فاتحة

١

استعارتنا المنتجات السياسية، للحداثة الغربية، من مجالس نيابية، وعمليات تصويت، استعارة شكلية، فالتجربة الغربية تشكل فيها مفهوم الإنسان الفرد، وتشكلت فيها فاعلية للإنسان في تفاعله مع الطبيعة عبر قوانين حاكمة لظواهر الكون وقوانين أخرى حاكمة للاجتماع الإنساني، فأمكن تشكُّل فكرة الدستور، كقانون عام حاكم، يكون إطارًا لممارسة السلطة الحاكمة، في علاقة توازن واستقلال عن سلطة نيابية تمثل صوت الناس ومصالحهم وحقوقهم، في توازن مع سلطة قضائية مستقلة تفصل في الخلاف. من هنا يصبح لفكرة القانون معنًى ويصبح للإنسان حقوق، وحريات، وعليه مسئولية عن أفعاله وعن نتائجها القانونية، ويكون هناك معنًى للعقوبات بقانون العقوبات، ويكون هناك معنى للتصويت الانتخابي، ويكون هناك معنًى للتمثيل النيابي. وكل هذه المكونات السابقة لم تتكون عندنا، فتصبح عمليات استعارة أدوات وإجراءات ثمار الحداثة الغربية مجرد قشرة سطحية يتحرك تحتها القديم بتصوراته.

من ضمن هذه التصورات الفاعلة تحت السطح تصوُّر عدم فاعلية الإنسان، فردًا كان أو مجتمعًا، فالفاعلية لله وحده. فأصبح الإنسانُ في تجربتنا الحداثوية دورُه هو مجردَ ديكور في المشهد، سياسيًّا، وكذلك على المستوى المعرفي والفكري والثقافي، فحضور الإنسان في المشهد مجرد متلقٍّ. متلقٍّ للنص وللأغنية وللفيلم، وحضوره في الغالب هو حضور تابع، حضور مُقيد بمقرر المدرسة، مُقيد بقواعد لغة معيارية تراثية، مُقيد ﺑآداب وتقاليد، ومقيد بقوانين تجريم قاهرة لا حد ولا ضابط لتفسيراتها المطاطة.

من هنا تظهر أهمية الانتقال من النص إلى الخطاب، حيث حضور المتلقي في النص هو حضور ضعيف، فالكاتب وهو يكتب يتصور قارئًا ضمنيًّا، يكتب له، لكن ما زال هذا القارئ الضمني تحت سيطرة الكاتب أيضًا وتحت سيطرة تصوراته. لكنْ في الخطاب المتلقي حاضر وفاعل في تشكيل الخطاب. ففي الندوة حين يقاطعك أحد، فهو يؤثر فيما تقول، لو الحاضرون في الندوة كلهم محافظون فإن هذا سيؤثر فيما تقوله لهم. فالمتلقي هنا حاضر وفاعل في تشكيل الخطاب.

٢

لقد رسمت في كتابي «أنا نصر أبو زيد»١ صورة لحياة نصر أبو زيد ولحياة تفكيره، في قالب سردي يقربه ويقرب أفكاره للقارئ العام، كخريطة عامة لخطاب نصر أبو زيد لمن أراد أن يزور مدينته الفكرية. وفي الجزء الأول من هذه السلسلة «هكذا تكلم نصر أبو زيد»٢ والذي تناول انتقالة فكر نصر من التعامل مع القرآن كنص بالمعنى الحديث للكلمة إلى تصور ماهية القرآن كخطاب أو كخطابات: «من النص إلى الخطاب»، قدمت فيه مجموعة من دراساتي عن خطابه، مع نصوص لأربع محاضرات له ترصد هذه الانتقالة من تصور القرآن كنص إلى تصوره كمجموعة خطابات.

في هذا الجزء الثاني من سلسلة «هكذا تكلم نصر أبو زيد» أقدم خطاب نصر أبو زيد في تفاعله مع المتلقي. الخطاب هنا حركة ذات اتجاهين بينه وبين المتلقي، فالسؤال حاضر من الجمهور، ونصر أبو زيد حيوية خطابه تتجلى في هذه الحركة البندولية مع المتلقي وعبر سؤال المتلقي وتفاعله هو معه. بالإضافة إلى حركة خطاب نصر البندولية بين المنهج والموضوع، وبين الباحث والموضوع وبين القديم والجديد، حركة جدل خلَّاق تقوم على استيعاب الطرفين ومحاولة تجاوزهما بقول جديد.

ففي هذا النص يدور خطاب نصر حول جوانب السلطة والتحريم الذي لا ينحصر في التحريم الديني فقط، وحول المثقف ودوره، وحول الدولة الدينية والخطاب الديني، وفي تفاعل الذات مع الآخر ومع تراثها، وعلاقة كل هذا بالواقع الحالي. من خلال خمس محاضرات ألقاها نصر بين ١٩٩٣م و٢٠٠٩م من عمَّان بالأردن، إلى أمستردام بهولندا، إلى القاهرة، إلى بيروت، ثم الكويت عبر التليفون. هنا تظهر المحاضرة ويظهر النقاش، فالنقاش هو أهم جزء في محاضرات نصر أبو زيد؛ حيث التفاعل وحيث اختيار الأفكار وتفاعل المتلقي مع الخطاب، فإنه يتم استعادة الإنسان إلى قلب معادلة الحياة عبر أن يسأل ويُعقِّب ويتفق ويختلف، بل وعبر اعتراضه ونفوره.

وكذلك عبر ستة حوارات صحفية تمت مع نصر أبو زيد منذ مايو ١٩٩١م حتى سبتمبر ٢٠٠٩م. من جريدة الأهرام إلى مجلة العربي بالكويت إلى النهار ببيروت والحياة بلندن، إلى جريدة العربي الناصرية بالقاهرة، إلى مجلة الثقافة الجديدة بهولندا.

٣

إن استعادة الإنسان الذي تم تغييب حضوره في ثقافتنا التراثية من أجل حضور طاغٍ لتصور إله، لا فاعلية في الوجود والحياة إلا لإرادته، ولا قدرة فاعلة على الحقيقة سوى لقدرته، قدرة وفاعلية بدون سبب وبدون غاية تحكمها. فتم تهميش حضور وفاعلية الإنسان الذي له لا حول له ولا قوة، ولا قانون حتمي حاكم لظواهر الطبيعة ولا لحركة الاجتماع الإنساني. فلكي نستعيد هذا الإنسان، فمهم أن نستعيد حضوره في خطابنا نحن أولًا، من خلال حضور سؤاله وتصوراته والنقاش معها وحولها.

واستعادة حضور الإنسان تُسهِّل استعادة الواقع المُعاش ودوره في فكرنا، الواقع الذي أهدرناه، فما الواقع في النهاية سوى عبارة عن تصورات وأفكار وفاعلية هذا الإنسان وأحلامه التي يسعى إليها. وباستعادة حضور الإنسان وحضور الواقع سيكون للطبيعة وقوانينها الحاكمة حضور وللاجتماع الإنساني وقوانينه دور ليس فقط كمجرد مناسبات وأدوات في يد قوة إلهية متصورة خارجية بلا غاية وبلا سبب تتحرك. فلعل هذا النص يكون نقطة بداية في مشوار استعادة الإنسان لقلب المشهد.

يا مسهل.

جمال عمر
٢٤ مارس ٢٠٢٢م
بروكلين
قبل بداية موسم الربيع الثقافي
لصالون تفكير ٢٠٢٢م
١  الطبعة الأولى ٢٠١٣م، دار العين للنشر، بالقاهرة. الطبعة الثانية ٢٠٢٠م، سلسلة مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، بالقاهرة.
٢  الطبعة الأولى يناير ٢٠٢٠م، دار الثقافة الجديدة، بالقاهرة. وطبعة إلكترونية على أمازون يناير ٢٠٢٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤