الفصل السادس عشر

النظام السياسي

علوم السياسة أقرب العلوم إلى أن تكون «اختصاصًا» للكواكبي بين دراسات عصره، نفهم ذلك من كلامه في مقدمة «طبائع الاستبداد»، كما نفهمه في مباحث الكتاب كله؛ لأنها مباحث مشروحة على إيجازها لا يجول فيها قلم كاتب لم يتوسع في هذه الدراسات.

ولكننا قد علمنا من طبيعة تفكير الكواكبي أنه يدرس ليعمل وينفذ، أو ليدل على وسائل العمل والتنفيذ؛ فكل ما كتبه في موضوعات العلم السياسي فهو من قبيل «المذكِّرات الإيضاحية» التي تبين حدود العمل المطلوب وتبين الطريقة التي تتبع في تنفيذه، وما عدا ذلك من مباحث النظر والتأمل فقد بقيت في كتاباته المعروفة «رءوس موضوعات» لم يتسع له الوقت لاستيفائها، ولعله لم يجد من لوازم عمله أن يستوفيها على المنهج المدرسي كما يصنع الباحث الذي يدرس الموضوع ليؤلف فيه أو ليضطلع بتعليمه والإقناع به من الوجهة النظرية، وإنما أحالها بعناوينها المجملة لمن يريد أن يرجع إليها في مصادر التخصص والبيان ليصحح النظر أو ليحقق وسائل العمل المتفق.

ومن قبيل هذه المباحث التي تركها «رءوس موضوعات» في الصفحات الأخيرة من «طبائع الاستبداد» قوله في مبحث الحقوق العمومية: «هل للحكومة صفة المالكية؛ أم صفة الأمانة والنظارة على الأملاك العمومية؛ مثل الأراضي والمعادن والأنهر والسواحل والقلاع والمعابد والأساطيل والمعدات، ومثل حقوق المعاهدات والاستعمار، ومثل حقوق إقامة الحكومة وتأمين العدالة وتسهيل الترقي الاجتماعي وإيجاد التضامن الإفرادي، إلى غير ذلك مما يحق لكل فرد أن يتمتع به وأن يطمئن؟»

ومن هذه المباحث قوله عن توزيع السلطة: «هل يجمع بين سلطتين أو ثلاث في واحد؟ أم تخصص كل وظيفة من السياسة والدين والتعليم بمن يقوم بها بإتقان ولا يجوز الجمع منعًا لاستفحال السلطة؟»

وقد أثبت من عناوين هذه المباحث خمسة وعشرين عنوانًا قال عنها: «إن كلًّا منها يحتاج إلى تدقيق عميق وتفصيل طويل وتطبيق على الأحوال والمقتضيات الخصوصية.»

ثم مضى قائلًا إنه ذكر «هذه المباحث تذكرة للكتَّاب ذوي الألباب وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها بترتيب؛ اتباعًا لحكمة إتيان البيوت من أبوابها، وإن اقتصر على بعض الكلام فيما يتعلق بالمبحث الأخير منها فقط، أعني مبحث السعي في رفع الاستبداد».

وإنما خص هذا المبحث الأخير لأنه يمس فيه الوسيلة العملية التي لا يكفي فيها مجرد التأمل وتقليب وجوه النظر في مختلف الآراء، وذلك شأنه في كل ما يكتبه عند وجوب التفرقة بين ما يدرس وما يعمل، ووجوب التفرقة أيضًا بين ما يشرع في عمله وبين ما يؤجل إلى حين ليعمل في أوانه.

ولا ننسى أن الكواكبي كان يكتب ما ينوي إعلانه في بلاد تابعة للسيادة العثمانية، سواء منه ما كتبه في حلب قبل هجرته الأخيرة، وما كتبه في مصر باسمه الصريح أو باسم مستعار، فلم يكن في وسعه أن يعلن ما يمنعه القانون ويمنعه العرف الشائع بين الناشرين، ومنهم أصحاب الصحف والمطابع التي تدين بالولاء للدولة صاحبة السيادة، ولكنه كان يتحرى التعبير عن رأيه بالأسلوب الذي يدل عليه دلالة لا شك فيها دون أن يخرج بالنص المكتوب عن حدوده القانونية. وعلى صعوبة التعبير البيِّن عن خطط الثورة لم يكن برنامجه في مسألة النظام السياسي بالبرنامج المجهول عند قرائه، ولو لم يكن منهم من يلقاه ويسمع منه الرأي الصريح فيما يريده وفيما يراه.

فلم يكن أصرح — في حدود القانون — من دعوته للعرب إلى الاستقلال بحكم أنفسهم حيث يقول في «أم القرى»: إن التطابق في الجنس بين الراعي والرعية «يجعل الأمة تعتبر رئيسها رأسها، فتتفانى دون حفظه ودون حكم نفسها بنفسها حيث لا يكون لها في غير ذلك فلاح أبدًا كما قال الحكيم المتنبي:

وإنما النَّاسُ بالملوكِ ولا
يفلحُ عربٌ ملوكُها عَجَمُ

ومما لا خلاف فيه أن من أهم حكمة الحكومات أن تتخلق بأخلاق الرعية وتتحد معها في عوائدها ومشاربها».

بل هو يصرِّح بما هو أقوى من ذلك وأدلُّ على رأيه في حكومة عصره التركية؛ إذ يقول: إن التطابق بين الراعي ورعيته من العرب هو الواقع الممكن الذي لا محيد للحاكم عنه، وليس قصارى الأمر فيه أنه سياسة حسنة أو نصيحة مستحبة، ويستشهد بذلك بالحكومات — غير العربية — التي حكمت العرب قبل الترك العثمانيين؛ إذ يذكر آل بويه والسلجوقيين والأيوبيين والغوريين والأمراء الجراكسة وآل محمد علي، ثم يقول: «فإنهم ما لبثوا أن استعربوا وتخلَّقوا بأخلاق العرب وامتزجوا بهم وصاروا جزءًا منهم، وكذلك المغول التاتار صاروا فُرسًا وهنودًا، فلم يشذَّ في هذا الباب غير المغول الأتراك؛ أي العثمانيين، فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا، والمتأخرون منهم قبلوا أن يتفرنسوا أو يتألمنوا، ولا يعقل لذلك سببٌ غيرُ شديدِ بغضِهِم يُستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم.»

•••

ولا حاجة بالكواكبي بعد هذا البيان عن ضرورة التطابق بين الراعي والرعية إلى كلمة صريحة أو غامضة لجلاء الوجهة التي ينبغي أن تنتهي إليها مساعي العرب في يقظتهم، فلا بد أن يفلحوا … ولن يفلحوا وهم عرب يملكهم عجم … وملوكهم القائمون بالأمر لا يستعربون ولا يروقهم أن «يستترك» رعاياهم، ومنهم من يؤثر أن يتفرنس ويتألمن ويتجه نحو الغرب ولا يحوِّل وجهته إلى قِبلة شرقية.

فالغاية الماثلة أمام المجاهدين في سبيل اليقظة العربية هي «الاستقلال» وإقامة الدولة التي يقيمها العرب ويرعاها العرب، والمطالبة في انتظار تحقيق هذه الغاية بخير ما يمكن من وجوه الإصلاح التي تزيل أسباب الخلل في إدارة السلطنة العثمانية، وأهمها — فيما يهم البلاد العربية — «التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بُعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها».

ويلحق بهذا السبب سببان آخران يبدو للنظر لأول وهلة أنهما متناقضان لولا أنهما يرجعان إلى حالتين مختلفتين، وهما حالة الرعية الشرقية وحالة الرعية الأجنبية غير العربية ممن تشملهم قوانين الامتيازات أو القوانين المحلية المقصورة على بعض الأقاليم.

فالسبب الأول يرجع إلى «توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي والأجناس والعادات» … ولا يخفى ضرر هذا التوحيد من الوجهة الاجتماعية والإدارية، حيث تتبع «الإجراءات» الواحدة في المقاضاة وتدبير الدواوين بين أطراف دولة تمتد من وادي النهرين إلى البحر الأبيض، ومن البحر الأسود إلى خليج عدن، وتسري على أقوام بينهم من الاختلاف ما بين الأرمن والجركس والترك والعرب في الحاضرة والبادية.

والسبب الآخر يرجع — كما قال الكواكبي — إلى «تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة».

ففي ظاهر الأمر يبدو أن صاحب «أم القرى» يشكو في وقت واحد من توحيد الإجراءات والقوانين ومن تنويعها واختلافها، وهي شكوى متناقضة، ولكنه تناقض في الظاهر دون الحقيقة كما أسلفنا؛ لأن هذه الشكوى في مؤتمر أم القرى خاصة، إنما يثيرها التنويع الذي يقوم على التمييز بين جنس وجنس وطائفة دون طائفة؛ إذعانًا للمعاهدات الأجنبية تارة أو مراعاة للمنازعات الطائفية واستبقاءً لبواعث تلك المنازعات تارة أخرى. وقد كان هذا التمييز عرفًا شائعًا في نظم الدولة يعمُّ تشريعات الإدارة والأحوال الشخصية، ويختلف بالإقليم الواحد بين فئة وفئة وبين عشيرة وعشيرة، ولا يقتصر على الأجانب ولا على الأقاليم التي نشبت فيها الثورات وتدخلت فيها الدول لتقرير نظام الولاية أو الإدارة فيها.

فالكواكبي كان يشكو في الحالتين من شيء واحد، وهو مخالفة الشريعة للمصلحة؛ إما بالتسوية حيث تفرق الأحوال، أو بالتفرقة حيث تلزم العدالة والمساواة.

وربما أضاف الكواكبي شكواه الفنية إلى هذه الشكوى الاجتماعية من تلفيق القوانين والإجراءات، فإنه — وهو الخبير بفقه التشريع — كان ينكر من دعاة التجديد من فقهاء الترك أنهم على تقديره لم يحسنوا المحافظة ولم يحسنوا الابتداع، وأن الدولة ترخَّصت في تبديل قواعد التشريع لغير ضرورة وتشددت في بعضها الآخر كذلك لغير ضرورة «وجاءها أكثر من هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة؛ أي بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها فعطَّلت أصولها القديمة ولم تُحسن التقليد ولا الإبداع، ففشلت حالها ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع؛ لفقد الرجال وصرف حضرة السلطان قوة سلطنته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد».

وقد صرَّح الكواكبي بالحل الملائم لهذه المشكلات السياسية والقانونية لبلاد العرب، ولبلاد الدولة عامة، في أطوار الانتقال، فقال في هامش الصفحة التي سرد فيها أسباب الخلل من أم القرى: إن «من أهم الضروريات أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم، كما هي الحال في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية، وكما يفعله الإنكليز في مستعمراتهم والروس في أملاكهم».

وفحوى هذا الحل أن يؤخذ الذي عُرف بعد ذلك باسم «اللامركزية»، وشعر ساسة الترك أنفسهم بضرورته بعد تفكير الكواكبي فيه بسنوات، فهو — ولا ريب — رائد الدعوة اللامركزية التي جهر بها «حزب الائتلاف والحرية»، وضم إليها أناسًا من زعماء الترك والعرب وبعض الأقوام المشتركين في تركيب السلطنة العثمانية، وكانوا ينادون بالائتلاف لتكوين السلطنة من الشعوب المتآلفة مع استقلالها بحكوماتها الذاتية، وينادون بالحرية لتغليب حقوق الشعوب في سياسة أمورها على حقوق السلطنة المتفردة بالحكومة المركزية، ويقابلون بذلك دعوة المركزيين المعروفين باسم حزب الاتحاد والترقي، يريدون بذلك أن تكون الوحدة المركزية في الدولة غالبة على الائتلاف، وأن تكون حجة «الترقي» بقيادة الرئاسة الحاكمة غالبة على حجة المطالبة بالحرية لكل ولاية على انفراد.

ولا يلجئنا مؤلف «طبائع الاستبداد» إلى مراجعة واستنباط للعلم بصفة الحكومة التي يختارها ويسعى إليها، فلا بد أن تكون — بالبداهة — حكومة غير مستبدة أو «حكومة مسئولة».

أما العنوان الذي يُطلق عليها في مصطلحات العلم السياسي فينبغي أن يتوافر لها بين الشروط الكثيرة شرطان على الأقل من شروط الحكومات المسئولة؛ وهما أن تكون «ديمقراطية اشتراكية».

وقد عرف الاستبداد تعريفين يختلفان بعض الاختلاف لفظًا ويتفقان كل الاتفاق في المعنى والنتيجة.

فالاستبداد — كما قال في مقدمة طبائع الاستبداد — هو «التصرف في الشئون المشتركة بمقتضى الهوى».

أو هو — كما قال بعد ذلك — «تصرُّف فرد أو جمع في حقوق قوم بلا خوفِ تبعة».

ويمتنع الاستبداد — نظرًا وفعلًا — بقيام الحكومة المسئولة، وأفضل هذه الحكومات التي تجتمع لها مبادئ الديمقراطية والاشتراكية، وتتراءى هنا طبيعة التفكير العملي التي تمتزج بآراء الكواكبي في كل مسألة يتسع فيها مجال البحث والمناقشة، وتتساوى فيها وجوه النظر عند تحقيق نتيجتها العملية وضمان المصلحة المنشودة بضمان تلك النتيجة.

فليست العبرة عند الرجل العليم بمنافذ الاستبداد أن يتوافر للحكومة شكل من أشكال الدستور وصورة من صور الحقوق الكثيرة التي ترشح أفراد الرعية للنيابة أو الانتخاب، وإنما المهم في جميع الأشكال على تعدد المصطلحات والدساتير أن يكون ولي الأمر مسئولًا عن عمله محاسبًا عليه، وأن يمتنع عليه الاستبداد، وهو التصرف بالهوى والأمان من التبعة «بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».

فلا يمتنع الاستبداد بامتناع حكومة الفرد، ولا يتحقق الحكم الصالح باشتراك الكثرة فيه أو بتأييد الكثرة للحاكمين المتعددين، أو كما قال في المقدمة: «إن صفة الاستبداد كما تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق الذي تولى الحكم بالغلبة أو بالوراثة، تشمل أيضًا الحاكم الفرد المقيد الوارث أو المنتخب متى كان غير محاسب، وكذلك تشمل حكومة الجمع ولو منتخبًا؛ لأن الاشتراك في الرأي لا يدفع الاستبداد وإنما قد يعدله نوعًا، وقد يكون أحكم وأضر من استبداد الفرد، ويشمل أيضًا الحكومة الدستورية المفرقة فيها قوة التشريع عن قوة التنفيذ؛ لأن ذلك أيضًا لا يرفع الاستبداد ولا يحققه ما لم يكن المنفذون مسئولين لدى المشرعين، وهؤلاء مسئولون لدى الأمة التي تعرف أن تراقب وتؤدي الحساب.»

ولا يمتنع الاستبداد في شكل من أشكال الحكومة مع غفلة الأمة وقدرة الحاكمين على تضليلها والتمويه عليها، قال: «إنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها إلا وتُسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيء من القوتين الهائلتين المهولتين: جهالة الأمة والجنود المنظمة.»

ومن علامات الحكومة الصالحة التي يتعذر عليها الاستبداد في رأي الكواكبي أن يشترك فيها مَن عناهم القرآن الكريم بأهل الذكر، واصطلح الفقهاء على تسميتهم بأهل «الحل والعقد» من قادة الأمة وهداتها، قال بلسان الإمام الصيني في أم القرى: «وهؤلاء الذين نسميهم عندنا بالحكماء هم الذين يطلق عليهم في الشريعة الإسلامية اسم أهل الحل والعقد الذين لا تنعقد الإمامة شرعًا إلا ببيعتهم، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله — عز شأنه — نبيه بمشاورتهم في الأمر … لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المقيدة.»

وإذا أشار الكواكبي إلى الطبقة العليا في «أم القرى» أو «طبائع الاستبداد» لم يدع أحدًا من قرائه يفهم أنها الطبقة العليا بالألقاب أو الطبقة العليا بالميراث؛ لأنه يسمي أصحاب الألقاب من خدام الاستبداد «بالمتمجدين» أو أدعياء المجد، ويقول: إن هذا التمجد «خاص بالإدارات الاستبدادية؛ لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب إلا إعلانًا لخدمة مهمة».

وإنما يكون التمجد — كما قال — «أن يتقلد الرجل سيفًا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وسامًا مشعرًا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتحلى بسيور مزركشة تنبئ بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر: هو أن يصير الإنسان مستبدًّا صغيرًا في كنف المستبد الأعظم».

وطبقة الميراث — ما لم يميزها العلم والخلق الرفيع — هي جرثومة البلاء كما قال، وأبناؤها «هم الأكثر عددًا والأهم موقعًا، وهم مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته».

قال من كلامه عن الاستبداد والمجد: إن هؤلاء الأصلاء «هم جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل؛ لأن بني آدم داموا إخوانًا متساوين إلى أن ميَّزت الصدفة بعض أفرادهم بكثرة النسل، فنشأت منها القوات العصبية، ونشأ من تنازعها تميُّزُ أفراد على أفراد، وحفظ هذه الميزة أوجد الأصلاء … فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وُجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرًا على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبقَ أمامه من يتقيه».

ثم قال: «إذا لم يوجد في أمة أصلاء بالكلية، أو وُجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة فعلًا أو حكمًا لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداء، ولكن لا يتوالى بضع متولِّين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كل فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعدادًا للمغالبة وإعادة التاريخ الأول …»

•••

فالطبقة العليا — في تعبير الكواكبي — لا تعني طبقة من طبقات المظاهر المصنوعة ولا المظاهر الموروثة: لا تعني حملة الألقاب والرتب التي يخلعها الحاكم المطلق على خدامه وعبيد سلطانه، ولا تعني أصحاب الوجاهة المنقولة من الأسلاف إلى الأعقاب دون أن ينتقل معها سبب من أسباب الوجاهة النافعة، وإنما الطبقة العليا في تعبير صاحب «طبائع الاستبداد»، و«أم القرى»، هي الطبقة التي استعدت بكفايتها ودرايتها لقيادة الأمة والاضطلاع «بالخدمة العمومية» والسبق إلى تكاليف العمل والمعرفة، تتولاها وكالة عن جمهرة الأمة، ولا بد في ولايتها من صوت غالب لسواد الأمة، على أية حال، كما يؤخذ من إحصائه لأسباب فساد الحكومة فيما جمعه من هذه الأسباب السياسية والدينية والأخلاقية في فصل خاص ألحقه بفصول أم القرى.

وأيًّا كان مفاد «الطبقة» في تعبير الكواكبي خاصة، فقوام النظام الصالح كله أمران: أن تتساوى الطبقات في الحقوق القانونية، وأن تتقارب في الثروة ودرجات المعيشة.

فلا مناص من إعداد الشعوب لنيل «الأخوَّة العمومية بالتجاوب بين الأفراد والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات».

ولا مناص من توزيع الثروة توزيعًا يمتنع به التفاوت، فإن الاستبداد — كما قال في طبائع الاستبداد — هو الذي جعل «رجال السياسة والأديان ومن يلتحق بهم، وعددهم لا يتجاوز الخمسة١ في المائة يتمتعون بنصف ما يتجمد من دم البشر أو زيادة.»

قال: «وإن أهل الصنائع النفيسة والكمالية والتجار الشرهين والمحتكرين وأمثال هذه الطبقة — ويقدَّرون كذلك خمسة في المائة — يعيش أحدهم بمثل ما يعيش به العشرات أو المئات أو الألوف من الصناع والزراع، وهذه القسمة المتفاوتة بين بني آدم وحواء إلى هذه النسبة المتباعدة هي قسمة جاء بها الاستبداد السياسي.» كما قال وكرر المقال مما نعود إلى بيان رأيه المفصل فيه عند الكلام على برنامجه المختار لإصلاح الحياة الاقتصادية.

ويقتضي التساوي بذلك — الطبقات على هذا المبدأ — ألا تستأثر طائفة من الأمة بإنجاب أهل العلم والدراية؛ بل يكون حكماء الأمة — كما قال بلسان الحكيم الصيني — «من أي طبقة كانت من الأمة؛ إذ قضت سُنَّة الله في خلقه ألا تخلو أمة من الحكماء».

ولا فرق بين طائفة وطائفة في التخلُّق بأخلاق الاستبداد متى قام الأمر على الحكم المطلق وامتنعت المساواة في الحقوق بين الناس؛ «فإن الحكومة المستبدة تكون طبعًا مستبدة في كل فروعها؛ من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفرَّاش إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقًا؛ لأن الأسافل لا يهمهم جلب محبة الناس، إنما غاية مسعاهم اكتساب ثقة المستبد فيهم بأنهم على شاكلته وأنصار لدولته، شرهون لأكل السقطات من ذبيحة الأمة، وبهذا يأمنهم ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه. هذه الفئة المستبدة يكثر عددها ويقل حسب شدة الاستبداد وخفته، فكلما كان المستبد حريصًا على العسف احتاج إلى زيادة جيش المتمجدين العاملين له، والمحافظين عليه، واحتاج إلى الدقة في اتخاذهم من أسفل السافلين الذين لا أثر عندهم لدين أو وجدان، واحتاج إلى حفظ النسبة بينهم في المراتب بالطريقة المعكوسة، وهي أن يكون أسفلهم طباعًا أعلاهم وظيفة وقربًا …»

•••

والكواكبي يذكر السلف الصالح للاقتداء به في أخلاق الرعاة والرعايا، ولكنه يحذِّر قارئه ويعيد التحذير مرة بعد مرة من الخلط بين الاقتداء بأخلاق الحاكمين الأولين وبين الدعوة إلى تقديس أولئك الحاكمين أو إحاطتهم بهالة من عصمة الربوبية أو الرسالة، فإنه — مع تقريره أن الخلافة الإسلامية لم تثبت من قبل لغير الخلفاء الراشدين وآحادٍ معدودين من أمثال عمر بن عبد العزيز — يرى أن الفصل بين الملك والخلافة ضرورة لا محيص عنها؛ كي يتسنى للرعية أن يحاسبوا ولي الأمر ويقيموا ولاية الأمر على أساس الحكومة المسئولة، وقد يحال بينهم وبين ذلك بانتحال صفة القداسة التي يعتصم بها الخليفة من محاسبة رعاياه ومراجعة الأمة في مجموعها لسياسة الدولة.

ولا اكتراث للصور والأشكال في كل ما تقدم من قواعد الحكم وأنظمته وسائر شروطه، فكل صورة من صور الحكم حسنة نافعة إذا تحققت فيها المحاسبة، ولحقت فيها تبعات الحكم فعلًا بمن يتولاه، وكل أمة قادرة على محاسبة حكامها إذا عمت فيها المساواة الحقوقية وامتنع فيها التفاوت البعيد في الأرزاق والأقدار، وانجابت عنها غشاوة الغفلة بين عامة أهلها وارتفع إلى مكان القيادة من استعد بكفايته ودرايته لقيادتها، كائنًا ما كان منشؤه من عامة طبقاتها.

١  في الطبعات الأولى واحد في المائة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤