلتقي السيد دو ميراندول على العشاء هنا، وسأتطلع لأن أجد اسمك بين الحضور في شهر سبتمبر.

قرأ السيد ريكاردو كل كلمة من هذا الخطاب مرةً أخرى قبل أن يدرك أنها لم تُثِر في نفسه أي شعور غريب، وعندما أدرك هذه الحقيقة المربكة، شعر بخجل شديد. ولكن تلك هي الحقيقة. لا يوجد أي وجه شرير ميت غرقًا وغير كامل تتلاعب به الأمواج بين الحبر والورقة. لا، لا يوجد أي من تلك الوجوه! كان الحبر المُستخدَم أرجواني اللون ولم يكن أسود، وحاول السيد ريكاردو للحظات أن يبحث عن أي عزاء تافه في هذا الاختلاف. ولكن أمانته الفطرية جعلته يتراجع عن ذلك. فربما يكون لون الحبر تفصيلةً سطحية للغاية.

خاطب السيد ريكاردو نفسه وهو يخدش الخطاب باستياء شديد: «لا توجد أي وجوه ميتة غرقًا، ولا أي لمحة من شر، ولا أي قرعة إنذار. ولكني لست أقل حساسيةً من الآخرين.»

ربما إذا ركَّز تفكيره على الخطاب، فقد يتلقَّى بدوره الرسالة المثيرة من العالم الآخر. لا ريب أن الأمر يستحق التجربة.

فقال: «أفضل خططي أن أغلق عينيَّ بقوة ولا أفكِّر في أي شيء لمدة خمس دقائق. ثم سأقرأ الخطاب مجددًا.»

وبِناءً على ذلك، أغلق عينَيه بإصرار كبير. كان قَنوعًا. ولم يكن يطمح في الكثير. إذا ما رأى شيئًا مستديرًا وردي اللون عندما يفتح عينيه، فسيكون راضيًا وسيستعيد بعضًا من كبريائه. ولكن يجب أن يمنح نفسه الوقت الكافي. وظل على هذه الحال لمدة قدَّرها بخمس دقائق. ثم فتح عينيه، وهبَّ ليُمسك بالخطاب – ولكنه تلقَّى واحدةً من أكبر الفزعات التي تلقَّاها في حياته. كانت على الطاولة بجانب الخطاب يد، وخلف اليد، كان ثمة ذراع. تبع السيد ريكاردو، بعينين ملتاعتين، الذراع نحو الأعلى، ثم أطلق صرخةً حادة وكأنها نباح كلب وانزلق بكرسيه إلى الخلف.

figure
تبع السيد ريكاردو، بعينين ملتاعتين، الذراع نحو الأعلى.

طرف بعينيه، بطبيعة الحال. فقد كان يجلس أمامه على الطرف الآخر من المكتب، لِص — لا يمكن وصفه بأقلَّ من ذلك — ظهر على نحو مفاجئ، لا أحد يعلم من أين، لص حقيقي ذو مظهر بغيض ومُخيف للغاية. كان يلف عباءةً سوداء على كتفيه على الطريقة الإسبانية، وكانت لحية شعثاء خشنة تنمو على وجهه وكأنها غابة، ووضع على رأسه قبعة عالية القمة عريضة الحافة من اللباد الناعم مائلة على حاجبيه. كان يجلس في ثبات تام يحدِّق في السيد ريكاردو بعينين مضطربتين وكأنه يحدِّق في خنفساء سوداء بغيضة.

انتابت السيد ريكاردو حالة من الرعب الشديد. فانتفض واقفًا وقلبه يدق في صدره بعنف. وعثر في مكان ما في حنجرته على صوتٍ حاد مبحوح تحدَّث به.

قال ريكاردو: «كيف تجرؤ؟ ماذا تفعل في غرفتي أيها السيد؟ اخرُج قبل أن أزج بك في السجن! من أنت؟»

عندما سمع اللص ذلك، وبحركة خاطفة مثل مصراع الكاميرا، رفع لحيته التي كانت مُعلَّقةً من سلكين مثنيين على أذنيه حتى برزت من فوق جبهته، تاركًا الجزء السفلي من وجهه مكشوفًا.

قال الرجل المخيف: «أنا هانوسكي. قائد التشيكا (جهاز أمن الدولة السوفييتي).» وبحركة خاطفة أخرى، أعاد لحيته إلى مكانها.

غاص السيد ريكاردو في مقعده وقد أرهقته هذه الصدمة الثانية التي جاءت في أعقاب الأولى مباشرة.

لم يستطع إلا أن يقول: «حقًّا! حقًّا!»

وهكذا جدَّد السيد هانو، المفتش الكبير في جهاز الأمن العام، ذو الذقن الأزرق الذي يُذكِّر بالممثلين الهزليين، صداقته الغريبة مع السيد ريكاردو بعد انقطاع دام عامًا كاملًا. تلك الصداقة التي بدأت قبل خمس سنوات في إيكس ليبان، ومنذ أن بدأ هانو يقضي عطلاته في فندق متواضع في هذا المنتجع الجميل، فكان يؤكد على تلك العلاقة في شهر أغسطس من كل عام. كان السيد ريكاردو يُدرك أنه يجب أن يدفع مقابل هذه الصداقة. كان قد فاض به الكيل إلى أقصى حد بسبب تحفُّظ هانو عندما تكون ثمة قضية مهمة يعمل عليها، ثم يدعوه بكل جدية لعرض آرائه التي يُمزِّقها بعد ذلك إرْبًا، ويسخر منها، ويتهكَّم عليها، ثم يجد نفسه مُجدَّدًا، كما هو الحال الآن، ضحية نوع من العبث الطفولي الذي يبدو أن هانو يخلط بينه وبين الفكاهة، التي لطالما كانت في كل الأحوال في غير محلها على الإطلاق بالنسبة إلى شخص جاد. وفي المقابل، كان يسمح للسيد ريكاردو بالاطلاع على الحقائق السرية المريعة للكثير من القضايا الغريبة التي لطالما كانت ألغازًا مُؤرِّقة للرأي العام. ولكن كانت هناك حدود للمقابل الذي كان على استعداد لدفعه، وصباح ذلك اليوم، تخطَّى السيد هانو هذه الحدود.

قال السيد ريكاردو بمجرد أن استعاد قدرته على الكلام: «هذا كثير. لقد دخلت إلى غرفتي تسير على أطراف أصابعك ومن دون أن تُعلن عن وجودك عندما كان تركيزي منصبًّا على أمر ما. أُقر بأنك قد رصدتني في وضع سخيف، لا يماثل حتى نصف سخافة وضعك. في الواقع، أنت، يا سيد هانو، باعتبارك رجلًا في منتصف العمر …» ثم صمت عاجزًا عن قول المزيد.

لم تكن ثمة فائدة من توبيخه. لم يكن هانو يسمعه. فقد كان واضحًا أنه مسرور بما فعل. وتملَّك هذا السرور وجدانه بأكمله. فقد واصل رفع لحيته الزائفة بتلك الحركة الخاطفة من يده وهو يقول لنفسه بعنف شديد: «أنا هانوسكي، قائد التشيكا،» ثم كان يُعيد تلك الستارة الضخمة من الشعر الأسود إلى مكانها الأصلي مجددًا.

«أنا هانوسكي، قائد التشيكا! أنا هانوسكي من موسكو! أنا هانوسكي، مروِّع السهوب!»

سأله السيد ريكاردو: «إلى متى ستستمر في التصرف بهذه الطريقة الشائنة؟ لقد تسبَّبت في شعوري بالإهانة، حتى وإن كنتُ قادرًا على فهم أن السبب وراء تصرفاتك تلك هو خفة الظل التي ورثتها عن الغاليين.»

أعادت هذه العبارة إلى السيد ريكاردو الكثير من كبريائه. حتى هانو نفسه أدرك مدى براعته.

قال هانو مبتسمًا: «آه! لقد تفوقت عليَّ يا صديقي. يا لها من ملاحظة لاذعة. خفة الظل التي ورثتها عن الغاليين. نعم، إنها عبارة أقرب إلى العقاب. ولكن إليك دفاعي عن نفسي. كم قلت أنت لي، وكم قلت أنا لنفسي: «يا للمسكين هانو! لن يكون مُحقِّقًا جيدًا أبدًا لأنه لا يضع لِحًى زائفة. إنه لا يعرف القواعد ولن يتعلَّمها.» ومن ثم، أصابني الحزن طوال فصل الشتاء. وبحلول الصيف، لملمت شتات نفسي. وقلت: «يجب أن أجعل صديقي العزيز يفخر بي. يجب أن أفعل شيئًا ما. سأُريه كيف يكون مُحقِّق أحلامه».»

ردَّ عليه السيد ريكاردو في برود: «وبدلًا من ذلك، أريتني سفاحًا.»

خلع هانو في تعاسةٍ أدوات تنكُّره وطبَّقها بعناية وكدَّسها في كومة. ثم أمال رأسه نحو صديقه. وسأله: «هل أنت غاضب مني؟»

لم يُكلِّف السيد ريكاردو نفسه عناء الرد عن هذا السؤال البديهي. وعاد ليقرأ الخطاب، ولكن ظلت درجة حرارة الغرفة منخفضةً لمدة قصيرة رغم هذا الصباح المشرق. ولكن لم يشعر هانو بالخجل من نفسه. وبدأ يُدخِّن سجائر سوداء واحدةً تلو الأخرى، مُخرِجًا إياها من علبة ورقية ذات لون أزرق فاتح، وموجِّهًا من وقتٍ لآخر ابتسامةً غريبة إلى صديقه المنزعج. وفي نهاية المطاف، طغى فضول السيد ريكاردو على استيائه.

فقال حاملًا الخطاب عبر الغرفة إلى هانو: «انظر هذا الخطاب. أخبرني إذا لاحظت فيه أي غرابة.»

قرأ هانو عنوان فندق في بياريتز، ثم توقيع المُرسل، ثم الخطاب نفسه. ثم أعاد الخطاب إلى السيد ريكاردو رافعًا بصره نحوه.

ثم قال متفاخرًا، كالعادة، ببراعته في استخدام العبارات الاصطلاحية: «أنت تسخر مني، أليس كذلك؟» ثم كرَّر العبارة مرةً أخرى. «أجل، أنت تسخر مني.»

ردَّ السيد ريكاردو بلمحة من حدة طبعه الحديثة العهد: «أنا لا أسخر منك. هذا تعبير غير معتاد.»

أخذ هانو الورقة إلى النافذة ورفعها أمام عينَيه في ضوء الشمس. ثم تحسَّس الورقة بين أصابعه، ورأى عينَي صديقه تلمعان في حماس. لا ريب أن السيد ريكاردو يتعامل مع هذه الدعوة البسيطة بجدية تامة.

فقال من حيث يقف: «لا. لم أقرأ شيئًا في هذا الخطاب سوى أن سيدةً تدعوك إلى قصر سوفلاك لتحضر حفل حصاد العنب. هنيئًا لك، فنبيذ بوردو الذي يُنتجه قصر سوفلاك مذكور ضمن أفضل أنواع نبيذ الحصاد الثاني.»

قال السيد ريكاردو: «أعرف ذلك، بالطبع.»

وافقه هانو سريعًا وباهتمام جم قائلًا: «بالتأكيد. ولكني لم أجد أي غرابة في هذا الخطاب.»

«كنت تتحسَّسه بدقة بأطراف أصابعك، كما لو أن شعورًا غريبًا قد انتقل منه إليك.»

هز هانو رأسه نفيًا.

«مجرد تساؤل دار في ذهني عما إذا كان ثمة أي شيء غريب في ملمس الورق. ولكن لا! إنه من نوعية الورق الذي توفِّره آلاف الفنادق لعملائها. ما الذي يؤرِّقك يا صديقي؟»

أعاد السيد ريكاردو، بتردد أكبر من تردد جويس ويبل، القصة التي روتها عليه عن الانطباعات غير المريحة التي تشعر بها تجاه الخطابات التي تكتبها اليد التي كتبت هذا الخطاب. وقد أقرت جويس، حتى لنفسها، بأنها عندما تحاول تفسير هذه الانطباعات بالكلمات، فإنها تضمحل حتى تتلاشى تمامًا. كم ستزداد تلك الانطباعات غموضًا عندما تُروى الآن من قبل ناقل عن صاحبتها الأصلية لهذا الرجل القاسي الذي لا يثق إلا بالحقائق؟ لم يسخر منه هانو. لا ريب في أن تعبيرًا ينم عن عدم الراحة قد ظهر جليًّا على قَسَمات وجهه بينما تُقَص عليه القصة، وبعدما فرغ السيد ريكاردو من قصته، جلس في مكانه صامتًا ومشوَّشًا خلافًا للعادة لبعض الوقت. ثم نهض من جلسته أخيرًا وجلس في مقعد عند الطاولة المقابلة لصديقه.

وقال ومرفقاه مستندان على مفرش الطاولة ويداه متشابكتان أمام وجهه: «اسمع. أنا أكره القصص من هذه النوعية. لدي الكثير من الأمور لأهتم بها، حُريات وحَيَوات أشخاص لا يملك كل منهم إلا روحًا واحدة في هذا الجسد الواحد. لهذا السبب، يجب أن أكون حذرًا للغاية حتى لا أخطئ. إذا كان خطأ قد أرتكبه أنا من شأنه أن يتسبَّب في أن تخسر أنت أكثر من خمس سنوات من عمرك القصير، إذا احتفظت بها فستعيشها في مشقة وتكفير عن ذنوبك، فلا يمكن لشيء أن يُعوِّضك عن خطئي في حقك. يجب أن أكون متأكدًا دائمًا من الخطوة التي أخطوها، نعم، يجب أن أعرف دائمًا ما سأُقدم عليه قبل أن أفعل. يجب أن أقول لنفسي: «هذا الرجل، أو هذه المرأة، ارتكب فعلًا مخالفًا للقانون عن عمد»، قبل أن أتدخل. ولكن، مع قصة مثل التي أخبرتني بها، أسأل نفسي: «ما الذي استنبطته منها؟ هل يمكن أن أكون على يقين من الخطوة التي يتعين عليَّ اتخاذها؟»»

صاح السيد ريكاردو وقد شعر بالارتياح والانبهار: «لن تسخر إذن؟»

فتح هانو يديه، وقال: «أنا أسخر — نعم — مع أصدقائي، ومن أصدقائي، كما آمل أن يسخروا هم أيضًا معي، ومني. أنا إنسان، أجل. ولكن القصص على غرار تلك التي قصصتها عليَّ تجعلني أتواضع، ولا أسخر منها. أعرف رجالًا ونساءً ينظرون في كرات بلورية ويرون غرباء يتحركون في أماكن غريبة، وتكون صورهم حقيقيةً أكثر ممَّا لو كانوا يؤدون مشاهد على خشبة المسرح أمام أعينهم. أما أنا؟ فلا أرى أي شيء، أبدًا! أبدًا! هل أنا الأعمى بينهم؟ أم أن الآخرين مجانين؟ لا أعرف. ولكن تؤرِّقني هذه التساؤلات أحيانًا. وهذا ليس في صالحي. لا! فهي تجعلني أقلق على نفسي، وأبدأ بالشك في هانو! تخيَّل ذلك، إن استطعت!»

ثم أرخى يديه، وفتح ذراعيه عن آخرهما في إشارة هزلية مبالغ فيها. ولكن لم ينخدع السيد ريكاردو. لقد أقرَّ صديقه بالحقيقة. فثمة أوقات يشك خلالها هانو في هانو؛ أوقات يُدرك خلالها، مثلما يحدث مع السيد ريكاردو، أن ثمة شقًّا حدث في قشرة حجر الأوبال.

خفض هانو عينَيه مجددًا نحو هذه الكتابة التي كانت مفزعةً للغاية بالنسبة إلى شخص واحد فقط، ولم تكن ذات أهمية تُذكر بالنسبة إلى الباقين.

وقال: «لقد فسخت خطبتها، هذه الشابة؛ الآنسة تاسبورو.» ولكنه نطق اسمها تاسبروف. «هذا أمر غريب كذلك.» ثم جلس مطرقًا للحظات. وأردف قائلًا: «ثمة ثلاثة تفسيرات يا صديقي، وعلينا أن نختار من بينها. وإليك أولها. الآنسة ويبل تخدعك لغاية لا نعلمها. وغرضها إثبات مصداقيتها بعدما حدث خطب ما. ذلك كي تتمكَّن من أن تقول: «لقد استشرفت الأمر، وحاولت تفاديه. لقد حذَّرت السيد ريكاردو.» ما رأيك؟ هل فكَّرت في هذا الاحتمال؟»

أومأ برأسه بتمهُّل وثقة لصديقه الذي لم يفكر في أي شيء من هذا القبيل. ولكن أقلقت هذه الفكرة السيد ريكاردو بدرجة ما أو بأخرى. فقد كان، في واقع الأمر، يشعر بالقلق أثناء عودته إلى منزله بعد الحديث الذي دار بينهما. كان قلقًا بسبب ذلك المبرِّر الذي ساقته جويس ويبل عن عدم قدرتها على التدخل. «يجب على سندريلا أن تغادر الحفل قبل منتصف الليل.» هل يلائم هذا المبرر شابةً تمتلك بئرًا نفطيًّا في كاليفورنيا؟ لا، من المؤكد أنه لا يلائمها!

ولكن رفع هانو، وكأنه قرأ أفكاره، يده محذِّرًا. وقال: «دعنا لا نستبق الأمور. لا يزال ثمة تفسيران آخران. التفسير الثاني؟ الآنسة ويبل امرأة تعاني هيستيريا ومن ثم لا بد أن تثير ضجة. فهي حمقاء، مثلما الحال مع جميع من يعانون هيستيريا.»

في هذه اللحظة، هز السيد ريكاردو رأسه، بالثقة نفسها التي هز بها هانو رأسه منذ لحظات. إن تلك الشابة الأنيقة، التي جعلت من النظام علامتها المميزة، بعيدة كل البعد عن عالم الهيستيريا. كان السيد ريكاردو يفضِّل التفسير الأول. فقد كان أكثر احتمالًا وأكثر إثارةً بكثير. ولكن يجب ألا يتعجل.

فسأل: «ماذا عن تفسيرك الثالث؟» أعاد هانو الخطاب إلى ريكاردو ونهض من مقعده ضاربًا فخذيه بيديه.

«ربما كانت تقول الحقيقة. ربما أتاها التحذير عبر تلك الكلمات المكتوبة بخط اليد، رغم أن من كتبتها لا تعلم شيئًا عن التحذيرات التي ترسلها.»

استدار هانو ليواجه النافذة، وظل واقفًا مكانه لبعض الوقت يراقب المنتجع الصغير الجميل، حمامات السباحة التي أُقيمت بجانب المنتزه، والكازينو الأنيق هناك، والفيلات والفنادق التي تلمع وسط الشوارع الخضراء. ولكن كان ذهنه مشغولًا للغاية. ولم يرَ شيئًا من كل ذلك وكأنه يُحدِّق في جدار. كان السيد ريكاردو قد رآه على هذه الحال من قبل، وكان يدرك أنه من الأفضل عدم مقاطعته على الإطلاق في أوقات مثل تلك. وطغى عليه شعور بالمهابة. وشعر بأن أرضية حجر الأوبال أصبحت هشةً للغاية تحت قدميه.

أدار هانو رأسه نحو صديقه، وقد لانت عريكته.

وسأله: «هل يبعد قصر سوفلاك ٣٠ كيلومترًا عن بوردو؟»

أجاب السيد ريكاردو: «٣٨,٥ كيلومترًا.» كانت الدقة أهم سماته.

استدار هانو مجددًا ليواجه النافذة. وبعد دقيقة، وبهزة كبيرة من كتفيه، نفض كل الحيرة عن نفسه.

وصاح قائلًا: «أنا في عطلة. دعنا لا نفسدها! تعال! اجعل خادمك الأمين تومسون يحزم حاجيات هانوسكي الخاصة بي ويعيدها على نفقتك إلى مسرح أوديون الذي استعرتها منه بالأمس. وسنذهب أنا وأنت في سيارتك الرائعة إلى بحيرة بورجيه حيث سنتناول غداءنا، ثم سنذهب في مغامرة على متن زورق بخاري كأي سائحَين عاديَّين.»

كان يبدو عليه المرح وخفة الظل. ولكنه كان قد خرج عن النهج المقدس لعطلته، وطوال ذلك اليوم، بذل جهدًا كبيرًا لإبعاد بعض فترات التأمل العميق، كما توقع السيد ريكاردو.

figure
خريطة الطريق من بوردو إلى قصر سوفلاك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥