الفصل الرابع

النشأة

الطفل أبو الرجل

صدق من قالها بما عناه من لفظها ومعناها، فإن الرجل الكبير يتولَّد من الطفل الصغير، فهو وليده وسليله على هذا التعبير.

وقد كان عبد الرحمن الصغير أبًا مبكرًا للرحالة المجاهد المفكر الحكيم صاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» ورائد النهضة العربية في طليعة الرواد.

من أقسى ما يصاب به الطفل في نشأته أن يفقد الأم ويغترب عن الأب وعن الجيرة التي فتح عليها عينيه من دنياه.

وقد أصيب الطفل عبد الرحمن بهذه المحن جميعًا، فصلب لها عوده اللدن وهو دون العاشرة، ونما على معدن الجهاد في طبيعته قبل أوان الجهاد في عنفوان شبابه، فمن هذا الطفل الدارج من المهد نشأ ذلك الكهل الذي أقدم على مخاطر الهجرة والرحلة الطويلة على غير أمل في العودة إلى الوطن، وعلى غير أمان من الغيلة والضنك والمشقة، وهو رب أسرة وأبو أبناء وفرع أرومة تأصَّلت في منبتها — الذي قطع نفسه عنه — منذ مئات السنين.

تقول الأوراق الرسمية إن صاحب الترجمة ولد حوالي سنة ١٨٤٨م «١٢٦٥ هجرية»، ويقول ابنه الدكتور أسعد إنه ولد بعد ذلك بسنوات، وطلب تصحيح تاريخ المولد لدخول الانتخابات، وإنما كان مولده الثابت من سجلات الأسرة في سنة ١٨٥٤م «١٢٧١ هجرية»، وتوفيت والدته سنة «١٢٧٦ هجرية» وهو في نحو السادسة من عمره، أو هو قد ناهز العاشرة إذا أخذنا بالرواية الرسمية.

والمرجَّح أنه كان أصغر من سنِّه في الأوراق الرسمية عند وفاة والدته، فإن أباه قد أودعه حضانة خالته السيدة صفية بأنطاكية، فأقام بها إلى سنة ١٣٨٢ هجرية، ثم عاد إلى حلب لدخول المدرسة الكواكبية، ولو كان قد بلغ العاشرة عند وفاة أمه لاستغنى عن الحضانة في هذه السن وصلح لدخول المدرسة الكواكبية بغير تأجيل. ولو صح تاريخ الأوراق الرسمية لكان في نحو السابعة عشرة حين عاد من أنطاكية لدخول المدرسة، وهي سن متأخرة لمن يبتدئ الدراسة في مثل أسرته.

وقد تعلَّم الكواكبي في مكتب أنطاكية ومدرسة حلب كل ما يتلقاه التلميذ فيهما من العلوم المدرسية، وتعلَّم اللغتين التركية والفارسية ومبادئ الرياضيات على الأساتذة الخصوصيين من أصدقاء أبيه، وتلقَّى من أبيه صفوة العلوم الدينية والأدبية التي كان يتقنها، وهو كما تقدم من معلمي الجامع الأموي وأصحاب المناصب الشرعية.

قال صاحب المنار: «إن الفقيد درس قوانين الدولة درسًا دقيقًا، وكان محيطًا بها يكاد يكون حافظًا لها، وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع؛ ولهذا عيَّنته الحكومة في لجنة امتحان المحامين، ولا أعلم أنه برز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران، ولكنه تلقَّى ما تلقَّاه من كل فنٍّ بفهم وعقل، بحيث إذا أراد الاشتغال عملًا أو تأليفًا أو تعليمًا يتسنَّى له أن ينفع نفعًا لا ينتظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم … على أن الفقيد لم يتعلم شيئًا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه منها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية.»

ولا يخفى أن طالب العلوم السلفية لا يحتاج في عصر الكواكبي أو في العصر الحاضر إلى غير اللغة العربية للتوسع فيها غاية ما ينشده من توسع المتخصصين أو المستطلعين. أما المعارف العصرية فقد يستهين الناشئ العصري بما كان يتيسر منها للقارئ الذي يجهل اللغات الأوروبية قبل مائة سنة، ولكنه في الحقيقة محصول وافر لا يستهان به في زمانه؛ إذ كان في وسع العارف بالعربية أو التركية أن يطالع مئات من الكتب المترجمة عن اللغات الأوروبية في العلوم والآداب، وأن يطالع معها المجلات والصحف التي تكتب في هذه العلوم والآداب أو تنقلها عن ثقاتها وأعلامها، وقد تحدَّث الزهاوي عن نفسه فقال إنه لم يتزود من المعرفة العصرية بزاد غير مطالعاته في المجلات العربية والتركية وبعض الكتب المترجمة التي وصلت إلى يديه في بغداد، وبهذا الزاد — ولا زيادة عليه — أصبح في مقدمة الباحثين المعدودين إلى أوائل القرن العشرين، فضلًا عن مكانته الشعرية وعمله في مجالس النوَّاب.

ولا نخال أن الكواكبي فاته مرجع هام يعنيه أن يطلع عليه في موضوعات بحثه وتفكيره؛ بل لا نخال أنه ضيَّع فرصة يستفيد منها علمًا أو خبرًا نافعًا من زوار حلب الذين يجتمعون بمثله في مركزه ووجاهته بين قومه، وكانت حلب لا تزال في عهد نشأته مثابة الزائرين والمقيمين من فضلاء الشرق والغرب، وبينهم وكلاء الشركات التي كانت تتأسس في المدينة على طريق التجارة الهندية الشرقية قبل افتتاح قناة السويس، وبينهم فئة من الإيطاليين في إبان ثورتهم القومية، وفئة من الفرنسيين في إبان ثورتهم الدستورية، وكثير منهم مثقفون ينتمون إلى حزب من الأحزاب الثورية في بلادهم، وينقلون معهم آراء فلاسفتهم وزعمائهم وأبناء طوائفهم وجماعاتهم، ومن هؤلاء ولا شك عرف الكواكبي ما عرف عن «ألفييري» صاحب كتاب الاستبداد الذي أشار إليه في كتابه، ولا يبعد أن يكون قد انتظم معه في محفل من محافل «الكربوناري» التي ألفها ثوار إيطاليا لمنافسة الماسون الإنجليز أو الفرنسيين، وجعلوا يرحبون فيها بفضلاء الأمم الأخرى لنشر مبادئهم وتأييد دعوتهم إلى الحرية، وهي قريبة يومئذ من دعوة الثائر العربي إلى الوحدة القومية والاستقلال عن السيادة التركية.

والظاهر من سيرة الكواكبي ومن كتابته معًا أنه أصاب من الثقافة القديمة والحديثة ما يرشحه لأعماله في المدينة ولرسالته في العالم العربي والعالم الإسلامي على عمومه، فلم يوكل إليه عمل من أعمال الحكومة أو المطالب الاجتماعية إلا أثبت فيها كفاية الإدارة الحسنة والنشاط المنجز والتصرف المبتكر الذي يخرج به على الأثر من جمود الوتيرة المشهور في عرف الغربيين بالروتين، ويمضي به إلى نتيجته المقصودة التي عطلها التقليد وطول الإهمال.

عمل وهو يناهز الثانية والعشرين في صحيفة «فرات» العربية التركية، التي أنشأها المؤرخ التركي الكبير أحمد جودت باشا قبل عمل الكواكبي فيها بنحو عشر سنوات، ثم أنشأ في حلب أول صحيفة عربية باسم «الشهباء» مع زميله هاشم العطار، ثم أنشأ صحيفة «الاعتدال» بعد تعطيل الشهباء لصراحتها في نقد الإدارة وتلميحها إلى وساوس السلطان عبد الحميد، فأصابها ما أصاب الشهباء بعد قليل.

ويئس الكواكبي من أداء رسالة الإصلاح بالكتابة المحجور عليها في الصحافة المهددة بالتعطيل، فقبل العمل في وظائف الحكومة، وتولى في هذه الوظائف ضروبًا منوعة من أعمال الإدارة والقضاء والتعليم، ومنها وظائف لها اتصال بالتجارة؛ كإدارة حصر الدخان ولجنة البيع والفراع التي تستبدل أرض الحكومة، ورئاسة غرفة التجارة، وغيرها من الوظائف التي ندع إحصاءها ونكتفي في هذا المقام بدلالتها جميعًا على كفاية الرجل لكل عمل تولاه، وعلى تلك القدرة الملهمة التي أعانته على إحياء كل وظيفة عهدت إليه من موات الوتيرة أو «الروتين»، ونجاحه في تنظيفها وتطهيرها بعد نفض الغبار عنها، واستصلاحها للإنتاج والتعمير.

فمن مبتكراته في المجلس البلدي أنه جعل للسابلة طرقًا غير طريق الإبل والدواب، وأقام في ضواحي المدينة سلاسل من الحديد للفصل بين معالم الطرق وتيسير السير للمشاة.

ومنها أنه زاد أجور العمال سدًّا لذرائع الرشوة والاختلاس، وأنه رتَّب أوقات العمل وموضوعاته وخصَّص الأماكن لكل منها منعًا للزحام والانتظار، وأنه تتبع المهرِّبين للدخان وأجرى عليهم الرواتب والوظائف التي تغنيهم عن التهريب، وأنه ضبط أعمال الغرفة التجارية بالإحصاءات، ونظَّمها على مثال الغرف التجارية في عواصم الحضارة.

ومن مشروعاته إعداد العدة لإنارة المدينة وضواحيها بالكهرباء، وبناء مرفأ للسويدية وجلب الماء إلى حلب من نهر الساجور، وتجفيف المستنقعات التي كانت فيما مضى منبعًا للأوبئة والحميات الدورية.

وقد أقام في حلب معظم أيامه لم يفارقها قبل سفره منها إلى القاهرة غير مرات قليلة في رحلات قصيرة، إحداها أبعد فيها الرحلة إلى الآستانة، حيث علم أبو الهدى بمقدمه فنقله إلى داره وحاول اجتذابه إلى حظيرته، واستبقاه تحت نظره، فماطله الكواكبي بالوعد حتى تمكن من العودة إلى بلده بغير اختياره.

وفي خلال هذه الأعمال والوظائف جرَّت عليه نزاهته — وصراحته — عداوة أعداء العمل النزيه والقول الصريح، فابتُلي في ماله ورزقه، وتمحَّل الولاة المعاذير الواهية لمصادرة أرضه وإتلاف مرافقه، وأقاموه بمرصد للتهم والوشايات، كلما نشبت فتنة أو وقعت جريمة لصقت به الفرية العاجلة، وصنعت الجاسوسية صنيعها في تلفيق الأسانيد وتلقين الشهود وتدبير المحاكمات، وينقضي الوقت في شغلٍ شاغل من هذه التهم ومن جهوده وجهود أنصاره في دفع شرها ورد كيدها، ومنها ما يبلغ به الخطر مبلغ الاتهام بالخيانة وعقوبة الإعدام …

يُلقى حجر على القنصل الإيطالي فيُتهم الكواكبي؛ لأن القنصل أصيب في جوار داره، ويُطلق الرصاص على الوالي فيُتهم الكواكبي؛ لأن الكواكبي اشتكاه وأنحى عليه، ويشتجر جماعة من أبناء الجاليات فيُتهم الكواكبي؛ لأنه حسن العلاقة محبوب بين أبناء هذه الجاليات.

ومن نبل هذا الرجل الكريم أن الوالي الذي اتهمه بتدبير الجريمة لاغتياله — جميل باشا — وقع في خصومة عنيفة بينه وبين القنصل الإنجليزي في المدينة، فلجأ القنصل إلى نفوذ دولته في العاصمة، وبادرت العاصمة إلى التحقيق على غير عادتها، فقدم مندوب الوزارة المحقق إلى حلب، وهو يعلم بنزاهة الكواكبي وصدقه، ويعلم أنه مطلع على الحقيقة من شهادته وتوجيهاته، فأبت مروءة الرجل أن يؤيد وكيلًا لدولة أجنبية تغنم التأييد في البلدة من وراء فوزه في هذه الخصومة وانتصاره على أكبر ولاتها، وشرح الموقف لمندوب التحقيق من هذه الوجهة، فسَلِمَ الوالي من عاقبة هذه الأزمة، ولم يسلم الكواكبي من أذاه.

وأخطر ما اتهموه به أن يتواطأ مع دولة أجنبية لتسليم البلاد إليها، وهي جريمة عقوبتها الموت إذا ثبتت، وتثبت بالشبهة القوية عند ساسة العصر إذا تعذَّرت الأسانيد القاطعة، وأوشكت قرائن التزييف والتهديد أن تطبق على المتهم البريء، لولا أنه نجح في نقل المحاكمة من قضاء حلب إلى قضاء بيروت، فكان ابتعاد المحاكمة عن مقر التزييف والتهديد سبيلًا إلى جلاء الشبهة وثبوت البراءة، بعد أن ضاع الرجل فيها أو كاد.

إن سيرة هذا البريء المظلوم مادة دراسة للمظالم والأباطيل، وإن أعداءه في بلده أعوان همته وعزمه، فلولاهم لجاز أن يسكن إلى مقام يستطاع ويحتمل، ولكنهم أحسنوا غير عامدين ولا مشكورين فجاوزوا به حد الاحتمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤