الإنسان ومَذهَب التَّطوُّر

القائلون بالتطور فرقتان: منهم من يعمم تطبيقه على الكون كله بما اشتمل عليه من مادة وقوة، ومنهم من يقصره على عالم الكائنات العضوية التي تشتمل على النبات والحيوان والإنسان، ولا تحيط بما عداها من الموجودات غير العضوية.

والقائلون بالتطور العام يواجهون مسألة الخلق، أو مسألة الإيمان بالخالق في كلامهم عن العالم، وعن القوى المُسيِّرة له من خارجه أو داخله، ولا مناص لهم من التعرض لهذه القوى برأي من الآراء.

فالذين يقصرون التطور على الأحياء يرجعون في تعليل تطورها إلى عوامل الطبيعة وما تشمله من مؤثرات البيئة والمناخ، وموارد الغذاء، ووسائل الحصول عليه، ولا يضطرهم القول بهذا التطور إلى التعرض لما وراء هذه العوامل الطبيعية بإثبات أو إنكار؛ فقد تكون عوامل الطبيعة في مذهبهم خاضعة لقوة عالية فوق الطبيعة، تودعها ما تشاء من النظم والنواميس، ولا يتناقض القول بالنظم الطبيعية عندهم والقول بما وراء الطبيعة، على حسب العقائد الدينية أو المذاهب الفلسفية.

أما تعميم التطور على الكون كله فلا بد أن يسبقه السؤال عن القوة التي تملك تسيير هذا الكون منذ الأزل إلى غير نهاية، ولا بد للقائل بتعميم التطور من الفصل في مسألة البداية والنهاية، وهي لا تنفصل عن مسألة الخلق والخالق في جملتها.

فإذا كان تطور الأحياء يرجع إلى عوامل البيئة الطبيعية، فماذا خارج الكون كله يرجع إليه تطور الكون منذ البداية الأولى؟ وكيف يتفق القول بالتطور والقول بالأبدية التي لا أول لها ولا آخر إذا قيل: إن الكون موجود بلا ابتداء ولا ختام؟

إن أشهر القائلين بالتطور العام هربرت سبنسر (١٨٢٠–١٩٠٣) الذي عرَّف التطور بأنه انتقال من البسيط إلى المركب، وقال عن تطور الحياة: إنه توفيق دائم بين مطالب البنية الحية وبين ظروفها الطبيعية، ولهذا يحدث التغير للبنية، ثم يحدث لها التوسع والامتداد، وتترقى في وظائفها تبعًا لاتساعها وامتدادها.

وقد عرضت له قضية البداية الأولى فلم يُدخلها في حدود الطبيعة، ولم يُخرجها من حدودها، ولكنه قسَّم الحقائق الكونية إلى قسمين بالنسبة إلى المعرفة الإنسانية؛ أحدهما: حقائق الأشياء في ذواتها وفي أصولها الأولى، وهي القسم الذي لا يُدرك ولا يتقبل الإدراك بالأساليب العلمية، والآخر: حقائق الأشياء في ظواهرها المحدودة، وهي التي يستطيع عقل الإنسان أن يدركها بالاستقراء والاستدلال، ويظهر فيها عمل التطور إما باستخراج الأحكام العامة من المشاهدات المتفرقة، أو بتفسير هذه المشاهدات على حسب تلك الأحكام.

وأصحاب هذا الرأي من القائلين بالتطور العام — على ترددهم في مسألة الأصول الأولى — لا يتجاهلون هذه الأصول، ولا يفوتهم أن القول بالتطور العام يُوجب عليهم أن يرجعوا إلى المؤثرات الكونية التي تصدر منها الآثار المتغيرة، وتفسر لنا أسبابها، وأن إطلاق القول بالتطور من مبدأ الكون غير تخصيص التطور بالكائنات العضوية، وتفسيره بالرجوع إلى العوامل التي تحيط بتلك الكائنات، وتفعل فعلها أو تنفعل معها بمشاركتها، ولكن أصحاب التطور العام على مذهب سبنسر يسلمون بتلك المؤثرات الكونية، ويتركون البحث فيها عجزًا عن الوصول إلى النتيجة، فيقفون بالمعرفة الإنسانية عند الآثار التي يدركونها، ويحجمون عما وراء ذلك فيسلكونه في عداد «المجهولات» التي لا تُدرك بالحواس والعقول.

ويبقى أصحاب التطور العام الذين لا يذهبون مذهب سبنسر في تقسيم المعرفة الإنسانية بين مدرك وغير قابل للإدرك، وهو قبل ذلك مذهب الفيلسوف الأيقوسي هاملتون (١٧٨٨–١٨٥٦)، ومذهب الفيلسوف الألماني عمانويل كانت (١٧٢٤–١٨٠٤) في الظواهر والحقائق، أو في الأشياء كما تُحس وتُدرك، والأشياء في ذواتها.

فأصحاب التطور هؤلاء فريقان يقفان من مسألة الأصول الأولى موقفين متقابلين متناقضين، وتفسير هذه الأصول عند أحدهما — وهو فريق المؤمنين — أنها من صنع الخالق الحكيم، وأن القوة التي تصدر عنها آثار التطور في الكون كله منذ بدايته لا بد أن تكون «قدرة» فوق الطبيعة، وفوق الكون، تودعه ما تشاء من النظم والنواميس.

والفريق الآخر — وهو فريق الماديين المنكرين — يكتفي من التفسير بذكر العوامل التي ينسب إليها التأثير، واعتبارها طبيعة في المادة لا تفسير لها إلا أنها وجدت هكذا، ولا يمكن أن توجد على صورة أخرى غير التي وجدت عليها.

فإذا احتاج الفيلسوف المادي إلى القول بالحركة الدائمة قال: إنها عادة المادة في أصل تكوينها، وإذا لزمه القول بالتغير مع الحركة قال: إن المادة المتحركة متغيرة بطبيعتها، وإذا لزمه بعد ذلك أن يجعلها متغيرة من البساطة إلى التركيب، ومن النقيض إلى النقيض؛ فهذا القول عنده هو وصف للواقع وتفسير له في وقت واحد، وكذلك يفسر التقدم والارتقاء وهما يستلزمان الغاية المرسومة، والنتيجة المقصودة، ولكن الفيلسوف المادي يحسب أنه فرغ من التفسير بوضع كلمة «الضرورة» هنا موضع كلمة الغاية المقصودة.

وليس عند الفيلسوف المادي تفسير لهذا التعدد الهائل في ظواهر الكون وأجزائه، مع ابتداء تطوره من وقت واحد أو مبدأ واحد، وجريان هذا التطور على مادة واحدة وقوة واحدة، وليس عنده معنًى لهذا التقدم أو غاية يتقدم إليها غير انقضاء أجل الكون مرة بعد مرة، كلما انقضت دورة من دوراته الأبدية بين التأخر والتقدم أو بين الهبوط والارتقاء.

وكل هذه الفلسفة المادية تتلخص في كلمة تشبه كلمة الطفل حين تسأله عن سبب شيء فيقول لك: «هكذا» بغير سبب، أو تشبه كلمة الجاهل الذي تسأله عما وقع أمامه فيقول لك: «وقع وحده»، ولا تفهم منه علة لوقوعه أوضح من قول المادي الفيلسوف: إن المادة تتغير لأنها متغيرة، وتتقدم لأنها متقدمة، وتنتقل من البساطة إلى التركيب ومن النقيض إلى النقيض لأن ذلك كله من طبائعها.

ولولا أن المادي الفيلسوف يقرر مذهبه في التطور ليصل منه إلى نتيجة في المستقبل يوجبها على الناس وعلى الزمن؛ لتساوى تفسيره للتطور وسكوته عن تفسيره، ولكنه لو اختار أن يتنبأ بنتيجة تناقض تلك النتيجة، واختار أن يفسر ذلك أيضًا بأنه طبيعة من طبائع المادة، وطور من أطوارها؛ لما كانت حجته في إحدى النبوءتين بأقوى من حجته في الأخرى.

•••

والقائلون بتطور الكائنات العضوية، ممن يقصرون القول عليها ولا يعممون تطبيق التطور على جميع الكائنات، يميلون — على الأغلب الأعم — إلى القصد في التفسيرات والتعليلات، ويتجنبون البحث في الأصول الأولى مكتفين من الأسباب بما يخضع للتجربة، ويصلح للتقرير بأساليب العلم الطبيعي الحديث.

وخلاصة مذهبهم أن أنواع الأحياء تتحول وتتعدد على حسب العوامل الطبيعية، وأنها ترجع جميعًا إلى أصل واحد، أو أصول قليلة، لعلها هي الخلايا البدائية.

وليس القول بتقارب الأنواع أو بتدرجها رأيًا حديثًا مجهولًا قبل ظهور مذهب دارون أو مذاهب النشوئيين العصريين على العموم، ولكنه رأي قديم قال به فلاسفة اليونان وعرفه مفكرو العرب، كما سنبينه في فصل آخر من فصول هذا الكتاب، وإنما الجديد منه إسناده إلى أسباب العلوم الطبيعية التي شاعت بين أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وابتدأ القول به مع ابتداء البحث العلمي على مناهج العلماء المحدثين.

قال به العالم النباتي السويدي كارل لينوس (١٧٠٧–١٧٧٨) Carl Linnaeus الذي عني بتصنيف الأنواع والأجناس في دراسته للنباتات، وبنى على هذا التصنيف رأيه في أنواع الأحياء على التعميم.

وقد كان لمباحث هذا العالم أثر واسع في البيئة العلمية الإنجليزية، فأُنشئ المجمع الليني في لندن بعد وفاته بعشر سنوات نسبةً إليه.

وقال به بوفون العالم النباتي الفرنسي (١٧٠٧–١٧٨٨) Buffon الذي ألَّف كتابه المفصل عن التاريخ الطبيعي بمعاونة الأستاذ دوبينتو Daubenton وآخرين، واتخذ من تصنيف أنواع النبات رأيًا يُماثله في تصنيف أنواع الحيوان.
وكان من المعاصرين لهذين العالمين إراسموس دارون Erasmus Darwin (١٧٣١–١٨٠٢)، جدُّ دارون الذي يُنسب إليه مذهب النشوء والتطور، فكان رائدًا لحفيده في القول بالتقارب بين الإنسان والحيوانات العليا، وعاش معه في عصره العالم الفقيه الأيقوسي، لورد منبودو (١٧١٤–١٧٩٩) Lord Monboddo، صاحب كتاب «أصل اللغة وترقيها» وكتاب «ما وراء الطبيعة في العصور القديمة»، ومذهبه في تطور الإنسان ظاهر من بحثه عن الأسباب الطبيعية لتطور اللغة، وعن العلاقة بين الطبيعة وما وراء الطبيعة عند الأقدمين.

ويتبين من المقابلة بين تواريخ ميلاد هؤلاء العلماء، أن جو العلم الطبيعي في القارة الأوروبية من شمالها إلى جنوبها كان قد تهيأ لدراسة الحياة والأحياء على أساس الوحدة في قوانين الطبيعة، ولم يكن ذلك مقصورًا على السويد وفرنسا وإنجلترا، بل صح من روايات مؤرخي العلوم عند الألمان والروس أن هذه الآراء وجدت من يقول بها على نحو من الأنحاء، وإن كانت روايات هؤلاء المؤرخين لا تخلو من مداخلة الفخر بالسبق العلمي بين الأمم الأوروبية.

ولكن مذهب النشوء لم يُعرف بتفصيله قبل العالم الفرنسي لامارك (١٧٤٤–١٨٢٩) Lamarck، ثم العالمين الإنجليزيين: شارل دارون (١٨٠٩–١٨٨٢)، وزميله ألفريد رسل والاس (١٨٢٣–١٩١٣)، وعلى مباحث هؤلاء العلماء الثلاثة يقوم أساس مذهب النشوء أو مذهب التطور بشقيه المقدمين في اعتبار العلماء إلى اليوم.

•••

وكل من لامارك ودارون ووالاس يقول بتحول الأنواع، ويرد كثرتها إلى نوع واحد أو أنواع قليلة، ولكنهم لا يتفقون على أسباب التحول، ولا على الصفات والوظائف التي تنتقل بالوراثة متى تغيَّرت في تكوين الأفراد.

ففي رأي لامارك أن أعضاء الجسم الحي تتغير بالاستعمال، أو بالإهمال، أو بطارئ من طوارئ المرض والإصابة، وأن الصفات المكتسبة التي تتولد من ذلك تنتقل بالوراثة، ولا تزال تتباعد بين الأفراد حتى ينفصل كل منهما بنوعه المستقل الذي لا يقبل التناسل مع غيره، وقد ضرب المثل بالزرافة، وافترض أنها — لطول قوائمها — كانت تأكل طعامها من أطراف الشجر العليا، وتعودت أن تمط عنقها كلما تجردت الفروع السفلى من أوراقها حتى بلغ غاية امتداده، وثبت على هذا الطول في أعقابها المتوالية.

والنشوئيون الذين يرفضون القول بوراثة الصفات المكتسبة يستدلون على بطلان هذا الرأي ببعض الصفات المكتسبة التي شوهدت منذ أجيال كثيرة، ولم يُشاهد لها أثر وراثي في الأجنة والمواليد، ومنها أن نساء بورما تعودن منذ أجيال أن يطلن أعناقهن بالأطواق العريضة؛ يضعن طوقًا منها فوق طوق حتى تبلغ من الطول غاية الاحتمال، ولا تزال بناتهن يولدن بأعناق لا تزيد في طولها على أعناق البنين الذكور.

ومنها أن عادة الختان عند اليهود لم تعقب أثرًا وراثيًّا بعد استمرارها منذ ثلاثين قرنًا أو تزيد، ويشاهد مثل ذلك في ذرية الحيوان الداجن التي تعود المُدجِّنون له أن يقطعوا أذنابه، أو يستأصلوا بعض أعضائه، فإنها تولد بأعضاء كأعضاء آبائها وأمهاتها بعد انقضاء عدة أجيال على تدجينها.

ويرى النشوئيون الذين يقولون بوراثة الصفات المكتسبة أن قصر الزمن الذي مر على هذه المشاهدات — بالقياس إلى الآماد الطوال التي مرت على تطور الأنواع الحيوانية — لا يكفي للجزم بامتناع الوراثة على إطلاقها، وأن إهمال الأعضاء بالقطع ليس من شأنه ضرورةً أن يُورَّث ولو طال عليه الأمد؛ لأن المقصود بالإهمال ما يُحدث أثرًا في قوام البنية الباقية، أو ينشأ عن حدوث هذا الأثر فيها.

ويلجأ النشوئيون — على رأي دارون ووالاس — إلى تعليل آخر لحدوث التحول في الأنواع، فيعللونه بالانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي، مع القول بتنازع البقاء؛ لزيادة المواليد الحية على الموارد الكافية لتغذيتها ووقايتها.

فالزرافة — عندهم — لم تنقل صفة مكتسبة إلى ذريتها، ولكن أفراد الزراف ولدت قديمًا وفيها تفاوت في الصفات كما يتفاوت الأفراد في جميع الأنواع، وبقي أطولها عنقًا لأنه استطاع أن يبلغ أعالي الشجر؛ حيث يقل الطعام ويقصر غيره من أفراد الزراف عن بلوغه. وهنا يعمل الانتخاب الطبيعي عمله، فتبقى ذرية الزراف الطوال العنق، وينقرض ما عداها، ويعمل الانتخاب الجنسي عمله مع الانتخاب الطبيعي؛ لأن الأفضل من ذكور الحيوان وإناثه يُفضل على غيره عند الجنس الآخر، فيعقب كلا الجنسين المفضلين ذرية تُشبهه في الامتياز على سائر الأفراد.

وليس مَثَلُ الزرافة في رأي دارون بأسعد حظًّا من هذا المثل في رأي لامارك؛ لأن المعترضين عليه يقولون: إن قلة الورق على فروع الشجر السفلى يُبيد صغار الزراف، كما يُبيد أنواع الحيوان التي تعيش مثله على العشب أو على الشجر القصار، وأن ذكور الزراف أطول أعناقًا — في الغالب — من إناثه، فهي خليقة أن تفنى مع غيرها من الزراف القصار الأعناق.

إلا أن الأكثرين من النشوئيين يعتبرون هذا الخطأ سوء تمثيل من دارون، ولا يجعلونه سببًا كافيًا لبطلان القول بالانتخاب الطبيعي؛ فلو أن دارون نظر إلى مزية القوائم الطوال، ولم ينظر إلى مزية العنق الطويل لأمكن تعليل بقاء الزراف الممتاز بالقدرة على الجري بفعل الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي في وقت واحد؛ لأنه يفلت من مطارديه، ويسبق سائر الزراف إلى أماكن المرعى كلما اضطرته ندرة المرعى إلى الانتقال من مكان إلى مكان، وقد صح تمثيل دارون بأنواع شتى من الحيوان غير نوع الزراف فلم يصادفه فيها مثل هذا الاعتراض.

•••

وبعد المقارنة بين الرأيين — رأي لامارك ورأي دارون ووالاس — يتضح أنهما ينتهيان إلى نتيجة متشابهة؛ وهي ضرورة القول في النهاية بوراثة الصفات المكتسبة على طول الزمن، فإن لم تنتقل بعد اكتسابها في حياة فرد واحد، فهي منتقلة بعد التجمع والتمكن من فرد إلى فرد يتم بينهما التوارث فجأة، أو على أثر التدرج البطيء، ولم يكن في ذهن دارون فرض معلوم غير طول الزمن يوم خالَف النشوئيين مِن قبله في تعليله لتحول الأنواع.

وكل ما هنالك أن دارون جرى على عادته من اجتناب الأحكام الإيجابية كلما أمكن تعليل الظواهر المجهولة بالعلل السلبية؛ فهو يقول: إن الأنواع تبقى لأن أسباب الانقراض عجزت عن إبادتها، بدلًا من القول بمؤثرات معينة تخلق الصفات، وتؤدي إلى انتقالها بالوراثة، وتكاد آراؤه في تنازع البقاء وفي الانتخاب الطبيعي والانتخاب الجنسي أن تنتهي إلى نتيجة واحدة؛ وهي أن الأحياء بقيت لأنها لم تنقرض، وأن أسباب الفناء عجزت عن إبادتها كما أبادت غيرها.

وهذه العادة الذهنية هي في وقت واحد مصدر القوة ومصدر الضعف في تفكير دارون، وفي هذا الضرب من التفكير على عمومه؛ فإنها دليل على الأمانة الفكرية التي تُحجم عن تقرير حكم معين قبل ثبوته والإحاطة بحقيقته، وهي كذلك موضع النقص الظاهر؛ لأن العوامل السلبية لا تقوم عليها دلائل الخلق والإنشاء، وإن قامت عليها أحيانًا دلائل الزوال الذي يفيد زوال فريق وسلامة فريق.

وقد كان خطأ النشوئيين في تقرير مسألة الوراثة نقصًا لازمًا لمباحث العلم الطبيعي في القرن التاسع عشر، أيًّا كان رأي العالم الذي يقرر هذه المسألة؛ لأن أسرار الوراثة لم تُعرف قبل تقدُّم علم الناسلات (أو الجينات) Genetics، وظهور فعل الناسلة Gene والصبغية Chormosome في نقل الخصائص والفوارق الفردية من الآباء والأمهات إلى الأبناء.
فكل صفة لا تكمن في الناسلة ولا تحتويها صبغية من صبغياتها؛ فهي صفة عارضة لا تنتقل إلى الذرية بالوراثة، ويقول الأستاذ نيفيل جورج — أحد ثقات هذا العلم: إنَّ الانتخاب الطبيعي لأجل هذا لا يصلح لتعليل مذهب النشوء أو مذهب التطور؛ لأنه يُعلِّل زوال غير الصالح ولا يُعلِّل نشأة المزايا التي تحقق الصرح، وتكفل لصاحبها الدوام في ميدان تنازع البقاء، ثم تفتح الباب لعمل الانتخاب الطبيعي في المستقبل عند التفاوت في تلك المزايا الموروثة بين الأفراد، وإنما تنشأ هذه المزايا بعمل من أعمال الطفرة Mutation يكفي لإحداث التغيير المطلوب في الناسلة وفي صبغياتها التي تنقل تلك المزايا بالوراثة. وقد أمكن العلم بالخواص التي تنقلها كل صبغية من الصبغيات في بعض أنواع النبات والحيوان، وأمكن التأثير في الصبغية بفعل العقاقير أو الأشعة السينية، ويُقال: إن الأشعة الكونية تفعل هذا الفعل إذا نفذت إلى بذور النبات والحيوان، وبها يُعللون التحول المفاجئ كما يعللون الاختلاف الطارئ على النبات في الألوان والأحجام والأشكال.

وتُجرى تجارب الأشعة الآن لإحداث التحول الموروث في أنواع من الذباب والفراش، وقد تؤدي التجربة فعلًا إلى ظهور خاصة في الحشرة تُغير ذريتها فتخالفها بعض المخالفة، ويثبت الاختلاف بعد ذلك على سنن الوراثة المعروفة بالمندلية، نسبة إلى «مندل» صاحب التجارب المشهورة في وراثة الحبوب.

ومن هذه التجارب تجربة تأثير الأشعة السينية على ذباب الفاكهة المعروف باسم الدرسفيلة Drasophila؛ فإن تعريض الذبابة منه للأشعة يُغيِّر ذريتها، فتأتي مخالفة لها في لون العين أو في طول الجناح، ويثبت هذا الاختلاف بعد ذلك في أجيالها المتعاقبة على السُّنة المندلية المقررة لتنظيم خطة الوراثة على نسق معروف من الأعقاب إلى الأعقاب.

•••

ويتجدد الآن سؤال قديم ملازم لفكرة النشوء منذ انتشار مذاهبه قبل تقدم علم الناسلات: فما هو مدى سريان التطور على الجنس البشري؟ هل هناك حد فاصل بين البشرية والحيوانية؟ وإذا أمكن غدًا تحسين أنواع الحيوان بمعالجة الناسلات، فهل يمكن استخدام هذه الوسائل في تحسين صفات الإنسان الفكرية والروحية؟

إن النشوئيين قد تساءلوا عن هذا الفاصل منذ قرروا آراءهم عن التطور على قواعد العلوم التجريبية، وأجابوا عنه إجاباتهم على حسب عقائدهم مرة، وعلى حسب أمزجتهم مرة أخرى.

فالعالم الفرنسي بوفون يُقرِّر أن تقسيم الأنواع يتناول الإنسان من جانبه الحيواني، ولا يعرض لجوانبه المميزة له في عقائد المؤمنين، ودارون يقول: إنه يتكلم عن الأطوار التي تؤثر في جسد الإنسان، ولا شأن له بما عدا ذلك من الملكات الروحية التي يقررها له الدين.

وهذه الأجوبة من النشوئيين ليست بالأجوبة الحديثة في بابها على ذلك السؤال القديم، فإن ابن سينا مثلًا كان يُقرِّر مذهب الطب في الأمراض التي تُنسب إلى فعل الجان والأرواح الخبيثة أو الطيبة فيقول: إنه لا ينفي هذا الفعل، ولكنه ينظر إلى آثاره الجسدية فيرى أنها تُحدث الأعراض التي يعالجها بعلاجها الطبي الموصوف لها عند الأطباء.

وليس النشوئيون جميعًا على منهج بوفون ودارون، أو منهج ابن سينا وأصحابه من علماء الزمن القديم، فإن بعض علماء النشوء المحدثين — وعلى رأسهم أرنست هكل — يُنكرون كل نسبة للإنسان غير نسبته إلى أنواع الحيوان، ويجعلون لهذه النسبة شجرة تجمع بينه وبين القردة العليا، وتنزل في جذورها إلى القردة المذنبة التي تعيش في أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية Marnasets، وقلَّما تحتمل الجو في الأقاليم الشمالية، ومن دونها الليمور Lemur قرد مدغشقر، وهو موضوع في شجرة النسب دون قردة «المرموز» الأمريكية.

ويُرتِّب النشوئيون القردة العليا — صعدًا — من الجيبون إلى الأورانج إلى الشمبانزي إلى الغوريلا، وقد يُفرِّقون بينها في درجات الرقي بحسب اعتمادها على تسلق الأشجار، أو المشي على أديم الأرض والقدرة على الوقوف واعتدال القامة عند السير على قدمين؛ فأدناها ما كان اعتماده كله على التسلق، ومعيشته كلها فوق الأشجار، وأعلاها ما استغنى عن تسلق الأشجار واحتاج إلى استخدام يديه وهو ماشٍ على قدميه؛ فإن نمو الدماغ مرتبط بدرجة العمود الفقري وعظام العنق، ودرجة التصرف باليدين عن قصد وإرادة لتحقيق عمل من الأعمال.

ويزعم هؤلاء النشوئيون أن «التطور» الإنساني له علامات تبدأ من قردة الليمور وقردة المرموز المذنبة، وتتدرج صعدًا إلى الإنسان حيث يزول الذَّنَب، وينمو الدماغ، وتتحول اليد إلى أداة صالحة للتناول غير مقصورة على المشي أو التعلق بفروع الأشجار. ومجمل تلك العلامات أنها بوادر الجلوس والوقوف واختفاء الذَّنَب ومخالب القدمين واليدين.

ويذهب أحد النشوئيين المحدثين إلى القول بأن نوع الإنسان سابق لأنواع القردة بمئات الألوف من السنين، وأن القردة العليا أناسي ممسوخة فقدت أوائل الصفات البشرية، وانحدرت في الصفات العقلية والجسدية إلى ما دون تلك المرتبة بكثير أو قليل.

وصاحب هذا الرأي هو الدكتور هرمان كلاتش Klaatsch الذي كان يدرس علم الإنسان بجامعة برسلو قبل الحرب العالمية الأولى، وعنده أن إنسان جاوة، الذي وُجدت بقاياه المتحجرة وأطلق عليه العلماء اسم Pithecanth ropus، هو المرتبة الوسطى التي صعد منها خلفاؤها إلى ما فوقها، وهبط منها الخلفاء الآخرون إلى ما دونها.

ويزعم «كلاتش» أن الإنسان ينتمي إلى أصول متعددة، ولا ينجم كله من أصل واحد؛ فالمغوليون وقرد الأورانج من أصل واحد، وزنوج أفريقية والشمبانزي والغوريلا من أصل آخر، ولكنه زعم لا تؤيده المقابلة بين هذه الأحياء في الخصائص التشريحية.

•••

ومن المفارقات أن هؤلاء النشوئيين النسابين لم يبلغوا بالقرد ذلك الشبه الذي تصورته طائفة من الأقدمين قبل انتشار القول بالتطور واشتباك الأنواع والأجناس؛ فإن تلك الطائفة من الأقدمين تصورت أن جميع القردة أناسي ممسوخون عقلت ألسنتهم، وبقيت لهم أفهامهم، وليس بينهم وبين الناس من فارق غير الفارق الذي يباعد بين الكائنات المشوهة والكائنات السوية من أصل واحد، ولكن شجرة النسب تحتاج إلى علم التشريح لالتقاط المشابه التي ترجح القول بوحدة الأصول الجسدية بين الإنسان وبين أقوم الخلائق من أنواع الحيوانات العليا.

يقول آرثر كيت — من أكبر النشوئيين المتأخرين — في كتابه شجرة نسب الإنسان:

إن الأستاذ وود جونس لفت النظر إلى بقاء علامات كثيرة في تركيب الإنسان قد اختفت من تراكيب القردة العليا وعامة القرود، وإن هذه القرود العليا وسائر القرود قد احتفظت بعلامات شتى زالت من تركيب الإنسان. ولست أرى أن هذه الشذوذات تستدعي تعديل النسب التي رسمتها هنا، ولكني أرى أن تفسيرها ينبغي أن يُلتمس في زيادة العناية بفهم قوانين الوراثة؛ فإن الكائنات الحية أشبه بأشكال الفسيفساء المتداخلة، ينتقل بعض أنماطها بالوراثة ويختفي غيرها؛ فالغوريلا تولد في أكبادها الفصيصات التي تتولد في أكباد القرود، بينما تقترب كبد الأورانج أشد الاقتراب في تركيبها المتماسك من كبد الإنسان، ولكننا ينبغي أن نفترض أن هذين الحيوانين تحدرا منذ عهود بعيدة من سلف مشترك يشبه تركيب كبده كبد الحيوان.

ثم يستطرد إلى بيان الشبه بين الإنسان والقردة الأفريقية فيقول:

إن الإنسان له على جانبي تجويفه الأنفي سلسلة من الجيوب تسمى بأسماء العظام التي تجاورها، ولا يسعنا أن نعتقد أنها تتولد على حدة في نوعين من الحيوان، ويوجد هذا النمط الإنساني في كل من الشمبانزي والغوريلا، وإن كانت الجيوب في الغوريلا وحدها قد اتخذت لها نمطًا آخر.

ومن الجائز أن نمطًا آخر كان موجودًا في أنف سلف الأورانج، ويصعب التحقق منه بعد انتكاس تركيب الأنف كله في هذا العضو الكبير من أعضاء الحيوانات القردية العليا. وقد عرف أن دم الغوريلا ودم الشمبانزي أقرب استجابة إلى الانفعال بدم الإنسان من جميع الفقاريات. وتبلغ العلامات المشتركة بين الإنسان وكل من الشمبانزي والغوريلا نسبة — إلى سائر العلامات التي أحصيتها — تقدر بثمانية وسبعة أعشار في المائة؛ ولهذا أتوقع أن بقية من بقايا المتحجرات تنكشف يومًا في أفريقية تعتبر السلف المشترك بين الغوريلا والشمبانزي والإنسان.

هذه هي العلامات التشريحية التي انتهى إليها أصحاب شجرة النسب من النشوئيين المتأخرين، وما عداها من العلامات ووجوه الشبه لا يعدو أن يكون إعادة لتصوير المشابه العامة التي يلمحها النظر لأول وهلة بغير حاجة إلى تشريح الأعضاء. وقد أحصاها الأستاذ «شابمان بنشر» Pincher في كتابه عن تعليل التطور، ثم عقَّب عليها قائلًا: «إنه لا احتمال لتسلسل الإنسان من القردة كما نعرفها؛ لأن القردة منفردة بتركيب خاص يستحيل تشريحيًّا أن يتطور منه تركيب الإنسان؛ إذ كان الإنسان قد نما له خلال مليون سنة دماغ أكبر، وقامة أقوم، ويد — فوق هذا وذاك — أصلح للتناول والتصرف بالاستعمال.»

وهذا الفاصل الحاسم هو قصارى مدى الاقتراب بين النوع البشري وسائر أنواع الأحياء بمقياس التطور وعلم الوراثة، يُعبِّر عنه النشوئي فيقول: إنه سبق مليون سنة، ليلحق به مدى الفارق الروحي في تعبير الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤