الكائن المُكَلَّف

القرآن كتاب تبليغ وإقناع وتبيين، وقوام هذه الفضيلة فيه هذا التوافق التام بين أركانه وأحكامه، وبين عقائده وعباداته، وبين حجته ومقصده، فكل ركن من أركانه يتنزل فيه بأقداره، ويوافق في تفصيله سائر أركانه التي تتم به، أو يتم بها على قدر مبين.

ليس أتم ولا أعجب من التوافق بين تمييز الإنسان بالتكليف، وبين خطاب العقل في هذا الكتاب المبين بكل وصف من أوصاف العقل، وكل وظيفة من وظائفه في الحياة الإنسانية.

وخليق بالمسلم، وبكل دارسٍ للأديان أن يتنبه إلى هذه الفضيلة التي تحسب لأول وهلة كأنها شيء من الواقع البديهي لا يحتاج إلى التنبيه، ولكن حاجته إلى التنبيه إنما تظهر عند المقارنة بين القرآن وبين جملة من الكتب الدينية الكبرى، في فضيلة التبليغ المقصود، ونعني به التبليغ الذي يراد ويتناسب فيه البيان على حسب الأحكام والأركان.

في كثير من الأديان تقوم عليها دعائم الدين كله، ويرتبط بها نجاة الإنسان من الهلاك أو ضياعه في هاوية المقت واللعنة، ثم تبحث عن هذه الأركان في كتاب الدين فإذا هي معروضة فيه بين السطور، يحيلها المفسرون إلى حكم القرينة، ويجوز لمن شاء أن يحسبها من مصادفات القول يتساوى السكوت عنها والنص عليها.

مثل هذا لا يعرف في حكم من أحكام الكتاب المبين، ولا في ركن من أركانه، بل المعروف فيه على نقيض ذلك: أن تبليغه على قدر فريضته، وأن التوافق فيه على أتمه بين الأركان التي تتلازم وتتكامل عن بيان مقدور لا محل فيه لفرض المصادفة، بل لا محل فيه لتجاهل القصد مع رسالة من رسالات التبليغ.

مكان الإنسان في القرآن الكريم هو أشرف مكان له في ميزان العقيدة، وفي ميزان الفكر، وفي ميزان الخليقة الذي توزن به طبائع الكائن بين عامة الكائنات.

هو الكائن المكلَّف.

هو كائن أصوب في التعريف من قول القائلين «الكائن الناطق»، وأشرف في التقدير.

هو كائن أصوب في التعريف من الملك الهابط، ومن الحيوان الصاعد، وأشرف في التقدير من هذا وذاك.

ليس الكائن الناطق بشيء إن لم يكن هذا النطق أهلًا لأمانة التكليف، وليس الملك الهابط منزلة تهدي إلى طريق الصعود أو طريق الهبوط، وليس الحيوان الصاعد بمنزلة الفصل بين ما كان عليه وما صار إليه، ولا بمنزلة التمييز بين حال وحال في طريق الارتقاء.

إنما الكائن المكلف شيء محدود بين الخلائق بكل حد من حدود العقيدة، أو العلم، أو الحكمة، وحادث من حوادث الفتح في الخليقة موضوع في موضعه المكين بالقياس إلى كل ما عداه.

أي شيء أعجب من هذه الخاصة المحكمة ينفرد بها القرآن بين تعريفات الفلسفة وتعريفات الدعوة الدينية؟!

إنها عجيبة لا يدفع عجبها إلا أن تجري على سنتها من تبليغ الكتاب المبين.

إنها عجيبة لم تأتِ من مصادفات التضمين والتخمين؛ لأن الكتاب الذي ميَّز الإنسان بخاصة التكليف هو الكتاب الذي امتلأ بخطاب «العقل» بكل ملكة من ملكاته، وكل وظيفة عرفها له العقلاء والمتعقلون، قبل أن يصبح العقل «درسًا» يتقصاه الدارسون كنهًا وعملًا، وأثرًا في داخله وفيما خرج عنه، وفيما يصدر منه وما يئول إليه.

العقل وازع «يعقل» صاحبه عما يأباه له التكليف.

العقل فهم وفكر يتقلب في وجوه الأشياء وفي بواطن الأمور.

العقل رشد يميز بين الهداية والضلال.

العقل روية وتدبير.

العقل بصيرة تنفذ وراء الأبصار.

والعقل ذكرى تأخذ من الماضي للحاضر، وتجمع العبرة مما كان لما يكون، وتحفظ وتَعِي وتُبدئ وتُعيد.

والعقل بكل هذه المعاني موصول بكل حجة من حجج التكليف، وكل أمر بمعروف، وكل نهي عن محظور.

أفلا يعقلون؟ أفلا يتفكرون؟ أفلا يبصرون؟ أفلا يتدبرون؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أفلا تتذكرون؟

إن هذا العقل بكل عمل من أعماله التي يُناط بها التكليف حجة على المكلفين فيما يعنيهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم، ومن أمر خالقهم، وخالق الأرض والسماء؛ لأنهم: يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا (آل عمران: ١٩١). أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى (الروم: ٨).

وقد ننقل تكاليف القرآن جميعًا، وننقل عظاته جميعًا إذا أردنا الشواهد على هذا التوافق الموصول بين تمييز الإنسان بالتكليف في القرآن، وبين خطابه للعقل والفكر، وتذكيره بالرشد والبصر وسائر ملكات التمييز في مصطلحات الأوائل والأواخر، ولكنها شواهد حاضرة في ذهن كل قارئ لهذا الكتاب، وكل قادر على المقابلة بينه وبين غيره من كتب الأديان، ولو لم يعبر منها غير صفحات معدودات.

ومن تمام التوافق بين أركان التبليغ في هذا الكتاب أن الأمر فيه يجري على هذه السُّنة فيما أتى به فريدًا غير مسبوق عن رسالة النبوة.

إنها الرسالة التي لم تُعرف قط في التاريخ البشري قبل تمييز الإنسان بخاصة التكليف، وإعداده لخطاب العقل وبينات الإقناع.

كانت الأمم — قبل البعثة المحمدية — تفهم أن النبوة استطلاع للغيب، وكشف للأسرار والمخبآت، يستعان بها على رد الضائع، وإعادة المسروق أو الدلالة عليه، ويستخبرونها عن طوالع الخير والشر، ومقادير السعود والنحوس. وكان من تلك الأمم من يحسب أن النبوة وساطة بين المعبود وعباده للتشفع إليه بالهدايا والقرابين، وكانوا يطلبون وساطة الأنبياء دفعًا للنوازل التي يستحقونها وتنزل بهم؛ لأنها قضاء مبرم يتوقعه الصالحون العارفون، ويسألون المعبود في دفعه قبل نزوله.

فجاءت نبوءة الإسلام بجديد باقٍ لم تسبق له سابقة في الدعوات الدينية، بل لا حاجة بعده إلى جديد ولا استطاعة للتجديد؛ لأنه يخاطب في الإنسان صفته الباقية، وخاصته الملازمة، وهي خاصة النفس الناطقة بين عامة الأحياء، أو خاصة الضمير المسئول الذي يحمل تبعته، ولا تغنيه عنها شفاعة ولا كفارة من سواه.

فهي نبوة فهم وهداية، وليست نبوة استطلاع وتنجيم، وهي نبوة هداية بالتأمل والنظر والتفكير، وليست نبوة خوارق وأهوال تروع البصر والبصيرة، وتروع الضمائر بالتخويف والإرهاب حيث يعييها قبول الإقناع.

إنها نبوة مبشرة منذرة لا تملك لهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا تعمل لهم عملًا غير ما يعملونه لأنفسهم بمشيئتهم إذا اهتدوا بهداية العقل المتدبر، والضمير السليم: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (الأعراف: ١٨٨).

نعم، ولا إغراء ولا مساومة على جزاء بين الأخذ والعطاء: قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (الأنعام: ٥٠).

وقد جاءت سمعة المعجزة ميسرة لصاحب هذه النبوة يوم مات ابنه إبراهيم وكسفت الشمس، فظن الناس أنها كسفت لموته، وأبى النبي الصادق أن يسكت عليها، فتكلم ليعلمهم أن الشمس والقمر آيتان لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته.

وقد بيَّن للناس أن المعجزة لا تُجدي من يكابر العقل، ويأبى الإصغاء إلى بينات الإقناع: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (الحجر: ١٤، ١٥).

ولقد تقدَّمت نبوة الإسلام دعوات كثيرة من أكبر الدعوات شأنًا في تاريخ العقيدة، ولكنك لو عرضتها على مؤرخ ينظر في أدوار التاريخ لم يستطع أن يختتم دور النبوة في تاريخ الإنسانية بدعوة من تلك الدعوات على جلالة شأنها؛ لأنها جميعًا قد بدأت وانتهت قبل أن توجد في أذهان الناس فكرة الإنسانية العامة، وفكرة الإنسان المسئول المحاسب على أمانة العقل والضمير.

فنبوات بني إسرائيل لم تزل مقصورة على سلالة بشرية واحدة تنعزل بحاضرها ووعود مستقبلها عن سائر الأمم. وعيسى عليه السلام قد نقل الرسالة نقلة واسعة حين أدخل أبناء إبراهيم بالروح في عداد أبنائه بالجسد، ولكنه أدى رسالته وبقي الإنسان بعده محتاجًا أشد الحاجة إلى رسالة تخلصه من الاعتماد على غيره في النجاة من أوزاره، والتكفير عن سيئاته، والنهوض بتبعات صلاحه وتربية روحه.

ولن تفرغ أمانة النبوة في تاريخ الإنسانية قبل أن يوجد الإنسان الذي يُخاطب بخطاب العقل، ويحاسب بحسابه، ويحمل تبعاته على عاتقه، ويشترك على سواء بينه وبين إخوانه من البشر في عبادة إله واحد هو رب العالمين، وليس بالرب الذي يخلق نعمته لسلالة واحدة من خلقه، أو لعشيرة واحدة يدركها الخلاص بفضل لم تفضله، وحساب لم تضعه في موازينها بعمل يمينها.

فلما جاءت نبوة التكليف، صح في حكم العقل أن تختم بها النبوة؛ لأنها حاضرة في كل وقت يحضره الإنسان العاقل المسئول، وتحضره آيات الله لقوم يعقلون.

إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (البقرة: ١٦٤).

•••

إن قيام النبوة على إقناع العقل المسئول بآيات الكون قد اختتم سلطان الأحبار والقادة، كما اختتم سلطان النبوات بالمعجزات وخوارق العادات، فلا يعذر الإسلام إنسانًا يُعطِّل عقله ليطيع السادة والمستكبرين، أو ليطيع الأحبار المتسلطين بسلطان المال والدين: قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا (النساء: ٩٧). قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ (سبأ: ٣٢). يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ (التوبة: ٣٤). اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ (التوبة: ٣١).

فلا يسقط التكليف عن العاقل أن يطيع المتحكمين بطغيان الحكم أو طغيان الكهانة، ولا يمنعه التكليف أن يسأل من يعلم إن كان لا يعلم؛ لأن طلب العلم يحقق واجب التكليف ولا يعطله أو يلغيه، ويوجب على المتعلم أن يتبين من يسأل وهو مسئول عما يفعل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (النحل: ٤٣).

فإذا سُمِّي ختام النبوة باسمه الحق في تاريخ الإنسان، فاسمُه الحق أنه هو فاتحة عهد الرشد في حياة الإنسانية الخالدة، قبل عهد الرشد الذي أخرجته القرون الوسطى بسبعة قرون.

ومن عبث الجهالة أن يُفهم هذا الميقات الجليل فهم العقول الصغار، فلا يُعطى حقه من الفهم ولا حقه من التقديس، وتسمع من يفسره في «عصر العلم» فلا يفهم منه إلا أنه «حكر» الأثرة يغلقه النبي على مَن بعده، ويسيغ هذا السخف وهو صورة لا تقبل التصور عن هذا النبي، كيفما تصوره الناظر إليه على حقيقته أو على دعواه؛ فهذا «الحكر» صنيع لا يصنعه نبي أمر أتباعه بتصديق الأنبياء من قبله، وجهد جهده لينفي سلطان الغيب عن نفسه، ويطرد سمعة المعجزة عن دعوته، وهي طيعة منقادة بين يديه؛ فإن جاز في حقه هذا «الحكر» المغتصب، فهل يجوز في حقه أن يغتصبه من الله، وأن يأمن تكذيب الله إياه، وقدرته على إخلاف دعواه؟

إن اختتام النبوة لا يُفهم هذا الفهم الصغير في عقل يطيق أن يدرك الواقع من أمر دعوة عظيمة، ولا شأن عظيم، ولو كان احتكار النبوة باعث النبي إلى دعواه لما دخل فيها ذهاب سلطان الأحبار والولاة، ولا دخل فيها ادعاء النبوة أصلًا وهي لا تخول النبي ولا مدعي النبوة أن يحجب المغيب المجهول من مشيئة الله.

ولكن الإيمان بالعقل المسئول هو الباعث البيِّن الذي يُفسر ما لم يفسره صغار العقول من اختتام النبوة، واختتام الكهانة، واختتام سلطان الحاكمين على الضمير، وأن انتظامه كله على هذه السُّنة المتفقة لهو الآية الناطقة بإرادة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤