مَذهَب التَّطوُّر في الشَّرق العَرَبي

من خصائص مذهب دارون — على ما يظهر — أن يشيع على نحو واحد قبل الوقوف على شروحه وبراهينه، وأن يثير ضروبًا متقاربة من الاعتراض في مواطن العقيدة والثقافة العامة؛ فإنه لقي في الشرق العربي مثل ما لقيه من التحريف والاعتراض في البلاد الأوروبية، وتتابعت أدوار السماع به، ثم الإشاعة عنه، ثم الرد عليه بين المفكرين وقُرَّاء العلم الشرقيين، كما تتابعت قبل ذلك بين مفكري الغرب وقرائه، وتكرار هذا كله في الشرق العربي كأنه يحدث للمرة الأولى، ولم تنقشع شبهاته عن حقائقه إلا بعد الثورة المفاجئة التي يظهر — كما أسلفنا — أنها مقدمة لا بد منها، وأثر من آثار الصدمة الشعورية المفاجئة لا محيص عنه.

وقد تصدى للرد عليه في الشرق الإسلامي عامة، والشرق العربي خاصة، نخبة من المفكرين وقادة الإصلاح والمجتهدين من أتباع جميع الأديان الكتابية، وناقشوه — كما شاع لأول وهلة بين الغربيين من قبل — كأنه مذهب يستلزم إنكار الخلق، ويزعم أن القردة جدود البشر أجمعين، فكل إنسان حديث فهو نسل متأخر لقرد قديم.

وقلما يتصور القارئ العصري أن مذهبًا كمذهب التطور يشيع في الشرق العربي قبل مائة سنة، ويتصدى للرد عليه عدد من الكُتَّاب كذلك العدد الذي بقيت لنا بعض كتاباته، وانطوى أكثرها في زوايا المطبوعات المهجورة من المصنفات والنشرات الصحفية؛ لأن القارئ العصري يحسب أن مذهب التطور قد وصل إلى الأمم الشرقية وهي في «جاهلية»؛ لا تبلغها دعوة عالم أو مفكر من أبناء الأمم الأجنبية.

ولكن الواقع أن «جاهلية» القرن التاسع عشر لم تكن في شرقنا العربي حجابًا دون المذاهب الفكرية التي يطلع عليها الأوروبي المثقف في حينها، ولم يكن مذهب كمذهب التطور لينعزل في حيز محدود بين جدران وطن واحد وهو يتحدث عن نسب الإنسان حيثما كان، في زمن لم يتحدث فيه الناس عن شيء كما تحدثوا عن مفاخر الأمم بالأصول الإنسانية، وبالأنساب التي يدعيها السادة لأنفسهم، وينكرونها على الرعايا المستعبدين.

•••

وسنختار في هذا الفصل أمثلة من مناقشة المذهب كما فهمه في ذلك العصر أصحاب الاجتهاد ورُوَّاد الفكر من المسلمين والمسيحيين، ومنهم أهل السنة والشيعة، وأتباع الكنائس الشرقية والغربية في بلاد العالم العربي، وقد وصلت أصداء الردود التي كتبها المشهورون من أولئك المفكرين إلى أطراف البلاد الإسلامية في الهند والصين.

قال السيد جمال الدين الأفغاني — من أئمة المصلحين من أهل السنة — في كتاب «الرد على الدهريين»:

رأس القائلين بهذا القول دارون، وقد ألَّف كتابًا في بيان أن الإنسان كان قردًا، ثم عرض له التنقيح والتهذيب في صورته بالتدريج على تتالي القرون المتطاولة، وبتأثير الفواعل الطبيعية الخارجية؛ حتى ارتقى إلى برزخ أوران أوتان، ثم ارتقى من تلك الصورة إلى أول مراتب الإنسان، فكان صنف النيمنم وسائر الزنوج، ومن هناك عرج بعض أفراده إلى أفق أعلى وأرفع من أفق الزنجيين، فكان الإنسان القوقاسي. وعلى زعم دارون هذا، يمكن أن يصير البرغوث فيلًا بمرور القرون وكرِّ الدهور، وأن ينقلب الفيل برغوثًا كذلك.

فإن سُئل دارون عن الأشجار القائمة في غابات الهند، والنباتات المتولدة من أزمان بعيدة لا يحدها التاريخ إلا ظنًّا، وأصولها تضرب في بقعة واحدة، وفروعها تذهب في هواء واحد، وعروقها تُسقى بماء واحد، فما السبب في اختلاف كل منها عن الآخر في بنيته، أو أشكال أوراقه، وطوله وقصره، وضخامة ورقته، وزهره وثمره، وطعمه ورائحته وعمره، فأي فاعل خارجي أثَّر فيها حتى خالَف بينها مع وحدة المكان والماء والهواء؟ أظن لا سبيل إلى الجواب سوى العجز عنه.

وإن قيل له: هذه أسماك بحيرة أورال وبحر كسبين تشاركها في المأكل والمشرب، وتسابقها في ميدان واحد، ترى فيها اختلافًا نوعيًّا وتباينًا بعيدًا في الألوان والأشكال والأعمال؛ فما السبب في هذا التباين والتفاوت؟ فلا أراه يلجأ في الجواب إلا إلى الحصر.

وهكذا لو عرضت عليه الحيوانات المختلفة البنى والصور والقوى والخواص، وهي تعيش في منطقة واحدة، ولا تسلم حياتها في سائر المناطق من الحشرات المتباينة في الخلقة، المتباعدة في التركيب، المتولدة في بقعة واحدة، ولا طاقة لها على قطع المسافات البعيدة؛ فماذا تكون حجته في علة اختلافها؟ بل إذا قيل له: أي هادٍ هدى تلك الجراثيم في نقصها وخداجها؟

وأي مرشد أرشدها إلى استتمام هذه الجوارح والأعضاء الظاهرة والباطنة، ووضعها على مقتضى الحكمة، وإيداع كل منها قوة على حسبه، ونوطها بكل قوة في عضو أداء وظيفته، وإيفاد عمل حيوي مما عجز الحكماء عن درك سره، ووقف علماء الفسيولوجيا دون الوصول إلى تحديد منافعه؟ وكيف صارت الضرورة العمياء معلمًا لتلك الجراثيم، وهاديًّا خبيرًا لطرق جميع الكمالات الصورية والمعنوية؟ فلا ريب أنه يقبع قبوع القنفذ، وينتكس بين أمواج الحيرة يدفعه ريب ويتلقاه شك إلى أبد الآبدين.

وكأني بهذا المسكين وما رماه في مجاهيل الأوهام ومجاهيل الخرافات إلا قرب المشابهة بين القرد والإنسان، وكان ما أخذ به من الشبهة الواهية أُلهيَّة يشغل بها نفسه عن آلام الحيرة وحسرات العماية.

وإنا نورد شيئًا مما تمسك به، فمن ذلك أن الخيل في سيبيريا وبلاد الروسية أطول وأغزر شعرًا من الخيل المولدة في البلاد العربية، وإنما علة ذلك الضرورة وعدمها. ونقول: إن السبب فيما ذكره هو عين السبب لكثرة النبات وقلته في بقعة واحدة لوقتين مختلفين حسب كثرة الأمطار وقلتها، ووفور المياه ونزورها أوجد علة النحافة ودقة العود في سكان البلاد الحارة، والضخامة والسمن في أهل البلاد الباردة؛ بما يعتري البدن من كثرة التحلل في الحرارة، وقلته في البرودة.

ومن واهياته ما كان يرويه دارون من أن جماعة كانوا يقطعون أذناب كلابهم، فلما واظبوا على عملهم هذا قرونًا صارت الكلاب تولد بلا أذناب؛ كأنه يقول حيث لم تعد للذَّنَب حاجة كفَّت الطبيعة عن هبته، وهل صمَّتْ أُذُن هذا المسكين عن سماع خبر العبرانيين والعرب وما يجرونه من الختان ألوفًا من السنين؛ لا يولد مولود حتى يختن، وإلى الآن لم يولد واحد منهم مختونًا إلا لإعجاز.

ولما ظهر لجماعة من متأخري الماديين فساد ما تمسك به أسلافهم نبذوا آراءهم، وأخذوا طريقًا جديدة، فقالوا: ليس من الممكن أن تكون المادة العارية عن الشعور مصدرًا لهذا النظام المتقن، والهيئة البديعة، والأشكال العجيبة، والصور الأنيقة، وغير ذلك مما خفي سره وظهر أثره، ولكن العلة في نظام الكون علويِّه وسفليِّه، والموجب لاختلاف الصور، والمقدر لأشكالها وأطوارها وما يلزم لبقائها، تتركب من ثلاثة أشياء: متيير، وفورس، وانتليجانس؛ أي مادة وقوة وإدراك.

وظنوا أن المادة بما لها من القوة، وما يلامسها من الإدراك تجلت وتنجلي بهذه الأشكال والهيئات، وعندما تظهر بصورة الأجساد الحية، نباتية كانت أو حيوانية، تراعي بما يلابسها من الشعور، وما يلزم لبقاء الشخص وحفظ النوع، فتنشئ لها من الأعضاء والآلات ما يفي بأداء الوظائف الشخصية والنوعية، مع الالتفات إلى الأزمنة والأمكنة والفصول السنوية.

هذا أنفس ما وجدوا من حلية لمذهبهم العاطل، بعدما دخلوا ألف جُحر وخرجوا من ألف نفق، وما هو أقرب إلى العقل من سائر أوهامهم، ولا هو بالمنطبق على سائر أصولهم؛ فإنهم يرون كسائر المتأخرين أن الأجسام مركبة من الأجزاء الديمقراطيسية — نسبة إلى ديمقراطيس — ولا ينطبق رأيهم الجديد في هذا النظام الكوني على رأيهم في تركيب الأجسام، وذلك لأنه يلزم عن القول بشعور المادة أن يكون لكل جزء ديمقراطيسي شعور خاص، كما يلزم أن تكون له قوة خاصة ينفصل بها عن سائر الأجزاء؛ إذ لا يمكن قيام العرض الواحد وحدة شخصية بمحلين، فلا يقوم علم واحد بجزأين ولا بأجزاء.

وبعد ذلك، فإني سائلهم: كيف اطلع كل جزء من أجزاء المادة مع انفصالها على مقاصد سائر الأجزاء، وبأية آلة أفهم كلٌّ منها باقيها بما ينويه من مطلبه؟ وأي برلمان أو أي سنات — مجلس شيوخ — عقدت للتشاور في إبداع هذه المكونات العالية التركيب، البديعة التأليف؟ وأنَّى لهذه الأجزاء أن تعلم وهي في بيضة العصفور ضرورة ظهورها في هيئة طير يأكل الحبوب، فمن الواجب أن يكون له منقار وحوصلة لحاجته في حياته إليهما؟

وبعد كتابة «الرد على الدهريين» بنحو ثلاثين سنة، ظهر كتاب نقد «فلسفة دارون» لمؤلفه الشيخ «محمد رضا آل العلامة التقي الأصفهاني»، وهو باحث فاضل من علماء الشيعة بكربلاء المعلى، تحرَّى النظر في مجموعة وافية من مراجع مذهب النشوء العربية والإفرنجية التي وصلت إلى الشرق الإسلامي بعد كتابة «الرد على الدهريين»، ولم يقنع بما اطلع عليه من هذه المراجع، بل أرسل في طلب غيرها من المراجع المستحدثة، ولكنه ألَّف كتابه ولم ينتظر وصولها إليه لولا «الباعث الديني»، كما جاء في مقدمة الكتاب.

حيث يقول: إن دارون وسائر رؤساء هذه الفلسفة ألَّفوا كتبًا غير موجودة عندنا، «وكان الحزم تأخير تصنيف هذا الكتاب إلى زمن وصولها لولا الباعث الديني، وظننا أنه يوجب علينا المسارعة، ولا يبعد أن يكون قد منعنا صغرى دليل قد فزع هؤلاء من إثباته، أو كبرى حجة مذكور في كتبهم برهانًا، وأنا أقترح عليهم أن يخابرونا بما يجدونه منه ومن أمثاله لننظر فيه، ولهم علينا أن نستعمل الإنصاف لا المكابرة.»

ولم يقصد المؤلف بالباعث الديني أن يقصر ردوده على مناقشة الآراء التي تخالف الديانة الإسلامية دون سائر الديانات، ولكنه أراد أن ينقض أدلة الإلحاد التي تعارض الإيمان بالله وبالعقائد الإلهية على إجمالها، وقد قال في كلمته الخاصة بالمؤمنين: «ليعلم أن كتابي هذا موضوع للدفاع عن الدين المطلق في قبال اللادين المحض، لا للانتصار لدين على دين؛ ولهذا تراني أدفع ما استطعت عن أديان لا أنتحلها، ومذاهب لا أقول بها؛ لأن أحد هؤلاء لا يثلب دينًا إلا وقصده ثلب الأديان عامة، ولا يزري على شريعة إلا ليسري إزراؤه إلى الشرائع قاطبة.»

وأنصف المؤلف مذهب النشوء فلم يحسبه من مذاهب الإلحاد والتعطيل؛ لأن القول بالنشوء لا يقتضي إنكار الخالق، وإنما يتسرب إليه الإلحاد من تفسيرات الماديين لمقدماته على الوجه الذي يوافق نتائجهم المقررة عندهم قبل ظهوره، فيقول المؤلف عن فلسفة النشوء والارتقاء: إنها «ليست مما ينافي الدين؛ إذ الذي يجب علينا اعتقاده هو أن جميع الموجودات بأراضيها وسماواتها، وما فيها من صنوف المخلوقات من نباتاتها وحيواناتها، والبشر على صنوفها واختلاف لغاتها، صُنع إله واحد قادر حكيم قد وسع كل شيء علمًا، وأتقنه صنعًا، خلق جميع الأصناف من جميع الأنواع عن قصد واختيار.

وهذا أمر متفق عليه في جميع الأديان، وأما كيفية الخلق، وأن هذه الأنواع كلها خُلقت خلقًا مستقلًّا، ووجدت من كتم العدم ابتداء، وأنها لم تتغير عما وجدت عليه في أوائل الخلق؛ فهذا أمر لم يرد فيه نص صريح من الكتاب، ولا متواتر من السنة، وسواء كانت آباء الجمل جمالًا أو كانت ضفادع تنق في الماء، والجد الأعلى للفيل فيلًا أو «سنونوًا» يطير في الهواء؛ فإن أدلة الصنع عليهما في الحالين ظاهرة، وفيها على وجود الصانع الحكيم آيات باهرة؛ ففرصة الملاحدة بهذه الآراء وجعلها أساسًا للإلحاد من أغرب الأشياء.»

ثم يقول المؤلف: إن هذه الآراء «ليس فيها إلا بيان ترتيب المخلوقات وكيفية الصنع فيها، ومتى كان أهل الدين ينكرون ذلك، ويدَّعون أن الله تعالى خلق جميع الأشياء في وقت واحد خلقًا مستقلًّا عن الآخر؟ وهم يرون الله تعالى بلطيف حكمته، وبديع صنعته يخلق الثمر من الشجر، والشجر من النواة، ولا يجعل العنب حلوًا إلا بعدما يجعله حامضًا، ولا يجعله حامضًا إلا بعدما يجعله مرًّا.»

ويستطرد المؤلف إلى تلخيص آراء النشوئيين الذين آمنوا بالخالق، ثم يرجع إلى أقوال الأقدمين من الهمج الذين انتسبوا إلى القردة كما انتسبوا إلى غيرها من الحيوان، ويرجع بعد ذلك إلى أقوال أئمة المسلمين الذين عرفوا الشبه بين الإنسان والقرد، ولم يذهبوا مذهب دارون في تعويله على وجوه الشبه، وإعراضه عن وجوه الخلاف، فيقول: «إن أئمة المسلمين وعلماءهم ذكروا ما هو أغرب وأقرب.»

ويستشهد بكتاب التوحيد الذي أملاه الإمام جعفر الصادق على المفضل بن عمر الجعفي، ومنه على رواية المؤلف: «تأمل خلق القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه، أعني الرأس والوجه والمنكبين، وكذلك أحشاؤه أيضًا شبيهة بأحشاء الإنسان، وخُصَّ مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم من سائسه ما يومئ إليه، ويحكي كثيرًا مما يرى الإنسان يفعله؛ حتى أنه ليقرب من خلق الإنسان وشمائله أن يكون عبرة للإنسان نفسه، فيعلم أنه من طينة البهائم وسنحها؛ إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب، وأنه لولا فضيلة فُضِّل بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم، على أن في جسم القرد فضولًا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان؛ كالخطم، والذَّنَب المسدل، والشعر المجلل للجسم كله، وهذا لم يكن مانعًا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أُعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه.»

وينتقل المؤلف إلى كلام الدميري؛ إذ يقول عن القرد: إنه «أشبه الإنسان في غالب حالاته؛ فإنه يضحك ويطرب، ويغني ويحكي، ويتناول الشيء بيده، وله أصابع مفصلة إلى أنامل وأظافر، ويقبل التلقين والتعليم، ويأنس بالناس، ويمشي على رجليه حينًا يسيرًا، ولشعر عينيه الأسفل أهداب، وليس ذلك لشيء من الحيوان سواه؛ فهو كالإنسان، ويأخذ نفسه بالزواج والغيرة على الإناث — وهما خصلتان من مفاخر الإنسان — فإذا زاد به الشبق استمنى بفيه، وتحمل الأنثى أولادها كما تحمل المرأة … وفيه من قبول التأديب والتعليم ما لا يخفى.»

ويذكر المؤلف أن إخوان الصفاء بلغوا بوصف هذه المشابهة ما لم يبلغه دارون؛ حيث قالوا: إن القرد «لقرب شكل جسمه من جسد الإنسان صارت نفسه تحاكي النفس الإنسانية»، ثم يعقب على هذه التشبيهات جميعًا فيقول: إن الإنسان كما يشابه القرد في أشياء يشابه غيره من الحيوان في غيرها، «بل لعل في الحيوانات الدنيا من شبه الإنسان أقسامًا لا توجد في العليا، فلا يصح الاعتماد على مجرد المشابهة. وهذا الأستاذ الشهير «كوفييه» يقول: إن إدراك القرد ليس أرقى من إدراك الكلب إلا قليلًا، وإذا سلمنا أن من لوازم المشابهة التحول، فكيف يتعين تحول الإنسان عن حيوان نشأ عنه القرد؟ فلعل الإنسان تحول قردًا! وهذا ما نص عليه الذكر الحكيم».

وبعد مناقشة المؤلف قرينة الشبه الظاهر بين الإنسان والقرد، مضى يُناقش القرائن الأخرى التي يستند إليها النشوئيون للقول بتحول الأنواع، وتحول النوع الإنساني من بينها عن أصله المشترك بينه وبين الفقاريات العليا، فنهج في مناقشته على هذا المنهج الذي يستمد الدليل من أصول الجدل المنطقي تارة، ومن تجارب للواقع تارة أخرى، وأفادته مطالعاته المتفرقة لمراجع المذهب فلم يُخطئ مواضع الحجة الواقعية أحيانًا، مع اعتماده الغالب على منهج النقائض الجدلية.

ومن قبيل ذلك أنه عمد إلى دليل من أقوى أدلة النشوئيين، وهو بقاء الأعضاء الأثرية — كالثندوة — في ذكور الإنسان، فتساءل: «لا أدري لماذا بقي أثر عار الخنوثة ظاهرًا في الإنسان، ولم يبق فيما هو أدون منه في سلم الارتقاء كذوات الحافر؟» ولم ينسَ أن يستدرك على هذا الاعتراض بما أسنده إلى ما قال الشيخ الرئيس في الشفاء:

إن الفيل الذكر له ثدي كما للإنسان، وذكور ذوات الحافر لا ثدي لها إلا ما يشبه أمهاتها، وينزع إليها كما يعرض مرارًا في الخيل.

وجملة رأي المؤلف أن ما يُسمى بالأعضاء الأثرية يدخل في باب «الشذوذات» التي تعرض لتركيب بعض الأحياء وهي أجنة في بطون أمهاتها، أو تعرض لها خلال نموها، وعدَّد من ذلك ما يُولد وله أربع أيد، أو ما يُولد وله جوف واحد ورأسان وأربع أقدام، أو ما يُولد وقلبه في غير موضعه، ثم قال متسائلًا: «فهل يمكن تعليل هذه الشواذ المشنوعة بحيوانات كانت كذلك في العصور الجيولوجية، فانتقلت إلى هؤلاء التعساء بناموس «الأتافيسيم»؟ فإن لم يمكن ذلك؛ فلتكن الشواذ التي فيها بعض الشبه بالحيوانات من هذا القبيل.»

ومنهج المؤلف في نقد الانتخاب الجنسي — وهو سبب هام من أسباب التطور — كمنهجه فيما تقدم، فهو يبدأ بالانتخاب الجنسي في النبات ويسأل: كيف يقع الانتخاب الجنسي بين النباتات التي لا يتوقف تلقيحها على الحشرات والطيور؟ وكيف تميز الحشرات والطيور ما هو جميل وما هو أجمل؟ ثم يقول: «إن العجماوات قليلة الإدراك لما في المصنوعات الجميلة من الجمال، حتى أن بعضهم جعل ذلك أعظم فارق بين الإنسان وبينهما، وكان الأستاذ هكسلي ممن يذهب هذا المذهب.»

قال: «ثم هبْ أن هذه الحيوانات الملحقة عذرية الهوى والغرام، وهائمة بالجمال كعروة بن خزام، ولكنها لا تريد مغازلتها، بل تطلب رزقها المقسوم لها، وعند أي نبات وجدته لقحته حسنًا كان أو قبيحًا، فلا أدري بم يعلل هذا الحسن والانتظام في الفواكه والأثمار، وما فيها من الطعم المحبوب، والنكهة الطيبة ونحوهما مما لا يوجد إلا بعد التلقيح؟»

ثم أنحى المؤلف على أساس مذهب التحول؛ لأنه قائم على افتراض تعدد الأنواع بعد انفرادها أو قلتها، وليس هذا الافتراض باللازم ضرورة من قياس العقل، ولا من نتائج الواقع: «ومن الطريف في هذا الرأي أنه كما يمكن أن يعلل به القول باتحاد أصول الأنواع أو قلتها، كذلك يمكن القول بعكس ذلك والتعليل له أيضًا، فيُقال: إن أصول الأحياء كانت في بدء الخلق أفرادًا متباينة بأقصى ما يكون من التباين وعدم التشابه، فلم يزل كل حي يخلف نسلًا يشبهه بناموس الوراثة، ويباينه بناموس المباينة، لكن بما يقربه إلى فرد آخر.

فلم تزل تلك المباينات مع الأجداد تزيد المشابهات مع سائر الأفراد، وتنازع البقاء يلاشي الضعيف، والطبيعة تنتخب القوى حتى صارت التباينات التي قلنا: إنها مع غير المشابهات ثابتة، فتألفت منه الأنواع الموجودة، وله شواهد على مذهب هؤلاء، فالحية مثلًا تعد الآن من جنس الدبابات، ولا تجتمع معها في الأصل، بل أصلها من ذوات الأرجل، وقل مثله في الحيوانات المنحطة التي يذكرها بخنر وغيره، فإنها الآن تؤلف جنس المنحطات وهي بعيدة في الأصل منها.»

قال: «وهذا الاحتمال وإن لم أجد أحدًا قال به في أصول الأنواع، ولكنه أحد القولين المشهورين في أصل اللغات. وعند العلماء مذهبان شهيران؛ الأول: أن لغات البشر متشابهة، وهي كلها من أصل واحد، وهذا الأصل قد تفرع وتنوع فتولدت منه لغات البشر المختلفة، فما اللغات سوى لهجات من لغة واحدة، ولكنها بعدت عن الأصل كثيرًا، وتغيرت بالزيادة والنقصان، والنحت والحذف؛ حتى بعدت بعضها عن بعض هذا البعد الشاسع، وتعذر رد بعضها إلى بعض لفقد الحلقات الكثيرة من بينها، والمذهب الثاني: أنه كانت للغات البشر أصول مختلفة بحسب عدد طوائفها، وأنه مع الزمان اقتربت هذه اللغات بعضها من بعض، فتمازجت وتشابهت بتمازج أهلها وتشابههم إلخ. وعند الكاتب أن المذهب الثاني أقرب إلى الصحة وأقدر على حل المشكلات من الأول.»

وتابع المؤلف بحثه في النشوء، فاستطرد منه إلى البحث في الارتقاء وسأل: «أي معنى لارتقاء ذوات الأربع عن الطيور، وارتقاء الإنسان عن ذوات الأربع مع اشتراك الكل في حصول التغير؟»

وانتهى المؤلف إلى أن المذهب كله ناقص الإسناد، لا توجد فيه حجة قاطعة غير قرائن الترجيح والتغليب، ولا غنى له عن المزيد من البحث والتنقيب، كما قال بعد أكثر من خمسمائة صفحة على هذا المنهج مستندًا إلى قول فيرسو العالم الألماني: «إنه في بعض طوائف الناس صفات يشاركهم القرد فيها، كما في بروز الفك وفطس الأنف؛ مما يجعل العلاقة قريبة بين تلك الطوائف والقرود حتى يحتمل ارتقاؤها من القرود.

ولكن بين الاحتمال والقطع بونًا شاسعًا؛ لأن الصفات المشار إليها لا تقوِّم نوع القرد، بل المقوم له خواص أخرى، وكل قدة من جلده كافية لتمييز نوعه من غيره من الأنواع، ولا أظن أن واحدًا من المشرحين يرتاب في ذلك، والفرق بين الإنسان والقرد واضح جدًّا؛ حتى أن كل قطعة من الواحد كافية ليستدل منها على النوع المقطوعة منه؛ فالأدلة على النشوء الفعلي قاصرة جدًّا لا يُبنى عليها حكم، ولا بد من أن يزيدنا البحث والتنقيب للوقوف على أدلة أخرى قوية.»

•••

ويتبين من مراجعة «المكتبة النشوئية» في الشرق العربي، أن الاهتمام بالمذهب كان على أشده بين أتباع الكنائس الكاثوليكية والكنائس الإنجيلية؛ لأنها هي الكنائس التي تصدى علماء اللاهوت منها لمناقشة مذهب دارون عند إعلانه في موطن ظهوره، وشاركهم في ذلك علماء الطبيعة المسيحيون ممن أنكروا المذهب، واستندوا في إنكاره إلى الأدلة العلمية، وطالبوا النشوئيين بمزيد من الأدلة القاطعة لإثبات نظرياتهم؛ لأنها نظريات تنقض بعض المقررات الدينية، ولا يكفي في مثل هذه الحالة أن تستند النظرية إلى الترجيح والتغليب، أو إلى الظن والتقدير.

وقد يُعزى إلى هذا السبب كثرة الدراسات التي تعرضت لمذهب النشوء من الناحية الدينية، أو من الناحية العلمية، بأقلام فضلاء الكنائس الكاثوليكية والإنجيلية من كُتَّاب اللغة العربية، وبخاصة في البلاد التي كان اللاهوتيون يشرفون على معاهد التعليم فيها، ويأخذون بزمام ثقافتها وآدابها.

ونحن نختار هنا من الدراسات النشوئية التي كُتبت باللغة العربية، ولا نستقصيها لكثرتها وخروج معظمها عن موضوعه، ولم نجد بينها ما هو أولى من دراسات الأساتذة إبراهيم الحوراني، والأب جرجس فرج صفير الماروني، والأسقف خير الله أسطفان، والدكتور حليم عطية سوريال، ومنهم من كتب عن هذا المذهب قبل خمس وسبعين سنة، وأحدثهم كتابةً عنه من تصدَّى لمناقشته بعد ظهور كتب الدكتور «شبلي شميل» في موضوعه، وهي مؤيدة للنشوئيين المنكرين للأديان.

فالأستاذ إبراهيم حوراني — وهو عالم لغوي مطلع على المباحث العلمية — ألَّف في الرد على مذهب دارون رسالة «مناهج الحكماء في نفي النشوء والارتقاء»، ثم أتبعها برسالة «الحق اليقين في الرد على بطل دارون»، وطبعها ببيروت (سنة ١٨٨٦) ردًّا على مناقشة الدكتور «شبلي شميل» لرسالته الأولى، فصبَّ حملته الكبرى على موطن الضعف في المذهب، وهو افتقاره إلى الدليل القاطع، وتعويله على الشواهد التي توحي بالرأي، ولا تستأصل الشكوك أو تسكت المعترض المُطالِب بدليل لا يضعفه الاحتمال.

وقد آثر الأستاذ حوراني أن يؤخر رأيه حتى يسوق بين يديه آراء علماء الطبيعة المخالفين لدارون في القول بتحول الإنسان عن غيره من الحيوان، قال: «إن العلماء لم يثبتوا مذهب دارون، وكذلك نفوه وطعنوا فيه مع علمهم أنه بحث فيه عشرين سنة، ومنهم العلامة «ونشل»، مع أنه من أشد الناس ميلًا إلى القول بالارتقاء بفعل الله، ومنهم العلامة ولاس قال ما خلاصته: إن الارتقاء بالانتخاب الطبيعي لا يصدق على الإنسان، ولا بد من القول بخلقه رأسًا.

ومنهم الأستاذ فرخو قال: إنه يتبين لنا من الواقع أن بين الإنسان والقرد فرقًا بعيدًا، فلا يمكننا أن نحكم بأن الإنسان سلالة قرد أو غيره من البهائم، ولا يحسن أن نتفوه بذلك، ومنهم «ميفرت» قال بعد أن نظر في حقائق كثير من الأحياء: إن مذهب دارون لا يمكن تأييده، وأنه رأي من آراء الصبيان، ومنهم العلامة فون بسكوف، قال بعد أن درس هو وفرخو تشريح المقابلة بين الإنسان والقرد: إن الفرق بين البشر والقرود أصلي وبعيد جدًّا.

ومنهم العلامة أغاسيز، قال في رسالة في أصل الإنسان تُليت في ندوة العلم الفكتورية ما خلاصته: إن مذهب دارون خطأ علمي باطل في الواقع، وأسلوبه ليس من أساليب العلم بشيء، ولا طائل تحته، ومنهم العلامة هكسلي، وهو من اللاأدرية وصديق لدارون، قال: إنه بموجب ما لنا من البينات، لم يتبرهن قط أن نوعًا من النبات أو الحيوان نشأ بالانتخاب الطبيعي أو بالانتخاب الصناعي، ومنهم العلامة تندل، وهو كهكسلي، قال: إنه لا ريب في أن الذين يعتقدون الارتقاء يجهلون أنه نتيجة مقدمات لم يُسلَّم بها، ومن المحقق عندي أنه لا بد من تغيير مذهب دارون.»

ويقسم الأستاذ حوراني أنصار مذهب النشوء إلى ثلاث فرق: معطلة ولاأدرية وإلهية، «أما المعطلة فهي التي نفت الخالق سبحانه وقالت بقدم المادة، وأما اللاأدرية فهي التي لم تتعرض لنفي الخالق ولا لإثباته، وأما الإلهية فهي التي اعترفت بواجب الوجود تعالى، وقالت بأنه خالق المادة والحياة، وانقسمت هذه الفرقة إلى اثنتين، ظنت إحداهما الإنسان ابن القرد أو صنوه، ومنها دارون، وقالت الأخرى بأن الله خلق الإنسان من البدء إنسانًا، ومنها العلامة ولاس، وعلماء هذه الفرقة أصحاب النشوء الإلهي التي قالت بإمكانه، وصرحت بعدم البرهان على وقوعه، وبأن عليه اعتراضات لم تُدْفَع دفعًا مقنعًا.»

ثم أورد الأستاذ حوراني إحصاء بعض علماء الحفريات عن الأنواع التي وجدت في باطن الأرض، فقال: إن ثمانية وعشرين في المائة منها أنواع لم تتغير، وسبعة في المائة أنواع مهاجرة، وخمسة وستين في المائة لا سلف لها. وأما الأنواع التي نشأت بالتغير أو الأنواع الجديدة فلا وجود لها في شيء من بقايا الحفريات.

ويرد الأستاذ حوراني على استدلال النشوئيين بتشابه الأجنة بين الإنسان وبعض الحيوان، فيقول: إن علة هذا التشابه «بساطة التكوين وقصر النظر؛ بدليل أن التباين يعظم على توالي اقترابها من كمال التكوين، فلا ينشأ من بيوض الإنسان أو أجنته سوى أناس، ولا ينشأ من بذرة اللوزة إلا لوزة».

ويحيل النشوئيين إلى بحث التيرانولوجيا — أي المشوهات — لتفسير الأعضاء الأثرية التي تثبت بعد ولادة الجنين، ومن أمثلتها «الأعنش»، أي من له ست أصابع، وهو من أبسط الأمثلة، والأشوه المزدوج؛ كهيلين وجوديث، وهما الأختان الهنغاريتان المشهورتان، كانتا ملتصقتين بالمتنين والأفخاذ والأحقاء، ولدتا سنة ١٧٠١ وعاشتا اثنتين وعشرين سنة، وكانتا مختلفتي السجايا والأخلاق.

وقال عن الانتخاب الطبيعي: إنه لا يمكن أن يكون أس الارتقاء الداروني؛ لأن الطبيعة إنما تؤثر في الموجود، وليس لها أن تُوجد المعدوم، فيمكنها أن تُعمي العيون، ولكنها لا تستطيع أن توجد البصر «ويقتضي مذهب دارون أن لا تجمع الأنواع الدنيا والعليا، بل تتعاقب وتسبق الأولى الثانية أبدًا، ولكن ذلك الاجتماع ثبت في المنقرضات والأحياء».

وأضعف ما في ردود الأستاذ حوراني قوله عن قدم الإنسان؛ إذ يقتضي مذهب دارون أن يكون الإنسان قديمًا جدًّا: «ولكنه تبين لأشهر العلماء وأكابرهم من النشوئيين وغيرهم أنه أحدث الأحياء، وأنه كان منذ بضعة آلاف سنة، وأثبت العلامة دوسون أنه كان في ثاني العصر الجليدي، وهو المعروف بالأكثر أحدثية، وفصل ذلك في خطبة له في الإنسان قبل زمن التاريخ، وقال الدكتور هويدن: نظرت أربع فرق مستقلة من الجيولوجيين في زمن نشوء الإنسان، فاتفقت على أنه نشأ منذ ما بين ستة آلاف وسبعة آلاف سنة.»

•••

وفي إبان احتدام المناقشة بين منكري المذهب ومؤيديه، أصدر الأب جرجس فرج صفير الماروني، مدرس الفلسفة بالمدرسة اللبنانية في قرية شهوان، (١٨٩٠) كتابًا نهج فيه منهج الحوار بين خصمين، سمى أحدهما بالإنسان القردي، وسمى الآخر بالإنسان الآدمي، وأدار الحجاج بينهما على هذا المثال، مع اختصار بعض التفصيلات:

الآدمي : أين تجدون أشكال الانتقال من يد قرد إلى رجل إنسان؟ أفهل عثر على ذلك أحد علمائكم؟ فإن لم تعثروا على شيء من ذلك؛ فالإنسان القردي لا يكون له وجود.
القردي : إن المباحث البالونتولوجية «الحفرية» — والحق يُقال — لم تأتِ بما يعرب عن تسلسل بين الإنسان والقرد أو أحد أنواع الحيوانات، على أن أساتذتنا قد أجمعوا على أنه من المحتمل أن من الحيوانات التي على شكل حصان البحر ما يتحول إلى حيوان قوائمه على شكل قوائم الخنزير، وأن منها ما قد يتحول إلى الماعز، ومنها إلى الخرفان … إلخ.
الآدمي : فإن كان ذلك من طوالع المحتمل لا من أمارات اليقين، فأين العلم الحقيقي الذي تعوِّلون عليه؟
القردي : نعم، إننا لم نجد إلى الآن أثرًا إلى الإنسان القردي، غير أن العلم لم ينهِ قضاءه.
الآدمي : ولكن ماذا يكون هذا العلم الذي يقضي بخلاف الواقع؟ فإننا نرى الأنواع لا تتغير عن ذاتها وإن كثرت فيها الأنسال، فإذا قلت: لا فارق بين النوع والنسل أسكتتك العلائم الفزيولوجية، ونحن نحصرها في أمر وهو النتاج.
القردي : ومن يمكنه أن يرسم تخوم النوع والعلماء لا يكادون يتفقون على شيء منه؟
الآدمي : أوَيكون الجهل في أصل شيء أو في علته حجة في إنكار وجوده؟ أفنفقه ما للعلائم الجوية والأرضية من الأسباب والعلائق ونحن مع ذلك لا ننكر وجودها؟ إنا نعلم أن المولود من قران الفرس والحمار لا يكون إلا عاقرًا، فنقول: لا بد من فرق نوعي في مولده، أفجهلنا في رسم حدوده يمكننا من إنكار وجوده؟
القردي : إلا أني أعرف من أصحابكم من يقول بإمكانية مذهب التحول.
الآدمي : لا نجهل أن البعض من أصحاب الإيمان يحبون أن يوفقوا بين التحول والإيمان، فيقولون: إن الله سبحانه قد جبل آدم من تراب قد عركه كثير من المولدين من الخازباز إلى آخر حيوان ذي أربعة قوائم، فأخذ الله هذا الحيوان الأخير من السلسلة المتحولة، وهو القرد، ونفخ فيه النفس البشرية، وعليه فيكون آدم نتاج عمل محول وخالق معًا. وأُبيِّن لك في غير مفاوضة كيف يعمه هؤلاء في الضلال … ومن العجيب كيف لا يفقهون أن هذا المذهب إنما تنفيه الفلسفة نفسها كما سبق بيانه.
القردي : أوَهلْ تنفيه الفلسفة لو افترضنا تدخُّل الله عند انتقال كل من الأنواع كما تدخَّل عند خلق الإنسان؟
الآدمي : إذا افترضت تدخل الله سبحانه كان لا بد من تعويض نفس بنفس؛ أما هذا التعويض فيتم إما بوجود القرد الأول الذي تكوَّن، أو في بداية الانتشار، وكلا الافتراضين لا يتحقق. أما الأول فلأنه يفترض قتل الحي ثم إقامته، أو ملاشاته ثم إقامة آخر بدله.
القردي : قرأت في كتب بعض أصحاب مذهب التحول أن التمايز إنما ينتج من عمل صدفة يدور عليها الانتخاب الطبيعي، فما قولك فيه؟
الآدمي : قد سبقهم إلى مثل هذا القول غيرهم من الملحدين الذين يؤيدون المادة، ونحن نوقفك على أدلة تذكر ما يعولون عليه من فعل الصدفة في تمايز الكائنات.

إن الصدفة لا تقع إلا في الأشياء التي يمكن لها أن تكون على خلاف ما هي؛ فقد يمكن للطاولة التي يصنعها النجار أن تكون مربعة أو مدورة، أما الأشياء التي هي من الضرورة، ودائمًا، فلا يمكن لها أن تحدث بطريق الاتفاق، ولكن من الأشياء ما لا يمكن له أن يكون على خلاف ما هو، مثل: الجواهر البسيطة، وذوات الأشياء وحقائقها، ومثل الأعمال التي تصدر عن فاعل لا يصادمه في فعله شيء كالجاذبية، مع قطع النظر عن كل مانع يصادمها في فعلها، وعليه فإن هذه الأشياء لا تقع عليها الصدفة؛ أتظن أن للصدفة أن تجعل الكلب حمارًا، والحمار كلبًا؟

ونحن نشاهد أن الحركات والأفعال إنما تلي تمايز الأشياء ولا تسبقها؛ أوَلا ترى أن السفينة لا تتحرك ولا تجري قبل أن يُجعل كلٌّ من آلاتها في موضعه على هيئة من التمايز لا ينبغي أن يشوبه أدنى خلل؟

•••

ويفضي هذا الحوار إلى عجز «الإنسان القردي» عن الجواب، فيتبعه صاحب الكتاب بمناقشة مطولة لمذاهب الماديين يستند فيها إلى حجج الفلسفة اللاهوتية، ويقرر فيها أن العلوم الطبيعية وحدها لا تكفي لتحقيق النظر في أصل الوجود من حيث هو موجود، ولهذا سمى البحث عن أصل الوجود بما بعد الطبيعة؛ لأنه «ينبغي أن يُقرأ هذا العلم بعد الوقوف على علم الطبيعيات، والمراد به علم يبحث عن الوجود من حيث هو موجود؛ أي عن ذات الأشياء بقطع النظر عن معنياتها وأحوالها الخاصة التي ينحاز بها الشيء عما سواه، أو علم يبحث به عن الأسباب الأخيرة للوجود والمعرفة، فإن كليهما لا ينفصلان؛ لأن مبادئ المعرفة والعلم العالية المطلقة إنما هي التي تمكننا من الوقوف على أسباب الوجود؛ ولذلك فإنه يكون علم العلوم».

•••

ولا نعلم أن كتابًا في هذا الموضوع بقلم باحث مسيحي من كُتَّاب اللغة العربية ظهر قبل كتاب «صفوة علم اليقين في حقيقة مذهب دارون»، لمؤلفه الأسقف خير الله أسطفان، ناظر مدرسة عين ورقة، الذي ألَّفه بعد الكتاب السابق بأكثر من ثلاثين سنة؛ (١٩٢٩)، أعيد في خلالها طبع مؤلفات الدكتور شبلي شميل في هذا المذهب، ونشط البحث بين الأوروبيين في نظريات النشوء عامة، على أثر البحوث المتضاربة في نظريات تنازع البقاء وإرادة القوة، وما إليها من «الفلسفات» التي أثارتها الحرب العالمية الأولى ومشاكل العلم والاجتماع فيما بين الحربين العالميتين.

وقد أشار الأسقف إلى الأطوار التي مرت بمذهب دارون منذ إعلانه إلى تلك السنة، فنقل كلامًا عن العالم الألماني إدواردفون هارتمان قال فيه: إنه «في سنة ١٨٦٠ كانت مقاومة الأفذاذ من العلماء الشيوخ لنظرية دارون شديدة، وفي سنة السبعين أخذت هذه النظرية تنتشر في كل صقع تقريبًا، وفي سنة الثمانين كان نفوذ المذهب الداروني عامًّا ومطلقًا حتى كاد يبلغ بسموِّه سمت الرأس، وفي سنة التسعين بدأت بعض الشكوك تعتلي، وبعض المقاومات تظهر، وعلامة التصدع والانهدام تبيَّنت واتضحت، وفي العقد الأول من الجيل العشرين بدأت أيام المذهب أن تكون معدودة، وكان بين مُضادِّيه وداحضي حججه من أعلام العلماء: إيمر، وغوستاف وولف، وردي فريز Vrise، وفون والشتين Wallstein، وفليشمان Flischmann، ورينك Rienk، وغيرهم كثيرون.»

وبعد هذا التمهيد عرض الأسقف للبحث من الناحية اللاهوتية فقال: «إن البحث العلمي عندما يأتي بنتائج واقعية أكيدة تجتمع ساعتئذٍ كلمة العالم المسيحي وغير المسيحي عليها، على غير تضادٍّ ولا تنافٍ. وهذا هو عين الصواب والرشد؛ لأن الحق لا يغاير الحق، ولا يتساهل لاهوتيو الكنيسة الكاثوليكية، كما أنهم لا يسلمون لأخصامهم القائلين بالمذهب الداروني المحض. وهذا بعض الواجب عليهم بالنظر إلى ما يناقض حقائق الوحي المقدس، غير أنهم متى رأوا من بعض الوجوه اتفاقًا بين اللاهوت ونظرية النشوء كانوا من هذا القبيل ليني الجانب لطفاء هينين.

فمن هؤلاء العلماء الأهوناء المتئدين الأب واسمان الجرمني الشهير بعلم طبائع الحشرات، الميال إلى الاعتقاد بنظرية نشوء الأنواع المعتدلة، القائل بأن أنواعًا كثيرة من النبات والحيوان نشأت من أنواع طبيعية أصيلة أبدعها رب الطبيعة الخلاق؛ كالأرانب الأليفة والبرية والحمار والفرس والكلب والثعلب إلخ؛ فإنك بهذا ترى أن مبدأ الخلق والإبداع لبث غير ممسوس البتة، فإذا حل تصور اشتقاق الأنواع الجديد بالتحدر والتسلسل محل التصور القديم لثبات الأنواع على عدم التغير؛ كانت حكمة الباري في الجديد أمجد منها بالقديم، من وجه أنه عز نواله وجل جلاله وضع في الطبيعة الآلية قوًى تؤهلها لتحذير ونشر صور جديدة لموجودات حية، بدون افتقار إلى توسط أو تدخل قدرة الله المبتدعة للكون ونواحيه، والمعتنية بحفظها وإدارتها.

وحينما تتصادم نظرية ما مع التعليم المسيحي تصادمًا واضحًا غير قابل للشك، يجب وقتئذ رفض هاتيك النظرية وطرحها مطلقًا، وبناءً على هذا؛ كل من قال بمبدأ نشوئي ينفي به الخلقة قطعًا بدون رجعة يجب أن يُضرب بقوله ومبدئه عُرْض الحائط، وكل نظرية تنكر خلقة العالم بستة أيام يراد بها ستة أدوار أو ست مدد يجب أن تُطرح، وكل قول بأدوار طويلة مرت وانقضت بين تكوين الأرض وخلق الإنسان هو قول معقول؛ لهذا هو مقبول؛ لأنه ليس في الكتاب الكريم ما ينافيه أو ينقضه.

أما بالنظر إلى أصل الإنسان، فالكاثوليك مقيدون بنص سفر التكوين، ويمكنهم التوسع بتفسير كلمة الكتاب من جهة الجسد؛ فقد ارتأى بعضهم أن المقصود بقوله: جبله من تراب الأرض، أنه قضى ورسم الصورة وهيَّأ الهيئة، وليس كما يجبل الفاخوري الجرة والإبريق. وأما من جهة النفس، فالتعليم الكاثوليكي والفلسفة الصادقة الرصينة يلزماننا أن نقف عند الاعتقاد الراهن الثابت بأن أنفسنا روحية بحتة، وبذا تفترق وتمتاز جوهريًّا عن نفس الحيوان.»

وتلي هذه المقدمة براهين الأسقف التي بنى عليها رفض تحول الإنسان عن غيره من الحيوان، وهي تتلخص في المطالبة بالحلقة المفقودة، وهي «لم يُرَ لها أثر أو عين بين الأحياء ولا بين الأموات، لا في الأحافير ولا في المتحجرات».

ثم سأل الأسقف: «إذا ثبت مذهب النشوء هل يناقض الدين؟» فكان جوابه: «إننا نجيب مع العلماء النزيهين المجردين من الأغراض والأهواء بالنفي، وإنه لا يضاد مقاصد الخالق وغاياته.» واستشهد ببحثٍ للدكتور مكوشي يقول فيه: «إن النشوء بجميع مذاهبه لا ينفي مقاصد وغايات البارئ عز وجل، فالأستاذ هكسلي النشوئي الكبير والمادي المعروف بين الناس النبهاء سلَّم بكون النشوء لا يلزم منه نفي مقاصد الله، وإن تَرتُّبَ أو توقُّفَ مخلوق على آخر أو عملهما معًا لإتمام مقصد جيد، أو إكمال غاية حسنة؛ كالحياة للنبات، وطيب العيش للإنسان والحيوان، لهو دليل واضح عند كبار العلماء على مقاصد الله؛ فالذي يصنع آلة تعمل هي آلة مثلها، لهو أحذق وأقدر وأحكم من الذي يصنع آلة تقتصر على العمل المقصود منها ولا تتعداه.»

•••

وفي سنة (١٩٣٧)، ألَّف الدكتور حليم عطية سوريال، الطبيب الأول لسجن أسيوط، كتاب «تصدع مذهب دارون والإثبات العلمي لعقيدة الخلق»، نبَّه فيه إلى خطأ يسبق إلى بعض الأذهان، وهو اعتقادهم أن إنكار مذهب النشوء مقصور على رجال الدين؛ فإن من كبار العلماء الطبيعيين من يرفضه كالأستاذ فيالتون Vialleton، عميد كلية الطب بجامعة مونبليه وأستاذ علم الأجنة فيها، والأستاذ كاترفاج، مدير متحف التاريخ الطبيعي بباريس، وهو القائل: «إننا لا نعلم كيف تكونت الأنواع الحية، إننا نعلم فقط أنها غير قابلة للتحول، وإننا على يقين بأن دارون ولامارك لم يكتشفا الناموس الحقيقي لطريقة تكوينها.»

ثم سرد الدكتور سوريال أسماء بعض الأساطين من علماء الطبيعة المعارضين لمذهب التحول، وخلاصة رأيهم في الاختلاف بين الأنواع «أن جميع تلك العوامل لا يمكنها أن تغير نوعًا من الأنواع الحية إلى نوع آخر، وكل التغيرات التي يمكنها أن تُحدثها سطحية لا تمس التركيب الجوهري للحيوان أو النبات، وبعضها باثولوجية — مرضية — تقود إلى انقراض النوع، ولقد قال العالم الإيطالي روزا: إن الاختبار الاصطناعي الذي جربه بنو الإنسان في خلال الستين سنة الماضية دليلٌ عظيم ضد نظرية دارون.»

ويقرر الدكتور أن الحلقة المفقودة ناقصة بين طبقات الأحياء، وليست بالناقصة بين الإنسان وما دونه فحسب؛ «فلا توجد حلقات بين الحيوانات الأولية ذات الخلية الوحيدة والحيوانات ذوات الخلايا المتعددة، ولا بين الحيوانات الرخوة ولا بين المفصلية، ولا بين الحيوانات اللافقرية والفقرية، ولا بين الأسماك والحيوانات البرمائية، ولا بين الأخيرة والزحافات والطيور، ولا بين الزحافات والحيوانات الثديية. وقد ذكرتُها على ترتيب ظهورها في العصور الجيولوجية».

ثم قال بعد الاستشهاد بكثير من أمثال هذه الملاحظات العلمية: «إن هناك مسألة منطقية بسيطة، وهي معرفة كيف استطاع المخلوق، الذي يعتبره التحوليون الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، أن يعيش بين الحيوانات الضارية التي تحيط به؛ فإن أصحاب نظرية النشوء يقولون: إن هذا المخلوق كان أضعف عقلًا من الإنسان الحالي؛ فكيف يمكن لمخلوق ضعيف الجسم، وضعيف العقل أن يعيش وحوله الأسد والفيل والدب والنمر وغيرها من الحيوانات المفترسة؟»

ويعتبر نقاد مذهب دارون أن مشكلة الحلقة المفقودة بين الأنواع — كما شرحها الدكتور سوريال — هي مشكلة المشاكل في تمحيص هذا المذهب إلى اليوم، وأنها لا تزال على قوتها وإقناعها بعد انقضاء مائة سنة على ظهور كتاب أصل الأنواع، واستئناف التعليق عليه بين خصوم المذهب وأنصاره، الذين استجمعوا غاية ما استطاعوا لحل هذه المشكلة عند الاحتفال بذكرى مرور القرن على ظهور ذلك الكتاب.

•••

ونحن نكتفي بالردود المتقدمة لأنها تمثل مناحي التفكير عند رجال الدين في مناقشة مذهب النشوء، وهي:
  • (١)

    منحى الجزم بالرفض ببطلان المذهب في جملته وتفصيله؛ لأنه مناقض للدين غير مستند إلى أدلة قاطعة.

  • (٢)

    منحى الرفض لنقص الأدلة مع تعليق النتيجة بانتظار الأدلة المقنعة، والإيمان بأنه — إذا ثبت — لا يقضي بتكذيب العقيدة الدينية والعقلية في الخالق.

  • (٣)

    منحى القول بأن الأدلة العلمية التي يوردها العلماء لنفيه والتشكيك فيه أرجح من الأدلة العلمية التي يوردونها على تأييده.

•••

أما أنصار مذهب النشوء في الشرق العربي فقد كان أشهرهم وأفصحهم بيانًا الدكتور شبلي شميل، وقد كاد أن يسبق دارون وأصحابه إلى الأخذ بالنظريات النشوئية على علاتها، وقد سبق الماديين الغربيين إلى نفي كل صفة روحية أو غيبية في الإنسان؛ إذ قال في مقدمة ترجمته لشرح بخنر على مذهب دارون: «إن الإنسان على رأي هذا المذهب طبيعي؛ هو وكل ما فيه مكتسب من الطبيعة. وهذه الحقيقة لم يبقَ سبيل للريب فيها اليوم، ولو أصرَّ على إنكارها مَن لا يزال مفعول التعاليم القديمة راسخًا في ذهنه رسوخ النقش في الحجر.

فالإنسان يتصل اتصالًا شديدًا بعالم الحس والشهادة، وليس في تركيبه شيء من المواد والقوى يدل على اتصاله بعالم الروح والغيب؛ فإن جميع العناصر المُؤلَّف منها موجودة في الطبيعة، وجميع القوى التي فيه تعمل على حكم قُوى الطبيعة؛ فهو كالحيوان فزيولوجيًّا، وكالجماد كيماويًّا، والفرق بينه وبينها فقط بالكمية لا الكيفية، والصورة لا الماهية، والعرض لا الجوهر؛ فالإنسان يحس، والحيوان يحس، والإنسان يدرك، والحيوان يدرك، ونواميس التغذية واحدة فيهما، غير أن الإنسان يدرك أكثر من الحيوان؛ لأنه أكمل تركيبًا من الحيوان.»

وكانت ردود الدكتور شبلي شميل على مناقشته تكرارًا لردود دارون وبخنر وغيرهما من القائلين بتحول الأنواع، وفحواها:
  • (١)

    إن التباينات بين الأنواع لا تزيد على التباينات بين أفراد النوع الواحد إلا بالوراثة، وهذه أثر ثابت لا يحكم عليه بالفترة المعلومة من تاريخ الإنسان؛ لأنها ثبتت بعد انقضاء مئات الملايين من السنين.

  • (٢)

    وإن أنصاف الأنواع من شأنها أن تعيش وتنقل ميراثها إلى زمن طويل؛ لأن التوريث مرتبط بتمام الجهاز المميز للنوع، وهو لا يتم في أنصاف الأنواع، ولكن قد يدل عليه التناسل بين بعض الحيوانات كالخيل والحمير، أو الكلاب والذئاب، وقد يدل عليه «اكتشاف الطير العجيب — الأركوبتركوس — الذي وصل بين طائفتين من الحيوان منفصل بعضهما عن بعض انفصالا تامًّا، وهما: الطيور والحشرات».

  • (٣)

    إن العلماء يخطئون في وضع حدود الأنواع، وقد ذكر دارون «أن النباتي الإنجليزي وستن يذكر ١٨٢ نباتًا إنجليزيًّا عدها غيره أنواعًا مع أنها تباينات، وقد قال هوكر في هذا المعنى ما نصه: إن النباتيين يعدون الآن من ٨٠٠٠ إلى ١٥٠٠٠ نوع من النبات؛ فالنوع إذن غير محدود.»

  • (٤)

    إن التحولات لا ينبغي أن يُبحث عنها في الأنواع الحاضرة؛ لأن كلًّا منها تطور عن أنواع سابقة له في سلسلة هي التي كان يمكن أن يجري بينها التحول في أوانه، ولكن الأنواع الحاضرة تباعدت عن أصولها؛ فابتعدت الأشباه المتحولة فيما بينها.

ولا ننسى — عند تقدير عوامل العناد بين الطرفين — أن الدكتور شبلي شميل إنما يواجه بهذه الخصومة اللدود سلطان رجال الدين، فانساق من هذه الخصومة إلى خصومة الأديان، ورأى — كما قال في مقدمة الترجمة — أن «الملل والديانات أصلها واحد، وقيامها في الدنيا إنما هو لعاملين: حب الرئاسة في الرؤساء، وارتياح المرءوس إلى حب البقاء، وكلاهما لما في الإنسان من محبة الذات؛ فسطا دهاة الناس على ساذجي العقول منهم، فساد البعض وسيد على البعض الآخر، وتم بذلك غرض الفريقين.»

وخاطب رؤساء الدين قبل ختام المقدمة قائلًا: «سوف يتولى ما بقي، ولربما كان حظكم من ذلك في الشرق أطول جدًّا لولا أن الغرب باسط فوقه يديه، ولا تعللوا النفس بما في التاريخ من سقوط بعض الأمم ألقت إليكم مقاليد أحكامها، وسلمتكم زمام أمورها، فإنه وإن حصل ذلك إلا أنكم لن تبلغوا أمانيكم؛ لتوفر معدات التقدم في العلوم والصنائع، وانتشار ذلك بواسطة الطباعة.»

•••

وبعد، فهذه شذرات من التعليقات الدينية والعلمية التي قُوبل بها مذهب التطور في الغرب وفي بلاد الشرق العربي، نحسب أننا أتينا فيها على كل رأي من آراء الباحثين الدينيين والعلميين في هذا المذهب، وأن الكتب التي اخترناها للاقتباس منها تمثل جوانب التفكير جميعًا في هذا الموضوع.

وقد مضى أكثر من سبعين سنة على ظهور أقدم الكتب التي ذكرناها في هذه العجالة، ومضى نحو ثلاثين سنة على أحدثها، فإذا أردنا أن نعود إليها لنحكم عليها حكم الزمن الممحص للآراء، فالذي نراه اليوم أن الدينيين قد وقفوا الموقف المنتظر منهم في معارضة النشوئيين الماديين، فليس من المنتظر أن يقابل إنكار الدين بغير الإنكار من أهل الدين، وقد أصاب العلامة الشيخ محمد رضا حين قال: إنه يدفع الشبهات عن العقيدة الإلهية في كل ملة، ولا يقصر دفاعه على عقيدة الإسلام.

•••

ولكن الكُتَّاب الذين تناولوا هذا الموضوع من الوجهة الدينية قد أخطئوا — دينيًّا وعلميًّا — في إنكارهم باسم الدين أمورًا لا تزال قيد البحث بين الإثبات والنفي، ويجوز أن تسفر بحوث الغد عن إثباتها بما يقطع الشك فيها، كما يجوز أن ينفيها بما يزيل مواضع الخلاف فيما بين عقائد الدين وحقائق العلوم، وقد كان لبعضهم عذره لقلة المعلومات الصحيحة التي وصلت إليهم عن مذهب دارون ومذهب التطور على العموم، وكان لبعضهم عذر مثل هذا العذر قد يسوغ اندفاعهم إلى درء الخطر عن العقائد الإلهية يوم تعجل ثراثرة التقليد، فهجموا على المذهب على غير علم به كعادتهم في الهجوم على كل جديد مستغرب، وانتحلوه للثرثرة بأحاديث الإلحاد والمروق، فكان تعجلهم هذا داعيًا إلى مقابلتهم بتعجل مثله من الدينيين.

بيد أنه — ولا ريب — تعجل وخيم العاقبة، قد ظهرت عواقبه الوخيمة مرة بعد مرة منذ ابتدأ العلم الحديث في نشر كشوفه المتوالية، ووجب الاتعاظ بعواقب التصدي للمباحث العلمية وهي في معرض التحقيق بين الإثبات والنفي، أو التغليب والاستضعاف، وقد علم رجال الدين في الغرب ماذا كان من أثر تحريمهم للقول بدوران الأرض حول الشمس، وإيجابهم تعليم النشء أن الشمس تدور حول الأرض كأن وجود الخالق جل وعلا مرتبط بدوران هذه أو تلك، وكل في فلك يسبحون.

لقد كان في ذلك التعجل من رجال الدين عظة لهم تنهاهم أن يعيدوا مثل هذه الغلطة في التصدي للمذاهب العلمية التي لم ينقطع الشك في ثبوتها أو بطلانها، وقد ينقطع الشك غدًا بما يثبت على منكريها أنهم كانوا مخطئين في فهم الدين والعلم على السواء، فإن زلزال المادية الذي اضطرب له الغرب اضطرابه العنيف لم يكن له حجة على العقائد الإلهية أقوى من هذه الحجة على الدين، كما تصوره المتعجلون من «المؤمنين» على غير يقين.

•••

ويشبه هذا الخطأ المنكر خطأ آخر لم ينفرد به الدينيون، بل شاركهم فيه زمرة من العلماء لم يحسنوا التمييز بين قضايا العلم وقضايا الحقوق «المدنية» أو الجنائية في المحاكم ودواوين التشريع؛ فصاحب الدعوى في المحكمة أو الديوان مطالب بإثبات دعواه لأنها مصلحته الخاصة، وفيها — إذا لم تثبت — إضرار بمصالح الآخرين، ولكن الدعوى العلمية ليست كذلك، ولا يصح أن يناط أمر إثباتها بمن يدعيها وحده، وهي مصلحة الناس أجمعين، ومن ينكرها بغير حق يضر بالناس أجمعين.

وقد أفرط النقاد جدًّا في التشبث بمسألة الأنواع الوسطى، ولم يصطنعوا الأناة ليدركوا ما في هذه الحجة من الضعف والعنت، ويعلموا أن التشبث بها إلى هذا الحد إحراج للخصم من قبيل إحراج الخصوم المتنازعين على دعاوى المحاكم والدواوين.

فكيف يخطر على بال الناقد المخلص أن الأنواع الوسطى تبقى لها ذرية، مع العلم بأن الوراثة لا تتم قبل استكمال خصائص النوع؟ وكيف يفوتهم أن يلمحوا هذه الحقيقة، ويرتبوا عليها ما ينبغي أن يترتب عليها من التريث والانتظار، وهم يرون اليوم أمثلة بارزة من توقف النسل بين الخيل والحمير، أو بين الذئاب والكلاب؟

وإذا كان القائل بالنشوء يعجز عن إقامة الدليل على تناسل النوع المتوسط، فكيف يحال هذا العجز إليه ولا يحال إلى الواقع الذي لا حيلة له فيه؟ إن كثيرًا من الأحياء الباقية إلى اليوم لم يبق منها أثر يدل على وجودها في عصور الحفائر المطمورة بين طبقات الأرض، فإذا جاز هذا في أمر الأنواع التي بقيت، ولا شك في بقائها إلى اليوم، فكيف نستكثره على أنصاف الأنواع التي لم تستكمل خصائص النسل والتوريث؟

فليس من الرأي السليم — دينًا ولا علمًا — أن يرتيط رفض النشوء بعجز النشوئيين عن إبقاء أنواع وسطى من الحيوان غير قابلة بطبيعتها للبقاء والتوريث.

وقد يحدث غدًا أن يوجد الدليل الممكن على النوع المتوسط، أو توجد الوسيلة الممكنة للتلقيح بين الأنواع المتقاربة، فتعود إلينا قصة دوران الأرض ودوران الشمس بخطر على الدين والعلم لا داعية له غير التعجل والعنت في الخصومة الفكرية، وإنه لعنت معيب يجوز في خصومات المال، ولكنه يحرم أشد الحرمان في خصومات الأفكار والآراء.

•••

وفي كتاب تدور موضوعاته على حكم القرآن الكريم في شأن الإنسان يعنينا هنا أن نسأل: هل يصيب الذين يحرمون باسم الإسلام مذهب النشوئيين المؤمنين بالخالق؟

وليس يخالجنا كثير من الشك ولا قليل في خلو كتاب الإسلام مما يوجب القول بتحريم هذا المذهب؛ فقد يثبت غدًا أن المذهب صحيح كله أو باطل كله، أو يثبت أن بعضه صحيح وبعضه باطل، ولكن كتاب الإسلام لا يصد عن سبيل العلم في أية وجهة من هذه الوجهات، كما سنبينه في موضعه من الفصل الأخير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤