كهف المومياوات
خرج الرجلان من المنزل المنكوب وهبطا التل متجهَين نحو الأبنية الريفية والمرأب، وكان هانو مستغرقًا في أفكاره وشعر السيد ريكاردو ببعض الاندهاش من رؤية الفلاحين يؤدون مهام يومهم، وكيف أن العالم يعج بالحركة. فقال: «لا يبدو الأمر طبيعيًّا.» أفاق هانو من تأملاته وردَّ عليه: «في نهاية المطاف، ربما يكون كلانا مخطئًا. ثمة الكثير من الأبنية في منطقة جيروند.» ولكن كان يبدو أنه لا يصدق الكلمات التي قالها على الإطلاق، وبمجرد أن انطلقت السيارة الضخمة بسلاسة على الطريق الذي يمر بين كروم العنب، التفت نحو رفيقه بنشاط.
بدأ السيد ريكاردو يتفوَّه ببعض الأعذار. فقد كان يساوره شك في أن إعجابه بالأمور الغريبة والعجيبة ليس لائقًا برجل في مثل عمره المتقدم ومكانته الاجتماعية المرموقة. ولكن كان يتعين عليه زيارة كهف المومياوات رغم كل ذلك.
قال وهو يصيح في انفعال صادق: «لطالما أردت زيارته، وقد فعلت ذلك منذ ١٠ أيام.»
وصف لصديقه كيف أنه سار حتى وصل إلى البرج العالي فوق جبل سان ميشيل المقابل لأبواب الكنيسة في الميدان الكبير. عند قاعدة البرج، وجد كشك تذاكر، ولكنه كان مُغلَقًا، وبجانبه كان ثمة درج حلزوني يهبط نحو الظلام. فنظر من أعلى نحو أسفل الدرج، لكنه سمع فجأةً بالقرب منه صوت امرأة عاليًا يصيح: «هيا اهبط أيها السيد! ويمكنك أن تدفع لي فيما بعد. سأبدأ عملي الآن.»
فأطاع المرأة، وتحسَّس درجات السلَّم بقدمه والجدران الجانبية بيده. كان ثمة بضع خطوات تفصله عن ذلك الدرج الحجري العتيق، ولكنه كان يلتف، وبعدما أصبح ضوء النهار في ظهره، لم يستطع رؤية أي شيء على الإطلاق.
«خطوة أخرى أيها السيد. حسنًا إذن!»
كان ثمة من أمسك بذراعه ووجَّهه نحو درج قصير عن يساره. لم تُشعل المرأة، الحريصة مثل الطبقة التي تنتمي إليها، شمعتها المصنوعة من الشحم لتضيء معروضاتها المروِّعة حتى جمعت حولها مجموعةً صغيرة من المتفرجين عند نقطة الانطلاق. كان السيد ريكاردو يدرك في غير وضوح أنه يقف عند حافة مجموعة من الناس. كما انتابه كذلك شعور بوجود مساحة شاسعة. ولكن عندما اشتعل عود الثقاب، وسطع ضوء الشمعة الرخيصة الأحمر الذي يتصاعد منه الدخان، رأى أن المكان عبارة عن موقع تنقيب ضيق وبدائي. كان المكان لا يزال مظلمًا بدرجة لم تمكِّنه من تمييز أي شيء في بقية المجموعة، فيما عدا أنها كانت مكوَّنةً من كلا الجنسين. ولكن سقط الضوء على وجه المرشدة، وشعر بخيبة أمل بسبب مظهرها مثل تلك التي أصابته بسبب ضِيق الكهف. كان يتوقع رؤية عجوز شمطاء تشبه الساحرات. ولكن رأى بدلًا من ذلك امرأةً عملية في منتصف العمر ذات وجه على شكل تفاحة تبدو عليها سيماء الوقار مع ذلك الشال الأسود الذي تضعه على كتفيها.
مرَّت وسط حاجز حديدي يحمي صف معروضاتها الكئيبة، وبدأت تُلقي محاضرتها الأولى. كانت هناك مومياوات في مصر بالطبع، ولكن لم تكن أي منها، بدايةً من مومياء توت عنخ آمون إلى الأقل منها شهرة، تضاهي مومياواتها. كانت مومياوات مصر من صنع أيدي البشر، محشوةً ومعالَجة مثل الحيوانات المُحنَّطة التي توضع على الطاولات. كانت مومياواتها هي المومياوات الحقيقية الطبيعية الوحيدة في العالم، ومصدر فخر لمدينة بوردو العظيمة.
«سيداتي، سادتي، ظلَّت هذه المومياوات على حالها منذ العثور عليها في جبَّانة عتيقة في المدينة في مكان قريب من هنا. وقد حفظتها على هذه الحال مواد كيميائية من التربة لا توجد في أي مكان آخر. انتبهوا أيها السادة والسيدات!»
جحظت عينا السيد ريكاردو من مِحْجرَيهما في محاولة منه للنظر فوق أكتاف الأناس المحظوظين الذين اتخذوا أماكنهم في الصفوف الأولى. مرَّت القائمة على هذا المتحف الغريب ببطء على طول صف جثث الموتى المُعلَّقة المستندة واقفةً وكأنها في استعراض أزلي. كانت الجثث واقفةً وقد وُضعت مآزرُ حول خصورها، وكان لون بشرتها مخضرًّا، وكانت رقيقةً مثل ورق البرشمان. ظلَّت قطع بالية مُسوَدَّة من أكفانها ملتصقةً بها، وخصلات من شَعرها الأسود متدليةً من جماجمها، وبعضها لا تزال تمتلك أعينًا خضراء شاحبة تُحدِّق من محاجرها. كانت المرشدة ترفع شمعتها وتُنزلها لتُشير إلى التفاصيل البارزة، ومنح الضوء الأحمر، بظلاله المرتعشة، الجثث مظهرًا يوحي بالحياة والحركة.
قالت المرشدة بصوتٍ عملي واضح: «ترون هنا امرأةً وطفلًا على كتفها. كانا قد دُفنا معًا خلال الوباء! وترون هنا رجلًا قُتل بطعنة سيف»؛ كشف ضوء الشمعة عن جرح كبير في صدره. استطردت قائلة: «لا تزال رئتاه موجودتين. اسمعوا!»
مدَّت يدها داخل الجرح وطرقت بأصابعها الرئتين اللتين أصدرتا صوت خشخشة وحفيفًا أشبه بصوت أوراق الأشجار الجافة. ارتعش السيد ريكاردو في استمتاع، وشعر برجفات تجري صعودًا وهبوطًا على طول عموده الفقري وفي باطنَي قدميه.
ثم سأل نفسه: «ماذا بعد؟» متسائلًا عمَّا إذا كان سيتحمَّل المزيد عندما وقفت المرشدة فجأةً أمام الجثة الأخيرة في الصف. كانت مديرةَ عروض بارعةً احتفظت بالمومياء المميزة في نهاية العرض. وقبل حتى أن تنطق كلمتها الأولى لتشرح ما يراه الجمع، انتشر بينهم جميعًا شعور بالاشمئزاز والجزع، فقد ظلت أمارات الألم المروعة ظاهرةً على المومياء بوضوح رغم كل تلك القرون التي مرت على دفنها.

رأى السيد ريكاردو جثمان شاب. كان فمه مفتوحًا عن آخره وكأنه يلهث طلبًا للهواء، ورأسه منحنيًا إلى الأمام وكأنه يحاول النهوض بدفع كتفيه، وإحدى ركبتيه مضمومة نحو صدره كأنه يدفع غطاء تابوت.
قالت المرأة ببعض الفخر: «لقد اتفق الأطباء على هذه المومياء. من المفترض أن الصبي كان مصابًا بالتخشُّب، أو كان ضحيةً لمعاملة وحشية. لقد أصبحنا نعيش في عصر أكثر لطفًا، حمدًا لله! لقد دُفن حيًّا، واستيقظ داخل القبر. فظل يصرخ، كما ترون، ويشهق طلبًا للهواء. وأُصيبت بشدة عضلات الساق، التي رفعها معذَّبًا لدفع جميع تلك الأقدام التي تعلوه من التربة، ما جعل من المستحيل فردها مجددًا. فثبتت على هذا الوضع. يا له من مسكين!»
ظلت تُعدِّد لبضع لحظات مزايا العيش في العصر الحالي الأكثر لطفًا، بينما كان انعكاس الضوء الأحمر لشمعتها يرتعش صعودًا وهبوطًا على المومياء المعذَّبة، حتى صاح رجل بصوتٍ أجش: «كفى، يا إلهي! هذا يكفي!»
ولكن المرأة لم تتحرك، تقديرًا منها لنجاح عرضها، على ما يبدو. ثم أطفأت شمعتَها بسبابتها وإبهامها من دون أن تقول شيئًا، وظلت المجموعة لبرهة من الزمن واقفةً في مكانها دون حراك وفي صمت تام في ظلمة الكهف المعتمة لدرجة أن الوافد الجديد سيعتقد أن الكهف فارغ أثناء هبوطه الدرج الحلزوني. ثم انكسر حاجز الصمت في خفوت شديد بجانب مرفق السيد ريكاردو، عبر تنهيدة جعلت الدم يتجمَّد في عروقه عندما سمعها. لم تكن التنهيدة تُعبِّر عن الشفقة ولا الرعب، بل اشتياق شديد لأن يُفرض هذا العقاب مجددًا.
«أوه! أوه!»
كانت صيحةً خافتة تنم عن رغبة بدائية ووحشية، رغبة في إيذاء مَن لم يتعرَّض للإيذاء بعد، رغبة في عقاب مَن لم يتعرَّض للعقاب بعد، همسة حملت أسفًا على أنَّ مثل هذا العقاب لم يعد ممكنًا.
حاول السيد ريكاردو أن يتذكر من يقف بجانبه. كان لديه انطباع بأنها امرأة، ولكنه لم يستطع التيقن من ذلك، وبينما كان يفكِّر، سمع صوت المرشدة من جديد.
«سيداتي، ساداتي، كان هذا كل شيء. إذا استدرتم إلى الخلف، فسترون شعاعًا من الضوء يأتي من جهة الدرج. وأنت أيها السيد الذي جاء أخيرًا، الرسوم هي ٥٠ سنتيمًا. سأعطيك التذكرة عند كشك التذاكر.»
كان أعضاء المجموعة يُسرعون صاعدين الدرج مسرورين أن الجولة انتهت. واحتُجز السيد ريكاردو عند قمة الدرج ليدفع نصف الفرنك ويحصل على تذكرته. ولكن كانت عيناه على المجموعة الصغيرة من الناس وهم يتفرقون، ومن بينهم، رأى فتاةً تنأى بنفسها عن الآخرين وتسير بمفردها. كانت ترتدي ملابس مميزة دُهش أن رآها على زائرة لهذا العرض الجنائزي. كان ثمة أمر غريب بشأنها، وتساءل عمَّا إذا كانت هي من تنهَّدت بجانبه. كان يرغب بشدة في استجوابها بشأن ذلك. ولكنه شعر ببعض الانزعاج عندما تعرَّف إليها بعد تسعة أيام في غرفة استقبال قصر سوفلاك.
هل كانت إيفيلين ديفينيش؟ لا ريب في أن التناقض الكبير بين ذلك الكهف المعتم وتلك الصُّحبة الكئيبة فيه وتلك الغرفة التي يغمرها ضوء الشمس التي تُطِل على ساحل جيروند، قد أثَّر على حكم السيد ريكاردو. كان من المحال أن تكون تلك المرأة التي تنهَّدت في الكهف هي نفسها تلك الفتاة الأنيقة التي كانت متعةً للعين في غرفة الاستقبال. ونفض عن ذهنه هذه الشكوك حتى تلك اللحظة بعد العشاء مباشرةً عندما تحدَّته أن ينكر أنهما وقفا معًا في المجموعة نفسها داخل كهف المومياوات. كانت قد أشاحت بعينيها بعيدًا عنه على الفور. وكانتا تبحثان عن جويس ويبل التي كانت مستلقيةً على مقعدها القصير. ولمع فيهما غضب شديد، وظلتا تحدِّقان صعودًا من القدم النحيلة في حذائها الفضي المطرز إلى الركبة بكراهية جارفة. لا ريب في أن إيفيلين ديفينيش كانت تفكِّر في تلك اللحظة في المومياء المشوَّهة لذلك الشاب في كهف المومياوات! كانت تتخيَّل جويس ويبل في مكانه وركبتها تدفع في عذاب يائس غطاء التابوت. نعم، كانت إيفيلين ديفينيش هي مَن تنهَّدت. إذن، بما أن الفتاتين اختفتا من قصر سوفلاك، وواحدة منهما قُتلت، فلا ريب في أن القتيلة هي جويس ويبل.
كانت تلك هي القصة التي رواها السيد ريكاردو أثناء قيادة سيارته عبر ريف فيلبلانش الذي تغمره أشعة الشمس. كان هانو ينصت له باهتمام تام، ولكنه هز رأسه في النهاية.
وقال: «يا صديقي، لم تكن امرأة هي التي نشرت تلك اليد اليمنى، حتى وإن استحوذت عليها كل الكراهية في العالم.»
ردَّ عليه السيد ريكاردو بكِياسةٍ وصبرٍ وتعالٍ في الوقت نفسه: «ولكن لا ريب في أن معها شركاء يساعدونها. ألم تراودك هذه الفكرة؟!»
ضرب هانو جبهته في تعبير مبالغ فيه نوعًا ما عن اليأس.
وصاح: «هذا صحيح تمامًا! لقد أصبح هانو مسنًّا. كيف كنت سأحل هذا اللغز وحدي؟! من حسن حظي أنك هنا، رئيس الأركان الذي يخبر القائد بما عليه أن يفعل، العقل المدبر لكل شيء. أنا أعتمد عليك. أخبرني بما تفكِّر فيه. أمامك وقت كافٍ لتفعل!»
كانت السيارة تقترب من شارع فيلبلانش الطويل الذي تصطف منازل صغيرة بيضاء متربة على جانبيه.
«عندما كانت السيدة ديفينيش ترمق الرقيقة جويس ويبل بهذه النظرة القبيحة، من كان بجانب جويس ويبل؟ إلى مَن كانت تتحدث؟»
أعاد السيد ريكاردو بناء غرفة الاستقبال في مخيلته، بأثاثها والحاضرين فيها. ووضعهم جميعًا في أماكنهم، ثم صاح: «أنا أعرف. كان جالسًا بجانب جويس ويبل، وربما كان يجلس على مسافة قصيرة خلفها. نعم، من المؤكد أنه كان خلفها بمسافة قصيرة. فقد كان يميل إلى الأمام من فوق ظهر مقعدها؛ كان روبن ويبستر.»
قال هانو: «أها! ذلك الشاب الوسيم ذو الشعر الأبيض ولمحة التحذلق في حديثه. ذلك الذي يملك وسامة أبوللو وأسلوب معلمة، أليس كذلك؟ كان هو إذن. الرجل نفسه الذي صاح فجأة: «جويس! جويس!» عندما اكتشفنا أنها اختفت. هذا غريب بالفعل! حسنًا، سنعرف بعد قليل إذا ما كنت محقًّا.»
توقفت السيارة أمام المشرحة. وسرعان ما أدرك السيد ريكاردو أنه مخطئ تمامًا. فقد كانت الجثةُ التي ترقد على سرير المشرحة، ملفوفةً بحرص في مُلاءة كَتانية نظيفة، وعيناها مغمضتان، ويبدو السلام على وجهها، هي جثةَ إيفيلين ديفينيش.
هبطت المفاجأة على السيد ريكاردو كالصاعقة، ولكنه شعر براحة أكبر. لقد كان يهتم لأمر جويس ويبل أكثر مما كان يدرك هو نفسه. ونحَّى جانبًا، ولو للحظة على الأقل، كل الأمور الغامضة المتعلقة بها، وكذلك الاحتمال الذي أشار إليه هانو في إيكس بأنها قد تكون اختلقت قصتها الغريبة حول خطابات ديانا تاسبورو لغرضٍ لا يعلمه أحد إلا هي. كان سعيدًا بأنها ليست المرأة الراقدة أمامه على السرير الحجري.
قال هانو وهو يحاول أن يستشف مشاعر صديقه من وجهه: «إنها السيدة ديفينيش، أليس كذلك؟»
«نعم». التفت هانو إلى المفوض هيربستال الذي انضم إليهما، وقال: «الأمر كما اعتقدت. فلنواصل العمل. فنحن نؤخِّر السيد ريكاردو عن غدائه.»
تقدَّمهم عامل المشرحة، ومروا بممر عارٍ طُلي باللون الأبيض، إلى غرفة في الجزء الخلفي من المشرحة. كانت الغرفة مليئةً بالخزانات، وكانت السلة التي لا تزال مبلَّلةً بمياه النهر موضوعةً على الأرض.
قال هانو: «أريد رؤية قطعة الكَتان التي كانت المرأة المسكينة ملفوفةً فيها.»
فتح العامل إحدى خزاناته، وأخرجها وأعطاها إلى هانو. لاحظ السيد ريكاردو أن أحد أطراف قطعة القماش مقطوع من قمته وحتى قاعدته، وأنها كانت ملطخةً بالدماء. حمل هانو قطعة القماش نحو النافذة وقلبها ونفضها بقوة ثم لفها حولها مجددًا. عندما عاد إلى الغرفة مجددًا، كانت ملامح وجهه متغيرة. كان عابسًا ومهمومًا. كان من الواضح أنه لا يحب المهمة التي أداها منذ قليل.
قال وهو يضع قطعة القماش بحرص على أحد المقاعد: «أعتقد أن قطعة القماش هذه ستكون على جانب كبير من الأهمية.»
ثم اتجه ناحية السلة وفتحها. لم يستطع السيد ريكاردو أن يرى من حيث يقف ماذا يوجد في داخلها. فسار على أطراف أصابعه حتى أصبح بجانب هانو. كانت السلة مغطاةً بنوعٍ ما من قماش القنب القوي الأبيض، والذي كانت بعض أجزائه ملطخةً بالدماء. انحنى هانو ليفحص داخلها عن كثب بسرعة متحسسًا البطانة المبللة عند الأركان.
وقال: «إنه ممزق هنا.» وضع إصبعه داخل الشق، ثم تصلب وجهه. فنهض واقفًا، وقلب السلة على جانبها وانحنى لينظر عن كثب إلى نسيج الخوص عند أحد أركانها بالقرب من قاعدتها.
قال محدثًا هيربستال: «انظر!» كان يشير إلى وتد مصنوع من معدن أصفر يبرز من بين شرائط الخوص. أعاد السلة لتقف على قاعدتها مجددًا، وغاصت يداه داخلها وظلتا تعملان لبضع لحظات بكَد شديد. وعندما وقف منتصبًا من جديد، كان يمسك في يده سوارًا ذهبيًّا صغيرًا. وكان مفتوحًا. كان ثمة وتد صغير صُمم لينزلق داخل تجويف، حيث يمسك به نابض ويثبته، وعند القفل كان هناك حجر أوبال ناري كبير. شهق السيد ريكاردو في دهشة بينما ينظر إليه.
وسأل: «هل يمكنني فحصه؟» وأعطاه إياه هانو الذي كان يمسك بطرفيه بين أصابعه بحذر شديد.
سأل هانو: «هل تعرفه؟»
أجاب السيد ريكاردو والحيرة مرتسمة على وجهه: «لقد رأيته من قبل.»
«أين؟»
«في لندن.»
انتقلت بعض الدهشة من وجه السيد ريكاردو إلى وجه هانو.
«ولكنني اعتقدت أنك لم ترَ إيفيلين ديفينيش قبل الأمس.»
قال السيد ريكاردو: «هذا صحيح. عندما رأيت هذا السوار كان في معصم جويس ويبل. إنه يخصها.»
«يخصها!»
ظل هانو ينقل بصره بين ريكاردو والسوار، والسوار وريكاردو.
ثم قال ببطء: «هذا عجيب.» ثم قلب السوار الذهبي ونظر إلى ما في داخله. ولكن لم يكن ثمة أي كتابات. ثم طلب ورقةً ولف السوار في داخلها بحرص ووضعها فوق قطعة الكَتان المطبقة.
وقال: «ربما تكون ثمة بصمات أصابع عليه قد تساعدنا.» وظل واقفًا يحدِّق فيه مجددًا، كما لو أنه، رغم أنه داخل الورق، يمكنه إجباره على البوح بسر وجوده داخل السلة. ثم انحنى مجددًا فوق السلة، وغاص داخلها، وفحص كل شق بين أشرطة الخوص به. ولكنه لم يكن يخفي أي أسرار أخرى. عاد هانو ليقف منتصبًا.
وقال: «سيدي المفوض، ستتولى أنت أمر قطعة الكَتان والسوار وتُخضعهما لفحص دقيق.» ثم التفت نحو ريكاردو وقال: «في الوقت نفسه، سنعود أنا وأنت إلى قصر سوفلاك. سأطلب منك أن تتوقف عند مكتب السيد تيدون، قاضي التحقيقات، ولكننا لن نستغرق سوى بضع دقائق. فلا يوجد ما أخبره به سوى أننا في بداية قضية مظلمة ومرعبة للغاية.»
خرج من المشرحة بخطوات بطيئة ثقيلة فقدت خفتها بالكامل. للمرة الثالثة شعر السيد ريكاردو بتقهقر صديقه وتردُّده.
قال هانو وهما يستقلان السيارة، وكان يُجيب عن سؤال السيد ريكاردو الذي لم يطرحه: «هذا صحيح، أنا آخذ لمحةً عن الأشياء التي لا أُحب أن أراها. ثم أفحصها كاملةً قبل أن أصل إلى النهاية. كنت سأقول للسيد تيدون لو استطعت: «سيدي، هذه القضية لا تناسبني.» ولكنها قضية تناسبني. لقد استدعوني إلى بوردو لأتولى قضية اختفاء بعض الأشخاص، كانت في ظاهرها قضيةً سهلة، عادية، مملة، يمكن حلها بالقليل من التركيز. ولكن اختفت صديقتك الآنسة ويبل أيضًا. هل حالة الاختفاء هذه قائمة بذاتها؟ أم أنها ترفع بقية حالات الاختفاء إلى مستوى مؤامرة كبيرة مريعة؟ لا أعرف!» ضرب بقبضته المضمومة بطانة المقعد بجانبه.
وصاح بقوة: «ولكني يجب أن أعرف. هذا عملي.» ومن تلك اللحظة حتى انتهاء التحقيقات الطويلة المضنية، لم يلحظ السيد ريكاردو أي تردُّد على هانو.
قال ريكاردو مترددًا: «ثمة سؤال أود طرحه عليك.»
رد عليه هانو: «اطرحه يا صديقي، فثمة الكثير من الأسئلة التي أود طرحها عليك.»
«هل كانت اليد المقطوعة موجودةً في السلة؟»
هز هانو رأسه نافيًا. «لا! أمر مثير للشفقة. نعم، الكثير من الشفقة. فلكي نحل هذه القضية، علينا أن نكتشف لمَ قُطعت، وأعتقد أنه من بين كل الأسئلة التي علينا الإجابة عنها، هذا السؤال هو الأكثر أهميةً على الإطلاق.»
ثم توقفت السيارة أمام مبنى المحافظة.