سِيرة مُمهِّدة

بدأت بحثي في سيرة الكواكبي فرأيت أن أعود إلى تاريخ «حلب»؛ لأعرف الكواكبي من المدينة التي نمَّته وأنشأته، وأعرف من تواريخها وأحوالها أين تقع المزيَّة التي كان لها الفضل في نشأته وتفكيره والاتجاه به إلى وجهة حياته.

ويعلم قرَّاء العربية أن مدينة حلب إحدى المدن «المخدومة» من الناحية التاريخية بين مدن الشرق العربي القريب، ونعني «بالمخدومة» معناه في اصطلاح العرف الحديث؛ ومعناها في هذا الاصطلاح أنها مدينة لقيت من يخدمون تاريخها من أبنائها والنازلين بها من العرب وغير العرب، فكتبوا عن حوادثها وعهودها ومعالمها وأعلامها وطبيعة إقليمها وخيرات أرضها ما لم يتفق نظيره لغير القليل من مدن العالم القديم، فلم يَفُتهم من تسجيلاتها شيء توافر لمدينة غيرها، وما فاتها في هذا الباب فهو الذي فات المؤرخين الأقدمين أن ينظروا إليه على عادتهم في تسجيلاتهم ومحفوظاتهم عن كل مدينة وكل زمن، لا حيلة فيه للمؤرخ الحديث غير إتمام الرواية والخبر بالتفسير والتقدير.

إلا أنني رجعت إلى تاريخها في هذه المرة لأعرف «الكواكبي» غاية المعرفة التي تُستطاع من العلم بموطنه وماضيه، فلم أفرغ من مرجع واحد حتى تمثَّلت لي المزيَّة التي بحثتُ عنها، وبدا لي أنها كافية وحدها ولو لم تشفعها مزيَّة أخرى!

حلب مدينة حل وترحال غير منقطعة عن العالم، ولم تنفصل قط عن حوادثه وأطواره، كأنها المرقب الذي تنعكس فيه الأرصاد فلا تخفى عليه خافية، ولا ينعزل بينها عن دانية ولا نائية.

ولم أرني أخوض بعيدًا من الضفة في هذا البحر الزاخر بالأخبار والأنساب؛ لأعلم من أمر أسرتي وبلدتي أن أسوان لم تنفصل في عصر الكواكبي خاصة عن حلب، على ما بين البلدتين من بُعد المسافة بحساب الفراسخ والأميال.

إن أجدادي — لوالدتي — سلالة كردية تفرعت أصولها زمنًا بين ديار بكر وأورفة ومرعش، ورأيت آخِر من لقيته منهم يلبس العمامة الخضراء كما يلبس الطربوش العثماني والقلنسوة الكردية، ولم يزل بيت أخوالي في البلدة يُعرف ببيت الشريف، ويسجَّل في مكاتب البرق بهذا العنوان.

وكنت أسأل كبراء السن منهم مازحًا: من أين لكم هذا الشرف وأنتم سلالة أكراد؟ فكانوا يذكرون لي قصة طويلة عن اتصالهم بالمصاهرة بمن جاورهم من آل البيت في مدن الإيالة، ويذكرون جيدًا كل صلة لهذه المدن بعواصم الإيالات مع ارتباك العلاقة يومئذ بين الديار الكردية وعواصم الإيالات العثمانية، تارة إلى حلب وتارة إلى العراق.

وأقرأ في الكتب الأوروبية على الخصوص أحاديث شتى عن «الرءوس الخضر» في حلب، أولئك الذين يلبسون العمامة الخضراء ممن ينتسبون إلى آل البيت من جانب الآباء أو جانب الأمهات، ومن هؤلاء أكراد أمهاتهم عربيات.

وتنتسب إلى هذه الطائفة من لابسي العمامة الخضراء أسرة أسوانية أخرى، مضى على وفود كبيرها من موطنه أكثر من مائة سنة، وأذكره في أخريات أيامه بعمامته الخضراء وموكبه من أتباع الطرق الصوفية التي تتشعب فروعها في البلاد العربية والتركية، وهو مع اشتغاله بالتصوف تاجر ناجح ورأس أسرة ناجحة ينتمي إليها اليوم الطبيب والمحامي والموظف والتاجر ومالك العقار.

وقد وفد العسكريون والمدنيون من أصحاب هذه العمائم إلى الصعيد بعد ثورات دامية في ولاية حلب على ولاتهم الترك الذين أجلاهم جيش إبراهيم باشا عن الولاية بعد قليل، فلما أُعيدت هذه الولاية إلى الدولة التركية تعذَّر مقامهم فيها؛ فعادوا مع الجيوش المصرية، وأقام بعضهم في الصعيد وبعضهم في السودان.

ولعل «عبد الرحمن الكواكبي» الذي وُلد بعد هذه الحوادث بسنوات قلائل، كان يتحدث في صباه بحديث واحد عن نقابة الأشراف التي ادعاها غير أهلها في القسطنطينية، وعن حكام الترك الذين انتزعوا مناصب أبناء الوطن في الديار الكردية؛ وهو الحديث الذي ردَّده هؤلاء المهاجرون الحريصون على شارتهم وشارة أهليهم في بلادهم، وظلوا يرددونه على وتيرته حتى سمعناه منهم مرات!

ولو أن إنسانًا يختار لنفسه رسالته ومولده لما اختار عبد الرحمن مولدًا أصلح للرسالة التي نهض بها من مدينة حلب: مدينة تتصل بالحوادث وتتصل الحوادث بها، هذا الاتصال.

•••

إنني علمت من تجربتي في قراءة التراجم وكتابتها أن النوابغ من أصحاب الرسالات فئتان: فئة تظهر في أوانها؛ لأن أسباب نجاحها تمهدت، وتم لها النجاح قبل فوات ذلك الأوان.

وفئة أخرى تظهر؛ لأن الحاجة إليها قد بلغت غايتها، وهي التي تظهر لتحقق تلك الحاجة التي تبحث عن صاحبها، وله منها معين يذلل صعابها ويهدي إلى طريقها.

والكواكبي نموذج عزيز المثال لأولئك النوابغ أصحاب الرسالات الذين اتفقت لهم أسباب زمانهم ومكانهم وأسباب نشأتهم ودعوتهم، تكاد سيرته أن تغري بالكتابة فيها؛ لأنها «تطبيق» محكم لتراجم هذه الفئة من نوابغ الدعاة.

تهيأت له البيئة وتهيأ له الزمن، وتهيأت له الرسالة، فلا حاجة بكاتب السيرة إلى غير الإشارة القريبة والدلالة العابرة، وهناك فانظر … ها هو ذا صاحب الدعوة قائمًا حيث ترى من حيث نظرت إليه.

ولو لم تكن للسيرة من موجباتها غير هذا الإغراء لكان ذلك حسبها من وجوب عند كاتبها وقارئها، ولكنها سيرة يوجبها الفن للفن، ويوجبها التاريخ للتاريخ، ويوجبها علينا أنها حق لصاحبها، وقدوة صالحة لمن يقتدي به في دعوته الباقية …

وإن لها لبقية متجددة بين أبناء اللسان العربي في كل جيل.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤