الفصل الأول

مدينة

(١) مدينة عربية عريقة

ولد عبد الرحمن الكواكبي ونشأ في مدينة عربية عريقة، هي حلب الشهباء.

وقد عُرفت المدينة باسمها هذا — مع بعض التصحيف — منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ فورد اسمها في أخبار رمسيس الأكبر، وورد بين أخبار حمورابي في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وورد في أخبار شلمنصر «٨٥٨–٨٢٤» … وورد خلال هذه القرون في كثير من الحفريات والآثار التي تتصل بتواريخ الحيثيين والعمالقة من الشمال إلى الجنوب.

ولا يُعرف على التحقيق مبدأ بنائها وإطلاق هذا الاسم عليها، ولكنها — كيفما كانت التواريخ المروية — أقدم ولا شك من كل عهد وردت أخباره في تلك الروايات؛ لأن قيام مدينة في موقعها ضرورة أحق بالتصديق من أسانيد المؤرخين وأساطير الرواة؛ لأنها في مكان توافر فيه كل شرط من شروط المدينة العامرة؛ من خصب التربة وسعة المكان واتصال الطريق بين موقع العمران وقوافل التجارة ومسالك الفاتحين أو معاقل المتحصنين المدافعين، ولا غنى عن مدينة في مكانها للانتفاع بموارد الزرع والبيع والشراء، وتنظيم الإدارة الحكومية في جوارها، وتبادل المعاملات فيما حولها، وتأمين المواصلات بينها على تعدد الحكومات أو وحدتها.

فالمدينة التي ينبغي أن تقوم في هذا المكان حقيقة تاريخية غنية عن سجلات التاريخ، وقد يخطئ بعض المؤرخين في بيان السَّنة أو الفترة التي بُنيت فيها؛ لأنه يخلط بين بنائها الأخير بالنسبة إليه وبنائها الأول قبل ذلك بقرون؛ إذ كانت موقعًا معرَّضًا فيما مضى للزلازل، معرَّضًا للغارات والمنازعات، يُبني ويُهدم آونة بعد أخرى، ولكنه يُسرع إلى العمار ولا يطول عليه الإهمال، وقد فطن بعض المؤرخين إلى ذلك فيما نقله ابن شداد حيث يقول: «… وهذا يدل على أن سلوقوس بنى حلب مرة ثانية، وكانت خربت بعد بناء بلوكرش، فجدد بناءها سلوقوس، فإن بين المدتين ما يزيد على ألف ومائتي سنة.»١

ومما يدعو إلى اللبس في تصحيح أقوال المؤرخين عنها أنها سمِّيت بأسماء أخرى أو ذُكرت باسم «قِنِّسرين» على سبيل التغليب والمجاورة للتعميم بدل التخصيص، ومن أسمائها عند اليونان اسم «برية» الذي أطلقوه عليها كعادتهم في إطلاق أسماء بلادهم على المدن التي يدخلونها.

ولكن اسم «حلب» أقدم من هذه الأسماء جميعًا، وأقرب إلى طبيعة المكان وإلى اللون الذي سُميت من أجله ﺑ «الشهباء»، وهو لون أرضها ولون الحوار الذي تُطلى به مبانيها.

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:

حلب مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء، وهي قصبة جند قنسرين في أيامنا هذه، والحلب في اللغة، مصدر قولك: حلبت أحلب حلبًا … قال الزجاجي: سُميت حلب لأن إبراهيم — عليه السلام — كان يحلب فيها غنمه في الجمعات ويتصدق به، فيقول الفقراء: حلب حلب، فسمي به.

قال ياقوت:

وهذا فيه نظر؛ لأن إبراهيم — عليه السلام — وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عربًا، إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل — عليه السلام — وقحطان. على أن لإبراهيم في قلعة حلب مقامين يُزاران إلى الآن، فإن كان لهذه اللفظة أصل في العبرانية أو السريانية لجاز ذلك؛ لأن كثيرًا من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: «كهنم» في جهنم …

إلى أن قال:

وذكر آخرون في سبب عمارة حلب أن العماليق لما استولوا على البلاد الشامية وتقاسموها بينهم استوطن ملوكهم مدينة عمان ومدينة أريحا الفور، ودعاهم الناس الجبارين، وكانت قنسرين مدينة عامرة، ولم يكن يومئذ اسمها قنسرين وإنما كان اسمها صوبا …

وقد أصاب ياقوت في ملاحظته الأولى؛ فإن لغة إبراهيم — عليه السلام — لم تكن عربية، ولم تكن العربية كما تكلمها أهلها بعد ذلك معروفة في عصره، ولكنه أصاب كذلك في ملاحظته الثانية؛ إذ خطر له التشابه بين ألفاظ اللغات واللهجات التي شاع استعمالها في بطحاء حلب قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، فإن الآرامية — عربية ذلك العصر — قريبة بجميع لهجاتها إلى العربية الحديثة، وتفيد كلمة «حلبا» فيها معنى البياض، ومنه لون اللبن الحليب؛ بل يرجِّح الكثيرون أن اسم «صوبا» الذي ذكر ياقوت أنه كان يطلق على قنسرين؛ إنما يعني «الصهبة» التي تقرب من الشهبة في لفظها ومعناها، وكانت حلب توصف بالشهباء وتشتهر بالصفة أحيانًا، فيكتفي بها من يذكرونها دون تسميتها، وورد اسم مدينة صوبا غير مرة في أسفار العهد القديم، فرجَّح أناس من مفسريه أنها حلب، ورجَّح الآخرون أنها قنسرين، ولا يبعد إطلاق الاسم أحيانًا على المكانين.

على أن الأمر الثابت من وقائع التاريخ أن الآراميين سكنوا هذه البقاع قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وأن المدينة وما جاورها كانت عربية بالمعنى الذي نبحث فيه عن أصل العربية القديم ولا نقف فيه عند تاريخها الأخير، وقد ثبت أن أسلاف الآراميين غلبوا على هذه البقاع في عهد الملك سراجون قبل الميلاد بأكثر من عشرين قرنًا، ولم تكن هنالك لغة أخرى يفيد فيها الحلب معنى البياض غير الأصول العربية الأولى.

(٢) ومدينة عامرة

والمدينة بموقعها وقِدم عهدها مدينة حل وترحال، يقيم فيها من يقيم، ويتردد عليها مَن يتصرفون في شئون معاشهم من أبنائها وغير أبنائها، تعدَّدت فيها أسباب المعاش من زراعة وصناعة وتجارة فلم تنحصر في مورد واحد من هذه الموارد، وكتب رسل Russell — وهو ممن أقاموا فيها حقبة من القرن الثامن عشر — مجلدًا ضخمًا عن تاريخها الطبيعي، فأحصى فيها ما يندر أن يجتمع في مدينة واحدة من محاصيل الغلات والفاكهة والخضر والأبازير والرياحين، ومن أنواع الدواب والماشية والطير والسمك، ومن خامات الصناعة للملابس والأبنية ومرافق المعيشة، فصحَّ فيها ما يوجزه الكاتب العربي حين يجمل الوصف عن أمثالها فيقول: إنها مدينة خيرات.

وتكلَّم عنها ملطبرون صاحب الجغرافية العالمية التي ترجمها رفاعة الطهطاوي قبيل عصر الكواكبي، فقال بأسلوبه الذي ننقله بحرفه: «ولنبحث الآن عن أشهر الأماكن مبتدئين بالقسم الذي بجوار الفرات، وهو إيالة حلب، فنقول: إن المدينة المسماة بهذا الاسم هي كما في كتاب البوزنطيا «برة» القديمة، وهي أعظم جميع المدن العثمانية في آسيا، سواء بتأدُّب أهلها أو بعِظمها وكثرة أموالها وغناها، وظن بعضهم أن أهلها لا يزيدون عن مائة وخمسين ألف نفس، ومبانيها من الحجر النحت، كما أن طرقها السلطانية مبلطة به أيضًا، ومنظرها عجيب لما فيها من أشجار السرو المظلمة الأوراق المباينة بالكلية لمنارتها البيضاء، فما أحسن اختلاط كل من الجنسين بصاحبه! وبها فابريقات القطن والحرير على حالة زاهية، وإليها تأتي القوافل العظيمة من بغداد والبصرة فتحمل إليها بضائع بلاد العجم والهند، وبالجملة مدينة حلب الشهباء ما يسميه المتأخر «تدمر» ورياضها مزروعة بالعنب والزيتون كثيرة الحنطة …»

وملطبرون يفهم بالتقدير الذي سماه ظنًّا أن سكانها لا يزيدون على مائة وخمسين ألف نسمة، ولكن الرحالين والخبراء من الأوروبيين الذين أقاموا بها بين القرن السابع عشر والثامن عشر يبلغون بتعدادها نحو أربعمائة ألف نسمة، ويقول دارفيو D’Arvieux الذي كان قنصلًا لفرنسا في المدينة بين سنة ١٦٧٢ وسنة ١٦٨٦: إن الطاعون أهلك من أهلها نحو مائة ألف، ولم يشعر طراق الأسواق فيها بنقص سكانها، وكان بعض المؤرخين لها يعولون في تقدير سكانها على إحصاء الموتى في الكنائس المسيحية، أو على مقادير الأطعمة اليومية التي تستنفد فيها، لاضطرارهم إلى الظن مع قلة الإحصاءات الرسمية، فراوحوا في حسابهم بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف في عامة التقديرات إلى نهاية القرن الثامن عشر، ثم تبيَّن من الإحصاءات الأخيرة أنهم لم يخطئوا التقدير.

(٣) ومدينة اجتماعية

وهي مدينة يقوم عمرانها على «مجتمع ناضح» على خلاف المدن العامرة التي يقوم عمرانها على كثرة السكان، بغير اختلاف يُذكر في كيانها الاجتماعي أو تركيب الطوائف التي تتألف منها المجتمعات السياسية.

فالسكان فيها كثيرون، ولكنهم أصحاب مرافق وأعمال لا تستأثر بها صناعة واحدة، ولا تنفرد الصناعة الواحدة بينهم بنمط واحد على وتيرة واحدة، سواء اشتغلوا بالتجارة التي يعمل فيها التاجر المحلي وتاجر القوافل وتاجر التصدير والتوريد، أو اشتغلوا بالزراعة التي يعمل فيها زارع الحقل وزارع البستان وزارع الخضر والأعشاب، أو اشتغلوا بالحرف اليدوية التي يعمل فيها النساجون والنجارون والحدادون والمختصون بفنون البناء وتعمير البيوت.

وفيما عدا هذا التركيب الاقتصادي يتنوع المجتمع في المدينة بائتلاف المذاهب والأجناس من أقدم الأزمنة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وقلما يُعرف مذهب من مذاهب الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو مذاهب الديانات الآسيوية لا تقوم له بيعة في حلب أو مزار مشهود مقدس عند أتباعه، وهي تتسع لأصحاب هذه المذاهب من العرب والترك والكرد والأرمن والأوروبيين، يتفاهمون أحيانًا بلغة واحدة مشتركة، أو يتفاهمون بجميع هذه اللغات كلما تيسر لأحدهم فهم لغة أخرى غير لغته التي وُلد عليها.

ولم تزل المدينة منذ القدم عرضة للمنازعات الدولية بين الفرس والإغريق، أو بين العرب والروم، أو بين المسلمين والصليبيين، أو بين أصحاب العقائد في الديانة الواحدة واللسان الواحد، وهي حالة لا تتكرر طويلًا إلا تركت لها أثرين لا محيص منهما ولا مفر من التوفيق بينهما، فمن أثرها أن تزيد شعور الإنسان بعقيدته وحرصه على شعائره ومعالم دينه، ومن أثرها في الوقت نفسه أن تروضه على حسن المعاملة بينه وبين أهل جواره من المخالفين له في شعوره أو تفكيره، وهي رياضة عالية تعتدل فتبدو على أحسنها في السماحة الدينية ورحابة الصدر ودماثة الخلق وكياسة العشرة والمجاملة، وقد يجنح بها الغلو إلى مثال من الخلط بين العقائد والشعائر لا يُعهد في بيئة لم تتعرض لتلك التجارب التاريخية، فقد روى دارفيو — المتقدم ذكره — أنه وجد في عين طاب «عينتاب» طائفة تسمى اﻟ «كيزوكيز»؛ أي النصف والنصف، يصلون في المساجد ويحفظون القرآن ويعلقون المصاحف الصغار في أعناق أطفالهم، ويوجبون تعميد هؤلاء الأطفال وتقريب القرابين في المعابد المسيحية والذهاب إلى كرسي الاعتراف وإقامة الصلوات في عيد الميلاد وعيد القيامة.

•••

ومن نتائج الائتلاف في المجتمع أن تتأصَّل في العادات خصال التعاون الاجتماعي، فتصبح المدينة العامرة معمرة قادرة على التعمير، ويكسب أبناؤها قدرة على تجديد عمرانها بعد الكوارث التي تنتابها كما تنتاب أمثالها من المدن على أيدي الفاتحين أو بفعل الزلازل والأوبئة التي كانت تنتشر في الشرق والغرب، فلا تسلم منها مدينة كثيرة الوراد والطراق يخرجون منها ويئوبون إليها بغير رقابة صحية على القواعد العلمية، وقد تمكنت حلب من تجديد عمرانها واستئناف علاقاتها ومعاملاتها مرات في مدى التاريخ المعروف منذ ثلاثة آلاف سنة، واستطاعت ذلك أربع مرات منذ القرون الوسطى إلى اليوم، ويشير ياقوت الحموي إلى خصلة التعمير والتأثيل في أهلها فيقول: «ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقلَّ ما ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك؛ فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.»

(٤) ومدينة سياسية

والمدينة الاجتماعية على هذه الصفة مدينة سياسية باختيارها وبما تنساق إليه من ضرورات تدبيرها وإصلاحها، فلا يسع إنسانًا يقيم فيها أن يغفل عن السياسة التي تديرها ولا عن أحوالها التي تستقيم عليها شئونها المشتبكة أو يعتريها الخلل من جانبها، وربما حالت السيطرة المستبدة دون إطلاق الألسنة والأقلام في أحاديث هذه السياسة، ولكن المجالس التي تدور فيها الأحاديث بين أهلها لا تلبث أن تخلق لها منادح من القول المباح في باب النقد الاجتماعي، ولو قصرته على نقد الأحوال العامة وآداب العرف الشائعة، ولم تزد فيه على الحنين إلى الأيام التي كانت تخلو من عيوب هذه الأيام، أو على الثناء والذكرى لمن كانوا يسوسون الأمور سياسة لا يدركها الملام.

قال رسل في تاريخه الطبيعي لمدينة حلب — وهو يسمي المسلمين بالترك على عادة الأوروبيين في زمنه: «إنهم على احتجازهم في مسائل السياسة لا يقال عنهم إنهم سكوت صامتون، فإنهم يفيضون الحديث عن مسائل الديانة والآداب ومساوئ البذخ والترف، وشيوع الرشوة في الدواوين، وربما تحفَّظوا في الكلام على أخطاء الحكومة الحاضرة، ولكنهم ينحون على الأخطاء الماضية بغير هوادة، وسواء كان مجرى الحديث على هذه المسائل أو على أشباهها من المسائل الخلافية تراهم يحتدون في مساجلاتهم، ولا يطول الحوار بينهم دون أن يتطرق إليه الغضب حتى يفصل فيه صاحب الدار برأيه، إن كان من ذوي الصدارة، فيميل الأكثرون إلى الرأي الذي أبداه …»

وإذا قيل هذا عن أواخر القرن الثامن عشر فالحالة السياسية في غير هذه الحقبة المظلمة لا تحتاج إلى بيان.

(٥) ومدينة متصلة

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن المدينة التي لها هذه العمارة وهذه العلاقات الاجتماعية على ملتقى الطرق المعبورة في القارات الثلاث لن تنقطع عن العالم في عهد من عهودها، ولن ينقطع العالم عنها.

إلا أن العلامات المحسوسة أوضح من الأحوال المفهومة في الدلالة على تمكن هذه الصلة وشدة الحاجة إليها، فمن هذه العلامات أنَّ نقل الأخبار بالمشاعل والمصابيح كان معروفًا في حلب قبل ستة وثلاثين قرنًا كما يرى من ألواح «ماري» الأثرية التي كُشفت بجوارها، أما في العصور الأخيرة فلم تخلُ حلب قط من الوسائل السريعة للانتقال أو نقل الأخبار، وحيثما وُجدت وسيلة أسرع من سواها في قطر من الأقطار النائية لم تلبث أن تصل إلى حلب بعد قليل، وأن يفتنَّ الحلبيون في استخدامها وتحسينها لزيادة السرعة فيها، فاشتهرت بالجِمال السريعة التي نعرفها في وادي النيل باسم الهجين، واجتهد أصحاب القوافل بها في توليدها بين العربية والتركمانية؛ لتوريثها أحسن الصفات من فصائلها الممتازة، وانتظم فيها بريد الحمام الزاجل، وهو أسرع بريد عرفه الناس على المسافات البعيدة قبل استخدام البرق والبخار، ولكنهم في الخطوط التي تمتد من حلب وإليها، يحتاطون لعوائق الطريق فيغمسون أقدام الحمام في الخل ليشعر بالرطوبة في الجو، فلا يستدرجه الشعور بالعطش إلى الماء فينقطع عن السفر أو يسقط بين أيدي المترصدين له في الطريق.

(٦) ومدينة حساسة

وهذه العوامل المتأصلة جميعًا قد بقيت إلى العصر الذي نشأ فيه الكواكبي وعاش فيه بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ بل كانت كلها على حالة من النشاط والتحفز توصف «بالحساسية» المفرطة التي تضاعف انتباه المنتبهين إليها على غير المعتاد في سائر العصور.

كانت مدينة حلب قبل مولده بسنوات جزءًا من العالم العربي الذي كان يجمع الشام وفلسطين وطرفًا من العراق والجزيرة العربية في نطاق واحد، وظلت كذلك بضع سنوات حتى أُعيدت إلى الدولة العثمانية في سنة ١٨٤٠ بعد تدخُّل الدول الأوروبية في حروب إبراهيم باشا والسلطان عبد المجيد.

وكانت فتنة الأرمن ومحنة لبنان وغارات الحدود بين العرب والترك في العراق شغلًا شاغلًا لأبناء حلب على الخصوص؛ لأنها المدينة التي يصيبها كل عطل ويرتد إليها كل اضطراب.

وكانت مسائل الامتيازات الأجنبية تثار كل يوم في أوروبة وفي الشرق العثماني، مع ما يتبعها من مسائل التشريع والإدارة التي تفرِّق بين الطوائف والأجناس في كل بقعة من بقاع الدولة التركية.

وكانت هذه الدولة تتقدم خطوة وتنكص على أعقابها خطوتين في طريق الحكم النيابي والإدارة العصرية واستبدال النظم الحديثة بالتقاليد البالية التي جمدت عليها منذ قرون.

وكانت قناة السويس تفتح، ومراكز الشركات تتحول من حلب شيئًا فشيئًا إلى القارة الأوروبية أو إلى شواطئ الهند وإيران وموانئ البحرين الأحمر والأبيض على طول الطريق.

كان كل عامل من عوامل الحياة الاجتماعية في حلب يتحرك ويتنبه ويبلغ به الانتباه حد الحساسية؛ بل حدَّ الإفراط في الحساسية حين نشأ الكواكبي في هذه الحقبة المتوفزة، ووكل إليه القَدَر أن يكون لها لسان حال، فاستجاب لها في بيئته من حيث يستجيب أمثاله من الرجال.

١  الدر المنتخب في تاريخ مملكة حلب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤