ألغاز أمام السيد ريكاردو
أقام السيد ريكاردو في بوردو في دعة وراحة؛ فقد كان يقضي يومًا هنا وليلةً هناك، ووصل إلى قصر سوفلاك في تمام السادسة من مساء يوم الأربعاء الموافق الحادي والعشرين من سبتمبر. من المهم ذكر ترتيب اليوم في الأسبوع. طوال آخر ميلٍ إلى القصر، قاد سيارته على طول طريق خاص يميل قليلًا نحو الأعلى. كان المنزل واقعًا عند قمة هذا المنحدر، وكان ذا شكل رباعي مبنيًّا من الحجر بلون زهري فاتح ويَبرز البرجان القصيران الدائريان عند كل طرفٍ من طرفي المبنى الرئيس، ويمتد الجناحان الطويلان حتى يصلا إلى الطريق. كانت واجهة الشكل الرباعي مساحةً مفتوحة، يُرى في منتصفها قوس عالٍ لا يحيطه أي شيء، كما لو كان قوس نصر قديمًا من عصر الرومان. كان هذا الجانب من المنزل مطلًّا على جهة الجنوب الغربي، وكانت الأرض تمتد منه في منحدر مغطًّى بكروم العنب وصولًا إلى مراعٍ طويلة وشاسعة. وعند نهاية هذا السهل العشبي، كان يُرى تل واضح المعالم يمكن مشاهدة منزل صغير أبيض اللون فوق قمته من بين ستار من الأشجار. بينما كان السيد ريكاردو يقف موليًا ظهره إلى قصر سوفلاك كي يُمدِّد ساقيه بعد قيادة السيارة لمدة طويلة، رأى طريقًا ثانويًّا يبدأ عند نهاية المنحدر المغطى بكروم العنب، ويهبط المنحدر، ويمر عبر مجموعة من المباني الريفية ومرأب تلتقي عنده كروم العنب بالمراعي، ولكن على الجانب الآخر من الطريق، ثم تصعد مجددًا نحو المنزل الأبيض الصغير.

لم يكن أحد من الضيوف قد وصل، ولم يكن في المنزل أحد سوى العمة الوصيفة، السيدة تاسبورو، وكانت نائمة. أُعد كوب من الشاي للسيد ريكاردو بواسطة الخادم الشاب جولس أماديه في غرفة استقبال الضيوف الكبيرة التي تفتح على الشرفة الحجرية التي تُطل على نهر جيروند الشاسع وشاطئ بحر الشمال المكسو بالضباب. بعد أن احتسى الشاي، خرج السيد ريكاردو إلى الشرفة. كانت ثمة أربع درجات صغيرة تؤدِّي نزولًا إلى حديقة امتزجت فيها المروج الخضراء بالزهور، وعن يمينه، كان يقف صف من الأشجار التي زُرعت حديثًا تنحدر حتى تلتقي بالسياج النباتي عند نهاية الحديقة مخفيًا المنزل وحاجبًا رؤية العدد الهائل من أقبية النبيذ حيث يُخزَّن النبيذ وحيث توجد الأحواض الضخمة.
سار السيد ريكاردو عابرًا المرج متجهًا نحو السياج، وعَبَر بوابةً ومنها إلى أرض مستنقع، ورأى عن يمينه قليلًا مرفأً صغيرًا به رصيف يرسو إليه زورق، أحد قوارب الإبحار الثقيلة الوحيدة الصاري التي تُستخدم في التجارة عبر النهر. وكان ثمة قبطان واثنان من العمال مشغولين في تفريع حمولتهم من خزين المنزل. بدأ السيد ريكاردو، الفضولي بطبعه، تحقيقه. كان القبطان رجلًا ضخم الجثة ذا لحية سوداء مسرورًا للغاية لقَبول سيجارة وأخذ استراحة من عمله.
وقال: «نعم يا سيدي، هذان ابناي. إننا نتوارث المهنة. لا، لم أتملَّك هذا الزورق بعد. السيد ويبستر، مندوب الآنسة، اشترى الزورق وكلَّفني بإدارته، وعندما أدفع مقابله كاملًا، سيصبح ملكي. هل سيحدث هذا قريبًا؟» فرد القبطان ذراعيه تعبيرًا عن اليأس. وقال: «من الصعب أن تصبح ثريًّا في جيروند. إننا نقضي نصف حيواتنا في انتظار المد. كما ترى يا سيدي! ولكن بالنسبة إلى هذا المد اللعين، كان يمكنني أن أُنهي عملي هنا، وأبدأ رحلة العودة إلى بوردو في وقت لاحق من الليل. ولكن لا! يجب أن أنتظر ارتفاع المد ولا يمكنني التحرُّك حتى السادسة صباحًا. آه، حياة الفقراء صعبة يا سيدي.» كان يمتلك نصيبًا وافرًا من شفقة الفلاح الفرنسي على نفسه، ولكنه كان جالسًا على حائل الأمواج المتين في الزورق، وبدأ يربت على الخشب ويداعبه كما لو كان أعز شيء إلى قلبه. واستطرد قائلًا: «هذا الزورق جيد. سيدوم لسنوات طوال، وربما أتمكَّن من تملُّكه في وقتٍ أقرب ممَّا يعتقد الناس.»
لمعت عيناه القريبتان من بعضهما تحت حاجبيه الأسودين الكثَّين في كآبة. لم يكن الرجل يملك شفقة بني جلدته على النفس فحسب، بل كان يملك شُحَّهم كذلك. واستنتج السيد ريكاردو أن الرجل لم يكن ذكيًّا للغاية. فالرجل الذكي لا يستعرض مهاراته أمام الأغراب. ولكن انتبه القبطان إلى أن ابنيه توقفا عن العمل أيضًا. فخبط القبطان على حائل الأمواج.
وصاح غاضبًا: «أيها الوغدان العديما النفع، إن هذا الرجل النبيل لا يتحدث إليكما. واصلا العمل! هراء! إنكما لا تصلحان إلا لإدارة عجلات مجداف لو بوتي موس في الحدائق العامة.»
ابتسم السيد ريكاردو. فكان قد تسكَّع في الحدائق العامة في بوردو بالأمس القريب. وكان قد رأى لو بوتي موس، ذلك القارب الصغير الجميل على شكل بجعة، طافيًا على المياه تُحيطه الزينة. وكانت به عجلتا تجديف صغيرتان يديرهما صَبيان صغيران، وخلال أيام الأحد والمهرجانات، كان القارب يخرج في رحلات بحرية صغيرة في ظلال النخيل وأشجار الكستناء.
عاد الصبيان الصغيران إلى عملهما، وسار السيد ريكاردو مبتعدًا عن المرفأ الصغير. ولاحظ، دون أن يولي اهتمامًا خاصًّا للظروف، الاسم المكتوب على حنايا القارب: لا بيل سيمون. ربما لم يكن ليلاحظ الاسم من الأساس، ولكن كانت الكلمتان الأوليان من الاسم مطموستين وكانت الكلمة الثالثة مدهونةً بدهان أبيض حديث جعلها واضحةً وضوح الشمس. دفعه فضوله أن يسأل: «هل غيَّرت اسم الزورق؟»
نعم. أسميته «لا بيل ديان.» مجاملة بسيطة، كما ترى. ولكن رفض السيد ويبستر ذلك، وقال إني لا بد أن أغيِّره. والسبب أن الآنسة ربما تعتقد أنها حمقاء إذا ما لاحظت ذلك في أي وقت. هذا ليس معناه أن الآنسة تلاحظ أي شيء هذه الأيام، ولمعت عيناه السوداوان بين جفونه نصف المغمضة. ثم قال: «ولكنني غيَّرته على أي حال.»
استدار السيد ريكاردو مغادرًا. سار السيد ريكاردو عائدًا على طول الدرب الواسع، والتقطت عيناه خلف حدود الأشجار، على الجانب البعيد من المنزل، شاليهًا صغيرًا من طابقين يُرى بمفرده وسط مساحة مفتوحة تحيطه بوابة صغيرة بيضاء وحديقة مليئة بالزهور المبهجة. ولكن دقت الساعة السابعة وعاد السيد ريكاردو إلى غرفة الاستقبال دون استكشاف هذا الشاليه. ولم تكن ثمة إشارة على وصول الضيوف. رن الجرس طالبًا جولس أماديه الذي جاء واصطحبه إلى غرفة نومه التي تقع في نهاية الجناح الشرقي. كانت غرفة أنيقة واسعة ذات نافذتين، واحدة على الواجهة تطل على منحدر كروم العنب، والمرعى، والتل المقابل الذي تكسوه الأشجار، وكانت الأخرى على الجهة الأخرى تُطل على الدرب وتُعطي مشهدًا غير كامل للشاليه الصغير خلفه. ارتدى السيد ريكاردو ملابسه بعناية فائقة، تلك العناية التي لم يكن ليتنازل عنها حتى لو مُنح مملكة تارتاريا، وكان لا يزال يضع اللمسات الأخيرة على ربطة عنقه التي على شكل فراشة، عندما رأى، من فوق المرآة، شابًّا صغيرًا يرتدي سُترة العشاء ويعبر الدرب في طريقه نحو القصر. أصبح الهدف من وجود الشاليه واضحًا الآن بالنسبة إلى السيد ريكاردو.
فقال: «منزل ضيوف للشبان العزاب. تومسون، أعطني حذائي ولبيسة الأحذية من فضلك.»
سار السيد ريكاردو على طول الرواق الطويل، وذُهل عندما لاحظ مساحة الأرض الشاسعة التي يشغلها المنزل، وعدد الغرف الفارغة المفتوحة الأبواب، ثم استدار ناحية اليسار عندما وصل إلى نهايته، ووصل إلى غرفة الاستقبال التي كانت تقع في منتصف المبنى الرئيس تمامًا. عندما وقف أمام باب الغرفة، كان البهو ومدخل المنزل واقعين خلفه مباشرة. ظل واقفًا في مكانه لبضع لحظات ينصت إلى ما تقوله الأصوات واجتاحه انفعال غريب. هل يمكنه أن يحل لغز خطابات جويس ويبل بلمحة كاشفة واحدة؟ هل سيجول ببصره في أرجاء الغرفة ويحدِّد إلهامُه الشخص الشرير الذي احتجز ديانا تاسبورو في عزلة بياريتز طوال شهور الصيف؟
قال لنفسه في حزم: «الآن. الآن.» وبطريقة مسرحية، فتح الباب على مصراعَيه وخطا سريعًا إلى داخل الغرفة. وأصيب بخيبة أمل. لا ريب في أن الصمت خيَّم للحظات، ولكن دخوله المفاجئ كان هو السبب في ذلك. لم يجفل أحد، وعادت الأحاديث التي انقطعت لتستمر من جديد.
أسرعت ديانا تاسبورو الخُطى نحوه بجمالها الأخَّاذ المعروف عنها في فستانها ذي اللون الأخضر الفاتح.
قالت ديانا في سرور: «كم سعدت بحضورك يا سيد ريكاردو. أنت تعرف عمتي، أليس كذلك؟»
صافح السيد ريكاردو السيدة تاسبورو.
«ولكني لا أعرف يقينًا إذا ما كانت السيدة ديفينيش غريبةً كذلك.»
كانت السيدة ديفينيش شابةً في حوالي الخامسة والعشرين من عمرها، طويلة القامة، سوداء الشعر، ذات بشرة لامعة، وعينين سوداوين صافيتين. كانت متألقةً أكثر من كونها جميلة، وضخمة، وذكَّرت السيد ريكاردو بالشهوات العاصفة الجامحة. ومرَّ بخَلَده أنه إذا اضطُر لتناول وجبة معها بمفرده، يجب أن تكون في وقت الشاي وليس العشاء. مدَّت يدها اليمنى إليه في حالة من اللامبالاة، ووقعت عينا السيد ريكاردو على يدها الأخرى مصادفة. لم تكن السيدة ديفينيش ترتدي خاتم زواج، ولا أي مجوهرات تدل على أي ارتباط.
قالت مبتسمة: «لا، لا أعتقد أننا التقينا من قبل.» وشعر على نحو مفاجئ بحماسة انتصار، من المؤكد أن هذا لم يرجع إلى صوتها؛ فهو لم يكن سمعها تقول كلمةً واحدة من قبل قط، ربما يرجع ذلك إلى حركة ما من يدها، أو إلى حركة من جسدها عندما استدارت لتواصل حديثها، وربما يرجع ذلك إلى بطء إدراك السيد ريكاردو، ولكنه شعر بذلك على أي حال. لقد حلَّ مشكلة جويس ويبل سريعًا. السيدة ديفينيش هي القوة المُهيمِنة التي تزعج ديانا تاسبورو. كانت هي الشخص الشرير. صحيح أنه لم يلتقِها من قبل، ولكنه رآها، وفي ظل تلك الظروف الكئيبة التي حسمت المسألة أخيرًا.
قال: «ولكني أعتقد أنني رأيتك من قبل، منذ تسعة أيام تحديدًا في بوردو.» وكاد يُقسم أنه رأى الرعب، رعبًا صافيًا خالصًا، يحدِّق فيه من أعماق عينيها. ولكنه لم يستمر إلا للحظات. ثم تفحَّصت السيد ريكاردو من قمة رأسه، بشعره الرمادي المصفَّف بعناية، إلى أخمص قدمَيه وضحكت.
وسألته: «أين؟»، ولم يُجِبها السيد ريكاردو. كان سؤالًا مباشرًا وجريئًا. وكان يشعر بحرج شديد من إجابته. فإن فعل، قد يتهم نفسه بميله للتصرُّفات غير السوية. كما قد يبدو صبيانيًّا كذلك.
فقال: «ربما كنت مخطئًا.» وضحكت السيدة ديفينيش مجددًا، ولكن بطريقة ليست مريحة.
جاء إنقاذ السيد ريكاردو من وضعه العصيب هذا في صورة مضيفته الشابة التي وضعت يدها على ذراعه.
وقالت: «يجب الآن أن تتعرَّف إلى الشخص الذي كان من المفترض أن يكون مُضيِّفك. السيد الفيكونت كاساندر دي ميراندول.»
كان السيد ريكاردو قد جفل من الشخص السابق الذي تعرَّف إليه. ولكنه صُعق هذه المرة. وفكَّر في جميع أنواع الصليبيين، ولكنه لم يستطع تخيُّل هذا الشخص تحديدًا يقتحم أسوار عكا. كان رجلًا طويل القامة، وبدينًا، وضخم الجثة، ذا وجه طفولي متورد، ومُدوَّر، ومليء بالبثور، وكان فمه صغيرًا للغاية على نحو لا يتناسب مع حجمه، وكان ذا شفتين حمراوين غليظتين، وكان أصلع إلى حدٍّ ما.
قال بصوت رفيع حاد: «سأعتبر أن زيارتك لي قد تأجَّلت فحسب.» ومد نحو السيد ريكاردو يدًا رخوة ومبلَّلة. قرَّر السيد ريكاردو من فوره أنه يُفضِّل أن يتخلَّى عن حجه السنوي تمامًا على أن يحل ضيفًا على سليل الصليبيين هذا. فهو لم يلتقِ في حياته بشخصية مُنَفِّرة لهذه الدرجة. ربما كان الرجل خفيف الظل، ولكنه لم يكن كذلك. فقد جعل السيد ريكاردو يشعر بالانزعاج، واعتبر ملمس يده الرخوة شيئًا مقززًا. أخفى راحة يده بصعوبة عندما وجَّهته ديانا تاسبورو ناحية الرجل الذي رآه يعبر الدرب قادمًا من الشاليه.
قالت ديانا بابتسامة ساحرة: «هذا السيد روبن ويبستر، مدير أعمالي، وصاحب فضل عليَّ. فأنا مدينة له بازدهار كروم العنب.»
أنكر السيد ويبستر أي فضل على سيدته بأدب جم. وقال: «لم أخلق التربة، ولم أزرع الكروم، ولم أبتدع أي معجزات، يا سيد ريكاردو. وظيفتي بسيطة ومتواضعة، ولكن كرم الآنسة تاسبورو جعله متعةً وليس تعبًا.»
ربما بدا إنكار الفضل متواضعًا أكثر من اللازم، ولكنه زاد من جاذبية بساطة أخلاقه. كان متوسطَ الطول ذا شعر أبيض وعينين زرقاوين لامعتين. لم يكن شعره الأبيض دلالةً على كبر سنه. فقد قدَّر السيد ريكاردو أن عمره يتراوح ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين، ولم يتمكن من تذكر رؤية رجل أكثر منه أناقة. كان حليق الوجه أنيق الملبس، مع مسحة من الرقي. كان يراعي الدقة اللفظية في نُطقه، الأمر الذي بدا مألوفًا بالنسبة إلى السيد ريكاردو دون سبب وجيه، وغمرت السعادةُ السيدَ ريكاردو لأنه عثر على شخص لطيف وودود لهذه الدرجة.
فقال: «إنني لأتطلع غدًا لرؤية شيء مميز في حفل حصاد العنب لأنه تحت إشرافك يا سيد ويبستر.» ثم سمع صوتًا ينادي عليه عبر النافذة الطويلة المفتوحة على الشرفة.
«ألن ترحِّب بي يا سيد ريكاردو؟»
كانت جويس ويبل تقف عند النافذة تُبرِز معالمَ جسدها خلفيةٌ من أنوار المساء. ولم يكن ثمة أثر للقلق الذي كان يغطي وجهها خلال لقائهما الأخير. كانت ترتدي فستانًا لامعًا من الدانتيل الفضي، وكان وجهها مشربًا بالحمرة، وتبتسم له في سعادة.
قال السيد ريكاردو وهو يتقدَّم نحوها مُتحمِّسًا: «لقد أجَّلتِ عودتك إلى أمريكا في نهاية المطاف.»
أجابته: «أجلتها لشهر واحد، وكاد ينتهي. سأغادر غدًا قاصدةً شيربورج.»
قال دو ميراندول بأناقة: «هذا إذا سمحنا لك بالرحيل»، جملة لن ينساها السيد ريكاردو.
قُدِّم السيد ريكاردو لامرأتين شابتين من سكان المنطقة، ورجلين شابين من بوردو، لم يُنطق اسم أي منهم بطريقة تكفي لأن يُميِّزهم عن غيرهم. ولكنهم كانوا مجرد ضيوف في هذه الأمسية، ولم يشغل السيد ريكاردو باله بهم.
صاحت السيدة تاسبورو على نحو مفاجئ في عصبية: «مَن الذي ننتظر الآن يا ديانا؟»
أجابت ديانا: «نيافة القس يا عمتي.»
قالت العمة: «يجدر بك أن تقنعي أصدقاءك بأن يراعوا المواعيد.» كان توبيخًا دون مواربة. جفل السيد ريكاردو وصُعق. كان هذا هو اللغز الثالث الذي يفاجئه. كان يعتقد أن السيدة تاسبورو خاضعة تمامًا لمن تنفق عليها، وصيفة تدرك تمامًا أن واجباتها لا تشمل التدخل، رمز صامت للاحترام. ولكن كان ثمة تدخل منها وحديث مليء بدلالات التسلط. ما أدهشه بالقدر نفسه هو رد ديانا الضعيف.
«أنا آسفة يا عمتي. من النادر أن يتأخَّر القس عن موعد العشاء، جُل ما أخشاه هو أن يكون قد تعرَّض لحادث. أنا واثقة بأني أرسلت السيارة له قبل الموعد بوقت كافٍ.»
هزَّت السيدة تاسبورو كتفيها، فلم يُهدِّئ ذلك من غضبها. نقل السيد ريكاردو بصره بين المرأتين. المرأة العجوز بثوبها الرث العتيق الطراز الجالسة على مقعد ضخم كملكة متوَّجة، وابنة أخيها الجميلة بملابسها العصرية المتواضعة وكأنها فتاة قروية. كان ثمة انعكاس للأدوار أثار حيرة السيد ريكاردو. ألقى ببصره ناحية جويس ويبل، ولكن انفتح الباب، وسمع صوت جولس أماديه يُعلن:
«نيافة القس فاورييه.»
دخل إلى الغرفة رجل ضئيل الجسم يرتدي زي الكُهان، ذو وجه متورِّد، وملامح غليظة، وعينين رماديتين ضيقتين لامعتين يلوح منهما المَكر، في جو من التعجُّل والقلق. وقال رافعًا يد السيدة تاسبورو إلى شفتَيه ليُقبِّلها: «لقد تأخرت يا سيدتي. لا أعرف طريقةً للتعبير عن أسفي سوى الركوع على ركبتيَّ.» كان من الواضح أنه يعتبرها مُضيِّفته. «ولكن عندما تعرفين ما مررت به، ستغفرين لي. لقد سُرقت كنيستي.»
صاحت جويس ويبل بصوت غريب: «سُرقت!» كان صوتها ينم عن الفزع وليس الدهشة. لم تكن حادثة السرقة متوقعة، ولكن بعدما وقعت حقًّا، لم تعد مُستبعَدة.
قال الرجل الضئيل ملوِّحًا بيديه: «نعم يا آنسة. يا له من تدنيس للمقدسات!»

قاطعته السيدة تاسبورو قائلة: «فلتقص علينا ما حدث وقت تناولنا العشاء.» كانت السيدة تاسبورو بروتستانتية. عندما تكون في وطنها، كانت تحضر قُداسات يلقي فيها المواعظَ رجل يرتدي رداء جنيف الخاص بالقساوسة البروتستانت. لم تكن حادثة سرقة كنيسة تخص الروم الكاثوليك أمرًا ذا أهمية كبيرة بالنسبة إليها، ولا يجب تأخير وجبة العشاء بسببه.
قال القس فاورييه: «معك حق يا سيدتي، لقد نسيت آداب السلوك.» وبالطبع، توفر له وقت كفى بالكاد من أجل توجيه التحية إلى بقية الحضور قبل الإعلان عن بدء العشاء.
مر ما تبقى من تلك الأمسية دون أحداث تُذكر كشأن أغلب الأمسيات في المنازل الريفية. ولكن السيد ريكاردو، الذي شحذ قوة ملاحظته لدرجة أعلى من المعتاد، لاحظ خلال الأمسية بعض الأمور الغريبة. كان من بينها، على سبيل المثال، شكوى القس فاورييه. لم تُسرق أي أموال، ولا أي أوعية مقدسة من كنيسته، فيما عدا رداءً من الكَتان الناعم، القميص الذي ارتداه عندما احتفل بالقداس الإلهي، وزي كاهن قرمزيًّا صغيرًا ورداءً كهنوتيًّا أبيض يرتديه مساعد الكاهن الشاب الذي يهز المبخرة.
صاح الرجل المُسن: «أمر لا يُصدق! ثق بأنها أشياء عالية القيمة. لقد تبرَّعت بها الراحلة الغالية السيدة دو فونتاج للكنيسة. ولكن لا بد أنها أُفسدت على الفور وفقدت كامل قيمتها. مَن قد يُقدم على تدنيس المُقدَّسات مثل هذا مقابل ربح زهيد؟»
قال الفيكونت دو ميراندول: «لقد أبلغتَ الشرطة بالطبع.»
«أقول لك سيدي الفيكونت إنني لم أكتشف السرقة إلا منذ ساعة. جميعكم تعرفون» وأضاءت لمحة من المرح وجهه «إذا لم تكونوا وثنيين، وأنتم لستم كذلك، فإن الغد هو عيد سان ماتيو، وهو أكثر يوم مقدس في رُزْنامة الكنيسة. ذهبت إلى غرفة ملابس الكهنة لأطمئن على أن هذه الملابس المقدسة سليمة، ولكني لم أجدها. ولكن، سيدة تاسبورو، يجدر بي ألَّا أُفسد عليك أمسيتك بالخوض في هذه الأحداث المؤسفة.» ثم غيَّر الموضوع إلى حكايات مسلية عن نقاط ضعف أعضاء أبرشيته.
جعلته مقاطعة صغيرة أن يتوقف عن الحديث على نحو مفاجئ لبضع لحظات التفتت خلالها جميع الأعين نحو مصدر المقاطعة. كانت السيدة ديفينيش مصدرَ المقاطعة. لم تكن تشارك في أي محادثة، فيما عدا الإجابة عن الأسئلة العشوائية التي تُوجَّه لها، وظلَّت جالسةً تشغلها أفكار سرية تخصها. ولكنها ارتعشت على نحو مفاجئ، وبعنف شديد لدرجة أن الصرخة الحادة القصيرة التي قد تخرج من أفواه الناس رغمًا عنهم عندما يشعرون بالبرد الشديد، خرجت من بين شفتَيها. ذكَّرها الصوت بما يحيط بها، فنظرت إلى الجالسين أمام الطاولة معتذرة. التقت عيناها بعيني جويس ويبل، فصاحت جويس فجأةً بصوتها الغريب الحاد العالي النبرة:
«لا جدوى من إلقاء اللوم عليَّ يا إيفيلين. لست أنا من يُوزِّع البرودة هنا.» ثم استعادت السيطرة على نفسها بعد فوات الأوان، فاحمرَّ وجهها، وبدأت هي الأخرى تنقل عينيها سريعًا بين الجالسين حول الطاولة. كانت هذه هي الإشارةَ الأولى التي تصل إلى السيد ريكاردو، فتحت تلك الأحاديث السلسة، ثمة أعصاب متوترة لدرجة فقدان السيطرة على النفس بسبب شواغل سرية. لاحظ القس فاورييه ذلك قبل السيد ريكاردو. فوجَّه عينَيه سريعًا نحو إيفيلين ديفينيش، ومنها إلى جويس ويبل. وظهر التأهب والتحفز على وجهه، رغم وجود ذلك الأنف الطويل المتدلي.
وقال ببطء مخاطبًا جويس: «يا آنسة، لست أنتِ من توزعين البرودة. مَن إذن؟»
لم يُصِر على الحصول على إجابة، ولكن بعد بضع لحظات، عادت ثرثرة الجيران لتنطلق مجددًا كما لو أنهم يغطون على ارتباك جويس ويبل، ولاحظ السيد ريكاردو أن الرجل رسم علامة الصليب على صدره في الخفاء.
حتى تلك اللحظة، كان فضول السيد ريكاردو وانفعاله يزدادان. ولكن بعد ربع ساعة، لمح لحظةً عابرة من الشغف هزت أعماقه بسبب وحشيتها الشديدة. غادر الرجال طاولة العشاء مع النساء كما تقتضي العادات الفرنسية، وانقسموا إلى مجموعات صغيرة. كانت جويس ويبل جالسةً على كرسي قصير بجانب المدفأة واضعةً ساقًا فوق الأخرى، وإحدى قدميها النحيلتين بحذائها الفضي تتأرجح باستمرار، بينما كان روبن ويبستر جالسًا على أريكة بجانبها يتحدث إليها بصوت خافت وبتركيز تام، الأمر الذي بدا وكأنه لا يرى أحدًا آخر في الغرفة في تلك اللحظة. كان الفيكونت دو ميراندول يثرثر مع السيدة تاسبورو والقس. وكانت إيفيلين ديفينيش تقف بجانب النافذة في مجموعة مع ديانا والشابين الفرنسيين. انطلقت من هذه المجموعة فجأةً عبارة سمعها كل من في الغرفة.
«كهف المومياوات.»
كان أحد الشابين الفرنسيين هو من قالها، ولكن كانت إيفيلين ديفينيش هي من أسهبت في الحديث عنها. كهف المومياوات معرض شهير في بوردو. تحت البرج العالي في جبل سان ميشيل في الميدان المفتوح أمام الكنيسة، يوجد كهف تحت الأرض توجد به جثث مُحنَّطة بجودة نادرة على الأوضاع نفسها التي دُفنت بها، تُرى مصطفةً على مساند حديدية أمام العالم بأكمله ليُشاهدها مقابل بضعة بنسات.
صاح القس: «هذا شائن. يجب دفن هؤلاء المساكين على نحو لائق. هذا كابوس، ذلك الكهف، وتلك المرأة العجوز التي تعرِّي أجساد معروضاتها على ضوء الشموع!» هز كتفيه في اشمئزاز ونظر نحو جويس ويبل. وقال: «أنا كذلك يا آنسة، أصبحت أشعر بالبرد أنا أيضًا.»
ضحكت إيفيلين ديفينيش. وقالت: «ولكننا جميعنا زرنا هذا المعرض أيها القس. أُقر بأني مذنبة. ذهبت إلى هناك منذ ثمانية أو تسعة أيام. وأعتقد أن السيد ريكاردو رآني هناك.»
كانت تتحدى ذلك الرجل التعس، بابتسامة ساخرة، أن ينكر هذا الاتهام. ولكنه لم يستطع، للأسف. فلطالما كان شغفه بالغرائب يتعارض مع احترامه للقيم المجتمعية.
قال ببطءٍ ناقلًا وزنه من إحدى قدميه إلى الأخرى: «هذا صحيح. لقد سمعت الكثير عن المكان، وزرت بوردو مرات عدة دون أن أراه. ولكن بعدما رأيته، أصبحت أتفق مع القس.» واستعاد ثقته وشعر بأنه رجل فاضل وبدا ذلك أيضًا على هيئته. فقال: «إنه معرض شنيع، ويجب أن يُغلق.»
ضحكت إيفيلين ديفينيش مُجدَّدًا مُشكِّكةً فيما قال. قال السيد ريكاردو مخاطبًا نفسه: «يا لها من شابة بغيضة، إنها جريئة ولا تحترم أحدًا.» وشعر بالراحة عندما حوَّلت بصرها بعيدًا عنه. ولكنه لاحظ أن عينيها تجوبان المكان ببطء حتى استقرَّتا عند جويس ويبل، وظلَّت تحدِّق فيها للحظات، بنظرة نصف متوارية خلف جفنها، ولكنها لم تكن متواريةً بما يكفي لإخفاء الكراهية التي تنمو ببطء من مجرَّد شرارة بسيطة في أعماقها إلى لهيب نار مستعرة. لم يشهد السيد ريكاردو من قبلُ في حياته تعبيرًا خالصًا عن المشاعر مثل هذا. شعور نهم للعقاب والأذى. وبدا أن العينين السوداوين لا يمكنهما الابتعاد عن تلك الفتاة الفاتنة بفستانها الفضي. ارتسمت على شفتي إيفيلين ابتسامة مقيتة وهي تُثبت نظرها على قدم جويس المتأرجحة بحذائها اللامع، ثم ترفعه على طول ساقها النحيلة المتوارية خلف الفستان الحريري، وصولًا إلى ركبتها المثنية. استوعب السيد ريكاردو بلمحة من الوحي الفكرة القاسية التي تسبَّبت في تلك النظرة والابتسامة. قال لنفسه: «آه، من المؤكَّد أن ألتقيها في وقت الشاي وليس العشاء.» قالها في ألمٍ عندما تذكَّر تلك الوجبة التي تخيَّل تناولها وحده مع إيفيلين ديفينيش والتي استحضرتها مخاوفه أمام عينيه.
عبرت ديانا تاسبورو الغرفة متجهةً نحوه. وقالت متوسِّلة: «ستلعب لعبة الويست مع عمتي، والقس، ودو ميراندول، أليس كذلك؟ لا بد أن تلعبوا الويست لأن القس لم يلعب البريدج من قبل.» فبدأ يعصر ذهنه ليتذكَّر كيف تُلعب الويست، واقتيد إلى طاولة لعبة الورق بينما يفعل.
لا ريب في أن السيد ريكاردو جمع بعض النقاط الجيدة حتى تلك اللحظة، ليس لأنه وضع بطاقتين تحملان الرقم اثنين معًا، بل لأنه أدرك أن بطاقتين تحملان الرقم اثنين ربما يجب وضعهما معًا. ولكن حينذاك، كانت الساعة تُشير إلى التاسعة والنصف، تخلَّى عن يقظته، ولم يتمكَّن من ملاحظة أهم حدث في تلك الأمسية بأكملها. كان مستغرقًا تمامًا في محاولاته لاستعادة ذكرياته عن لعبة الويست، التي زادت مشاركة الأعضاء الأصغر سنًّا في المجموعة من صعوبتها.
كانت غرف الطعام، والاستقبال، والمعيشة في قصر سوفلاك مرتبةً في جناح واحد، مع وجود غرفة الاستقبال في المنتصف، وكانت جميع الغرف ذات نوافذ تُطل على المساحة المؤدية إلى الشرفة الواسعة. بمجرد أن جلس المسنون إلى طاولة لعبة الورق، دخلت ديانا غرفة المعيشة وجهَّزت الموسيقى على الجرامافون. وفي غضون دقائق، كان جميع الشباب يرقصون في الشرفة. كان الباب بين البهو وغرفة المعيشة موصدًا، وكانت الليلة دافئةً وكانت جميع النوافذ مفتوحة. لذا، كانت الموسيقى بلحنها المُبهِج تصل إلى سمع لاعبي الورق مصحوبةً بالإيقاعات المتناغمة لأحذية الراقصين على الأرضيات، الأمر الذي شتَّت انتباه السيد ريكاردو عن اللعبة. كان القمر بدرًا في ذلك الوقت، ولكن كانت تحجبه طبقة رقيقة من السحب البيضاء تسلَّل من بينها ضوء سماوي فضي رقيق أغرق الحديقة والنهر الشاسع من خلفها في جو ساحر أشبه بعالم خيالي. على الشاطئ البعيد، كان ضوء يتلألأ هنا وهناك عبر الضباب، وبالقرب من المنزل، كان صف الأشجار الطويل، الذي أصبح في سواد الطقسوس وسكون المعدن، يحمي الشرفة وكأنها موقع قرابين سري قديم. ولكن بدلًا من مشاهد تقديم القرابين، رأى السيد ريكاردو وميض الأكتاف البيضاء، والتطريزات اللامعة على فساتين الفتيات الخفيفة، والراقصون يظهرون ويختفون، ينزلقون ويدورون، الأمر الذي جعله يرتكب العديد من الأخطاء لدرجة أن زملاءه في اللعب كانوا مسرورين بانتهاء اللعبة. دخل روبن ويبستر من ناحية الشرفة. وقال: «أرجو أن تسمحي لي بالانصراف يا سيدة تاسبورو. فالصباح يبدأ معي عند انبلاج الفجر، ولا تزال ثمة بضعة ترتيبات يتعيَّن عليَّ أن أفرغ منها قبل أن أنام.»
قال الفيكونت دو ميراندول وهو ينهض من مقعده فجأة: «وأنا كذلك. إن نبيذ ميراندول لا يمكن أن يُقارَن بنبيذ قصر سوفلاك، للأسف. ولكن يجب أن أُوليه الكثير من الرعاية.» كان ينظر عبر النافذة إلى الخارج في ترقُّب. وقال: «آمل أن تُمطِر السماء، ولكن ليس بغزارة، لساعتين أو نحوهما خلال الليل، فهذا سيُفيدنا يا سيد ويبستر. نعم، ساعتان من الأمطار الخفيفة، أرجو أن تدعو أن يتحقَّق ذلك أيها القس.»
صافح السيد روبن ويبستر يد السيد ريكاردو، وقال: «لقد قلت إنك تود زيارتي غدًا. أنا أعيش في الشاليه خلف الدرب. وهو مكتبي أيضًا. ستجدني هناك أو عند أقبية النبيذ.»
خرج بعد ذلك عبر النافذة، وخرج السيد دو ميراندول عبر الباب نحو مدخل المنزل الأمامي حيث كانت سيارته في انتظاره. جاء جولس أماديه حاملًا صينية مرطبات، ورفعت السيدة تاسبورو صوتها في فظاظة.
وصاحت: «ديانا! ديانا! هل يمكن أن تأتي على الفور لتجهيز مشروب القس الليلي؟!»
ولكن لم يكن القس ليتورع عن إفساد هذا الوقت الممتع على الفتاة. فقال: «يمكنني أن أُعد مشروبي بنفسي يا سيدتي. دعي الآنسة ترقص، كما سيمكنني أن أصب جرعةً من الويسكي الممتاز الخاص بكِ في كأسي أكبر من تلك التي كانت ستصبها الآنسة.»
عندما تحرك متجهًا نحو الطاولة، وقفت جويس ويبل قاطعةً الطريق عليه. وقالت ضاحكة: «وأنا كذلك، بما أني لا أعرف أي شيء عن النِّسب الصحيحة، سأضع مزيدًا من الويسكي في كأسك أكثر مما قد تفعل أنت متحجِّجةً بجهلي.»
استحوذت جويس ويبل على البوفيه، قولًا وفعلًا. كان البوفيه في أحد أركان الغرفة ووقفت أمامه موليةً ظهرها إلى رفاقها. وأعدَّت ليمونادة للسيدة تاسبورو، وويسكي مع الصودا للسيد ريكاردو، ومشروبًا حارًّا للقس. عاد الشباب إلى الغرفة. وقدَّمت لهم جويس ويبل جميعًا البيرة، والمشروبات، والخمر الواحد تلو الآخر، وكانت تضحك في مرح طوال الوقت مُعلِنةً أن لها مستقبلًا باهرًا بوصفها نادلة. دخلت ديانا الغرفة قادمةً من غرفة المعيشة، وكانت آخر من ينضم إلى المجموعة.
وقالت: «أريد براندي مع الصودا والكثير من الثلج.» وشعر السيد ريكاردو مرةً أخرى بنبرة التردد في صوتها، وبالضحكة التي تهدِّد بالتحول من السرور إلى الهيستيريا.
ألقت جويس نظرةً سريعة خلفَ ظهرها.
وصاحت: «أنا حقًّا من يوزع البرودة، في نهاية المطاف،» وفي حالتها أيضًا، كانت الكلمات والضحكات التي أطلقتها مشحونةً بالانفعالات، ولا ريب أن الكأس التي كانت تحملها اصطدمت بالدورق وهي تملؤها، كما لو أن يديها ارتعشتا.
كان الجمع قد بدأ يتفرق حقًّا، وفي غضون دقائق قليلة، ساد الصمت في قصر سوفلاك، وعاد السيد ريكاردو إلى غرفته الخاصة وفتح نافذتي الغرفة. وعندما نظر عبر النافذة الجانبية، رأى نورًا لا يزال مضاءً في إحدى غرف الطابق الأرضي من الشاليه. لا بد أن السيد روبن ويبستر لا يزال يعمل في مكتبه. وعندما نظر عبر النافذة الأمامية، جال ببصره في أرجاء أراضي الريف الشاسعة الخالية التي يعمها الهدوء. وكان كل ما تمكَّن من رؤيته من المنزل الأبيض فوق التل هو ظل أسود. فلم يكن ثمة أي من نوافذه مضاءة. ملأ السيد ريكاردو زنبرك ساعته، ودخل فراشه. وكانت الساعة تُشير حينئذٍ إلى الحادية عشرة إلا ١٠ دقائق.