الفصل الخامس

هانو يظهر مجددًا

لم يكن السيد ريكاردو يستطيع النوم ملء جفونه في فراش غريب، ورغم أنه غط في النوم سريعًا، فإنه استيقظ قبل شروق الشمس شاعرًا بقلق غامض. مد يده إلى مفتاح المصباح المثبت في الجدار فوق رأسه بمنزله في ميدان جروسفينور، وانزعج كثيرًا عندما لم يجده في هذا المكان. وبدأ يتذكر تدريجيًّا أين يقيم. إنه ليس في منزله. إنه في قصر سوفلاك، وعندما اكتشف أن سبب قلقه هو وجوده في مكان لا يألفه، غادره القلق. ولكنه استعاد كامل وعيه.

كانت لديه وسائله الخاصة لعلاج هذه الحالة المؤسفة. لم يكن إحصاء الأغنام يصلح في حالته. فقد أحصى معظم الأغنام في منطقة المنحدرات الجنوبية في إحدى الليالي التعيسة، ولكن عندما فاته إحداها، اضطُر أن يُعيد الكَرَّة وأن يحصيها جميعها من جديد، وأبقاه انزعاجه من هذا الإهمال مستيقظًا حتى الصباح. كانت الطريقة الفضلى التي يتبعها هي أن يفتح ستائر غرفته حتى يتدفق الهواء النقي عبر النوافذ المفتوحة، الأمر الذي كان عادةً ما يجعله يغط في النوم سريعًا. فجرَّب هذا العلاج على الفور.

أول ما فعله هو أن أضاء المصباح المجاور للفراش ونظر إلى ساعته. كانت الساعة تُشير إلى بضع دقائق قبل الثانية صباحًا. ثم نهض من الفراش وأزال جميع ستائر النافذة الجانبية. ولاحظ أن النور لا يزال مضاءً في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل في الشاليه خلف الدرب، ولكنه انتقل إلى الطابق الأول وليس المكتب.

فكَّر في نفسه: «لقد أنهى السيد ويبستر عمله وسيخلد إلى النوم الآن»، وكان معجبًا باجتهاد الشاب.

تأكَّد في اللحظة التالية من صحة تخمينه. ففي الوقت الذي كان ينظر فيه صوب الشاليه، ارتعش النور ثم انطفأ. تمنَّى السيد ريكاردو أن يحصل مدير الأعمال الشاب على قدر من الراحة أكبر ممَّا يمنح نفسه، ثم انتقل إلى نافذته الأمامية.

فتح الستائر عن آخرها فأصدرت حلقاتها المعدنية أزيزًا، ثم رفعها باستخدام رافعتها. كان الريف يمتد أمامه إلى ما لا نهاية في هذا الاتجاه، وكان الهواء منعِشًا. كان القمر قد غرب تاركًا خلفه ليلًا مظلمًا وصافيًا، وسماءً مُرصَّعة بالنجوم. ولكن لم تكن برودة الهواء ولا الأفكار التي تعصف برأس السيد ريكاردو هما ما أبقتاه متسمرًا في مكانه. عندما ألقى نظرته الأخيرة عبر هذه النافذة قبل أن يدخل فراشه قبل ما يزيد على ثلاث ساعات، لم يكن ثمة أي ضوء يصدر من المنزل الأبيض فوق التل. أما الآن، فقد كان ثمة صف طويل من النوافذ مضاءً من طرف المنزل حتى طرفه الآخر، كانت أشبه بمستطيلات صغيرة تلمع بوضوح جعلت واجهة المنزل تظهر كاملة، وسقط الضوء على الأشجار عند كلا الطرفين، مما أبرز معالمها بوضوح في الظلام. كان المبنى مضاءً وكأنه قصر.

سأل السيد ريكاردو نفسه: «ما الذي يعنيه ذلك؟ مَن في هذه المقاطعة الريفية قد يبدأ أمسيته في هذه الساعة المتأخرة؟ هذا أمر شديد الغرابة.»

لم تكن ثمة إجابة على تساؤلاته، وبدأت قدماه تشعران ببرودة ألواح الأرضية المصقولة، فعاد إلى فراشه وأطفأ المصباح. ولكن كان فضوله قد استُثير بشدة. ومن مكانه متكئًا على وسادته، كان قادرًا على رؤية ذلك الضوء الذهبي يشق الظلام. لم يتمكن من منع نفسه عن رؤيته، ولا عن التفكير فيه.

قال لنفسه: «لن تصلح هذه الطريقة. يجب أن أجرِّب الطريقة الثانية.»

figure
وفي ذلك السكون، ورغم صخَب خفقان قلبه، سمع صوت مفتاح يدخل في رتاج الباب.

كانت الطريقة الثانية هي قراءة كتاب. ولكن يجب أن يكون كتابًا يستحق القراءة، وليس مجرد وسيلة للدخول إلى عالم الأحلام. إذا ما أخرجت فكرة النوم من ذهنك تمامًا، واستغرقت في قراءة كتابك، فسرعان ما ستغط في النوم. وستُفيق فجأةً وقد ملأ ضوء النهار السماء، وكوب من الشاي بجانب سريرك، ومصباح يحترق دون داعٍ. كانت مشكلة السيد ريكاردو أنه لا يوجد كتاب في غرفته. لا بأس، سيكون عليه أن يذهب إلى المكتبة ويُحضر واحدًا. فأضاء مصباحه مجددًا. وخرج من فراشه ووضع قدميه في حذائه، وأدخل جسده في روب ياباني من الحرير المنقوش بالزهور، ثم أمسك بعلبة ثقاب في يده وسار بخفة عبر الممرات. أصبح يعرف خريطة الممرات، وكان عود ثقاب واحد كافيًا لأن يوصله إلى باب غرفة الطعام. كانت النوافذ على الطراز الفرنسي في الغرف الثلاث في الجناح بلا ستائر. عبر هذه الغرفة والبهو ودخل إلى المكتبة من دون الحاجة إلى إشعال عود ثقاب آخر. تذكَّر وجود مفتاح إضاءة في غرفة المكتبة بالقرب من النافذة الطويلة بجانب الباب. كان يتلمَّس بيده محاوِلًا الوصول للمفتاح عندما مرَّ شيء أسود في الشرفة الخارجية سريعًا أمام ألواح النوافذ الزجاجية واختفى. جفل السيد ريكاردو لدرجة أنه أسقط علبة الثقاب على الأرض. ثم وقف في الظلام وقلبه يدق بسرعة كبيرة في صدره دون أن يجرؤ على التحرُّك. وفي ذلك السكون، ورغم صخب خفقان قلبه، سمع صوت مفتاح يدخل في رتاج الباب.

ويجب هنا أن نعرض الحقيقة. كانت ردة فعل السيد ريكاردو الأولى هي أن يهرب على الفور. ولكنه أجبر نفسه على قَبول أن هذا التصرُّف ليس مناسبًا. كما أن فكرة الممر الطويل الذي يجب أن يعود أدراجه عبره ثبَّطت همته. فوقف مكانه، وسرعان ما اختفت ارتجافة الذعر التي أصابته. وتمالك أعصابه من جديد، حينئذٍ لم يستطع أن يعود ليفعل ما كان بصدد فعله، أن ينتقي كتابًا ويعود بهدوء إلى فراشه. فلطالما كانت فرصة الدخول في مغامرة تثير حماسته.

ففتح النافذة الطويلة بحذر شديد وخطا خارجها إلى رصيف الشرفة. ومن بعيد، ارتعش ضوء نجم على سطح مياه نهر جيروند. وبالقرب منه عن يساره، برز البرج المستدير ضخمًا، وتسلَّلت من جهته الأمامية بعض أشعة الضوء. تحرَّك السيد ريكاردو بحذرٍ إلى الأمام انطلاقًا من الزاوية التي صنعها البرج مع جدار المنزل، حيث تسلَّل الضوء عبر حواف ستارة مُسدلة على نافذة طويلة في واجهة البرج. كان ثمة شخص ما مستيقظ في الغرفة خلف هذه النافذة. شخص ما انسل بخفة كالثعبان إلى داخل الغرفة وفتحها بمفتاحها. لم يكن السيد ريكاردو يعرف ما يجدر به فعله. فقد سمع عن الكثير من الأمور الغريبة التي تحدث في المنازل الريفية، بما في ذلك منازل إنجلترا. وكان عليه أن يتوقع المزيد منها في تلك الأجواء الفرنسية المرحة!

قال السيد ريكاردو لنفسه: «لا أريد أن أكون طرفًا في علاقة غير شرعية. ومن جانب آخر، مَن يعلم ما المتاعب التي تحدث خلف هذا الباب ذي الستار؟ ربما هناك شخص مريض! ربما هناك جريمة تُرتكب! في أسوأ الظروف، قد يقول لي الشخص خلف هذا الباب ألَّا شأن لي بما يحدث. وفي أفضلها، قد أُقدِّم له يد المساعدة.»

ظل واقفًا في مكانه يحاول أن يقرِّر ما يجدر به أن يفعل. ولكن كانت لطباعه العاطفية اليد العليا. فتقدَّم وطرق برفق على إطار الباب الزجاجي، فانطفأت الأنوار على الفور. ولكن حدث ذلك بسرعة بدت لحظيةً لدرجة أن الطرق على الباب وانطفاء الأنوار لم يبدوا حركتين متتاليتين، بل بدوَا كوجهين لحدثٍ واحد.

انتاب السيد ريكاردو شعور قوي بعدم الارتياح. هناك شخص داخل هذه الغرفة سمع صوت أقدامه على حجارة أرضية الشرفة. وتوقَّع هذا الشخصَ، في ترقُّب شديد، أنه قد يطرق على النافذة، فاستعدَّ بأن أرهف السمع ووضع أصابعه على مفتاح الإضاءة. ولكن مَن يكون؟ لم تتمكَّن عينا السيد ريكاردو من اختراق هذه الستائر، ولم يكن لديه مبرِّر لتكرار الطرق على الباب. عاد في صمت إلى غرفته من دون حتى أن يختار كتابًا من المكتبة. ومن غرفته، راقب نوافذ المنزل على قمة التل وهي تنطفئ الواحدة تلو الأخرى متلاشيةً في ظلمة الليل. وغطَّ على الفور في نوم عميق، سواء كان ذلك بسبب الانفعالات التي مر بها، أو بسبب التحركات والهواء المنعش، ولم يحرك ساكنًا حتى الصباح.

على الرغم من ارتدائه أكثر ما يملك من الملابس أناقة، فإنه لم يكن مستعدًّا لمغادرة غرفته حتى تمام العاشرة. كانت كروم العنب تعج بتحركات أجسام الفلاحين المنحنية وهم يجتثون النباتات، وكان المنزل خاليًا كحاله عندما وصل بالأمس. سار السيد ريكاردو نحو الشاليه. كان المكتب يُطل مباشرةً على حديقة الزهور الصغيرة، ولكنه كان خاليًا أيضًا. فعبرَ مساحةً من العشب الخشن ليصل إلى أقبية النبيذ. كان العنب يُنقل إلى بابها في عربات يدوية صغيرة، ثم تُحمل إلى معاصر النبيذ فوق الأحواض. كان روبن ويبستر يقف في غرفة ضخمة في الطابق الأول يراقب حركة المعصرة وهي تتحرَّك إلى الأمام والخلف على مداحلها. نظر صوب السيد ريكاردو مبتسمًا ومد نحوه يده اليسرى التي أمسكها السيد ريكاردو، أو بالأحرى لمسها، في غطرسة. فقد كان مدققًا في مثل هذه الأمور. ربما لم يكن شخصيةً مهمة، ولكن يجدر بمديري كروم العنب الشباب ألَّا يعاملوه كما لو كانوا سادةً وهو أجير لديهم.

قال روبن ويبستر سريعًا: «أرجو أن تعذرني على أنني مددت لك يدي اليسرى. أرأيت؟»

كان يضع يده اليمنى داخل معطفه المزدوج الصدر، وكان معصمه مستقرًّا على أحد الأزرار. ثم سحب يده خارجًا وأظهر أنها ملفوفة بضمادة.

فقال السيد ريكاردو: «لقد ظلمتك.»

ردَّ روبن ويبستر مبتسمًا: «أدركت ذلك.»

«هل أصبت بشدة؟»

«بل هي إصابة طفيفة. لقد جئت إلى هنا مبكرًا هذا الصباح، قبل أن يصل أي أحد، للتأكد من جاهزية كل شيء، وبينما كنت أجرِّب المعصرة، علقت يدي داخلها. ولكنه ليس جرحًا خطيرًا يحتاج إلى طبيب.»

ومجددًا، لفتت دقة الشاب اللفظية غير المعتادة انتباه السيد ريكاردو وشعر بأنها مألوفة، ولكنه لم يتمكن من تحديد أين سمعها من قبل.

قال ريكاردو: «لقد استيقظت قبل الجميع إذن. إنك لم تحصل على ما يكفي من النوم ليلة أمس.»

راقب روبن ويبستر الكتلة الحديدية الضخمة وهي تتحرك إلى الأمام والخلف على مداحلها هارسةً العنب تحتها. ثم قال: «هل تعلم أننا مزرعة العنب الوحيدة التي تستخدم المعاصر الميكانيكية؟ نعم، لقد ظَلِلت مستيقظًا حتى ساعة متأخرة ليلة أمس. لا ريب أنك رأيت أنوار مكتبي مضاءةً عندما ذهبت إلى فراشك.»

قال السيد ريكاردو: «ثم رأيت النور مضاءً في غرفة نومك بعد ذلك ببضع ساعات.»

هدرت المعصرة مرةً أخرى وهي تتحرك جيئةً وذهابًا. قال روبن ويبستر مُعلِّقًا: «كانت الساعة تُشير إلى الثانية صباحًا تقريبًا عندما أطفأت الأنوار.»

قال السيد ريكاردو: «كان ذلك في تمام الثانية.»

سار السيد ريكاردو مبتعدًا وقضى صباحًا ممتعًا في التجول في أرجاء أراضي الضيعة التي تبلغ مساحتها ٣٥٠ فدانًا. كانت الشمس ساطعة، وثمة خطوط من السحاب الأبيض متناثرة هنا وهناك في السماء الزرقاء. كانت مياه جيروند الشاسعة مُرصَّعةً بسفن شراعية راسية في انتظار ارتفاع المد ليحملها إلى مصب النهر، ومن وقتٍ لآخر، كانت تمر سفينة بخارية تمخر المياه تاركةً خلفها ذيلًا عريضًا من زَبَد البحر وتُصدر محركاتها هديرًا يأتي خافتًا من بعيد في طريقها نحو ميناء بوردو. سار السيد ريكاردو نحو المرفأ الصغير. كان المرفأ خاليًا، كما من المفترض أن يكون. فقد أبحر زورق لا بيل سيمون مع المد الداخلي في السادسة صباحًا. ولا ريب في أنه الآن على وشك الوصول إلى بوردو. ولكن بينما كان يستدير مبتعدًا، راوده الشك في أن الزورق لم يكن يفعل شيئًا من هذا القبيل. ففي تلك اللحظة كان ثمة زورق أتى من جهة الروافد السفلية للنهر، يعبر أمام الحديقة وأشعةُ الشمس تنعكس عن مقدمته، وكان قريبًا من الضفة بما يكفي ليرى كلمةً واحدة من اسمه بارزةً بوضوح على ألواح الخشب المتسخة. شعر بالحيرة. وفكَّر أنه لا ريب في أن زورق لا بيل سيمون ليس الزورق الوحيد في النهر الذي غيَّر اسمه. ولكن! لم تكن أيٌّ من تخمينات السيد ريكاردو تافهةً بالنسبة إليه. وعلى الفور، سار عائدًا إلى المنزل، وسرعان ما عاد مجددًا حاملًا نظارته المقرِّبة الباهظة الثمن ووضعها على عينيه. كان الزورق قد أصبح أمامه مباشرةً في تلك اللحظة. وتمكَّن من قراءة أن الاسم الواضح هو «سيمون»، وكانت ثمة كلمات أخرى تسبقها لم يتمكَّن من تبيُّنها بسبب محو ألوانها. لا ريب في أن هذا الزورق هو «لا بيل سيمون» الذي كان قبطانه يشعر بالضيق بالأمس لأنه لم يكن ليتمكن من بدء رحلته نحو بوردو إلا في السادسة صباحًا. ولكنه انطلق قبل بدء المد متجهًا ناحية الجزر. ما المأمورية المفاجئة التي جعلته يخرج في عتمة الليل؟

فكَّر السيد ريكاردو للمرة العشرين منذ وصل إلى قصر سوفلاك: «يا له من أمر غريب!» ولكن كان أكثر الأمور غرابةً سيحدث له تاليًا.

عاد السيد ريكاردو إلى غرفته، واغتسل ومشَّط شعره. وكان موعد الغداء هو الثانية عشرة والنصف. وكانت لا تزال ثمة ١٢ دقيقةً على الموعد. فخرج ليسير على طول الطريق المحفوف بالأشجار وفي طريق عودته، سمع صوت سيارة تقترب من مدخل المنزل الأمامي. فصعِد إلى الشرفة ولحق به روبن ويبستر هناك. ثم دخل الرجلان غرفة الاستقبال عبر النافذة. كانت السيدة تاسبورو تجلس على عرشها تطالع جريدةً وصلت من فورها من بوردو. كانت ديانا جالسةً إلى الطاولة في منتصف الغرفة وأمامها صينية عليها أكواب تمزج مشروب الكوكتيل بنشاط. في تلك اللحظة، انفتح الباب المؤدي إلى البهو على مصراعيه، واندفع جولس أماديه إلى داخل الغرفة بعينين جاحظتين.

وصاح: «سيدتي!»، وكرَّر صياحه: «سيدتي!»، ثم دفعته يد ببطء جانبًا.

ثم تقدَّم وانحنى رجل قصير وعريض يرتدي معطفًا صباحيًّا، وحزامًا ثلاثي الألوان حول خصره، ويُمسك قبعة رامٍ في يده.

وقال: «سيداتي وسادتي، أنا هيربستال، مُفوَّض الشرطة. أرجو ألَّا يكون حضوري مزعجًا لكم.»

figure
وقال: «سيداتي وسادتي، أنا هيربستال، مُفوَّض الشرطة. أرجو ألَّا يكون حضوري مزعجًا لكم.»

كان صوت المفوض الجاد البارد أثناء حديثه أشد بداية مقلقة على الإطلاق. ولكنه لم يكن السبب الذي جعل السيد ريكاردو يطلق صرخةً قصيرة حادة. فما نزل عليه كالصاعقة هو أن رأى عبر الباب المفتوح هانو واقفًا في البهو. منذ بضعة أيام، كان قد ترك المحقِّقَ يتشمَّس في إيكس ويجرب دعاباته المؤسفة على أصدقائه. ولكنه هنا الآن في قصر سوفلاك بغرض العمل. كانت ملامح وجهه الجامدة الخالية من أي تعبير دليلًا كافيًا على ذلك. كان هانو قادرًا على رؤية السيد ريكاردو بوضوح، ولكن لم تبدُ عليه أي أمارات تدل على أنه يعرفه. كان لطيفًا من المفوض هيربستال أن يرجو من الحضور ألَّا يقلقوا. ولكن كان السيد ريكاردو يعرف أن ثمة خطبًا ما. بما أن هانو موجود هنا بغرض العمل، فلا بد أن شخصًا سيقلق كثيرًا. جال المُفوَّض هيربستال ببصره في أرجاء الغرفة. وبدت عليه أمارات الارتياح. ثم التفت ناحية الباب، واستجاب هانو لإشارته وخطا إلى داخل الغرفة بخطاه الصامتة. انحنى هو أيضًا، ولكن لم يكن ثمة أي من أمارات الارتياح باديةً على وجهه.

قال هيربستال: «كما ترى. الأمر برمته خاطئ. المكان هادئ تمامًا هنا. وهو ليس المكان الذي يجدر بنا البحث فيه!»

قاطعه هانو قائلًا: «اسمح لي.» ثم تقدَّم وانحنى مُجدَّدًا أمام السيدة تاسبورو، ولكن بطريقة متهكِّمة إلى حدٍّ ما، كما اعتقد السيد ريكاردو. وقال: «أظن أن السيدة لا تشرب الكوكتيل. إنها تنتمي إلى عالم أكثر تنظيمًا.»

أخذت المرأة العجوز كلماته على أنها إطراء، أو ملاحظة غير ضرورية على سنها. واختارت المرأة التفسير الثاني. فقد رمقت هانو بنظرات جامدة ثم التفتت ناحية المفوض، وقالت: «من هذا الرجل؟»

اندهش هيربستال، وصاح: «سيدتي، هذا الرجل هو السيد هانو الشهير من جهاز الأمن العام في باريس.»

لم يعنِ الاسم أي شيء بالنسبة إلى السيدة تاسبورو. ولكن كان الاسم معروفًا بالنسبة إلى روبن ويبستر. فقد سمعه السيد ريكاردو يشهق بحدة ثم يسأل بنبرة متحيرة:

«ما الذي جاء به إلى هنا؟» وبينما كان السيد ريكاردو ينظر نحوه، أضاف ضاحكًا: «عندما أجد نفسي في مكان واحد مع رجال الشرطة، أبدأ في سؤال نفسي عما إذا كنت قد ارتكبت جريمةً ما.»

طوال تلك الفترة، لم يرفع هانو عينَيه عن وجه السيدة تاسبورو.

وقال بلباقة: «إني أستفسر عما إذا كانت السيدة تشرب الكوكتيل لسبب ما. ثمة خمسة أكواب على الصينية، وإذا كانت السيدة لا تشرب مشروب الكوكتيل، فاثنان من ضيوفها لم يحضرا بعد.»

لم يفعل السيد ريكاردو شيئًا سوى أن هزَّ كتفيه. فها هو صديقه العزيز في أسوأ أحواله. إنه يهوى الأسلوب الاستعراضي. ويجب على الجميع أن يُهلِّلوا لمدى فطنة ملاحظاته. لم يكن السؤال المباشر — «هل ضيوفك جميعهم حاضرون؟» — ليُؤدِّي الغرض. صاغ السيد ريكاردو عبارةً واحتفظ بها كي يستخدمها في المستقبل. لا بد أن يكون هانو مركز الاهتمام. لم تكن ديانا أكثر انبهارًا من السيد ريكاردو. وهزَّت خلاط الكوكتيل بين يديها وأصدر الثلجُ خشخشةً في داخله وكأنه حَفنة من الحصى.

وأجابت: «هذا صحيح. اثنان من المقيمين في المنزل غائبان، ولكن التأخر عن موعد الغداء ليس بجريمة. لا ريب في أنه سيحُل وقتٌ يحقِّق فيه المحققون بشأن أمور من هذا القبيل.»

قاطعها المفوض في هدوء: «أيتها الآنسة. ليس هذا وقتًا مناسبًا للسخرية. أرجو أن تتذكري أن ثمة طرفين لأي جريمة. المجرم والمجني عليه.»

حتى هذه اللحظة، كانت المرأتان تميلان إلى اعتبار زيارة الشرطة انتهاكًا لخصوصيتهما. ولكن كانت كلمات المفوض مقلقةً للغاية ولا يمكن الاستخفاف بها. أطلقت السيدة تاسبورو صرخة خوف قصيرةً وغاصت للخلف في مقعدها، وسقط صولجان سلطتها الصغير من يدها للحظة. أما ديانا، فتسمَّرت في مكانها كالمشلولة. وقفت في مكانها ولا يزال خلاط الكوكتيل بين يديها، وعيناها مثبتتان في رعب على هانو، والدم ينسحب ببطء من وجهها حتى ابيضَّت شفتاها.

وكرَّرت ما قال بصوت مرتعش: «المجني عليه؟»

قال هانو مُشفقًا على حالها: «دعينا لا نتعجَّل بافتراض أن المتاعب وصلت إلى هذا المنزل. ثمة ضيفان غائبان …»

قالت ديانا: «إيفيلين ديفينيش …»

سألها هانو: «هل هي امرأة؟»

«نعم».

«ومَن الثاني؟»

«جويس ويبل.»

ارتعش جسد هانو ارتعاشةً غير ملحوظة. ولم تبحث عيناه عن عينَي ريكاردو، ولكنه ظلَّ صامتًا لبرهة من الوقت. وكان صمته ملحوظًا أكثر من ارتعاشة جسده.

سأل روبن ويبستر سريعًا: «هل تعرف هذه الشابة؟» فرمقه هانو بنظرة فضولية، كما لو أنه يتساءل عن سبب طرح هذا السؤال.

ثم أجاب: «لا، يا سيدي. لم يحالفني الحظ. مَن يكون هذا الرجل؟»

قالت ديانا موضِّحة: «هذا السيد روبن ويبستر، مدير أعمالي.»

أومأ هانو برأسه وانحنى مبتسمًا لروبن ويبستر.

ثم قال: «والآن! هل رأى أي من الحاضرين في الغرفة أيًّا من هاتين المرأتين صباح اليوم؟»

وعلى الفور، بدأ كلٌّ من ويبستر، والسيد ريكاردو، وديانا، والسيدة تاسبورو في تبادل النظرات الخاطفة القلقة.

«هل رأيتهما؟»

«لا!»

«وأنت؟»

«لا!»

لم يرهما أحد، وتحوَّل القلق البادي على كل وجه فجأةً إلى ارتياع.

قالت ديانا في عجالة: «كنا جميعُنا مشغولين صباح اليوم.» بدا أنها تحاول إقناع نفسها بعدم وجود أسباب حقيقية للقلق. «إنه اليوم الأول من حصاد العنب، لذا، كان هناك الكثير من الهرج والمرج. واستيقظ كلُّ مَن في المنزل مبكرًا، وكان الخدم مرتبكين.»

قال هانو: «أعي ذلك جيدًا. ربما كانت صديقتاك لا تزالان بين كروم العنب الخاصة بك. من المعروف أن الشابات دائمات البحث عن طرق جديدة للتسلية بحماسة قد تُنسيهن مواعيد الوجبات. ولكن من المستبعد أنهما غادرتا المنزل قبل تناول إفطار صغير أولًا، بِناءً على ما قلته عن هذا اليوم المرهق للغاية.»

عبرت ديانا تاسبورو الغرفة على الفور ودقَّت الجرس. استجاب جولس أماديه للاستدعاء بسرعةٍ مريبة.

وأمرته ديانا: «هل يمكنك أن ترسل ماريان إلي؟» ثم اختفى جولس أماديه.

قال هانو مبتسمًا: «آه! إنه يتنصت عبر الباب، هذا الرجل. ولكننا نفعل جميعنا ذلك، كلٌّ بطريقته. إننا نطرق بأسماعنا لنتنصَّت على المحادثات الخاصة التي تبعد عنا بضعة أقدام. حتى أنا، هانو، إذا ما وجدتُ خطابًا مفتوحًا ملقًى على طاولة، فسأقرؤه، إذا ما تمكَّنت من المناورة وصولًا إليه. لا، لا داعي للوم جولس أماديه!»

كان يتحدث باستخفاف، وبسبب استخفافه الشديد، كاد قلب السيد ريكاردو يتوقف. كان هانو والمفوض متحمسَين للغاية في تشجيعهما، ودقيقَين للغاية في تعاملهما، الأمر الذي لم يدع مكانًا في قلبه للشك في أنهما يُخفيان أمرًا مُريعًا حتى اللحظة الأخيرة.

قال هانو: «أعتقد أن ماريان هي خادمتك.»

فكَّر السيد ريكاردو في مدى غرابة أنه في أوقات الكوارث، تتكشَّف طبيعة الأمور تمامًا لدرجة ألَّا أحد قد يندهش من أكبر التغيُّرات التي تطرأ عليها. كان هانو حاليًّا قد وجَّه اهتمامه كاملًا نحو ديانا. لم تعد السيدة تاسبورو، الدائمة التوبيخ والشكوى، ذات أهمية. حتى إنها لم تستأ من فقدان أهميتها. وأصبحت ديانا الآن، التي كانت بالأمس الوصيفة المطيعة، السيدة وصاحبة القصر بلا منازع.

أجابته ديانا بابتسامة شاحبة: «ماريان، يا سيد هانو، امرأة فرنسية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى. هي زوجة جولس أماديه، وبما أن القصر يظل فارغًا طوال جزء كبير من العام، فهما الخادمان الدائمان الوحيدان لدينا. خلال هذا الشهر أو الشهرين، تحصل على مساعدة إضافية من القرية، ولكن دون قناعة تامة منها، وهي تكره كل مساعديها، ولن تسمح لأي منهم أبدًا بالاقتراب من سادتها أو أي من ضيوفهم.»

انحنى هانو وابتسم بود جم. وقال: «آه، يا آنسة، إذا ما وصف لي كل من أطلب مساعدته الشخصيات بمثل هذا الوضوح، كنت سأحصل على ستة أشهر من العطلة كل عام بعد أن أُنهي كامل العمل الذي كان يستغرق مني اثني عشر شهرًا.»

يا للمجاملات! متى سيتمزَّق هذا الزيف التافه وتنكشف الحقائق المدمرة؟ سُمع صوت حذاء ثقيل يصطدم بأرضية الممر المصقولة، ودخلت ماريان الغرفة، وكان التحدي باديًا على جميع ملامحها العنيدة. كانت امرأةً في منتصف العمر وضعت على وجهها أجمعِه مساحيق تجميل منذ وقت ليس ببعيد. أدارت المرأة ظهرها لهانو والمفوض هيربستال. لم يكن ثمة شك في أن جولس أماديه قد أخبرها بكل ما عرفه من تنصُّته.

سألت ماريان: «هل أرسلتِ في طلبي يا آنسة؟»

قالت ديانا مستفسرة: «نعم يا ماريان. في أي ساعة من الصباح أوصلتِ القهوة إلى السيدة ديفينيش والسيدة ويبل؟»

أجابت ماريان: «في تمام السابعة.»

«هل كانتا في غرفتيهما؟»

«نعم يا آنسة! إنه يوم مميز، أليس كذلك؟ في يوم كهذا يستيقظ الناس من نومهم ويبدءون يومهم مبكرًا. كانت السيدة ديفينيش قد خرجت من المنزل بالفعل.»

«وماذا عن جويس ويبل؟»

«كان وضعها مختلفًا. كان ثمة تنبيهٌ مثبتٌ على باب غرفة الشابة مفاده أنها لم تنم جيدًا وأنها لا تريد إزعاجًا. فحملتُ قهوتها وعدت أدراجي، ونويت أن أُعِد لها قهوةً ساخنة جديدة عندما ترن الجرس لتطلبها.»

«هل رنت الجرس؟»

طُرح هذا السؤال بوضوح تام، ولكن صمَّت ماريان سمعها عنه. فلم تلتفت نحو هانو أو تنظر إليه. كرَّر السؤال في صبر، وفجأةً احمرَّ وجه ماريان، وشبكت ذراعيها أمام صدرها، وصاحت بصوتٍ أشبه بنعيق غاضب:

«يا آنسة! لا أعلم ما تفعله الشرطة في هذا المنزل. ما شأنهم بما إذا استيقظت امرأة في وقت أبكر من المعتاد أو أصيبت أخرى بصداع نصفي؟ اجعليهم يذهبون ليعثروا على ملابس الكاهن المسروقة! آه! على الأقل سيؤدون عملًا ذا فائدة.»

كرَّر هانو سؤاله: «سألتك، هل رنَّت الآنسة ويبل الجرس في غرفتها بعد؟».

قالت ماريان: «وأجبت أنا، عبر صمتي، بأني لن أجيب عن أسئلة السيد.»

أنَّبتها ديانا برفق: «هذا لا يصح يا ماريان. يجب أن تجيبي عن أسئلة السيد.»

استدارت ماريان مُتجهِّمة لتواجه هانو.

وقالت: «حسنًا إذن، إنها لم ترن جرسها»، ثم صاحت مجددًا في غضب: «ولكن … اللعنة … يا لها من أسئلة تُطرَح بينما غداء الآنسة كله يحترق ويتحوَّل إلى رماد …»

قاطعها هانو وقد غيَّر طريقته لتصبح آمرةً بدلًا من صابرة: «سأطرح عليكِ سؤالًا آخر. هل نامت السيدة ديفينيش في فراشها؟»

فاجأ السؤال جميع مَن في الغرفة، ولكن لم يُفاجَأ أحد أكثر من ماريان. أطلَّ من عينيها بعض الاحترام وهي تنظر إلى هانو. وقالت بصوت أكثر وداعة.

«سيدي! كما أخبرتك سابقًا، هذا يوم مزدحم بالنسبة إلى الجميع. ومن المحتمل أن السيدة ديفينيش فكَّرت في ذلك؛ فهي تعرف أن جميع الشابات يكنَّ في مثل هذا اليوم عديمات الفائدة وعاطلات عن العمل. ربما قالت لنفسها: «يا للمسكينة ماريان، يجب أن أساعدها اليوم».»

قال هانو مؤكِّدًا: «يعني هذا أنها لم تنم في فراشها.»

صاحت ماريان وقد بدأ وجهها في الاحمرار مجددًا: «لا، يا سيدي، لم تفعل. أعني أني عندما دخلتُ غرفتها هذا الصباح، كان الفراش مرتَّبًا.»

تقبَّل هانو تصحيحها راضيًا، ولكن فكَّر السيد ريكاردو أن كل من يعرفون إيفيلين ديفينيش لن يتفقوا مع ماريان على هذا التفسير على الإطلاق. لم تكن إيفيلين ديفينيش امرأةً عطوفًا قد تفكِّر فيما إذا كانت ماريان قد أنهكها العمل أم لا. ولم يتمكَّن من تخيُّلها تقفز من فراشها في الصباح الباكر لمساعدة الفلاحين في جمع العنب. لم تكن القصة برمتها مقنعةً على الإطلاق.

قال هانو: «أعتقد أن كون الفراش مرتَّبًا يكفي.» كان يتحدث بجدية شديدة، وكان حريصًا على ألَّا يتحدَّث بانفتاح. نظر نحو هيربستال، ونظر هيربستال نحوه بدوره وأمال رأسه.

وقال: «نعم. نعم. لا يمكننا أن نراعي المشاعر الرقيقة طوال الوقت. أؤكِّد لك ذلك يا سيد هانو!»

كان المفوض، رغم كونه قاضيًا، سعيدًا بإظهار الاحترام للرجل العظيم القادم من باريس.

كانت ديانا تتحرَّك باستمرار. فلم تكن تشعر بالقلق فحسب، بل كانت متحيرةً كذلك.

وصاحت في عصبية: «أرجو ألَّا تُبقينا مترقِّبين هكذا لمدة أطول. فوقوع البلاء خير من انتظاره.»

حتى في تلك اللحظة، تردَّد هانو للحظات. لم تبدُ عليه الراحة. بدا وكأنه قد انتابه هاجس بأنه على وشك أن يُلزم نفسه بتحقيق سيكشف عن هاوية من الشر الفظيع حتى هو نفسه يخشى الاقتراب منها.

قال أخيرًا: «حسنًا. في تمام السابعة من صباح اليوم، شوهدت سلة غسيل تطفو على سطح مياه نهر جيروند مع ارتفاع المد، من قِبَل صبيين من قرية سان إيزان دوليت، وهما ألبير كرودو، في الرابعة عشرة من عمره، وشارل مارتان بعمر الثالثة عشرة وخمسة أشهر. تُطل قرية سان إيزان دوليت على الضفة نفسها من النهر التي يطل عليها قصر سوفلاك، ولكنها أقرب من مصب النهر بنحو ستة أميال. هذه التفاصيل مهمة. حمل تيار النهر سلة الغسيل حتى وصلت إلى الشاطئ، وكانت الأمواج في ذلك الوقت بطيئةً للغاية، وتمكَّن الصبيان بسهولة من تتبُّعها. رست السلة برفق في خليج صغير في منطقة منعزلة تبعد حوالي نصف ميل عن القرية. كانت الضفة المكسوة بالعشب ذات انحدار بسيط، وكان ثمة مرج رفيع، وسياج شائك خلف المرج، والقرية تقع على بعد مائة ياردة خلفه. سحب الصبيان السلة خارج الماء بصعوبة. فقد كانت أثقل ممَّا تحتمل عضلاتهما. ووجدا أن السلة مربوطة بإحكام بحبل سميك، وكان مربوطًا في الحبل في قاع السلة قطعة من شبكة ذات خيوط دقيقة، يا لها من مصادفة غريبة، فقد بدا وكأن وزنًا كان موضوعًا في الشبكة لإغراق السلة، وكان الوزن ثقيلًا للغاية على الشبكة ممَّا أدَّى إلى تمزُّقها وتحرُّره. كان الصبيان متحمسَين لهذا الاكتشاف، فقطعَا الحبل بسكين جيب، وعندما رفعا الغطاء، صُدما برؤية جثة ملفوفة في قطعة من الكَتان الفاخر. وعندما رفعا حافة قطعة الكَتان، وجدا فتاةً عارية تمامًا، وركبتاها مضمومتان نحو ذقنها. وشعرا برعب شديد مَنَعَهما من فحص الجثة عن قرب. فأعادا قطعة الكَتان إلى مكانها، وبينما أسرع أحدهما، شارل مارتان، إلى قرية سان إيزان دوليت لينقُل الخبر، أغلق ألبير كرودو السلة وجلس جوارها ليحرسها. ثم نُقل الجثمان الذي كان لا يزال مكوَّمًا داخل السلة إلى المشرحة في فيلبلانش.» كانت هذه المدينة الصغيرة التي ذكرها هي مقر الإدارة المحلية للمنطقة. ثم استطرد قائلًا: «كنت في بوردو بالمصادفة أهتم بمشكلةٍ ما، قد تكون حادثة السلة هذه، أو لا تكون، ضمن تطوُّراتها.» في هذه اللحظة، تلقَّى هانو نظرة لوم شديدةً من السيد ريكاردو، مما جعله يبذل جهدًا لتخفيف إهماله لوجود صديقه.

figure
وشعر الصبيان برعب شديد منعهما من فحص الجثة عن قرب.

«يجدر بي أن أُضيف أنه عمل يمنعني من الاستعانة بأي نصح، مهما بلغت قيمته.» وشعر بالرضا عندما رأى السيد ريكاردو يستعيد اعتداده بنفسه. ثم قال: «شرَّفني السيد هيربستال بأن اتصل بي هاتفيًّا لإبلاغي بهذا الكشف ودعاني لمساعدته. أجرى الطبيب الشرعي، الطبيب برون، فحوصاته في حضورنا. كانت الجثة تعود لشابة أولت عنايةً خاصة، عنايةً خاصة للغاية، بجمالها ومظهرها. لا يوجد أدنى شك في صحة الأدلة التي بين أيدينا في حادثة مثل تلك. ولكن كان كل شيء، اللون الأبيض الخفيف لبشرتها، ولمعان شعرها، يُشير إلى أنها كانت امرأةً تملك ما يكفي من الوقت والرغبة في الاهتمام بنفسها بعناية تامة.»

قاطعته ديانا بصوت خفيض: «هل كانت ميتة؟»

«طبقًا لما قاله الطبيب برون، كانت متوفاةً منذ حوالي ست ساعات.»

قالت ديانا: «هل غرقت؟ في هذه السلة؟ يا له من أمر مريع!» وارتجف جسدها وغطَّت وجهها فجأةً بيديها.

أجابها هانو: «لا يا آنسة، لم تغرق. لقد تلقَّت طعنةً نافذة في القلب. لم يكن ثمة أي أمارات تنم عن الألم على وجهها، ولا أي تعبير عن الخوف. إنها لم تكن تدري بما يحدث؛ فهي كانت هادئة تمامًا.» وبعدما استخدم كامل قدرته لتأكيد كلمات التهدئة التي قالها، الأمر الذي يبرع فيه تمامًا، واصل حديثه في هدوء قائلًا: «ولكن ثمة تفصيلة واحدة مُحيِّرة ومخيفة في هذه الجريمة. غير كونها جريمةً بالتأكيد. بعد موتها، نُشرت يدها اليمنى من عند الرسغ.»

عمَّت موجةٌ من الرعب جميع الحاضرين في الغرفة. ما الغرض من التمثيل بجثة المرأة بعد قتلها؟ إنه تعبير عن كراهية ووحشية شديدتين، انتقام لا يهدأ حتى بعد الموت. انطلقت صرخة من بين شفتَي ديانا المرتعشتَين. وكانت السيدة تاسبورو تبكي وتئن. وصاح روبن ويبستر، وقد كسا الغم والاضطراب وجهه: «لماذا؟ لماذا بحق السماء؟» السيد ريكاردو فقط هو من بقي صامتًا، وخوف مريع ينمو داخل ذهنه. فغاص في مقعده وظل يُحدِّق في الأرض.

في الوقت نفسه، واصل هانو حديثه، قائلًا: «لم تكن هناك أي علامات تُمكِّننا من تحديد هُوية الشابة، فلم تكن ترتدي أي أساور في رسغها، ولا سلسلةً حول رقبتها، لا شيء على الإطلاق. ولكن فكَّر السيد هيربستال والطبيب برون في أنه من المحتمل أن نتوصَّل إلى المزيد من المعلومات في قصر سوفلاك؛ فمن عادة الآنسة أن تقيم حفلًا منزليًّا بمناسبة حصاد العنب. لذا، جئنا إلى هنا على الفور، وها نحن قد اكتشفنا أن ثمة ضيفةً مفقودة. أرجو من السيد ريكاردو، فهو أحد معارفي، أن يستقل معي السيارة إلى فيلبلانش، وآمل، ولكن من دون ثقة كبيرة، ألَّا يتعرف إليها. وحتى يعود، يجب أن أطلب منكم ألَّا تغادروا المنزل.»

ولكن لم يرد السيد ريكاردو. فقد كان لا يزال جالسًا دون حراك يحدِّق في الأرضية، وبدا وكأنه لم يسمع أيًّا مما قيل.

قال هانو مصرًّا: «هل ستأتي؟ إنها مهمة عصيبة، أعلم ذلك تمامًا.»

ولكن لم يقل ريكاردو شيئًا، ولم يغيِّر من وضعية جسمه. ارتعشت كتفا روبن ويبستر في قلق. ثم قال متردِّدًا: «لا ريب في أنه واجبي أنا أكثر من أي شخص آخر.»

وقبل أن يتمكَّن من قول المزيد، قاطعه هانو. «لا! أشكرك على تطوُّعك، ولكني أريد السيد ريكاردو.»

ثم في نهاية المطاف، عثر السيد ريكاردو على صوتٍ يتحدث به، ولكنه خرج من بين شفتَيه كئيبًا ورتيبًا، وبدا وكأنه ليس صوته.

قال دون أن يرفع عينَيه عن الأرضية: «قبل أن أذهب، أعتقد أنه يجدر بأحدهم أن يطرق باب غرفة الآنسة ويبل لنتأكد من أنها ستجيب.»

وعلى الفور أصبح السيد ريكاردو محط أنظار كل الحضور الحزين، ولكنه لم يكن سعيدًا بذلك هذه المرة. فلم تكن النظرات الموجهة نحوه تحمل أي ود. لم يكن أي منهم قد فكَّر في جويس ويبل خلال تلك الدقائق العصيبة الأخيرة. فقد ربطت قصة هانو نفسها مباشرةً باختفاء إيفيلين ديفينيش لدرجة أن الرحلة المقترحة لتحديد هُوية جثمانها كانت مجرد إجراء شكلي. ولكن أصبح هناك فجأةً اقتراح جديد، غامض ومزعج.

صرخت ديانا بحِدة: «لا، لا!» لم تكن تعارض اقتراح السيد ريكاردو، بل كانت ترفض السماح بتحميل لغز آخر على أعصابها المُعذَّبة.

قال السيد ريكاردو من دون أن يرفع عينَيه عن الأرضية: «أعتقد أني محق.» وأقنع سلوكه الجميع بطريقة ما بأنه محق. التفت هانو نحو ماريان التي كانت واقفةً على مقربة منه طوال تلك المدة، وأومأ لها برأسه. فأسرعت على الفور إلى خارج الغرفة تاركةً الباب مفتوحًا خلفها، ولم يُضِف أحد أي كلمة. كانوا يسمعون صوت حذائها يدق على درجات السلم الحجرية القريبة من مكانهم، ثم صوت الطرق العالي على الباب. ظلت المجموعة في غرفة الاستقبال تتنصَّت في ترقُّب أن ينفتح الباب، وأن يسمعوا صوت جويس ويبل الودود الواضح. ولكنهم لم يسمعوا إلا صوت الطرق يتكرَّر، ويعلو أكثر، ولكن لا مجيب.

رفع السيد ريكاردو رأسه في حيرة، وكسر حاجز الصمت.

قال: «هل تنام الآنسة ويبل في الطابق العلوي؟»

أجابته ديانا: «نعم.»

إذن، فغرفتها واحدة من الغرفتين في البرج!

فسألها: «وماذا عن السيدة ديفينيش؟»

«في الجناح المقابل لجناحك.»

«فهمت.»

إذن، أي نافذة تلك التي طرق عليها في الثانية من صباح اليوم، والتي رأى خلفها نورًا مضاءً ثم انطفأ على الفور؟ لم يكن ليمر وقت طويل قبل أن يعرف. سُمع صوت ماريان وهي تطرق مجددًا على الباب، وتنادي باسم جويس ويبل، ثم عادت إلى الغرفة تجر أذيال الخيبة، وصدرها يعلو ويهبط، وملامح وجهها تنم عن الخوف.

تلعثمت قائلة: «باب غرفة الآنسة موصد بالقفل، ولا يوجد مفتاح في القفل.»

وجَّه هانو سؤالًا إلى ديانا، قائلًا: «هل تملكين مفتاحًا آخر لهذا الباب؟»

«أي مفتاح سيفتحه. جميع الأقفال متشابهة.»

«ستبقون جميعكم هنا إذن.»

اندفع هانو إلى خارج الغرفة. ولم يسمع أحد خطوات أقدامه على الدرج الحجري، ولكنهم سمعوا صوت مفتاح يفتح مزلاجًا، وعم الصمت مجددًا. ولكن لم يعد الصمت محتمَلًا.

figure
لم يسمع أحد خطوات السيد هانو على الدرج الحجري.

«جويس! جويس! آه!»

خرج الاسم من بين شفتي روبن ويبستر في صرخة قصيرة تنم عن التعاسة. كانت الصرخة أشبه برجاء لها أن تُجيب، وأن تظهر بكامل شبابها المتألِّق بينهم، وكانت في الوقت نفسه تعبيرًا عن يقينه بأنها لن تفعل. رأى السيد ريكاردو ديانا ترفع عينيها ببطء نحو روبن ويبستر وتثبتهما على وجهه المرتعش القلق بنظرة مدقِّقة غريبة، ولم تمر لحظات قبل أن يعود هانو إلى الصالون.

وقال جزعًا: «الغرفة فارغة، وأغطية الفراش مبعثرة ومجرورة على الأرض. ولكن يبدو أن ذلك مُتَعَمد. لم تنم السيدة ديفينيش ولا الآنسة ويبل في فراشيهما في قصر سوفلاك ليلة أمس.»

figure
غرفة جويس فارغة، وأغطية الفراش مبعثرة ومجرورة على الأرض.

تغيَّر التعبير على وجهه فجأة. وصاح وهو يندفع نحو الأمام: «مهلًا! مهلًا!» كان قد رأى ديانا تاسبورو تترنَّح وكأنها شتلة في مهب الريح. وشحب وجهها بشدة. كانت تقول بصوتٍ واهن: «هذا رهيب! رهيب!» وصل هانو إليها في اللحظة المناسبة ليمنع سقوطها على الأرض. ثم تركها تنزلق من بين ذراعيه وتستقر على أرضية الغرفة دون حراك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥