الفصل الثامن

القاضي المسئول

كتب القدر، الذي لا تهمه راحة المخلوقات مطلقًا، على السيد ريكاردو، الذي يولي اهتمامًا خاصًّا براحته، ألَّا يتناول وجبة غداء تستحق الذكر في هذا اليوم غير العادي. بينما كان هانو يدخل بهو مبنى المحافظة، مرَّ به رجل توقَّف فجأةً ملتفتًا إليه باهتمام. وسأل: «هل أنت السيد هانو؟»

رد عليه هانو ناظرًا إليه: «نعم.» «يا للحظ الحسن! أنا آرثر تيدون، قاضي التحقيقات، كنت الآن في طريقي إلى قصر سوفلاك لأبحث عنك.»

ظل الرجلان يتحدثان بجدية لبضع دقائق في ظل الممر المسقوف، بينما جلس السيد ريكاردو في السيارة وشعر بأنه سيفقد الوعي بسبب عدم تناول أي طعام. ثم ظهر الرجلان تحت أشعة الشمس واقتربا منه.

قال هانو، وهو يتنحَّى جانبًا ليُفسح الطريق بينهما: «هذا صديقي، السيد ريكاردو؛ السيد تيدون، قاضي التحقيقات.»

كان آرثر تيدون رجلًا طويل القامة ونحيلًا، في حوالي الخامسة والثلاثين من عمره، وكان ذا وجه نحيل بشوش مدبب الذقن. كان حليق الوجه فيما عدا شاربًا رفيعًا يمتد إلى كلتا وجنتيه، وكانت ملابسه تحمل طابع الأناقة الحضرية.

بدأ تيدون حديثه في ود قائلًا: «أعرف اسم السيد ريكاردو بالطبع وصلته بالشهير هانو وقضية إيكس منذ بضعة أعوام. أعتبر نفسي محظوظًا أن العناية الإلهية أرسلتكما معًا إلى هنا مجددًا في هذا الوقت المهم. أنا أدعوكما لأن تولياني بعضًا من اهتمامكما في مكتبي.»

كان السيد ريكاردو متحيِّرًا بين أهميته والجوع الذي يفتك بمعدته. فمن جانب، كانت أمامه قصة تُثير اللعاب وتحقِّق العدالة، ولغز جويس ويبل، ومعاناة ديانا تاسبورو، وكانت كل هذه الأمور يجب أن تُروى على الفور. ومن جانب آخر، ألن يحكي كامل هذه القصة على نحو أوضح بعد تناول الغداء، وتدخين سيجار كبير وطويل وسميك لكي يقصها بأسلوب درامي؛ أن يصمت لثانية بينما تخرج من فمه دائرة مثالية من الدخان والعيون تراقبها متأملةً وهي تصعد لأعلى في الهواء وتتبدَّد، وتتبعها زفرة حارة تنم عن دقات قلبه المتسارعة، وكتلة من الرماد الأبيض تنفضها أصابعه القصيرة يختم بها الجُمل؟ من الصعب تجاهل ملحقات فن السرد البارع تلك، وكان من الأصعب أن يتجاهل فراغ معدته، ولكن كان القاضي قد فتح باب السيارة حقًّا، وأجبر السيدُ ريكاردو قدمَه على أن تخطو خارجها.

تقدَّمهما تيدون إلى غرفة ضخمة مستطيلة أنيقة الأثاث بجانب المدخل الرئيس. كانت ثمة نافذتان طويلتان تُطِلان على الشارع، وطاولة قصيرة موضوعة بينهما، وبجانب الحائط، كانت ثمة طاولة أصغر جلس إليها مساعد القاضي يكتب.

قال تيدون: «سأدق جرس الاستدعاء عندما أُنهي لقائي مع السيدين يا سوساك.» نهض المساعد على الفور وكانت خيبة الأمل باديةً على وجهه، وخرج من الغرفة وعيناه مثبتتان تمامًا على هانو لدرجة أن أنفه اصطدم بألواح الباب.

صاح السيد تيدون ضاحكًا: «يا للمسكين سوساك! لقد انفطر قلبه. لا تحدث أمور مهمة في هذه المنطقة؛ كانت سرقة ملابس الكاهن هي الحدث الأهم. ثم تأتي هذه القضية المفزعة. ثم فجأة، يرى السيد العظيم هانو من النافذة ومعه صديقه الشهير السيد ريكاردو يصلان بالسيارة أمام الباب، ثم يُرسَل خارج الغرفة. نعم، يا له من مسكين!»

وضع تيدون قُبعته على طاولة جانبية وأسند عصاه الخشبية إليها، ووضع مقعدًا أمام طاولته ليجلس عليه ريكاردو، ومقعدًا آخر من أجل هانو، ثم وقف خلفه يواجههما.

وقال مرةً أخرى ضاحكًا، ولكن كان صوته يحمل نبرة اعتذار هذه المرة: «هل فهمتما ما أعني؟ إننا نستخدم هنا جميع الأساليب السيئة السمعة، مثل أن يكون الضوء خلفي ويسطع في وجهيكما. جميع من يخضعون للتحقيق يُدرِكون الحيلة القديمة ويُحَضِّرون تعبيرات لهزيمتها. ولكني أُراعي ترتيب الأثاث لأنه يجعل الضوء يأتي من فوق كتفي اليسرى، ولا يكون ثمة ظل ساقط على الورق بينما أكتب.»

تساءل السيد ريكاردو عمَّا إذا كان قاضي التحقيقات يُثرثر بشأن تلك الطرق المتجاوزة لجعلهما يشعران بالراحة، أم أن هذا يرجع إلى شعوره بالعصبية لأنه مضطر إلى مواكبة معضلة على هذه الدرجة غير المعتادة من الخطورة. بعد ذلك، جلس مباشرةً على المقعد الوثير خلف الطاولة ناقلًا بصره بين ضيفيه، ثم انحنى نحو الأمام بحركة سريعة، وضم يديه، اللتين كانتا داخل قفاز أصفر فاتح، أمامه.

قال مبتسمًا: «سأكون صريحًا تمامًا معكما، وأُخبركما باعتراف. أنا من باريس كما تعرفان، وهناك لديَّ الكثير من الأصدقاء المهمين، وفي وقتٍ ما، وبلا أدنى شك، يمكنني أن أساعد أولئك الذين ساعدوني.» كان يتحدث وهو ينظر نحو هانو مباشرة: «وأريد أن يحين ذلك الوقت سريعًا. فيما يتعلَّق بمهنة القضاء، أعلم جيدًا أنه يجدر بي أن أنجح أولًا في مدة اختباري في الأقاليم. ولكن هذه المنطقة المتربة لا تناسبني على الإطلاق، وها قد حانت فرصتي لأهرب منها بمساعدتكما. سيتردَّد صدى هذه القضية في ربوع فرنسا، بفضل شهرة نبيذ قصر سوفلاك، ومكانة الضحية الاجتماعية، وغموض وفظاعة الجريمة، كل ذلك سيجعل ذلك أمرًا مؤكدًا بلا ريب. حسنًا إذن! لا بد أن أحصل على مجرم، وعلى دليل إدانة لا يدع مجالًا للشك.» ضغط يديه معًا بقوة، ثم شهق شهقةً سريعة وخاطفة، وقال في سرور ضاحكًا من نفسه على شدة رغبته في ذلك: «نعم، دليل لا يدع مجالًا للشك! ساعداني في ذلك، ومن ثم سأنتقل إلى بوردو؛ فهي مدينة يمكن للمرء أن يعيش فيها برخاء. ومن بوردو إلى باريس، وهذه خطوة مؤكدة! لقد أصبحت أتخيل نفسي هناك حقًّا. إن باريس …» ثم التفت نحو السيد ريكاردو باحثًا عن طريقة للتعبير عن أفكاره، وقال: «أنت تملك تعبيرًا اصطلاحيًّا عن ذلك في لغتك …»

صاح هانو مقحمًا نفسه في المحادثة قبل وقت طويل من تجهيز السيد ريكاردو عبارةً ليعطيها إلى تيدون: «بالطبع يملكه.» يا للتعبيرات الاصطلاحية! مَن أفضل من هانو قد يُمِده بها؟

صاح وهو يهز رأسه في أدب: «باريس! إنها وطنك الروحي.»

أجابه القاضي: «بالضبط.» وأومأ الرجلان أحدهما للآخر في رضًا تام. قال السيد تيدون: «لا ريب في أن اللغة الإنجليزية تملك تعبيرات جيدة.» وأومأ إلى السيد ريكاردو مرةً أخرى في أدب.

«حسنًا، بعد توضيح الأمور. فلنبدأ العمل، ثلاثتنا، من أجل تحقيق قناعة لا ريب فيها أمام محكمة الجنايات. جيد! سيد ريكاردو، هل رأيت جثة الضحية الشابة؟»

«نعم يا سيدي.»

«وهل تمكَّنت من تحديد هُويتها؟»

«نعم. إنها السيدة إيفيلين ديفينيش؛ واحدة من ضيوف قصر سوفلاك.»

«جيد! هذا تقدُّم جيد. ماذا تعرف عنها؟»

أجابه السيد ريكاردو: «لا شيء. كان لقاؤنا ليلة أمس هو لقاءنا الأول. لم أسمع باسمها من قبلُ على الإطلاق. ولكني لاحظت أنه على الرغم من تقديمها لي على أنها سيدة متزوجة، لم تكن ترتدي خاتم زواج.»

حدَّق القاضي تيدون في وجه شاهده في حنكة، وقال: «هذا أول طرف خيط لدينا. حسنًا، أنت تفترض أن إيفيلين ديفينيش امرأة ذات حياة غير قويمة.»

جفل السيد ريكاردو في ذعر. ثم بدأ يفكِّر. هل قال صراحةً إنه لم يفترض ذلك؟ لقد شعر ببعض الانزعاج بعدما أدرك التخمينات غير المسئولة التي يُدفع للتصديق عليها. فأجاب بحذر: «لا أملك أدنى قدر من السلطة يؤهِّلني لأن أفترض مثل هذا الافتراض. النساء ينسين خواتمهن على أحواض الحمامات.»

«هل قد يحدث ذلك مع خاتم زواج؟»

«ربما تخلصت منه منذ أمد بعيد وطُلقت من زوجها.»

«ولكنها لا تزال تحتفظ بلقبه؟»

«ربما كان ديفينيش هو اسم عائلتها هي. لا أعرف. ولكن لا ريب في أن الآنسة تاسبورو تعرف.»

كان الضجر في نفس السيد ريكاردو يزداد بسبب طرح تلك الأسئلة عليه، وبسبب القصور الذي سبَّبه حديثه.

لاحظ القاضي ذلك، فقال: «أتمنى لو تمكَّنت من إعفاء هذه الشابة من الإزعاج قدر إمكاني.» احمرَّ وجه السيد ريكاردو بفعل هذا التأنيب، وهو يسمع القاضي يقول: «لا ريب في أنك صديقها. يمكنك أن تخبرني بكل شيء.»

فكَّر السيد ريكاردو بحذر شديد في إجابة عن هذا السؤال. كانت عبارة «كل شيء» تعني التفاصيل الصغيرة الغريبة، كما كان يُحب أن يطلق عليها. على سبيل المثال، المخاوف التي أثارتها خطابات ديانا في نفس جويس ويبل. التخاطر اللاواعي الذي كان قائمًا بلا ريب بين عقل الكاتبة وعقل القارئة، والكلمات المكتوبة في الخطاب التي تعمل بمثابة خط التلغراف. ولكن ليس عدلًا في مثل هذا السياق العصي على العقل افتراض أن ديانا كانت تتعرَّض أثناء كتابة هذا الخطاب لتهديد خطير جعلها تكون حريصةً للغاية ألَّا ينفلت منها أي تلميح عنه. لا، لن يذكر الخطابات في إجابته من الأساس. كما أنه من المؤكد أن ديانا قضت شهور الصيف في بياريتز وليس في لندن. حسنًا، هذا أمر غير مهم. ثالثًا، فسخت ديانا خطبتها من حبيبها. ولكن قد تفعل أي فتاة ذلك. فربما رأت الفتاة رجلًا على أنه بطل مغوار منذ أسبوع، ولكنها أضحت تراه اليوم مصدر إزعاج لا ينتهي. هذه طبيعتهن. قد تصلح هذه المعلومة نميمةً تتناولها الصحف، ولكنها لا تصلح دليلًا على جُرم. رابعًا، تمتلك ديانا لوحةً معلَّقة على الجدار فوق فراشها كان السيد ريكاردو يتوق لرؤيتها. ولكنه لم يرها، وعلى أي حال، هذه قضية هانو، وليست قضيته هو. الأمر الخامس والأهم على الإطلاق، كان هو، السيد ريكاردو، ضيف ديانا، ولن يكفي ١٠ آلاف شخص على شاكلة آرثر تيدون يودون الانتقال إلى باريس في أسرع وقت ممكن أن يجعلوه يذمها. وبِناءً على ذلك، أطرى على مكانتها الاجتماعية، وأصدقائها الكُثْر، وحبها للرياضة.

سأله القاضي على الفور: «وهل رأيت أي تغيُّر طرأ على هذه الشابة ليلة أمس؟»

شعر السيد ريكاردو ببعض الحيرة. فكرَّر العبارة ببطء: «ليلة أمس؟» وهزَّ رأسه وبدأ يصف رعبها ودهشتها المتزايدين هذا الصباح عندما اكتُشف اختفاء صديقتَيها، وقال: «لقد فقدت الوعي في نهاية المطاف. واضطُر السيد هانو إلى حملها إلى غرفتها.»

قال هانو على الفور مؤيِّدًا: «نعم يا سيدي. كانت مصدومةً بشدة. لقد ألقيت الأخبار السيئة دون مقدمات. ففقدت الآنسة ديانا وعيها.»

كان السيد تيدون يدوِّن ملاحظةً من وقتٍ لآخر بينما السيد ريكاردو يتحدَّث. وبدأ يطرق الطاولة بمؤخرة قلمه الرصاص في عدم رضًا. كان لا يزال بعيدًا كل البعد عن تلك القناعة غير القابلة للشك التي ستُحقِّق له أمنيته.

ثم قال: «ماذا عن تلك الشابة الأخرى، الآنسة ويبل» كان قد نطق اسمها فيبل «هل كنت تعرفها قبل الأمس؟»

«نعم».

شعر السيد ريكاردو بارتياح أكبر. فلم يكن ثمة أمر أكثر أهميةً بالنسبة إليه من لغز اختفائها للكشف عنه. أخبر القاضي بكل ما يعرفه عنها. وأعطاه كامل تاريخها الذي يعرفه، وأضاف: «ولكنني لم أتوقَّع رؤيتها في قصر سوفلاك. لا! فمنذ شهرين، التقيتها في لندن، وأخبرَتني أنه من غير المرجح أن تتمكَّن من الحضور، وأنها يجب أن تعود إلى أمريكا، واستخدمت عبارةً غريبة: «يجب على سندريلا أن تغادر الحفل قبل منتصف الليل.» هذه عبارة من الغريب أن تتفوه بها شابة تمتلك بئر نفط في كاليفورنيا. لم أفهم ما تعنيه.»

قال تيدون: «أنا مثلك. هل لها أقرباء؟»

«شقيقة متزوجة.»

«في أمريكا؟»

«نعم.»

«هل هي مخطوبة؟»

«لا أعتقد ذلك.»

زاد الإحباط البادي على وجه القاضي أكثر فأكثر. ثم قال في وجوم: «لا ريب في أننا يجب أن نُجري تحقيقًا في إنجلترا، ولكننا سنحتاج إلى طَرْق الكثير من الأبواب. سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن نحصل على إجاباتنا، وعندما نحصل عليها …» ونهض واقفًا فاردًا يديه في القفاز، وقال: «هل يجدر بنا أن نبدأ العمل؟ هل عملت على قضية أصعب من تلك يا سيد هانو؟»

لم يطمئنه هانو. وأراد أن يضيف المزيد من التعقيدات إلى القضية. فقال: «لقد زادت صعوبتها بعدما اكتشفت السوار.»

صاح القاضي بحدة: «أي سوار؟ أي سوار؟»

«سوار جويس ويبل الذي عُثر عليه في السلة منذ نصف ساعة.» قص هانو كيفية اكتشاف السوار، وكيف أن السيد ريكاردو حدد أنه يخص جويس، وأنهى حديثه بطرح سؤالين لم يتمكن الرجلان الآخران من الإجابة عنهما.

«هل انزلق السوار من اليد المقطوعة دون أن يلحظه أحد؟ هل وُضِع في السلة عن عمد حتى يُعثَر عليه بعد بحث وتُوجَّه أصابع الاتهام نحو جويس ويبل؟ مَن يدري؟»

هز القاضي كتفيه في يأس، وقال: «لا أحد يعلم في الوقت الحالي.» ولكنه نظر نحو هانو واختفى العبوس عن وجهه وجعلته ابتسامة أمل وسيمًا، وقال: «ولكن دعنا لا ننسى أن معنا السيد هانو. وسنعرف كل شيء خلال بضعة أيام.»

أومأ الرجلان أحدهما إلى الآخر مرةً أخرى في ود مهذَّب رآه السيد ريكاردو أنه سخيف للغاية في ظل كل تلك الحيرة والفوضى. بعدما انتهت الإيماءات، تحرَّك القاضي ليدور من حول حافة الطاولة.

وقال سامحًا لضيفيه بالانصراف: «وحتى يتحقَّق ذلك، هذا كل ما عليكم إخباري به …»، ولكن قاطعه السيد ريكاردو.

فقد صاح في خوف دون أن ينهض من مقعده بينما كان الرجلان الآخران واقفَين: «ولكن هذا ليس كل شيء يا سيدي.»

توقف القاضي فجأة. وقال: «ألم يكن هذا كل ما تريد قوله؟»

«لا، لم أخبرك بأنني استيقظت في تمام الثانية من صباح اليوم.»

حدث تغيُّر كبير في الغرفة لدرجة أن جوَّها نفسه تغيَّر، وتغيَّرت تعبيرات وجهَي الرجلين الآخرين في الغرفة. فقد كانا منذ ثانية متحيرَين ويائسَين، ولكنهما أصبحا الآن يقظَين ومنتبهَين. وأضحت الأجواء مشحونة. ولجم الترقُّب لسانيهما، ولم يختلف حال السيد ريكاردو عن رفيقَيه؛ فقد كان يقع على عاتقه الآن رواية القصة، وبالنسبة إلى هذين العقلين المدرَّبين جيدًا، يجب أن تكون قصته هي أشعةَ الشمس التي تُبدِّد الضباب. لم يستخدم سوى الكلمات البسيطة، وقالها بصوتٍ ثابت النبرة وواضح، وساعده في ذلك أن رفيقيه كانا يستمعان إليه محبوسَي الأنفاس، وشعر للحظة غير مسبوقة بمثل ما يشعر به الفنان عندما يحقِّق نجاحًا. أخبرهما عن أرقه، ونظره في ساعته، ورفعه للستائر. وتخيَّلا معه أنوار الطابق الأول وهي ترتعش في منزل روبن ويبستر، والأنوار التي سطعت من نوافذ المنزل الأبيض فوق التل. وخرجا معه إلى الشرفة المظلمة وطرقا البابَ الزجاجي لغرفة البرج. ورأيا معه الأنوار خلف الستائر وهي تنطفئ على الفور، وعادا معه إلى غرفة نومه، وشاهدا معه أنوار النوافذ فوق التل وهي تنطفئ الواحدة تلو الأخرى. حتى بعدما أنهى السيد ريكاردو قصته، ظل مستمعاه الاثنان واقفَين في مكانيهما لبرهة من الوقت، دون أن يتحرَّكا أو يتحدَّثا، وكأنهما تعرَّضا لصدمة.

كان هانو هو من كسر حاجز الصمت، قائلًا: «وغرفة البرج التي تتحدَّث عنها؛ آه، أذكر جيدًا تعاملك بلطف، ولكن، للأسف! لا مجال هنا للطف أو التحفُّظ؛ هي الغرفة التي حُملت الآنسة ديانا تاسبورو إليها صباح اليوم.»

لم يجد السيد ريكاردو بُدًّا من الاعتراف. فقال: «نعم. إنها غرفتها.» فضرب القاضي، من منطلق سخطه بسبب مدى صعوبة هذه القضية، سطح طاولته براحة يده اليمنى واستدار فجأةً نحو النافذة خلفه. ووقف في مكانه ينظر إلى الشارع. ثم رفع يده إلى المزلاج وبدأ يعبث به، وكان جسده يميل إلى الأمام والخلف، كان على وشك الجنون.

قال بصوتٍ خفيض مبحوح: «أؤكِّد لك أمرًا واحدًا يا سيد هانو قد يساعدك. المنزل فوق التل هو منزل السيد دو ميراندول الذي التقيته ليلة أمس يا سيد ريكاردو. إنه طالب شغوف، وعضو في الكثير من المجتمعات الثقافية، ومن المعتاد أن تظل الأنوار ظاهرةً عبر نوافذه حتى الفجر. ولكن …» ثم استدار ليواجه الغرفة، وقال: «مهمتنا الأولى واضحة، أليس كذلك؟ العثور على تلك الفتاة جويس ويبل، إذا أمكننا ذلك. أنا أُوكل هذه المهمة لك يا سيد هانو، وأثق تمامًا بأنك ستؤدِّيها على أكمل وجه. اعثر عليها من أجلي، سواء كانت حيةً أم ميتة.»

«حية!»

خرجت تلك الكلمة من بين شفتَي هانو في صورة صيحة عالية وعنيفة لدرجة أن صداها تردَّد في أرجاء الغرفة. ووقف منتصبًا، وعيناه تقدحان شررًا، وجسده الضخم من قمة رأسه حتى أخمص قدمَيه أصبح تجسيدًا للتحدي والإنكار. حتى إن السيد ريكاردو، الذي رأى الكثير من حالاته المزاجية، جفل من فرط حماسته. كانت صيحته ملتهبة. إنه لا يعتقد بأن جويس ويبل ماتت. كان مستعدًّا لقتال الموت نفسه من أجلها، مثلما فعل هرقل في المسرحية. حتى تيدون نفسه تأثَّر بمظهره.

فصاح مبتسمًا: «جيد. هذه هي الروح المطلوبة. حية إذن! أنا أعتمد عليك. نعم، حية بالطبع. ففي نهاية المطاف، إننا لا نعرف شيئًا. ربما كانت العدالة تحتاج هذه السيدة الشابة.» وتسلَّلت نبرة قاسية إلى صوت تيدون.

ثم وقف منتصبًا مثلما فعل هانو مواجهًا له صامتًا. وتساءل ريكاردو عما إذا كان الرجلان ليسا على الجبهة نفسها. لا ريب في وجود لمحة من التهديد في سلوك القاضي، ولمحة من البطولة في سلوك المحقق. كان القاضي يريد «دليله القاطع»، وألَّا يجب نسيان ذلك. وعلى الجانب الآخر، ربما لم تكن فورة غضب هانو سوى تعبير عن شغفه في حل القضية على أكمل وجه، وتقديم جميع الجناة إلى العدالة. حنى هانو رأسه في احترام لا ريب فيه.

وقال: «سأبذل أقصى ما في وسعي.»

دق تيدون الجرس، فدخل شرطي وقاد الزائرين إلى مدخل مبنى المحافظة. نظر هانو نحو نوافذ مكتب القاضي التي كانت تعلو رأسه بقليل.

وقال بنبرة تنم عن الاحترام فاجأت صديقه: «إنه رجل ذكي للغاية. تذكر كلماتي هذه! رجل ذكي للغاية! تذكر أني قلت ذلك.»

ومجددًا، هل كانت هذه الكلمات تنبع عن احترام، أم عن اعتراض؟ لم يستطع السيد ريكاردو أن يقرِّر، في الواقع، لم يتوفر له الوقت الكافي ليقرِّر. فقد أقدم هانو على ارتكاب مخالفة يتأذى منها الناس الحساسون الشديدو التدقيق. لقد أعطى لسائق السيد ريكاردو أمرًا من دون أن يستأذنه.

فقد صاح وهو يدخل السيارة: «إلى قصر سوفلاك.»

فقال السيد ريكاردو معترضًا: «هذه الرولز رويس سيارتي أنا.»

رد عليه هانو في بساطة: «حتى وإن كانت فورد. سيكون عليك أن تُقِلني إلى قصر سوفلاك.»

قفز السيد ريكاردو على مقعده، وقال في برود: «أخشى أنك لا تفهم ما أقول.»

قال هانو ضاحكًا: «بل أفهم!» ودفع إصبعه الضخم البدين بين ضلوع ريكاردو. وقال: «نعم، نعم، أنا أفهمك. إنه ذلك القاضي البارع هو مَن لا يفهمك. آه! آه! آه!» وهز إصبعه في صدر ريكاردو كما لو كان يوبِّخ طفلًا سيئ الخلق، وقال: «أنت تُخفي أسرارًا عني؛ نعم، نعم. أنت تنتقي ما تقول وما تُخفي؛ نعم، نعم. ولكني، هانو، أقول، لا، لا! لقد طُرح علينا سؤال، وعلى الفور أصبحنا نُشبه عنزة جبل ذاهلةً فوق تل.»

قاطعه السيد ريكاردو شاعرًا بالذنب: «محض هراء. لم أكن أُشبه عنزة الجبل. ولم أكن كذلك قط.»

واصل هانو حديثه: «كان السؤال كالآتي: «هل لاحظت ليلة أمس أي تغيُّر طرأ على الآنسة الفاتنة تاسبورو؟» ولم تستطع أن تجيب السؤال. هذا يعني أنك لاحظت تغيرًا يا صديقي؛ وستخبر هانو الفيل الفضولي العجوز عن هذا التغير.»

قال السيد ريكاردو: «أنا لا أمانع إخبارك، ولكن التغير الذي لاحظته لا يمت بصلة للقضية.»

«دعني أنا أقرِّر ذلك. مَن يعلم.»

«حسنًا إذن. في لندن، كانت ديانا تاسبورو هي السيدة طوال الوقت. وكانت السيدة تاسبورو هي التابعة، مجرد وصيفة لا تملك أي سلطة. أما في سوفلاك، انقلبت الأدوار. أصبحت السيدة تاسبورو هي سيدة القصر، وأصبحت فظةً للغاية، وكثيرة المطالب للغاية، وأصبحت ديانا وصيفةً خاضعة خانعة. وأذهلني هذا التغير.»

«أوه!»

اعتدل هانو في جلسته داخل السيارة.

وقال: «ولكن هذا تغير مهم يا صديقي، تغير مهم للغاية. دعنا نحاول فهمه. لقد منح شيء ما المرأة المسنة سلطةً على ابنة أخيها. ربما عرفت شيئًا منحها هذه السلطة، أليس كذلك؟ ربما كان الأمر ابتزازًا عائليًّا يحدث بكل هدوء وأناقة، أليس كذلك؟»

أجابه السيد ريكاردو: «لا.» كان واثقًا بأن هذا التفسير ليس صحيحًا. واستغرق بضع لحظات ليُكوِّن الكلمات التي تمكِّنه من التعبير عمَّا يشعر به. ثم قال: «أعتقد أن ديانا كانت مشغولةً بفكرةٍ ملكت وجدانها. فكما ترى، لم يكن ثمة أي منافسة بين ديانا والسيدة تاسبورو؛ لا يوجد أي صراع على السلطة. فقد امتلكتها ديانا من دون معارضة، وقبلت السيدة تاسبورو دون معارضة. يبدو لي أن ديانا تخلَّت عن هذه السلطة لأنها لا تستحق العناء، ولأنها تسبِّب لها الكثير من المشكلات، ولأنها تتداخل بطريقة ما مع الأمر الذي يستحوذ على وجدانها. واستغلَّت السيدة تاسبورو ذلك واستحوذت على كامل السلطة. لطالما كانت ديانا انطوائيةً إلى حدٍّ ما، وبدا لي ليلة أمس أنها لم تلحظ حتى إنها لم تعد الملكة، بل أصبحت الوصيفة.»

«آه!»

جاء هتاف هانو تعبيرًا عن الفهم وليس الدهشة. ثم أضاف في هدوء: «هذا التغير أثار اهتمامي للغاية.» ثم عاد ليسند ظهره مجدَّدًا في مقعده ويجلس صامتًا حتى توقَّف أمام الممر المسقوف الوردي في قصر سوفلاك. حينئذٍ، عادت له الحياة مجددًا. وقال وهو يقفز إلى خارج السيارة:

«سأكون ممتنًّا لك لو دخلت المنزل قبلي وأخبرت الجميع بعودتنا. ربما تكون الآنسة تاسبورو أول من تلتقيه. لقد سبَّبت قدرًا كبيرًا من المعاناة لهذه الشابة. وربما تُصدم إذا وجدتني واقفًا أمامها مُجدَّدًا على حين غِرة.»

كانت ثمة أوقات يُظهر فيها هانو قدرًا مدهشًا من الرقة. فحدَّث السيد ريكاردو نفسه بفخر قائلًا: «في نهاية المطاف، أحدثت صداقتنا الطويلة تغيُّرًا فيه نحو الأفضل.» وافق ريكاردو على خطة هانو بلا تردُّد، واتجه نحو باب المنزل بمفرده. ولكنه لم يكد يصل إلى منتصف الطريق المؤدي إليه حتى استدار ورأى أن هانو قد دخل في محادثة مع سائق ريكاردو. اتخذت أفكار ريكاردو مسارًا مختلفًا وانتقاديًّا.

فكان يفكِّر في تلك اللحظة: «لقد استولى على سيارتي، والآن سائقي! إنه يتصرف وكأنه يمتلكهما! لا ريب في أني لست إقطاعيًّا، ولكن حتى الحريات المدنية لها حدود.»

أراحته سخريته قليلًا، ولكنه استدار مرةً أخرى عندما وصل إلى الباب الأمامي. وكانت المحادثة عند الممر المسقوف لا تزال قائمة. واتضح للسيد ريكاردو أن هانو أرسله إلى المنزل قبله، ليس من منطلَق رقة مشاعره، بل ليُوفِّر لنفسه الفرصة كي ينفرد بسائقه في محادثة خاصة. لذا، انتظر في الشرفة حتى لحق به هانو، وكانت قَسَمات وجهه تنم عن الكثير من العجرفة والاستياء. ولكن لوَّح هانو بيده في حالة من اللامبالاة.

«أعرف، أعرف يا صديقي. لقد كانت حيلة. نعم، إن أخلاقي في حالٍ يُرثى لها. ولكن يجب أن تتقبَّلني كما أنا. فكما تقول العبارة الاصطلاحية، كل إناء بما فيه ينضح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥