مَن إيفيلين ديفينيش؟
ظل هانو مشغولًا طوال نصف ساعة مع المفوض هيربستال ومساعده مورو، في غرفة خُصِّصت لهم. تُرك السيد ريكاردو بمفرده، وبدأ يدخل في متاهة من الشكوك، والتخمينات، والظنون، والجهل، وتناول غداءه وجلس في المكتبة أمام النافذة. في منتصف المسافة بين الشرفة وسياج الشُّجيرات عند الجزء الأدنى من الحديقة، وقف شرطي عند حافة حوض زهور مستدير. كانت ثمة ثلاث كومات صغيرة من التراب على سطح حوض الزهور، كما لو أن حيوان خُلد كان يحفر هناك، وعندما فكَّر جوليوس ريكاردو في هذا الحيوان النشيط شعر بالانزعاج وهبط عليه إلهام. فأخذ ورقةً من على حامل الورق ليرسم جدولًا يُنظِّم فيه أفكاره. رسم خطًّا فاصلًا من قمة الورقة إلى قاعدتها يقسمها نصفين، ووضع الحقائق، التي عرفها حتى تلك اللحظة، على اليسار، ووضع التساؤلات والشكوك على اليمين. بعد نصف ساعة من اللهاث وإمعان الفكر، كتب الخلاصة الآتية، وفوقها كتب العنوان التالي: «قضية قصر سوفلاك»:
قضية قصر سوفلاك

بينما كان السيد ريكاردو يكتب هذه الكلمات الأخيرة العديمة الجدوى، سمع صوت هانو يصدر من فوق رأسه.
قال: «ها نحن ذا! كففنا عن إلقاء الأحكام! اطمئن. ماذا يمكننا أن نفعل عندما لا تكون ثمة أحكام للكف عنها؟ ويجب وضع بعض الأسئلة في الاعتبار. أتفق معك تمامًا في ذلك.»
احمرَّ وجه السيد ريكاردو غضبًا، ورفع عينَيه نحو هانو في غطرسة، وقال: «لقد دوَّنت هذه الملاحظات لإرشادي أنا وحدي.»
«إنها أمامي، وهي قيمة وكأنها كُتبت لإرشادي أنا.»
«لقد قرأتها من فوق كتفي دون أن تستأذن.»
قال هانو في هدوء وهو يمد يده ويجمع الأوراق: «لم أكن أقصد ذلك. هل تسمح لي؟ بالطبع تسمح! يا له من سؤال!»
لا ريب في أن السيد ريكاردو كان ينوي عرض هذا المُلخَّص السريع لأفكاره غير المحسومة على هانو في وقت ما. فقد أدرك أن محقق جهاز الأمن العام يحتاج إلى أكبر قدر ممكن من المساعدة من أصدقائه قبل أن يتعمَّق في تلك المعضلة الصعبة. كما أنه كان سعيدًا بملاحظاته. فقد كان شكلها مع ذلك الخط الفاصل يحمل نكهةً أدبية. ثمة بعض الصفحات من رواية روبنسون كروزو تحكم على «المزايا» و«العيوب» بِناءً على معايير العدالة نفسها. ولكن هذا لم يمنع شعوره بالتوتر بينما كان يراقب هانو وهو يقرؤها. كان قد تعرَّض للسخرية والحط من قدره بطريقة قاسية من قبل. وكان مسرورًا لمَّا رأى صديقه يقرأ الملاحظات ببطء وعلت وجهَه نظرةٌ جادة.
وبعدما فرغ هانو من القراءة، طبَّق الورق وأعاده إلى ريكاردو وابتسامة تقدير تكسو شفتَيه.
وقال: «يجدر بك أن تضعها في جيبك، وأن تحتفظ بها في مكان آمن حتى لا يراها أحد سوانا. أؤكِّد لك يا سيد ريكاردو أنك تقريبًا كتبت في هذه الأوراق أهم سؤال على الإطلاق.»
كان السيد ريكاردو من جانبه يشعر بأنه لم يكتب سؤالًا واحدًا مهمًّا، بل الكثير من الأسئلة المهمة، ولا يمكن استخدام كلمة «تقريبًا» في طريقة كتابته لها. فقد كانت أسئلةً مباشرة، وموجزة، وبليغة. ولكن، لا ريب في أن هانو لم يكن ليقر أبدًا بتميُّز أحد عليه. فقد كان ذلك بعيدًا كل البعد عن طبيعة تفكيره. كان ريكاردو معتادًا على تجاهل هذا العيب في شخصية صديقه المحقق، فابتسم بلطف.
وقال: «لا ريب في أنك تقصد السؤال عن سبب قطع يد إيفيلين ديفينيش بعد وفاتها.»
ولدهشة ريكاردو، هز هانو رأسه نفيًا بقوة، وقال: «لا، إنه سؤال مهم، في الحقيقة، نعم، ولكنه سؤال بَدَهي للغاية.»
أخرج السيد ريكاردو ملاحظاته من جيبه وبدأ يدرسها بتدقيق شديد.
ثم قال: «إذن، لا بد أنه السؤال عن تاريخ إيفيلين ديفينيش الماضي.» ولكنه كان مخطئًا هذه المرة أيضًا.
«لا. السؤال الذي طرحته أكثر ذكاءً من ذلك. بالنسبة إلى ماضي السيدة ديفينيش، فإنه يندرج ضمن الأمور الروتينية. من المؤكَّد أنه يجدر بنا أن نعرف عنه معلومات موثوقةً على الفور، لقد تعافت الآنسة تاسبورو من صدمة الأخبار السيئة التي أخبرتها بها، وأصبحت قادرةً على استقبالنا.»
فتح هانو مزلاج الباب الفاصل بين المكتبة وغرفة الاستقبال وعبره مع ريكاردو مسرعَين. ولكن كانت الغرفة فارغة، وتوقف هانو فجأة. كانت النوافذ المطلة على الشرفة مفتوحة، واقترب منها هانو بخطواته التي لا صوت لها ونظر عبرها إلى الخارج بحذر. ثم عاد إلى السيد ريكاردو بابتسامة غريبة مرسومة على شفتَيه.
وقال بصوتٍ منخفض: «كان من الأفضل أني لم أقرأ ملاحظاتك بصوتٍ عالٍ يا صديقي. ما الذي تحدَّثنا عنه؟ نعم، يد إيفيلين ديفينيش المقطوعة وماضيها، هذا كل ما تحدَّثنا عنه.»
بدا جليًّا أنه أصبح مطمئنًّا؛ فقد رفع صوته قليلًا لأعلى ممَّا اعتاد عليه.
«لا ريب في أننا سنجد تلك الشابة في الشرفة،» ثم خطا عابرًا النافذة.
أدرك السيد ريكاردو سبب قلق هانو عندما تبعه. فقد كانت ديانا تجلس على مقعد حديقة بجانب نافذة المكتبة المفتوحة، ومن المؤكد أنها سمعت كل كلمة قالاها. ولكنها رفعت رأسها من دون أن تبدو عليها ذرة إحراج. على الرغم من شحوب وجهها، تمكَّنت من استعادة حسن تعاملها، ورسمت على وجهها شبح ابتسامة. ولكن عينيها كانتا لا تزالان تُطِلُّ منهما تلك النظرة التي لا تخطئها العين، نظرةُ مرضٍ عضال أو ضِيق لا مثيل له.
قالت: «أعتذر عما بدر مني من حماقة صباح اليوم يا سيد هانو.»
«أبدًا يا آنسة، أنا من يجب أن يعتذر. إن هذا الخبر المفاجئ القاسي عن اثنتين من أفضل صديقاتك، إحداهما ترقد جثةً مشوهة في مشرحة عامة، والأخرى اختفت، من شأنه أن يُفقد أي أحد وعيه.»
كان هانو يتحدَّث بطريقة رسمية أصبحت ضمن طباعه، ولكن كان السيد ريكاردو يرى أنه يكرِّر الخطأ الذي اعتذر عنه سابقًا. ردَّت عليه ديانا ببعض التردُّد: «أنت تقول اثنتين من أفضل صديقاتي يا سيد هانو. ولكن في مثل هذه الأمور الشديدة الخطورة، من الأفضل أن نتحرَّى الدقة. سأعترف لك بأنه عندما أخبرني مساعدك بأن الفتاة التي ماتت هي إيفيلين ديفينيش، وعلى الرغم من أني سأبدو متبلِّدة المشاعر؛ فقد أحسست براحة غامرة. فجويس واحدة من أعز صديقاتي.»
ردَّ عليها هانو برفق: «مَن قد يلومك يا آنسة؟ دعونا نُقر بأننا بشر رغم كل شيء.»
«مساعدك، السيد …»
تدخَّل هانو عندما لم تستطع تذكُّر الاسم، قائلًا: «مورو.»
«نعم. أخبرني السيد مورو في الوقت نفسه بأنك تريد رؤيتي. ألن تجلس؟ وأنت أيضًا يا سيد ريكاردو.» التفتت نحوه للمرة الأولى خلال هذا اللقاء، وعلى الرغم من الابتسامة الشاحبة على شفتَيها، كانت تُطِل من عينيها نظرةٌ قاسية كالحديد عندما التقت أعينهما.
قال ريكاردو ببعض الارتباك: «هذا إن لم أكن أعيق حديثكما.» لم يكن ثمة شك في سلوكها العدائي تجاهه. كانت تراه متطفلًا يتعلَّق بذيل محقِّقه المحبوب ويدس أنفه في أمور شديدة الأهمية يجب ألا يعرفها شخص تافه مثله.
ردَّت عليه ببرود: «السيد هانو هو من يمكنه أن يحدِّد مَن يعيق المحادثة ومن لا يعيقها.» ثم هبَّ هانو لنجدة الرجل المسكين.
وقال بنبرة احتجاج لطيفة لم تُجِب عليها ديانا تاسبورو: «لقد ساعدني السيد ريكاردو صباح اليوم في أكثر من اتجاه.»
جرَّ الرجلان مقعدَي حديقة حديديَّين بالقرب من أريكة ديانا وجلسا.
ردَّ عليها هانو برفق: «مَن قد يلومك يا آنسة؟ فهمت من حديثك أن تلك السيدة الشابة ديفينيش ليست من صديقاتك المقرَّبات، ولكنها حلَّت ضيفةً عليك هنا، ولا ريب في أنك تعرفين شيئًا عن ماضيها.»
التفتت نحوه وقالت: «بالطبع.» ولكنها ظلَّت صامتةً لدقيقة على الأقل تنظر إلى هانو متأملةً وإلى السيد ريكاردو وكأنه غير موجود، ثم تنظر إلى هانو مجددًا.
تابعت ديانا حديثها في اندفاعة مفاجئة: «أريد منك أن تصون ذكراها قدر الإمكان. فقد لاقت الأمرَّين خلال السنوات الأخيرة من حياتها. وهذا هو السبب الذي دفعني لأن أطلب منها الإقامة معي في سوفلاك هذا العام. إنها ابنة دينيس بلاكيت، رجل مال ذي مصالح واسعة وثروة هائلة، وصديق جيد للغاية، على ما أعتقد، وكحال الكثير من الرجال الذين يكونون أصدقاء جيدين للغاية، كان عدوًّا لا يعرف الرحمة. لا أعتقد أن إيفيلين كانت حسنة الحظ منذ بداية حياتها.»
سألها هانو: «هل كان يكرهها؟»
«بل على النقيض، كان يعشقها. تُوفيت والدتها عندما كانت في السادسة أو السابعة من عمرها، وهي طفلة وحيدة نشأت وسط المربيات والخدم الذين كانوا مكرَّسين لتلبية جميع نزواتها وإلا يُطردون من عملهم. جعلها دينيس بلاكيت معبودته. فقد أطلق على يخته اسمها، وكذلك على مُهرته المميزة، وعلى بقرته من نوع جيرسي الفائزة بجوائز، وعلى نوع من زهور الأوركيد من ابتكاره، وحتى عندما كانت طفلةً صغيرة، كانت تجلس على رأس مائدته. كان يُطري على جمالها في وجهها. كان كل ما تقوله مميزًا، وكل ما تقوله ذكيًّا. لم يكن كل ذلك أقصى تعبير منه عن عشقه لها. كان ثمة شيء ما عجيب، حتى هذه الكلمة لا تعبِّر عمَّا أعني! كان ثمة شيء غير طبيعي. نعم، كان دينيس بلاكيت، رغم صرامته العملية، يتصرَّف بسخافة في وجود إيفيلين. سأضرب لك مثالًا. وقد رأيته يحدث بنفسي، فقد أقمت في منزله ذات مرة …» ثم صمتت ديانا فجأة. وعادت تقول: «ولكنك تريد بالطبع أن أتحدَّث عن الزواج وليس عن هذه التفاهات.»
قال هانو برجاء صادق: «لنتحدَّث عن الزواج بعد ذلك، نعم. ولكن تحدَّثي عن هذه التفاصيل أولًا، من فضلك. أنتِ ترين أنها تفاهات يا آنسة. أما أنا، فلا أفعل. هذه التفاهات تساعدني على صُنع صورة للشخصية. وكيف سنتمكَّن من التوصل إلى الحقيقة في قضية غامضة للغاية مثل تلك إلا إذا درسنا شخصيات المتورطين فيها، فما كانوا عليه في الماضي هو ما أصبحوا عليه حاليًّا.»
قلما رأى ريكاردو هانو متلهِّفًا ومُصرًّا بهذه الدرجة مثلما هو الآن. فجلس منحنيًا مسندًا مرفقيه على ركبتيه، وكان وجهه بملامحه القوية ووضعية جسده المنتبهة يطالبان أن تبدأ ديانا حكايتها، فقال: «أخبريني بالمثال من فضلك.» أومأت ديانا برأسها موافقةً وواصلت حديثها قائلة: «حسنًا، إليك المثال. كان دينيس بلاكيت يمتلك منزلًا ضخمًا في مورفين على لسان مول البحري. كان المنزل يحتوي على سلم عالٍ ذي درجات قصيرة عريضة من خشب البلوط الأسود اللامع. كان يهوى … لا، فكلمة يهوى أقل كثيرًا من التعبير عن شعوره … كان شغوفًا برؤية إيفيلين مرتديةً أجمل ملابسها وهي تهبط هذا السُّلم برقة. كان يقف عند قاعدة السُّلم في بهو المنزل، ويُصحِّح لها خطواتها، كما لو كان مدرب رقص. وإذا ما خطت خطوةً غير سليمة أو أومأت بإيماءة غير مريحة، كان يرسلها إلى قمة الدرج مجدَّدًا ليُعيد الكرة من بدايتها. لا ريب في أنها كانت تسُر العين؛ فقد كانت رشيقة، ويانعة، وشابة، وكانت تلمع في ملابسها الجميلة وسط الخلفية السوداء، ولكن جعلني المشهد برمته — ماذا يجدر بي أن أقول؟ — غير مرتاحة. رأيت أن كل ما يحدث خطأ. هل تفهم ما أقصد؟»
أجاب هانو: «نعم.»
«عليك أن تفهم أيضًا أن إيفيلين كانت ستشب كملاك بأجنحة فضية لو لم تنشأ مغرورة، وعنيدة، ومستعدةً لدفع ثمن حماقاتها أيًّا كانت الطريقة التي تُسدِّد بها هذه الحماقات. كان عيد ميلاد إيفيلين الحادي والعشرون في شهر أغسطس. أحضر دينيس بلاكيت جمعًا غفيرًا من أصدقائه في مورفين للاحتفال بهذه المناسبة. ظل المنزل مزدحمًا بالناس طوال أسبوع كامل قبل موعد عيد ميلادها. كانوا يصطادون الطيهوج في النهار، ويرقصون في الليل، ويقيمون احتفالات مبهجة. كنت حاضرة، ولم أتخيَّل أن رجلًا قد يكون سعيدًا وفخورًا بدرجة تضاهي سعادة وفخر دينيس بلاكيت. وفي صباح يوم ميلاد إيفيلين. أُرسلت رسالة إلى كل ضيف من ضيوفه عند موعد الإفطار، ولكن لم يره أحد، وبحلول عصر ذلك اليوم، كان المنزل فارغًا ولم يبقَ سواه. ففي ساعة متأخرة من الليلة السابقة، تسلَّلت إيفيلين برفقة جوليان ديفينيش، شاب كان يدين بكل شيء إلى بلاكيت، إلى المرفأ الصغيرة في اللسان البحري، وأبحرا في قارب صغير إلى أوبان وأخذا أول قطار إلى لندن، حيث تزوجا.»
قاطعها هانو قائلًا: «ولم يغفر لها السيد بلاكيت هذه الخيانة قط.»
«البتة. قلت لك إنه عدو لا يعرف الرحمة. وطرد إيفيلين من حياته كاملة. وظل يعيش بمفرده في منزله الضخم في مورفين حتى أواخر فصل الخريف. ثم عاد إلى لندن، وبدأ العمل من أجل تحقيق هدف واحد، وهو تدمير ديفينيش. آه، لم يكن الأمر صعبًا، ولم يستغرق مدةً طويلة. إذا ما تاجرتَ مع ديفينيش، فلن تُتاح لك فرصة التجارة مع دينيس بلاكيت. إذا ما اهتممت بأي من أعمال ديفينيش، كنت ستجد أسهمك تترنح من يوم إلى آخر حتى تنتهي تمامًا. وبدأ المنزل الصغير الفاخر في حي مايفير يتلاشى شيئًا فشيئًا. ثم انتقلا إلى أحد الأكواخ الحمراء في سربيتون. وهذا أيضًا تلاشى، وأصبحت شقةً مكونة من ثلاث غرف في سيدنهام هي منزل الفتاة ذات الفساتين اللامعة ودرج خشب البلوط في مورفين. وبالطبع، نشبت بينهما شجارات لا تنتهي، وكان كل منهما يلقي باللوم على الآخر. وفي خلال عام، كان ديفينيش قد أفلس وأطلق النار على رأسه.»
أضاف هانو: «حتى هذا لم يكن كافيًا.» كانت هناك نبرة من الإعجاب المتردد في صوته. لطالما عاش وسط عقول المجرمين المتقلبة والمراوغة، لدرجة أنه لم يستطع أن يمنع نفسه عن احترام الإتقان، حتى لو كان إتقانًا في القسوة.
وافقت ديانا على ما قال: «نعم، هذا لم يكن كافيًا. راسلت إيفيلين والدها. كانت قد أصبحت فقيرة معدِمة. وجاءها الرد من قِبَل موظف وخطاب مكتوب بالآلة الكاتبة. إذا ما قبلَت العرض، فستحصل كل ثلاثة أشهر على ١٢٥ جنيهًا لما تبقى من حياتها. كان هذا منذ ثلاث سنوات. كان العيش في أوروبا بالنسبة إلى إيفيلين أرخص من العيش في إنجلترا. فسافرت، والتقيتها للمرة الأولى منذ حفل عيد ميلادها في اسكتلندا، هذا الصيف في بياريتز.»
«هل كانت — أرجو أن تعذريني على هذا السؤال — وحيدة؟»
«وحيدة تمامًا.»
«ولقد التقيتها مصادفةً في كازينو، أليس كذلك؟»
بدا أن ديانا كانت على وشك أن تقول «نعم»، ولكنها عادت لتفكر للحظات ثم أجابت: «لا، دعني أتذكر. من المؤكد أني لم ألتقها في كازينو. أظن أننا التقينا في ملعب جولف. كانت تقطن في سكن في حي رخيص من المدينة، وطلبت منها أن تقيم معي ثم أحضرتها معي إلى هنا.»
قال هانو بانحناءة يسيرة من رأسه: «كان هذا كرمًا كبيرًا منك يا آنسة. والآن، أخبريني عن صديقتك المقربة الحقيقية، الفتاة الأمريكية، جويس ويبل.»
لوَّحت ديانا تاسبورو بذراعيها فوق رأسها دلالةً على إحباطها. وقالت: «قد يبدو الأمر غريبًا يا سيد هانو، ولكن ما أعرفه عن صديقتي المقربة الحقيقية أقل بكثير مما أعرفه عن تلك المرأة التي تربطني بها معرفة سطحية. ما أعرفه عنها هو أنها وشقيقتها وحيدتان في العالم، وأنهما جاءتا من أمريكا منذ عامين، وأنهما تمتلكان بئر نفط في أرضهما في كاليفورنيا، وأن شقيقتها تزوجت مؤخرًا وعادت إلى أمريكا، ولا أحد في العالم يعرف عنها أكثر مما أعرف. لطالما كانت جويس كتومةً فيما يتعلق بحياتها؛ حتى معي. كانت تتحمس كثيرًا للحديث عن أي شيء تفعله وتراه هنا، وعن الأشخاص الذين تلتقيهم. ولكن لم أكن أستطيع حملها على التحدث عن حياتها أو وطنها.»

وافقها هانو قائلًا: «نعم، هذا غريب،» ولم يُثقل ديانا بالمزيد من الأسئلة. ثم نهض من مقعده وقال في امتنان: «يجدر بي أن أشكرك يا آنسة. فإن ما أخبرتِني به سيُفيدني كثيرًا. ثمة أمر بسيط أُريد أن أوصيك به في المقابل. يجدر بك أن ترسلي برقيات إلى أمريكا وإلى هذا السيد القاسي بلاكيت …» ثم قطع وصيته لها لكي يقول: «أتعلمين، أُحس بتعاطف كبير مع هذا الرجل العنيد؟ لقد كرَّس حياته من أجلها، ولم يتلقَّ في المقابل إلا الخيانة أولًا، ثم هذه النهاية المأساوية. سيكون من الأفضل أن يسمع الخبر منك قبل أن يعرف من الصحف. ثمة جانب مشرق في الأمر برمته، أليس كذلك؟ نحن هنا في سوفلاك بعيدون عن الصحف. لذا، أوصيك يا آنسة بأن تستقلي سيارتك وتذهبي إلى بوياك أو مكتب التلغراف الأقرب أيًّا كان، وترسلي الرسائل بنفسك. فهذا سيمنح الآنسة شيئًا تشغل به وقتها.»
حدَّقت به ديانا بعينين ذاهلتين. ثم برقت عيناها واندفع الدم سريعًا إلى وجهها. فعلَّق هانو مبتسمًا. قال: «آه، يبدو أنك سعيدة بأني طلبت منك تولي هذه المهمة.»
ردَّت عليه في ارتباك يملؤه الحماس: «سعيدة، لا، بل مسرورة — نعم — كثيرًا. لم أعُد أطيق الجلوس بلا جدوى في هذه الشرفة أنظر إلى نهر جيروند، وهذا الحارس بجانب حوض الزهور، من دون أن أفعل شيئًا والأفكار تدور في رأسي بلا توقف! هذا مريع! أشكرك! سأُحضر قبعتي.» نهضت من مقعدها وقد عادت الحياة تدب في أوصالها، وعَدَت عبر النافذة المفتوحة إلى داخل غرفة الاستقبال.
سار السيد ريكاردو إلى نهاية الشرفة مشغولًا بأفكار تتصارع داخل رأسه. كان يُحس بكراهية ديانا واحتقارها له، ومن ثم أصبح يميل لأن يراها بطريقة سيئة. من جانب آخر، كان شخصًا متشككًا بطبيعته، وأثارَ ارتياحها الطاغي أفكارًا معينة داخل ذهنه. ومن ثَم، كان متحيِّرًا بين أن يحذِّر هانو من خلال أن يطرح عليه سؤالًا غير مباشر على غرار: «هل من الحكمة أن تدعها تذهب من دون حارس يكون معها في السيارة لحراستها؟» أو أن يهنِّئه على مراعاته الرقيقة. ولكن تغلَّبت طبيعة السيد ريكاردو عليه، فقال مشجِّعًا هانو بمجرد أن انضمَّ إليه: «كانت هذه لفتةً رائعة منك يا صديقي.»
أجابها هانو: «نعم، كانت هذه لفتةً رائعة مني.»
«من شأن الخروج بالسيارة في الهواء الطلق أن يُفيدها كثيرًا.»
قال هانو مبتسمًا: «نعم، نعم، ولن يكون في المنزل سوانا، وهذا سيُفيدنا كثيرًا أيضًا.»
التفت السيد ريكاردو نحوه ذاهلًا. إذن، كان هذا هو الهدف الذي قام من أجله بكل هذا التظاهر برقة المشاعر! ولكنه لم يقل شيئًا لانتقاد هذا الخداع. بل وقف مكانه مشدوهًا. فقد كان ينظر داخل غرفة الاستقبال ورأى رجلًا يتحدَّث إلى ديانا. كان الرجل يقف موليًا ظهره إلى النافذة الطويلة، والقسم الأكبر منه يختفي في ظل الغرفة؛ لذا كان من السهل أن تخطئه العين. ولكن لم تراود السيد ريكاردو أدنى ذرة من شك.
فقال هامسًا: «لقد حضر في نهاية المطاف.»
سأل هانو وهو يتجه ناحية النافذة: «من تقصد؟»
«هناك، انظر! إنه قاضي التحقيقات، السيد تيدون.»
قال هانو ببطء وبصوتٍ جاف: «آه! أنت ترى أنه السيد تيدون، أليس كذلك؟» وفي تلك اللحظة، استدار الرجل ليُواجهه.
لم يكن الرجل قاضي التحقيقات على الإطلاق، بل كان السيد روبن ويبستر، مدير كروم العنب. سار الرجل نحو النافذة.
وقال: «سيد هانو، إذا كنت في حاجتي، فسأُقل الآنسة تاسبورو إلى بوياك. يمكن أن يستمر العمل في الأحواض من دوني. هناك مشرفون خبراء في العمل.» ثم نظر إلى ذراعه المُعلَّقة في رقبته بحامل وقال: «أعتقد أنه لا يجدر بي أن أقود سيارةً بسبب يدي المصابة. ولكن بعد الصدمة التي تلقَّتها الآنسة تاسبورو هذا الصباح، لن أطمئن لأن تقود السيارة بنفسها دون مرافق. لا أريد وقوع أي مأساة أخرى في قصر سوفلاك.»
ردَّ هانو بأسلوب في غاية الود واللطف: «أفهم ذلك جيدًا يا سيد ويبستر. عليك أن توصل هذه الشابة إلى بوياك وتساعدها في إرسال البرقيات. وبالنسبة إليك، أرجو ألَّا تعتقد أني وقح. لا، ولكني سمعت صرختك القصيرة الملتاعة صباح اليوم. يجب ألَّا نفقد أعصابنا، أليس كذلك؟ سنُحاول أن نعثر لك على صديقتك ذات الاسم الجميل.» وربت على كتف روبن ويبستر بود.
قال ويبستر متظاهرًا بالاطمئنان: «لن أفقد أعصابي.» ولكن كانت قسمات وجهه تفضح ألمه وحزنه. ثم صاح بصوتٍ خفيض: «ولكن، بالله عليك، أسرع! أسرع! لقد أصبح كل مَن في هذا المنزل على شفا الانهيار.» ثم تمالك أعصابه سريعًا، واحمرَّ وجهه كحال الرجال عندما يُضبَطون وقد فضحتهم انفعالاتهم.
قال هانو في جدية: «أخشى أيضًا أن تسبِّب لك يدك المجروحة ألمًا مبرِّحًا.»
ردَّ روبن ويبستر بهزة من كتفه: «إنها تنبض حقًّا، مثلما تفعل جميع الجروح. ولكن لن يستمر ذلك إلا ليوم أو يومين. إذا كانت هذه هي أكبر مشكلاتنا، فلا حاجة بنا للتفكير فيها.» ثم تحول إلى موضوع آخر، وقال: «أرجو أن تتحدَّث إلى السيد المفوض هيربستال ليسمح لنا بإخراج السيارة من المرأب.»
تراجع هانو في دهشة، وقال: «بالطبع سأفعل، على الرغم من أنه لا حاجة لذلك. فلن يعارضك السيد هيربستال. لك كامل الحرية في الذهاب أينما تريد، وكذلك الآنسة تاسبورو.»
بعد ذلك، دخل بخطًى سريعة إلى المنزل ثم إلى الغرفة في الجناح حيث يجلس المفوض يكتب تقريره. عاد إلى الشرفة مرةً أخرى برشاقة تُناقِض تمامًا تذمره من تقدمه في السن، ووجد السيد ريكاردو غارقًا في التفكير.
فقال: «كنت أفكر. يبدو أن الآنسة تاسبورو لا ترحِّب بوجودي. ومن الأفضل أن أحزم حقائبي وأعود إلى بوردو.»
ولكن لم يكن هانو على استعداد لسماع كلمة واحدة من هذا الحديث، فقال: «اسمع! ليس هذا وقتًا مناسبًا للحفاظ على الكرامة! أنا أحتجزك هنا، أنا، هانو. وسأوضح ذلك للآنسة تاسبورو بنفسي. دع العزيز تومسون يضع ياقةً ورقية واحدة في حقيبتك، وسأعتقلك بعنف لا مثيل له. عليك أن تحزم حساسيتك في حقيبتك، ولا شيء آخر. أعتقد أنك فهمت ما أعني. ياقة ورقية واحدة؛ اعتقال. أنت مفيد لي، هل تُقدِّر ذلك؟» استخدم نبرةً استفسارية طبيعية وصادقة تمامًا. نعم، كان مندهشًا من أن السيد ريكاردو قادر على مساعدته. ولكن تلك هي الحقيقة. تفحص صديقه ولم يرَ شيئًا قد يفسِّر هذه الحقيقة الاستثنائية.
فكرَّر ما قال: «نعم، لقد قدَّم السيد ريكاردو يد المساعدة لهانو حقًّا.»
ابتسم السيد ريكاردو في تواضع. كان يشعر براحة غامرة لأنه لم يُسمح له بأن ينسحب من تلك المحنة المأساوية التي لا تمر ساعة منها دون حدوث أمر شائق، الغموض الجديد الذي يود سبر أغواره. فقال لنفسه بمعنويات مرتفعة: «ها أنا ذا أُطارد مجددًا مجرمين نحو هلاكهم. إنهم يصطادون في الأراضي الوسطى. فليفعلوا!»
قال بخجل مصطَنع: «إن مساعدتك لَكلمة كبيرة. كنت محظوظًا أنني استطعت كشف بعض الحقائق الغريبة أمام ناظريك …»
قال هانو: «بل فعلت أكثر من ذلك.» ثم غرق في تأملات مضطربة.
ابتهج السيد ريكاردو، وسأل قائلًا: «ماذا فعلت أيضًا؟ ماذا على سبيل المثال؟»
خرج هانو من تأملاته، وقال: «على سبيل المثال، نعم»، أدخل ذراعه داخل ذراع ريكاردو وقرَّب عينَيه منه. وقال: «على سبيل المثال، ما الذي جعلك تخلط منذ قليل بين التعس روبن ويبستر وقاضي التحقيقات؟ إن لهما البنية نفسها تقريبًا. ربما كان شعر أحدهما رماديًّا قليلًا، بينما شعر الآخر أبيض، ولكنه لن يبدو أبيض تمامًا في ظلمة الغرفة. نعم، نعم. ولكنك قفزت إلى تخمينك بثقة تامة، وتمسَّكت به. واقتنعت بأن هذه هي الحقيقة. السيد تيدون موجود في هذه الغرفة. والآن، ما الذي جعلك واثقًا لهذه الدرجة؟ هل يمكنك أن تخبرني؟ فكِّر جيدًا!» وهزَّ ذراع ريكاردو ليساعده على التفكير على نحو أفضل.
راجع السيد ريكاردو جميع التفاصيل في ذهنه. نعم، لا ريب في أنه كان واثقًا تمامًا. هل هي الملابس؟ لا، السيد تيدون يرتدي معطفًا أسود، وروبن ويبستر يرتدي معطفًا بنيًّا. ليس الأسود بالطبع. إذن، ما السبب الذي جعله واثقًا لهذه الدرجة؟
قال أخيرًا: «لا، لا يمكنني أن أخبرك بالسبب.»
واصل هانو حديثه قائلًا: «ولكن لم يحدث أي شيء أكثر تنبيهًا من صيحتك تلك منذ صباح اليوم. فمن دون هذه الصيحة، لم أكن لأرى …»
«ترى ماذا؟»
جعَّد هانو أنفه مبتسمًا. وقال: «ماذا رأيت؟ سأخبرك يا صديقي. في هذه القضية، أنت حامل الجرثومة. أنا أُصاب بالعدوى التي تنقُلها إليَّ من دون أن تدري.»
سحب السيد ريكاردو ذراعه بعيدًا في حدة، وقال: «هذا تشبيه غير لائق على الإطلاق.» ثم صمت. لم يكن هانو يسمعه. كان يرفع يده ويومئ برأسه نحو المنزل. فقد شق الصمتَ صوتُ هدير سيارة.
فصاح هانو: «لقد ذهبا. فلنسرع.»