المَخْلُوق المسْئُول

ارتفع القرآن بالدين من عقائد الكهانة والوساطة وألغاز المحاريب إلى عقائد الرشد والهداية. لا جرم كان «المخلوق المسئول» صفوة جميع الصفات التي ذكرها القرآن عن الإنسان، إما خاصة بالتكليف أو عامة في معارض الحمد والذم من طباعه وفعاله.

ولقد ذُكِرَ الإنسان في القرآن بغاية الحمد وغاية الذم في الآيات المتعددة، وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يُحمد ويُذم في آنٍ واحدٍ، وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فُطر عليه من استعداد لكل منهما؛ فهو أهل للخير والشر؛ لأنه أهل للتكاليف.

والإنسان مسئول عن عمله — فردًا وجماعة — لا يؤخذ واحد بوزر واحد، ولا أُمَّة بوزر أُمَّة: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (الطور: ٢١). تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (البقرة: ١٣٤).

•••

أما مناط المسئولية في القرآن، فهو جامع لكل ركن من أركانها يتغلغل إليه فقه الباحثين عن حكمة التشريع الديني، أو التشريع في الموضوع.

فهي بنصوص الكتاب قائمة على أركانها المجملة: تبليغ، وعلم، وعمل؛ فلا تحق التبعة على أحد لم تبلغه الدعوة في مسائل الغيب ومسائل الإيمان: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (يونس: ٤٧). وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (فاطر: ٢٤). وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: ١٥).

•••

أما العلم فإن أول آية في الكتاب تلقاها صاحب الدعوة الإسلامية كانت أمرًا بالقراءة، وتنويهًا بعلم الله وعلم الإنسان: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم (العلق: ٣–٥).

وأول فاتح في خلق الإنسان كان فاتحة العلم الذي تعلمه آدم وامتاز به على سائر المخلوقات: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (البقرة: ٣١، ٣٢).

•••

وأما العمل فهو مشروط في القرآن بالتكليف الذي تسعه طاقة المكلف، وبالسعي الذي يسعاه لربه ولنفسه. لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة: ٢٨٦). وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (النجم: ٣٩). فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة: ٧، ٨).

ورسل البلاغ هم أول المكلفين بالعلم والعمل، أممهم جميعًا أمة واحدة هي «الأمة الإنسانية»، وإلهُهُم جميعًا إلهٌ واحد هو رب العالمين: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (المؤمنون: ٥١، ٥٢).

وفيما ذُكر فيه الإنسان من آيات الكتاب وصف له وهو في الذروة من الكمال المقدور له بما استعد له من التكليف، ووصف له وهو في الدرك الأسفل من الحطة التي ينحدر إليها بهذا الاستعداد. وكل هذه الآيات توسع مفصل فيما ورد من نصوص الأمر والنهي، والعظة والتذكير، والثواب والعقاب.

فالإنسان أكرم الخلائق بهذا الاستعداد المتفرد بين خلائق السماء والأرض من ذي حياة أو غير ذي حياة: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (الإسراء: ٧٠). لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (التين: ٤). سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ (لقمان: ٢٠). سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ (الحج: ٦٥).

•••

ولكنه ينفرد بين الخلائق بمساوئ لا يُوصف بها غيره؛ لأن السيئة والحسنة — على السواء — لا يُوصف بها مخلوق غير مسئول.

فهذا المخلوق المسئول يُوصف دون غيره من الخلائق بالكفر والظلم والطغيان والخسران والفجور والكنود؛ لأنه دون غيره أهل للإيمان والعدل والرجحان والعفاف. إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (إبراهيم: ٣٤). إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ (العلق: ٦، ٧). إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (العصر: ٢). بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (القيامة: ٥). إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات: ٦).

وقد يُذكر بالضدين في الآية الواحدة كما جاء في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (التين: ٤، ٥).

ونقرأ في بعض التفاسير أن أسفل سافلين هو أرذل العمر، وهو يقتضي أن يكون «أحسن تقويم» هو تقويم الطفل الوليد.

ونقرأ في غيرها أن أسفل سافلين هي الجحيم، فيكون لزامًا أن الجنة هي المقصودة بأحسن تقويم.

وفهم الكثيرون أن التقويم الحسن هو الصورة الظاهرة لاعتدال قوام الإنسان، وليس جمال الخلق وحده مرتبطًا باعتدال القوام، بل ترتبط به القدرة على العمل والإرادة، وهي قدرة لم تخف علاقتها بصورته الظاهرة قبل عصر التشريح والعلم بوظائف الأعضاء، الذي أثبت العلاقة الضرورية بين اعتدال القامة وجهاز النطق في الرأس والعنق وعمود الظهر وسائر البدن، ثم زاد الناس علمًا بما يعنيه التقويم الحسن من فضائل العقل والجسد، ومن مزايا الفطنة والجمال.

وإنما المعنى الموافق لسائر معاني الآيات، أن الجمع بين النقيضين في الإنسان ينصرف إلى وصف واحد، وهو وصف الاستعداد الذي يجعله أهلًا للترقي إلى أحسن تقويم، وأهلًا للتدهور إلى أسفل سافلين.

على أن الآيات التي قصر فيها القول على خلق جسد الإنسان لم تخلُ مما يوحي إلى المخلوق المسئول أن أطوار خلقه السوي إعداد لما هو أشرف من حياته الحيوانية، وبرهان من براهين التبليغ برسالة الغيب، عسى أن ينظر في الخلق فيرى فيه آثار الخالق الذي لا تدركه الأبصار والأسماع: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: ١٢–١٤). ذَٰلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ (السجدة: ٦–٩). وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ (الروم: ٢٠). سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (يس: ٣٦).

ولا يُسأل الإنسان عما يجهل، ولكنه يُسأل عما علِم، وعما وَسِعه أن يعلم، وما من شيء في عالم الغيب أو عالم الشهادة هو محجوب كله من علم الإنسان، فما وسعه من علم فهو محاسب عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤