الفصل الثالث

أسرة الكواكبي

ينتسب الكواكبي من أبويه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روى صاحب «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» نسب الأسرة نقلًا عن كتاب «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» الذي ألفه السيد حسن بن أحمد بن أبي السعود الكواكبي، فجاء فيه أن السيد أحمد هو:

ابن أبي السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد بن أبي يحيى المعروف بالكواكبي قدس سره، ابن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي قدس سره، ابن الشيخ الرباني المسلك الصمداني صفي الدين إسحاق الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ المرشد الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن سلطان المشايخ فيروز شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد ابن الأمير داود بن علي ابن الإمام موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين السبط الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

قال صاحب «إعلام النبلاء» بعد اسم صدر الدين موسى الأردبيلي: «الذي رأيته في عمود نسبهم المحفوظ في بيت الموقت بعد محمد أبي يحيى بن صدر الدين إبراهيم الأردبيلي المنتقل إلى حلب ابن سلطان خوجه علاء الدين علي بن صدر الدين موسى الصفوي — فيكون قد سقط هناك شخصان — ابن السلطان صفي الدين أمين الدين جبريل، وهناك قد جعلهما شخصين، وباقي النسب كما هنا، والله أعلم.»

وروى في هذا المصدر نسبه لوالدته المتصل ببني زهرة، فجاء فيه أن «والدة أبي السعود الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي بن أبي الحسن بن الحسين شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام السبط الشهيد الحسين …»

ويرى في عمود النسب لأبيه اسم صفي الدين الأردبيلي، ومن ذريته إسماعيل الصفوي الذي جلس على عرش فارس وأسس فيها الأسرة الصفوية، ومنها «علي سياه بوش» الذي رحل إلى بلاد الروم وتزوج سيدة من حلب ثم قفل إلى بلاده، وخلف بها أجداد الأسرة الكواكبية.

ومن أعرق علماء حلب من أسرة الكواكبي الشيخ «محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي» الذي تولى منصب الإفتاء فيها، وكان مولده بها سنة ثماني عشرة وألف هجرية «١٦٠٩م»، وتوفي بها سنة ست وتسعين وألف هجرية «١٦٨٥م»، وله مؤلفات في علوم الفقه والأصول والكلام والمنطق، منها: شرح الفوائد السنية، ونظم الوقاية، ونظم المنار، وإرشاد الطالب، وشرح كتاب المواقف، وحاشية على تفسير البيضاوي، ورسالة في المنطق، وتعليقات على تفسير سورة الأنعام.

وأول من اشتهر من الأسرة باسم الكواكبي — فيما يقال — محمد أبو يحيى بن صدر الدين، قال صاحب كتاب «نهر الذهب» في كلامه عن جامع أبي يحيى الكواكبي:

يظهر أنه جامع قديم، وأنه اشتهر باسمه الحالي نسبة إلى محمد بن إبراهيم بن يحيى الكواكبي؛ لأنه وسعه وأقام فيه أذكاره، فلما مات دفن فيه، وبنى عليه «سيباي بن عبد الله الجركسي» قبة من ماله، وهو جامع فسيح له قبلة متوسطة تقام فيه الصلوات والجمعة، وله منارة فوق بابه، وفي غربيه قبة أبي يحيى المذكور، مكتوب في الجدار الكائن فوق رأس الضريح:

وليس عجيبًا أن تيسَّر أمرنا
بحضرة هذا القطب حاوي المناقب
وليٌّ تولاه الإله بلطفه
وولى فأولاه صنوف المواهب
وما مات حتى صار قطبًا مقربًا
ونال من الغفران أعلى المراتب
هدينا إلى هذا المقام بطيبه
كما يهتدي الحادي بنور الكواكب
وفي صحن المسجد في جهته الغربية عدة قبور لبني الكواكبي، وفي شرقيه حوض يجري إليه الماء من قناة حلب، ولهذا المسجد وقف قديم هو الآن ثلاثة حوانيت في سويقة علي، وله مخصصات من وقفي حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي ووالده المذكور، ويوجد على يسرة الداخل للجامع حجرة لتعليم الأطفال، وفي جانبها صهريج سبيل يجري إليه الماء من قناة حلب، عمرته هبة الله بنت حسن أفندي المذكور، وهي أم حسن بك ابن مصطفى بك، وفي جانب المسجد من شرقيه مدرسة تُعرف بمدرسة الكواكبي يصعد إليها بدريجات، وهي عامرة نيرة مشتملة على قبلة وحجرتين١ …»

ويقال إن السيد أبا يحيى عُرف باسم الكواكبي؛ لأنه كان يعمل في الحدادة ويتقن صنع المسامير التي تسمى الكواكب لاستدارتها ولمعانها، فنُسب إليها، ثم سلك مسلك المتصوفة فنبَّه فيها شأنه وتوافد عليه التلاميذ والمريدون ومنهم أمراء ورؤساء، كانوا يفدون إليه وهو في نسكه أو في ذكره، فلا يجسرون على التحدث إليه حتى يأذن لهم، لهيبته وورعه، وسُميت طريقة آل الكواكبي بالطريقة الأردبيلية نسبة إلى أردبيل من أذربيجان، وهي البلدة التي ينتمي إليها صدر الدين وصفي الدين المتقدمان.

ومن أعلام الأسرة الذين ترجم لهم في كتاب «إعلام النبلاء» الشيخ «حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي المتوفى سنة ١٢٢٩ هجرية»، ترجمه العلامة عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» فقال في وصفه: «هو كعبة الأدباء ونخبة العلماء، من اشتهر بالفضائل وشهد له السادة الأفاضل … تولى منصب الإفتاء في مدينة حلب، وكان حسن الأخلاق كريم الطباع، وكان العلامة المرادي مفتى دمشق — لما كان في الحلب — يتردد عليه كثيرًا، وامتدحه بعدة قصائد … وترجمه الشيخ عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» المدرجة بتمامها في ترجمته … ومن آثاره كتاب سماه «النفائح واللوائح في غرر المحاسن والمدائح»، جمع فيه نظم والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه، وعقد لكل واحد من هؤلاء الشعراء ترجمة …»

ومن هؤلاء الأعلام الشيخ أحمد الكواكبي الذي وُلد سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وتوفي سنة ثلاثمائة وألف، وجاء في ترجمته أنه «تلقى العلوم النقلية والعقلية على أشياخ عصره في الشهباء … وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ بكري البلباني، وكان شديد الصحبة للشيخ أبي بكر الهلالي يمضي معظم أوقات فراغه معه في الزاوية الهلالية، وأقرأ في المدرسة الكواكبية والمدرسة الشرقية وفي الجامع الأموي منذ وجهت إليه وجهة التدريس فيه سنة ثلاث وثمانين ومائتين، واشتهر بعلم الفرائض وتحرير الصكوك، واشتغل بأمانة الفتوى، وعين عضوًا في مجلسي إدارة الولاية، وكان ربعة أسمر اللون نحيف الجسم أسود العينين، وَخَطَهُ شيبٌ في أواخر عمره، وكان رقيق الحاشية ظريف المحاضرة لا يملُّ منه جليسه، حسن الخلق جدًّا، وربما أوقفه ذو سؤال زمنًا غير يسير وهو يستمع له ولا ينصرف حتى يكون السائل هو المنصرف، وكان وقورًا مهيبًا قنوعًا متصلبًا في دينه وقَّافًا عند الحق.

وكان يعرف اللغة التركية؛ إذ كان يندر من يعرفها بحلب خصوصًا من العلماء، وحدث مرة أن انحلت نيابة القضاء في حلب وتأخر قدوم النائب، فأراد الوالي إذ ذاك ألا تتراكم الأشغال في المحكمة الشرعية، فكلَّف رئيس الكتاب أن يتولى القضاء وكالة، فقال له: لا يجوز توكيل الوالي ولا ينفذ قضاء من يوكله. فقال له: أنا وكيل الخليفة فلي أن أوكل! فأبى عليه القبول، فتكدر منه وأخرجه من عنده، ثم إنه أراد تنفيذ مقصده فكلف المترجم إلى الوكالة، فأجابه إلى ذلك فسُرَّ جدًّا وكتب له في الحال منشورًا بتوكيله إياه في القضاء، فذهب إلى المحكمة الشرعية، وصار الناس يتطلعون إلى صنيعه: كيف يوفق بين أمر الوالي والحكم الشرعي؟ فكان يسمع للخصمين ويضبط مقالهما، ثم يشير عليهما بالصلح ويريهما أحسن وجه للاتفاق ولا يزال يعظهما بالموعظة الحسنة حتى يتصالحا، فيكتب بينهما صكًّا، وقد حصل المطلوب من القضاء، وإذا أبى عليه خصمان عن المصالحة قال لهما: أتحكمانني بينكما؟ فيحكِّمانه، فيكتب صكًّا بتحكيمهما ثم يحكم بينهما، ويؤخر تسليم صك الحكم إلى حضور النائب، ثم لما حضر النائب أمضى كل ما تم من قبل المترجم وختم صكوكه.

وقد اكتسب شهرة عظيمة بهذا الصنيع، فكان من بعد ذلك وقفًا على الإصلاح بين الناس، وربما حضر مجلسًا للإصلاح بين خصمين، فوجد الذي دعاه غير محقٍّ، فكان لا يألو جهدًا في نصحه وإرجاعه إلى طريق الحق، وإنما كان موفقًا في ذلك؛ لأنه إنما كان يقصد وجه الله تعالى، وكان متوليًا على جامع جده أبي يحيى وخطيبًا وإمامًا فيه».٢

والشيخ أحمد الكواكبي هذا هو والد المترجم ومعلمه ومربيه ومورثه جملة صفاته وسجاياه، كما يُرى من تفصيل سيرته في مواضعها.

وقد نشأ المترجم في هذا الجيل من أجيال الأسرة وهي على عهدها بمنازل الشرف والعلم: أبوه أهل للقضاء في الخصومات بفضله وسمته، وأهل للتدريس في أكبر المعاهد بعلمه وصلاحه، وأحوه الأصغر «مسعود أفندي» يشترك في معاهد العلم عضوًا بالمجمع العلمي في دمشق، ويشترك في معاهد الحكم عضوًا بمحكمة التمييز، وفي مجالس السياسة عضوًا بمجلس المبعوثين، ويقول عنه رئيس المجمع العلمي الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته بعد كلامه عن أخيه عبد الرحمن صاحب الترجمة: «وكان هذا يقول لي إن شقيقه مسعودًا أعلم منه، وقد كتب لي الحظ الأوفى أن زاملته سنين في المجمع العلمي العربي، رأيته فيها ورصفائي مثال العلماء العاملين الذين ذكرت كتب الرجال تراجمهم العظيمة، وكانوا ممن اعتز بهم العلم وارتقى الفكر الإسلامي، حللتُ روح هذين الحبيبين الشقيقين والحَبرين الكاملين فما سقطتُ فيهما على عيب من عيوب الآدميين جلَّ الصانع! وسجلتُ أنهما تقدَّما جيلهما في كل معاني الفضل والنبل، وما أسفا إلى أن يعيشا كأكثر أبناء الفقهاء عيش التوكل والخنوع يأكلون ويشربون ويتناسلون ويجمعون من حطام الدنيا ما وصل إلى أيديهم، فالدم الطاهر ينم عن صاحبه كيفما تقلبت به الأحوال، ولا يحتاج إلى من يدل عليه …»

ولسنا نحتاج إلى أكثر مما تقدم فيما رواه الرواة والمعاصرون عن أسرة الكواكبي للتعريف بأوائل نسبه ومنابت أخلاقه وشمائله، ففي صفحات الكتب وأقوال المحدثين أخبار متناثرة من قبيل ما أجملناه تعيده أحيانًا في مختلف العبارات أو تزيد عليه ما ليس يزيد في مغزاه، ولكننا نجتزئ باليسير منها؛ لأنه أجزاء متناسقة يتمم بعضها بعضًا، وينتظم منها تاريخ متصل الحلقات منذ عرف اسم الأسرة في موطنها إلى مولده وأيام حياته، وكلها — سواء منها الخبر المروي والخبر الذي تنبئنا عنه معالم المدينة وآثارها — ينتهي إلى نتيجة واحدة تكفي للتعريف بحاضره وماضيه الذي كان له الأثر الواضح في حياته وعمله، فمن هذه المعالم والأخبار نعلم أن «عبد الرحمن» قد وعى دنياه وهو يتلقى من ذكريات قومه قدوة النبل والمعرفة، وتمتد به الذكرى الغابرة إلى عهود الأسلاف الذين نهضوا بزعامة الدين وزعامة الدولة، وتحفزوا للعرش من صوامع العبادة ومساجد الدرس والهداية. وقد يتأنى المؤرخ حين يبحث عن الأسانيد القاطعة فيما يتحراه عامة المؤرخين ورواة الأخبار عن القديم، ولكنه لا حاجة به إلى الأناة فيما وعته ذاكرة الأحياء من أبناء الأسرة، وأثبتوا به إيمانهم بما كان لهم من سابقة، وما ينبغي لهم من حياة حاضرة، فلا خلاف على هذه الذكريات بين أبناء الأسرة وأبناء المدينة التي تأصَّل فيها الأبناء بعد الآباء والأجداد على مدى أجيالها المذكورة، ولا خلاف بين الرواة المعاصرين في عراقة الأسرة الكواكبية في مدينة حلب وإقليمها من حولها، وإنما يختلفون فيمن تسمَّى باسمها لأول مرة من أجداد عبد الرحمن لأبيه أو لأمه، ويقال إن أبا يحيى — أحد أجداده — كان يُسمى «البيري» نسبة إلى «البيرة» على القرب من حلب، ويقول صديقه ومؤرخه الأستاذ كامل الغزي في مجلة الحديث الحلبية: «إنه عرف بالكواكبي لاتصال أحد أسلافه بآل الكواكبي من جهة النساء المعروفات بعراقة النسب.»

ولا يذكر — على أية حال — ذو نسب كواكبي بالمدينة غير آل عبد الرحمن في حياته وحياة أبيه وجده.

وقد حدث في حياة عبد الرحمن حادث ذو بال في تاريخ الأسرة وتاريخه؛ بل تاريخ دعوته وتفكيره، فانتقلت نقابة الأشراف من بيت الكواكبي إلى بيت «الصياد» شيخ الطريقة الرفاعية وشيخ مشايخ الطرق بعد ذلك في أنحاء الدولة التركية، ولكنها لم تنقل للشك في نسب الأسرة الكواكبية أو لثبوت نسب الأسرة الأخرى أسرة محمد بن حسن وادي المشهور بأبي الهدى الصيادي … وإنما انتقلت لرضى الولاة عن زعيم هذه الأسرة ونفورهم من الأسرة الكواكبية، وهذا هو المثل القريب الذي لمس فيه عبد الرحمن عيوب الحكم في الدولة، وأدرك به مواطن الحاجة إلى الإصلاح، قبل أن يدركه بالبحث والاطلاع.

وأحسب أننا نحتاج قبل اختتام هذا الفصل إلى كلمة موجزة عن الأسرة الصفوية التي يجمعها عمود النسب بالأسرة الكواكبية، كما تجمعها الطريقة «الأردبيلية» منذ أيام مؤسسها صفي الدين المشهور، فإن الاتصال بين النسبين قد يفسر لنا الغابر بالحاضر، ويفسر لنا ميراث الشعور منذ القدم بين الأسرة والدولة العثمانية، أو دولة السلطان سليم على التخصيص.

فمن الثابت أن الشاه إسماعيل الصفوي قد نشأ — كما يقول مؤرخو الإفرنج — من «أسرة دراويش»، ينتسبون إلى بلدة أردبيل بأذربيجان ويرتفعون بعمود النسب إلى الإمام علي والسيدة الزهراء.

ومن الثابت أن الأسرة الصفوية من عهد مؤسسها كانت على دراية بتنظيم الجماعات السرية، وعلى أهبة لتجميع الجموع بالمحالفة والعصبية.

ومن الثابت أن النساك من زعماء الطريقة الأردبيلية كانوا يزورون دمشق وبيت المقدس، ويترددون على المدن في الطريق بين شمال فارس وبلاد الروم.

ويقول المؤرخ اللبناني المسيحي «شاهين مكاريوس» في كتابه الذي وضعه عن تاريخ إيران بإذن الشاه ناصر الدين: «إنها عائلة علماء أعلام وأئمة كرام وأصحاب تقوى يوقِّرهم الأنام.»

ثم يروي قصة قيام الدولة فيهم فيقول بعد الإشارة إلى الشيخ صفي الدين: «وكان لهذا الشيخ الفاضل أعوان يصدعون بأمره، وهو لا يأمر بغير الطيب والإحسان، وخلفه ابنه صدر الدين، وعقبه من الأولياء مشاهير مثل خواجه علي وجنيد وحيدر، ممن اشتهروا بالفضل والعلم والتقوى، وكان صدر الدين في أيام تيمور، وقد أخذ له مقرًّا في مدينة أردبيل من أعمال أذربيجان مثل أبيه، فزاره يومًا هذا البطل العظيم، وسأله أن مُرْ بما تريد أقضِهِ في الحال. قال: أريد منك أن تطلق سبيل الأسرى الذين أتيت بهم من بلاد الأتراك. ففعل تيمور بإشارته، وحفظ الأتراك هذا الجميل لصدر الدين وعائلته، وكانوا بعدئذ هم السبب في توليتها الملك كما سيجيء. وليس في التاريخ ذكر أمر يدل على الإقرار بالجميل بعد مرور الأجيال مثل هذا الأمر، وأشهر ما يذكر عن خواجه على أنه حجَّ إلى القدس الشريف ومات فيه وخلفه حفيده جنيد، فاجتمع لديه خلق كثير حتى خاف الأتراك شره، وحارب أحد رؤسائهم فاضطره إلى الفرار إلى ديار بكر حيث قابله حاكمها الأمير حسن بالإكرام وزوَّجه أخته، وقصد جنيد بعد ذلك بلاد شيروان فحاربه حاكمها وقتله، فخلفه السلطان حيدر، وكان أمير «أوزون» حسن حليفه فتقوَّى بنصرته على الأعداء، وصار بالتدريج حاكمًا على كل بلاد إيران في مدة السلطان أبي سعيد الذي مر ذكره، ومات فدفن في أردبيل، فخلفه ابنه السلطان علي، ولكن القلاقل كثرت في أيامه وظلت عائلة صفي الدين في خطر دائم، يومًا تصعد إلى الأوج ويومًا تنحط إلى الحضيض، حتى قام السلطان إسماعيل ابن السلطان علي، وملك البلاد، وهو في اعتبار المؤرخين أول ملوك الدولة الصفوية، ولا يعرف عن شاه إسماعيل في أيام صغره غير القليل، إلا أنه استلم قيادة الأعوان في الرابعة عشرة من عمره فحارب عدو عائلته حاكم شيروان وقتله، ثم هجم عليه الأتراك والتركمان من ناحية الأناضول ففرق شملهم وانتصر على كل أعدائه، فنودي به سلطانًا على مملكة إيران وما يتبعها وهو في الخامسة عشرة من عمره.

وكان إسماعيل صوفيًّا مثل أفراد عائلته وليس له أعداء وأعوانه كثار، فرأى بعد الإمعان أن يُدخل مذهب الشيعة الاثني عشر الجعفرية إلى إيران ويجعلها مذهب السلطنة، ففعل ذلك وفاز بمراده، ولم يلقَ معارضة تذكر؛ لأن الإيرانيين عدُّوا هذا الانفصال استقلالًا لهم، وفضلوا مذهب القائلين بتكريم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن ذلك اليوم صارت بلاد إيران مقر الشيعة بين المسلمين، وعصت خراسان وبلخ وغيرها من الولايات أمر السلطان إسماعيل في بدء حكمه على عادتها، فحاربها كلها وانتصر عليها، وامتد نفوذ هذا السلطان امتدادًا عظيمًا حتى رُزق عدوًّا كبيرًا لم يقدر عليه، هو السلطان سليم العثماني الشهير، قصد بلاد إيران بخَيْله ورَجْله البالغ عددها مائة وخمسين ألفًا ومائتي مدفع، وذلك بغتة دون مخابرات دولية لدى الحكومات، وقام إسماعيل لمحاربته بكل ما لديه من القوة وهو يومئذ بهمدان يطلب الصيد والقنص، ودافع عن بلاده في جلدران بخمسة عشر ألف نفس بأذربيجان، فتقهقر أمامه وكُسِر شرَّ كِسرة مع أنه أظهر في الحرب بسالة غريبة، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والإيرانيون بالسلاح القديم، غير أن انتصار الأتراك لم يؤثر في إيران؛ لأنهم اضطروا إلى الرجوع في الشتاء لشدة البرد وقلة الزاد، ولكن إسماعيل ظل حزينًا من بعد تلك الكسرة إلى آخر أيامه، ويُروى أنه لم يضحك من بعد ذلك اليوم، ولم يترك لبس السواد أيضًا، ولما مات السلطان سليم تقدم إسماعيل على بلاد الأتراك للأخذ بالثأر، فأخضع بلاد الجركس وهي يومئذ تابعة للأتراك، وعاد عنها فعرج على أردبيل ليزور قبور أجداده، فقضى نحبه هناك ودفن فيها مأسوفًا عليه …»

•••

تُرى هل نرى في تاريخ هذه الشعبة من أردبيل ما يأبى أن تلحق به تتمة تلائمه من تاريخ الشعبة الكواكبية؟ إن تاريخ الأسلاف ليسبق في الزمن كالمقدمة التي تنتظر البقية من أعمال الخلفاء والأبناء، وما أحرى عبد الرحمن أن يكون البقية المنظورة لمقدمة صدر الدين! وما أحرى الأسرتين أن يتسلل فيهما نبع واحد من النجدة والورع والهمة والصلابة والسماحة، تشابه فيمن عرفناه منهما حتى الآن على تنوع المواضع والميادين!

شيء واحد يستوقف المؤرخ من اختلاف الشعبة الصفوية والشعبة الكواكبية، ولكنه اختلاف متوقع ينفي كل ما فيه من الغرابة بانتظار وقوعه على الوجه الذي صار إليه.

فالشعبة الصفوية أخذت بمذهب الشيعة الإمامية حين قام منها الأئمة على عرش إيران، والشعبة الكواكبية تدين بمذهب أبي حنيفة من أئمة السنة؛ لأنه المذهب الذي غلب على المدينة حيث درجوا وتعلموا وأنجبوا الأبناء المتعلمين والأساتذة المعلمين، وربما كان من أتباع صدر الدين أحناف كثيرون كما يعلم من كثرة مريديه من الترك المنتقلين إلى إيران في أسر السلطان تيمور.

وقد كان اتِّباع الكواكبي للمذهب الحنفي لا يمنعه أن يدعو إلى وحدة المذاهب وإقامة الإمامة على غير قواعد الخلافة في الدولة العثمانية، فربما كان هذا التصرف بين الشعبتين على المنهج المنتظر من كليهما قرابة باطنية تمحو ما يتراءى للنظر من ظواهر الاختلاف.

١  نهر الذهب في تاريخ حلب لمؤلفه الشهير بالغزي.
٢  إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، تأليف محمد راغب بن محمود بن هاشم الطباخ الحلبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤