الفصل الثالث

المثقف العربي بين السلطة وخطاب التحريم

(١) المثقف العربي والسلطة

مساء الخير:١ أشكر مؤسسة عبد الحميد شومان على هذه الدعوة الكريمة، لكي تُتاح لي الفرصة أولًا لأزور جزءًا من الوطن لم أزره بعد، ولألتقي مجموعة من الإخوة لم ألتقِ بهم بعد، ولنختبر مجموعة من الأفكار والطروحات التي يُثير بعضها كثيرًا من الجدل. لذلك اخترت هذا الموضوع، من ضمن موضوعات اقترحتها، موضوع «المثقف العربي والسلطة» وليس في نيتي هذه الليلة أن أُلقي محاضرة بقدر ما في نيتي أن أطرح بعض الأفكار التي تمر في ذهني، والتي لا أتمسك بها كثيرًا، وإنما أعتقد أن بنية المحاضرة ستكتمل بالنقاش. ولذلك سأتمسك بالنصف ساعة، لا انصياعًا للتعليمات، وإنما رغبة في مزيد من التواصل.

ذلك أنني أعتقد أن الفكر لا يتسم بحيويته ومرونته إلا بأن يكون ثمرة حوار، وأن الاستماع من طرف واحد، دون أن نتلقى استجابة الطرف الآخر في المجتمع، من شأنه أن ينتهي إلى إنتاج خطاب مُغلق، الخطاب المحصور داخل نفس النتائج، يتحول بالتدريج إلى الإطلاقية والشمولية، وقد نصل في مرحلة تالية، إلى زعم امتلاك الحقيقة المطلقة؛ وهذا هو الخطاب المُغلق بامتياز.

أتمنى ألَّا يكون ما أطرحه عليكم الليلة سوى مجموعة من المقترحات، وهي أسئلة أكثر منها إجابات، لأنني حين أفكر في: «المثقف العربي والسلطة»، لا أستطيع أن أتعرض لهذه المشكلة دون النظر إلى مشكلة المثقف والسلطة في الفكر الإنساني. ذلك أن علاقات المثقف بالسلطة داخل المجتمع العربي، ليست منعزلة عن علاقات بين الثقافة والفاعلية السياسية تدور حول المجتمع العربي، حتى لا نقع في أطروحة «العالم العربي المتميز»، الخصوصي، الذي يتحقق وفق قوانين لا علاقة لها بالقوانين التي تتحقق بها — علاقة الثقافة بالسياسة — في المجتمعات الإنسانية.

لذلك لا نستطيع أن نتحدث عن المثقف العربي والسلطة دون أن نتحدث عن علاقة الثقافة بالسلطة بشكل عام. الذي فكرت فيه وأريد أن أشرككم معي في هذا التفكير؛ هو أن الفيلسوف اليوناني سقراط حين حكمت عليه السلطة السياسية والمجتمع بالموت بتناول السم؛ لأنه أفسد عقول الشباب. لماذا حرص سقراط على احترام السلطة السياسية وفضَّل تناول السم على الهرب برغم أنه يعلم أن قرار السلطة السياسية وقرار المجتمع مخالف للحقيقة التي توصل إليها؟! هل هو الدرس الذي يحاول المثقف أن يعطيه للعامة، درس الطاعة والإذعان؟ وما حقيقة الحقيقة التي توصل إليها المثقف هي الحقيقة التي … هذا هو السؤال.

لكن المعنى العام أن هناك مثقفًا، تقبل طواعية وعن رضا، قرار السلطة السياسية، على اعتبار أن قرار السلطة السياسية نابع من مشروعية، وهو لا يريد أن يخالف هذه المشروعية. بعبارة أخرى نستطيع أن نقول: إن سقراط اعتبر أن مشروعية القرار السياسي/المجتمعي هي مشروعية أعلى من مشروعية الحقيقة. ربما بوجهة نظر معاصرة لا نجد هذا الموقف موقفًا جديرًا بالاحترام، ذلك أن سلطة الحقيقة يجب أن تكون في تصوري الشخصي على الأقل ذات مشروعية أعلى من سلطة القرار السياسي أو من سلطة القرار المجتمعي. لكن على أي حال مسلك سقراط هذا يُثير المشكلة، مشكلة علاقة المثقف بالسلطة.

نريد أن نحدد أيضًا من هو المثقف وما هي السلطة وما طبيعة إشكاليات العلاقة بينهما على المستوى النظري، قبل أن أدخل في إعطاء بعض الأمثلة السريعة عن العلاقة بين المثقف والسلطة في التاريخ العربي والإسلامي.

التعريف الإجرائي للمثقف أن كل مواطن ينخرط في نشاط إنتاج المعرفة أو لتأسيس الوعي، هذا الوعي قد يكون وعيًا جماليًّا؛ الشاعر، الفنان، الموسيقي، بهذا المعنى المثقف منخرط في تأسيس وعي. وقد يكون وعيًا شعوريًّا عاطفيًّا؛ تدخل فيه كل مجالات العواطف ومنها العاطفة الدينية؛ رجل الدين هنا. وتأسيس الفكر الذي يدخل فيه المفكر والفيلسوف أي ما هو عقلي بصفة عامة. بل كل ما هو محاولة لإنتاج وعي سواء أكان وعيًا جماليًّا أو وعيًا عاطفيًّا أو وعيًا عقليًّا فهو يندرج تحت مفهوم الثقافة، وكل من يسعى إلى تأسيس هذا الوعي أو يُنتج هذا الوعي فهو المثقف.

السلطة: هي الإمساك بزمام التنفيذ في المجتمع، بزمام الحركة في المجتمع، ومن الطبيعي ألا توضع مسألة السلطة والثقافة في حالة تعارض؛ ذلك أن السلطة تحتاج إلى دعم المثقف، أي إلى دعم الفكر. لماذا؟ لأن السلطة تريد دائمًا في جميع المجتمعات الإنسانية، أن تؤسس مشروعيتها على مبدأ سيادة أعلى من المشروعية السياسية. تريد أن تستند إلى مبدأ سيادة يتجاوز الزمني والراهن والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية لهذه السلطة. كل سلطة كما نعرف هي معبرة عن قوى، هذه القوى هي جزء من القوى الفاعلة في المجتمع. لكن هذه السلطة لا تريد دائمًا أن تبدو أنها سلطة مؤقتة، معبرة عن فعاليات جماعة، معبرة عن مصالح، ذلك أنه يجعل وظيفتها مؤقتة، بتغير العلاقات داخل هذه التشكيلة الاجتماعية. تسعى كل سلطة سياسية إلى أن تستند إلى مشروعية أعلى، تتجاوز حدود الزماني وحدود المكاني. وهنا تحتاج إلى المثقف، تحتاج إلى الشاعر، تحتاج إلى الفنان والموسيقي، تحتاج إلى المفكر، تحتاج إلى رجل الدين. لتأسيس مشروعيتها السياسية على مشروعية تتجاوز الراهن وتتجاوز الجزئي والاجتماعي … إلخ.

إذا استجاب المثقف إلى رغبة السلطة، أصبح مثقفًا مُندمجًا في السلطة السياسية. وإذا تجاوز هذا الموقف وأراد أن يؤسس له موقفًا مغايرًا أصبح مثقفًا خارجًا عن إطار السلطة السياسية. إذًا يمكن بناءً على هذا التصنيف أن نتحدث عن مثقف السلطة وعن مثقف المعارضة، وسأعود بعد قليل لكي أوضح مفهوم المعارضة.

طبعًا ما نزال في مجتمعاتنا العربية في هذا الاشتباك السري، مثل هذا الحبل السري بين الطفل وبين الأم. هذا الاشتباك السري بين المثقف وبين الثقافة وبين السلطة السياسية لا يزال قائمًا في العالم العربي والإسلامي. ذلك أن كل السلطات في العالم العربي والإسلامي لا تكتفي بمشروعيتها، المعروفة، التي قد تكون عن طريق الانقلاب العسكري أو الانقلاب السياسي أو عن طريق السيطرة القبلية، أو أي نوع من أنواع السيطرة. وإنما تحاول أن تتجاوز هذا الموقف إلى تأكيد سيادة أعلى.

هذه العلاقة السُّرية بين المثقف وبين السلطة وبين الثقافة وبين السلطة، قد فض الاشتباك فيها في مجتمعات أخرى، خارج نطاق العالم العربي والإسلامي. ذلك أنه في هذه المجتمعات الأخرى وفي معظم هذه المجتمعات الأخرى، تم تأسيس وبشكل نهائي حرية الفكر، وحرية الإبداع. وتم تأسيس وبشكل نهائي مبدأ؛ ليس المشاركة في السلطة فقط ولكن المشاركة في تداول السلطة أيضًا. وبالتالي أصبح كل نظام سياسي يستند إلى مشروعية عليا تُسمى الدستور. هذه المشروعية العليا قابلة للتبادل، أي إنها ليست مشروعية عليا أبدية، وإنما هي مشروعية عليا تاريخية أيضًا. هذا الأمر تأسس في مجتمعات أخرى، وبالتالي انفضت إلى حد كبير هذه العلاقة المزعجة بل والمدمرة بين المثقف أو الثقافة وبين السلطة، بينما هذه العلاقة المُزعجة والمدمرة، ما تزال موجودة في عالمنا العربي.

مشكلة أخرى في علاقة الثقافة بالسلطة؛ هي مشكلة أن مفهوم الحقيقة عند مُنتج الوعي والفكر والثقافة يختلف بالضرورة عن مفهوم الحقيقة من منظور السلطة السياسية. الحقيقة من منظور السلطة السياسية تكون حقيقة؛ لأنها نافعة، أي إن مفهوم الحقيقة نفعي براجماتي. كل ما هو نافع في منظور السلطة السياسية أي نافع في تأكيد سلطتها وفي حشد الجماهير وراءها وفي ترسيخ هذه السلطة، كل ما هو نافع فهو حقيقة. فمفهموم الحقيقة يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالنفع. أما مفهوم الحقيقة في إنتاج الفكر والوعي فهو لا يرتبط بالضرورة بمفهوم النفع، الحقيقة في الفكر نافعة؛ لأنها حقيقة، وليست حقيقة؛ لأنها نافعة، هي نافعة لمجرد أنها حقيقة، كونها حقيقة تتسم بصفة جوهرية من حيث كونها حقيقة بأنها نافعة، وليس العكس.

وهذا فرق هامٌّ جدًّا في إنتاج الوعي، وفي إنتاج الثقافة، وفي إنتاج الفكر. بعكس التحريك السياسي للأفكار، أو للاستخدام السياسي للفكر. طبعًا نحن نتحدث عن مفهوم الحقيقة لا بمعنى الحقيقة المطلقة، وإنما بمعنى الحقيقة الثقافية التاريخية النسبية. التي يتحرك الوعي دائمًا فيها. وهذا هو الفارق بين الوعي الفكري والجمالي وبين الوعي السياسي. الوعي الفكري والجمالي يقتنص الحقيقة، يجري وراءها يتعقبها، يكتشفها ثم في نفس اللحظة يكتشف أنها تفلت من يديه. فالسعي أقرب إلى ما يسمى بالعذاب اللذيذ، سعي وراء الحقيقة. هذه الحقيقة هي ضالة المفكر، هي ضالة الفنان، يتعقبها دائمًا، كلما اكتشف مساحة من الحقيقة يكتشف قارات مجهولة وراءها. جماليًّا، فنيًّا، شعوريًّا … إلخ.

وبالتالي يظل مفهوم الحقيقة ليس مفهومًا ثابتًا، بينما مفهوم الحقيقة في نظر السلطة السياسية هو مفهوم الثبات. السلطة السياسية ضد التغيُّر. الثبات والأمر الواقع، ويسمى في الأدبيات السياسية «الاستقرار»، إذا ما هو حرص على الثبات وعلى الاستقرار والديمومة، يختلف عن اقتناص الحقيقة والجري وراء الحقيقة، بكل الوسائل الممكنة في الوعي الإنساني، جماليًّا وفنيًّا وفكريًّا ودينيًّا أيضًا.

من هنا يحدث أيضًا التعارض، لكن يُمكن في بعض فترات التاريخ أن نكتشف رجل السلطة حامي حمى الحقيقة، لكن هذا التعبير في تاريخنا هذا تعبير زائف. ولكن التحليل العميق لمرحلة تاريخية وُجد فيها السلطان يدافع عن الحقيقة سنكتشف على الفور بأنها حماية زائفة. سأضرب مثلًا سريعًا. على الخليفة المأمون العقلاني في حمايته للحقيقة الاعتزالية؛ حين تبنى الخليفة المأمون الفكر الاعتزالي ونحن نعلم أنه أخذ آراء المعتزلة وأراد توظيفها سياسيًّا، ونحن نعلم جميعًا محنة خلق القرآن وما سببته من انهيار للفكر المعتزلي نفسه، هنا حين خان المثقف أمانة المعرفة، وقرر أن يجري وراء السياسي، حين أعلن السياسي شعار المثقف. محنة خلق القرآن ليست للقضاء على الفكر الاعتزالي وإنما أدت إلى سيطرة نقيضه المضاد الذي نحن جميعًا نعرفه. إذًا حين نصل إلى السياسي حامي حمى الحقيقة حامي الفكر والإبداع … إلخ، يجب أن نأخذ الشعارات على عواهنها. إذًا رجل السياسة دائمًا يسعى إلى أن يأخذ حقيقة جهد المثقف لكي يحولها إلى تبرير سلطته السياسية.

أعود إلى فكرة المعارضة، ذلك أن مفهوم المعارضة أيضًا، لا يزال في ذهننا يختلط بالمعارضة السياسية، نريد أن نميز بين مثقف السلطة وبين المثقف الحقيقي؛ الذي يسعى إلى إنتاج المعرفة ويسعى إلى اقتناص الحقيقة على أساس مفهوم السلطة. هناك مثقف الدولة؛ هذا هو المنخرط بشكل مباشر ومكشوف جدًّا في تبرير السلطة السياسية، وقد يكون مندمجًا في إطارها وفي كيانها السياسي. وهذا هو مثقف السلطة الذي ينكشف للوهلة الأولى. هذا المثقف يقوم بدور التبرير وليس التفسير. فإذا كانت مهمة الفكر تفسير الواقع سعيًا إلى تأسيس معرفة جديدة. فإن مثقف السلطة يقوم بدور التبرير، المساحة بين التبرير والتفسير أحيانًا تكون مساحة ضئيلة جدًّا. مثقف السلطة قد يكون كما قلت منخرطًا في تأييد مباشر للسلطة السياسية. يجعل فكره في خدمة مباشرة للسلطة السياسية.

ولكن أيضًا المثقف المعارض للسلطة السياسية قد يُنتج خطابًا فكريًّا هو خطاب سلطة أيضًا، بمعنى إذا ظل إنتاج الوعي، وإذا ظل إنتاج الفكر، مرتهنًا بآفاق سياسية مؤقتة يظل هذا الفكر في تلك العلاقة السُّرية بينه وبين السياسة.

أعطي مثالًا؛ مثلًا للمثقف الذي ينضوي تحت عباءة حزب معارض، لكنه يُنتج الفكر لأغراض هذا الحزب. فيظل هذا الفكر أيضًا فكر سلطة، وإن كانت سلطة مغايرة. سأضرب مثالًا على ذلك من التراث العربي؛ المفكر السني والمفكر الشيعي، وأنا أستخدم كلمة سني هنا بعد أن أُجردها من دلالاتها الأيديولوجية التي أُضفيت على تلك الكلمة. باعتبارها مصطلحًا يدل على فريق من المسلمين. المفكر السني يُنتج فكرًا ووعيًا يسعى به إلى تكريس سلطة، سلطة الخليفة السني. الشيعي معارض لكنه أيضًا يُنتج فكرًا يؤسس به سلطة معارضة. فيظل امتداد الفكر على نفس المستوى، في الخضوع للآليات الزمنية والتاريخية والوقتية للسياسي. فيكرس هذا سلطة الخليفة وسيُكرس الشيعي سلطة الإمام. ستظل الفروق بين هذا الفكر وهذا الفكر هي فروق في التفاصيل، وليست في الغاية النهائية لهذا الفكر. وسأعطي مثالًا على ذلك من الإمام الغزالي نفسه بعد ذلك.

إذًا نريد أن نتجاوز الفكر المعارض أو المثقف المعارض ومثقف السلطة، لكي نتحدث عن الفكر المفتوح والفكر المغلق؛ لأن هذا يُبعدنا عن مسألة تزييف الفكر بوضعه في خانة المعارضة بالمعنى السياسي، فنتصور أنه يكتسب مشروعية لمجرد أنه يعارض السلطة السياسية. يعني الفكر المعارض سياسيًّا للسلطة السياسية لا يكتسب مشروعيته الفكرية إلا من هذه المعارضة، إذا ظل يُنتج الفكر من أجل تبرير سلطة سلطة سياسية أخرى.

إذًا ينبغي أن نتحدث عن المثقف المُنتج لوعي مفتوح، والمنتج لخطاب مفتوح، والمثقف المُنتج لوعي مُغلق والمُنتج لخطاب مُغلق. وهنا سنصل إلى أن كل خطاب يؤسس وعيًا مُغلقًا، أي وعيًا يتصور أنه يمتلك الحقيقة، وأن ما عداه باطل؛ يندرج في خطاب السلطة؛ لأن هذا الخطاب نفسه يتحول إلى سلطة، ويتحول إلى سلطة تقمع كل الخطابات الأخرى، دون أن نتحدث عن سلطة الخطاب، يعني ليس الحديث عن خطاب السلطة هو الخطاب الذي يقع في علاقة مباشرة مع السلطة. وإنما هو الخطاب الذي يتحرك هو نفسه في إطار من أنه سلطة ومن أنه مرجعية لا تقبل الاختراق. هذا الخطاب هو خطاب سلطة بامتياز. إنه قد يكون مضادًّا لسلطة من السلطات أو قد يكون مضادًّا لمجموعة من السلطات. ولكنه يؤسس لسلطة لا يمكن اختراقها ولا يمكن التفاعل معها.

المثقف الحقيقي هو المثقف القادر على الانخراط في إنتاج وعي، هذا الوعي يُفضي إلى خطاب مفتوح، خطاب نقدي. والخطاب النقدي يكون خطابًا مفتوحًا؛ لأنه ينعكس على ذاته فينقد ذاته، ويتحرك إلى آفاق أخرى طوال الوقت. يدخل في منطقة العذاب النبيل كما قلت من قبل، كل خطاب مُغلق هو خطاب سلطة سواء كان في المعارضة السياسية أم داخل أفق السلطة السياسية المباشرة.

بعض الهوامش الشارحة

هذه هي الأفكار العامة التي أريد أن أضع بعض الهوامش الشارحة عليها؛ لأنه قد يبدو من خطابي أنني أفصل بين الفكر والسياسة، وأنني أدين الفكر إذا كانت له أصول سياسية، وليس الأمر كذلك، فأي ممارسة للفكر هي ممارسة سياسية، بالمعنى العام، وليس بالمعنى السياسي المادي المباشر، أي انخراط في نشاط فكري هو انخراط في نشاط سياسي بالضرورة؛ لأن المفكر الذي يزعم لنا أنه يُنتج فكره بعيدًا عن أوحال السياسة، وبعيدًا عن مشاغل الحياة اليومية، في الواقع يُصِّدر لنا فكرة زائفة؛ إنه يعيش خارج التاريخ، ويعيش خارج الزمن. وهو نفسه يؤسس لخطاب سلطوي، بهذا المعنى؛ لأننا نفترض، وهذا أمر لا يحتاج إلى إثبات، أن المفكر مواطن يعيش في مجتمع، وبما هو مواطن في هذا المجتمع، ينخرط في علاقاته الاجتماعية، وأنه مواطن. ولكن المفكر الحقيقي، يجب أن يكون على وعي دائمًا بمخاطر الانزلاق الأيديولوجي، وما يمكن أن تؤدي له، أو أن تسببه الأيديولوجيا من خطر على الفكر بما هو سعي نحو الحقيقة.

أريد أن أنتهي من هذه الملاحظات المبدئية الأساسية، التي هي كما قلت أطروحات قابلة للنقاش، أنا أحاول بهذه المادة التي عرضتها أن أفكر بصوت مرتفع، سعيًا إلى أن أقدم لكم خطابًا مفتوحًا. فالخطاب ليس نهائيًّا، وليس مغلقًا ولا يعطيكم الحقيقة بقدر ما يحاول أن يطرح بعض الأفكار. إذا وضعنا هذه المقدمات العامة في اعتبارنا، ونظرنا في تاريخ الفكر الإسلامي وفي التاريخ العربي، نظرة سريعة نتأمل بشكل عاجل العلاقة بين المثقف والسلطة، وهنا نعود إلى ما قبل الفترة التأسيسية، ما قبل الوحي، إذا اعتبرنا أن الوحي هو فترة تأسيسية لانبثاق وعي جديد، فنعود إلى ما قبل الوحي، فسنجد أن الوحدة الاجتماعية هي القبيلة، أي إن السلطة السياسية هي سلطة على القبيلة. الشاعر والكاهن، هما نموذجا المفكر/المثقف، في ذلك الوقت، وسنجد على الفور، الشاعر المنخرط كلية في قيم القبيلة، مثل عمرو بن كلثوم مثلًا، فقراءة معلقة عمرو بن كلثوم هذا لن نجد متكلمًا وأنه ضمير الجمع حتى قافية المعلقة. فالقبيلة تتحدث من خلاله. سنجد الشاعر الصعلوك، المتمسك بالفردية والخارج على أنساق القبيلة. وسنجد شعراء في الوسط، عنترة بن شداد الذي يسعى إلى الاندماج في القبيلة، وسنجد لبيد بن ربيعة العدوي.

يعني ممكن أن ننظر للشعراء من هذا المنظور، شاعر منخرط تمامًا في إنتاج وعي جمالي لا يُفارق تمامًا الوعي العام. وشاعر يحاول أن يؤسس وعيًا مغايرًا.

كذلك الكاهن، سنجد شخصية الكاهن الموظف. الذي يرتضي أن يسأله السائلون عن أمر من الأمور ثم يستفتيه، سنجد شخصية الكاهن، المتوتر المتمرد على هذه المواضعات، لم تتوقف كتب التاريخ عند هذا الكاهن المتمرد فهي دائمًا من منظور التاريخ الإسلامي أي من منظور الذي وقع بعد ذلك، وهو إمام الأحناف زيد بن عمرو بن نفيل، كان متمردًا؛ لأنه يريد أن يؤسس مشروعية مخالفة للمشروعية السائدة، سواء على المستوى الديني، وسواء على المستوى الاجتماعي، أو على المستوى الفكري. سنجد أن انبثاق الوعي الإسلامي في المرحلة المكية، وهي مرحلة تأسيس الفكر والعقيدة. هذا الوعي الإسلامي انبثق في علاقة عدم تعارض مع الوعي الشعري عند الصعاليك، ومع الوعي الكهنوتي — ولا يتألمن أحد من هذا الاستخدام — عند أمثال ابن عمرو بن نفيل، إمام الأحناف كما قيل عنه. لكن الإسلام جاء مخالفًا، لمشروعية الوعي والسيادة التي انبنت عليها سلطة القبيلة، في المرحلة المكية يقدم الإسلام فكرًا مغايرًا، مؤسسًا لوعي مغاير.

في المرحلة المدنية توحدت السلطتان الروحية والزمنية في شخص الرسول، وهذا التوحد بين السلطتين أصبح يُنظر إليه في التاريخ الإسلامي بعد ذلك على أنه توحد أزلي، يعني هذا التوحد حدث بحكم أن النبي نفسه صار هو رئيس الدولة. لكن الإسلام يُعلمنا أن محمدًا خاتم النبيين، نحن نعرف بعد ذلك أن القبيلة، التي أراد الإسلام أن يشرخ سيادتها، وأن يمزق هذه الوحدة الاجتماعية، في سبيل مجتمع أوسع، هذه القبيلة استعادت نفسها، بعد الفترة الأولى من الوحي مباشرة، وتمسكت قريش؛ القبيلة، بأن تجمع السلطتين الزمنية والروحية.

وهذا أمر لا يزال كثيرون يتبنونه حتى الآن، «الخلافة من قريش»، هذا التمسك بالسلطتين الزمنية والروحية؛ تم على أساس قبلي، وهذا هو الذي فتح مجال الصراع مرة أخرى، بين بني أمية وبني هاشم، واحتلت الدولة الأموية بعد تأسيس مشروعيتها خاصة بعد أن شكك فيها كثير من المسلمين، شككوا في مشروعية هذه الدولة اللادينية، فاتجهت الدولة لتأسيس مشروعيتها، وهنا يأتي دور المثقف. «الجبرية» كإنتاج فكري، يؤسس مشروعية الدولة على أساسه. تقابل «الجبرية» «الإرجاء» كفكر نقيض، يتحول بعد ذلك إلى فكر من داخل السلطة. الخوارج، المعتزلة … إلخ.

إذًا تبدأ من هنا، هذا الارتباط الذي حدث بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، انبثق الارتباط الأبدي الدائم حتى الآن بين سلطة المثقف وسلطة السياسي، انحازت السلطة السياسية دائمًا إلى تأسيس مشروعيتها، بالعودة إلى المثقف مُنتج الفكر، قد يكون هذا المثقف رجل دين.

المعتزلة طرحوا فكرة تأسيسية بديلة. وظلوا حريصين على طرح هذا الفكر التأسيسي بعيدًا عن السلطة السياسية، ولكن كلنا نعرف تجربة المأمون وما حدث بعد ذلك.

أريد أن أتوقف أيضًا هنا عند محاولات تأسيسية في الفكر، لم يكن المثقف بالضرورة منخرطًا في تبعية سياسية مباشرة. لكي نبدد الوهم بأن التبعية السياسية المباشرة هي التي تفصل بأنه خطاب سلطة.

حكاية غريبة لكنها تستلفت النظر، مثلًا في موقف السلطة الأموية من الحسن البصري، والحسن البصري فقيه، زاهد، مُحدِّث، أراد أن يمارس فعاليته الثقافية والفكرية بعيدًا عن السياسة، وكان طلابه في المسجد، يحاولون استثارته بشتى الطرق، فكانوا يسألونه مثلًا؛ ما بال هؤلاء القوم يؤتون ما يأتون من المظالم، ثم يزعمون؛ إنما تأتي أفعالهم بقدر الله؟ وهي المقولة الأموية، فظلوا يستفزونه حتى نطق بمقولة هامة جدًّا، «كذب أعداء الله، كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي»، وده كان بداية التأسيس لفكرة مسئولية الإنسان عن الفعل.

المهم أننا نحن نعلم أيضًا من التاريخ أن الحسن البصري كان لا يذكر اسم علي بن أبي طالب؛ لأنه تحول إلى اسم محرم ذكره في المساجد، وكان إذا أراد أن يروي حديثًا نبويًّا مُسندًا إلى علي بن أبي طالب، يقول «قال أبو زينب». لكن استدعاه الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا هو مغزى القصة؛ أن السلطة السياسية لا تقبل حتى من المثقف الحياد، استُدعي من قِبل الحجاج بن يوسف الثقفي، وتقول القصة «وأحضر السيف والنطع» والشيخ يرتجف وكان رجلًا مسنًّا في ذلك الوقت، وقال له: «ما رأيك في علي؟» هكذا بشكل مباشر، فقال الشيخ: «لقد سئل من هو خير مني عند من هو شر منك، إذ سأل فرعون، موسى؛ «ما بال القرون الأولى»، فقال موسى في الكتاب؛ «علمها عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى»، علم علي عند الله.»

مغزى القصة هو هذا الحرص الدموي من جانب السلطة السياسية الأموية، لكي تستنطق المثقف المحايد، متى وجد هذا المثقف المحايد، أي المثقف الذي يُنتج معرفة. نحن نعرف قصة ذبح الجعد بن درهم أسفل المنبر بعد صلاة العيد، قال الخليفة: «قوموا إلى صلاتكم وأضحياتكم فإني مضحٍّ بالجعد بن درهم»، وذبحه أسفل المنبر. هناك مثقفون في تاريخنا استُشهدوا، أحمد بن حنبل بالتالي من هؤلاء أيضًا، في محنة خلق القرآن.

لكني أريد أن أطرح بعض الأمثلة على المثقف الذي لم يكن منخرطًا بصورة تبعية مباشرة مع السلطة السياسية ومع ذلك أنتج خطابًا سلطويًّا. لماذا؟ لأن الانحياز الذي يمثله هذا المفكر كان ضد السلطة السياسية على مستوى البنية السطحية ولكنه معها على مستوى البنية العميقة. ربما أطرح مثالًا هنا أعرف أنه يثير إشكاليات.

الإمام الشافعي، قراءتي في كتاب الإمام الشافعي أنه كان حريصًا كل الحرص على أمرين: الأمر الأول تأكيد عروبة القرآن، مع أنها لم تكن قضية خلافية، ولذلك افتتحت كتابي عن الإمام الشافعي؛ لماذا تحتاج عروبة القرآن إلى إثبات؟ الأمر الثاني: تأسيس السنة، لا نصًّا شارحًا، وإنما نصًّا مُشرِّعًا. ويبدو أن هذا الأمر خلافي بين أهل الرأي وأهل الحديث، وبالتالي حين أراد الإمام الشافعي أن يؤسس السنة كنص مُشرِّع، كان ذلك لأنه كان منحازًا للقرشية، انحيازه هنا ليس للدولة، بل إلى مُجمل القرشية العربية في مواجهة غير العرب، ربما لا يكون الانحياز على مستوى الوعي، لكن هناك شكلًا من أشكال الانحياز يمكن أن تتلمسه في مُسند الإمام الشافعي، وفي هذا المسند يبدأ في أحاديث فضل قريش، أي هناك دلائل.

تأسيس السنة نصًّا مُشرِّعًا، معناها توسيع إطار السيادة العليا، لكي يندرج فيها لا الخطاب القرآني وحده وإنما الخطاب النبوي أيضًّا، دون التفرقة بين الخطاب النبوي الذي هو وحي، وبين الخطاب النبوي الذي هو خطاب يعتمد على مواضعات تاريخية واجتماعية في المحل الأول. دون التفرقة في أقوال النبي عليه السلام، بين ما هو وحي وبين ما هو قول. هنا أنتج الإمام الشافعي خطاب سلطة، خطابًا ما يزال مستمرًّا حتى الآن، خطابًا أعطى — وهذه مسألة يجب توضيحها — أعطى شمولية للنصوص، وأعطى سلطة للنصوص. والخلاف بيني وبين آخرين الآن في مصر ليس حول النصوص وإنما حول سلطة النصوص، وهي سلطة مُضافة، أضافها العقل الإنساني للنصوص، وإطلاقية أضافها العقل الإنساني على النصوص، شمولية أضافها العقل الإنساني على النصوص، الدليل على ذلك؛ أننا لا نستطيع أن نتهم عمر بن الخطاب بأنه كان ضد النصوص في مجموع الممارسات التي نعرفها جميعًا، عن عدم تطبيق حدِّ السرقة في حالات معينة، وعن إيقاف العمل بنصيب المؤلفة قلوبهم، هل كان عمر بن الخطاب ضد النص؟ عمر بن الخطاب كان ضد سلطة النص؛ أي يحول العقل الإنساني النص إلى سلطة مفارقة للتاريخ، مفارقة للزمان والمكان. هنا يتحول النص إلى سلطة، هذا هو القسم الأول تحويل النصوص إلى سلطة مطلقة ليس فقط النصوص القرآنية وإنما أيضًا نصوص السنة، دون التمييز بين سنة الوحي وبين السنن الأخرى.

هذا خطاب سلطة ما يزال مستمرًّا، وتأسست على أساسه مجموعة من الأفكار التي أخذت للأسف الشديد قوة العقيدة، ليتحول خطاب الإمام الشافعي وهو خطاب حول الدين إلى أن يكون دينًا، إلى أن يكون عقيدة، فإذا اختلفت مع الإمام الشافعي فأنت مرتدٌّ. هذه هي الخطورة، يعني الإمام الشافعي يُكرس سلطة النصوص وشموليتها، ثم يأتي الخطاب بعد ذلك يُكرس سلطة الإمام الشافعي، أي النصوص الثانوية. فلا تستطيع أن تخترق هذه السلطات لكي تفهم النص في براءته الأولى، أن تعود إليه في سياقه وأن تحاول أن تفهمه، أي تمنعك كل هذه السلطات المتراكمة، عن أن تخترق سياقها لكي تصل إلى معرفة ولكي تؤسس معرفة.

سأشير إلى موقف الإمام أبي حامد الغزالي، ومعي بعض البطاقات، كتابٌ مهمٌّ جدًّا للإمام الغزالي: «الرد على الباطنية»، الكتاب في الحقيقة اسمه «المستظهري في الرد على الباطنية»، و«المستظهر» هو الخليفة العباسي الذي أمر أبو حامد الغزالي أن يؤلف هذا الخطاب، من أجل الرد على الباطنية، بعد أن مثلوا قوة حركية وفكرية ضد الدولة، الإمام الغزالي هنا في مناقشته لأفكار الباطنية يستند إلى سلطة العقل، في رفض الوراثة وفي رفض العلم المتوارث … إلخ. لكنه يخلع كل صفات الإمام المعصوم على الخليفة المستظهر في نهاية الكتاب. ولو أتيح أن أقرأ لكم العبارات، وهي عبارات شديدة الدلالة. هذا مثقف لا أقول بالضرورة إنه يمارس إنتاج الفكر لتبرير السلطة، وإنما يُفضي خطابه إلى تكريس السلطة.

من هنا فالإمام الغزالي لأنه مفكر حقيقي؛ أصيب بحُبسة، بفقد النطق وبمغص في الأمعاء، ولم يصبح قادرًا على التدريس، أزمة الإمام الغزالي التي تحدث عنها في المنقذ من الضلال … في المنقذ من الضلال يقول الإمام الغزالي: إنه أدرك أن كل ما قام به من عمل، من تأليف ومن تدريس ومن تعليم، إنه اكتشف أنه كان لغير وجه الله. لكننا نقرأ هذا قراءة تاريخية، يعني الإمام الغزالي في كتابه عن الباطنية يكشف عن هذا التعارض البندولي بين السياسة وبين الفكر، ويُصاب هو؛ لأنه مفكر مُخلص، اكتشف هو، هذا التزييف، الذي ربما لم يكن واعيًا به، ودخل في التصوف كما نعرف جميعًا، اكتشف أنه لم يكن يمارس الفكر لوجه الله تعالى، وإنما كان يمارسه لنفع دنيوي. من هنا حصلت الأزمة. على الأقل الإمام الغزالي وقع في الأزمة.

المثقف لا يجب أن ينعزل عن الحياة وإنما يجب أن ينعزل عن تبرير السلطة، الأخطر من ذلك أنه يجب أن يكفَّ عن إنتاج خطاب سلطة، والخطاب يتحول هو نفسه إلى سلطة.

واسمحوا لي أن أتوقف عند هذا الحد، وأطرح مزيدًا من أفكار من خلال الحوار، شكرًا.

النقاش

مقدم الندوة: أيتها السيدات، أيها السادة، نجحنا الآن في إقناع الأستاذ المحاضر بأن نستضيفه في محاضرة ثانية يوم الخميس، وسنعلن عنها وعن موضوعها قريبًا، لكن بسبب الحضور وكما يعرفونني، وبما أن الحضور كثيف بهذا الشكل فسنوزع أوراقًا عليكم وسيكون هناك تساوٍ بين السيدات والرجال، فأرجو كتابة الأسماء عليها، وليس السؤال. الأسماء، لكي ننتقي عشوائيًّا لأن فيه كتير إخوان، ولكي تُعطى السيدات الحق في المشاركة. وأرجو أن أنوه إلى أن الحوار هذا المساء سوف يمتد حتى الثامنة وخمس دقائق، ولنا لقاء يوم الخميس القادم بإذن الله، لنتابع فيه الحوار حول هذه الندوة وحول الموضوع الإضافي الذي سيتم موافاتكم به.
السائل الأول أبو رياض: شكرًا دكتور أبو زيد. فيه مثقف تقليدي وفيه مثقف متحرر، التقليدي اللي تابع للسلطة، هو وعائلته. والمتحرر اللي هو قد يكون قريبًا أو بعيدًا. أحد التقليديين عندنا سألته: كيف منفعتك أنت حينما تكون قريب كتير من السلطة؟ قال أنا أحب السلطة إيش ما كانت. فأنا أعرف أنه لما كانوا الإنجليز كان معهم، أجو العرب، كان معهم، أجو اليهود، كان معهم، شايف. هل الألفة على الوطن، من يُسهل كلمة نعم سيدي، ولا يقدم نصيحة إلا «نعم»؟ أو من يقدم النصيحة المفيدة للوطن والسلطة. مين فيهم الأفضل؟ وشكرًا.
نصر أبو زيد: الإجابة واضحة من سؤال حضرتك، يعني الإجابة مُستنبطة، أن المفيد للوطن، هو من يحاول أن يفهم هذا الوطن بعيدًا عن لا، وبعيدًا عن نعم؛ لأن معرفة الوطن بشكل جيد هي الأداة الأولى لتقدم الوطن، المعرفة هي التي تبقى للوطن، المعرفة الحقيقية.
السائلة الثانية السيدة توجان الفيصل: سؤالي بشقين. الأول: في الإشارة إلى الغزالي، عندما وافق الخليفة في فكره للسلطة ثم انعزل كرد فعل إلى الصوفية. حين يكون المفكر يدرك أنه يمارس السياسة فهو ينحى إلى إيجاد أثر على الواقع، ففي بعض الظروف الواقع يكون مُغلقًا جدًّا، قد يضطر المثقف إلى أن يغلف فكره وأن يكون لزمن آخر عندما تزول هذه الغُمة، كما حدث في الغرب، مع ديكارت مثلًا وضع طريقة للتغيير، فوضع مقولة التغيير بالشك ليثبت مقولة الكنيسة، فذهبت مقولة إثباته لمقولة الكنيسة في الفصل الأخير، فذهب الفصل الأخير وبقيت مقولة الشك، في كل العالم، أليست هذه أفضل من الانتحار الصوفي أو الانتحار الفعلي، بالتصدي لا يسمح به الزمن الآن للسلطة؟

الشق الثاني من سؤالي: قلت إن هناك سلطة وإن هناك مثقفًا، فهل لو المثقف وصل إلى السلطة سينتهج نهجًا ديمقراطيًّا؟ أي أن منظومة السلطات التي أنتجت في كل العالم، التي توجد حرية الفكر في هذه الحالة هل لا يجوز أن نفرق بين السلطة وبين المثقف؟ وإذا كان مثقف السلطة هو يبقى مثقفًا ولا ينعزل؟

أبو زيد: الشق الأول من السؤال، شقٌّ هامٌّ جدًّا؛ لأنه مرتبط بكيف تُطرح الاجتهادات التي لا يقبلها المجتمع، والتي لا تقبلها السلطة السياسية، ولكن ربما تُفضي بصاحب الاجتهاد إلى الانتحار الفعلي، أيضًا أعود للتاريخ، واسمحوا لي هنا أن أكون واضحًا. دائمًا المفكر بما هو ابن المجتمع، يتمتع بحدود رقابة داخلية، يعني أي مفكر هو يسعى إلى أن يؤثر في المجتمع وهو يحمل في لحظة إنتاج الفكر، قيم المجتمع القمعية في داخله بالضرورة، يعني أي خطاب يُنتج مهما كان خطابًا علميًّا فهو خطاب لا يخرج تمامًا عن حدود الإطار المعرفي، لا يجب في تقديري أن يُضيف المفكر إلى هذا الردع الداخلي، ردعًا خارجيًّا بالخوف؛ لأن هذا انتهى في تاريخنا الفكري إلى تزييف الفكر.

اسمحوا لي أعطي أمثلة سريعة: فمثلًا المجددون محمد عبده حسن حنفي وآخرون، حين أرادوا أن يمكنوا لفكرة الحرية في المجتمع لجئوا إلى فكرة الحرية عند المعتزلة. الواقع أن المعتزلة لم تتحدث عن الحرية، المعتزلة تحدثوا عن خلق الأفعال، فتم تزييف فكر المعتزلة من أجل إعطاء مشروعية لفكرة الحرية، يعني اللجوء إلى لغة تراثية، مقبولة في الإطار العلمي في المجتمع لتبرير أفكار حداثية، انتهى الأمر إلى أفكار تقليدية بقشرة حداثية، تسقط القشرة، وتبقى الأفكار التقليدية.

ده خطر، خطر على مسيرة الفكر ذاته، أنه لا يتطور ولا يتحرك، وهذا الذي يجعلنا الآن في نهاية القرن العشرين، مسئولين بنفس الأسئلة التي طُرحت في بداية القرن العشرين. باستخدام لغة يصح أن أسميها مراوغة، اللغة المراوغة في رأيي لا تؤسس وعيًا. علينا أن نستخدم اللغة الواضحة، المعبرة ونشرح للجميع، ونتحمل المسئولية، وهو فيه قدر من المسئولية في إنتاج الفكر، فيه قدر من الاستشهاد. ده تاريخ الفكر، هو تاريخ استشهاد، لكن ليس الانتحار طبعًا. فيه فرق بين الانتحار وبين الاستشهاد، الاستشهاد غاية تنتهي إليها دون أن تتطلبها بالضرورة. فمن هنا أجدني، أقرب إلى اللغة الواضحة، الحاملة للفكر مهما كانت صعبة أحيانًا. ومهما كانت مُستغلقة أحيانًا. بدأ اللعب على مستوى الجماهير، وعلى وتر الجماهير، هي المشكلة حقيقة قد نختلف فيها ولكن رأيي أننا يجب أن نطرح الحقيقة واضحة.

المثقف حين يصل إلى السلطة، في إطار المجتمع العربي، يبقى سلطة، واحنا عندنا مثقفين كثيرين وصلوا للسلطة، وبقوا سلطة. وسلطة قاهرة، أي بهت وجههم الثقافي لحساب وجههم السلطوي، إذًا المجتمع نفسه حصل فيه تغيير، أي إن السلطة نفسها أصبحت جزءًا من بنية المجتمع، أصبح تداول السلطة غير قانوني، وجه السلطة نفسه يتغير، يعني لا تصبح لها هذه الملامح الصارمة الموجودة لملمح السلطة، في مجتمعاتنا العربية. سلطة يستطيع الإنسان أن يتعامل معها باعتبارها سلطة، وأن يُناهضها، وأن يناقضها وأن يجد مؤسسات، وأن ينخرط في نشاط مؤسساتي تناهض هذه السلطة، لكن في المجتمع العربي للأسف. علشان كده بحب المثقف يبقى بمنأى شوية، ولما تتحل مشكلة السلطة شوية في مجتمعنا وده في الآخر يبقى المثقف يبقى حر شوية في الاندماج في السلطة.

السؤال الثالث محمد جمال: شكرًا جزيلًا على المحاضرة، يا سيدي تعليقي ببساطة لماذا لم توضح ما أسباب اندماج المثقف بالسلطة؟ وهل هناك مضار وسلبيات على المجتمع؟ بمعنًى آخر لماذا لا تدخل إلى عمق هذه العلاقة وتحللها بشكل جدلي فلسفي توضح فيه السلبيات والإيجابيات، فقد فُهم من كلامك أن المثقف إذا دمج بالسلطة فحتمًا سيكون ذلك السلطوي، الذي يمارس الصرامة ويمارس السلطة، فليست السلطة دائمًا ضارة وسلبية على المجتمع، فأرجو أن توضح هذا المجال.
نصر أبو زيد: حين نحدد علاقة السلطة بالمثقف، لا نحددها بشكل تجريدي فلسفي مُفارق، المجتمع العربي مجتمع له تجربة تاريخية، يعني لا نستطيع أن نتحدث عن مُجمل السلطة ومُطلق السلطة المجمل ومُطلق المثقف، أنا عرضت الأول المسألة عند اليونان. المجتمع العربي له تاريخ، في علاقة المثقف بالسلطة. هو التاريخ الذي نحلله ونستنبط منه العلاقات. وليس محبوبًا في نفوسنا أن تكون النتائج سلبية، لكن كما نقول باللغة العامية المصرية: «احنا مش مغسلين وضامنين جنة»، يعني نحلل التاريخ، طلعت التجربة التاريخية لشعوبنا سلبية، لا بد أن نقول إنها سلبية، يعني ليس مطلوبًا من المفكر أن يُحلِّي السلبيات، أو يؤيجبها أي يجعلها إيجابيات، من أجل الإعلاء من شأن الدولة.

وتجربة مجتمعنا العربية تاريخيًّا في علاقة المثقف بالسلطة، كانت إما أن يندمج المثقف في نظام السلطة تمامًا، وأنا أعطيت نموذج حسن البصري، وإما أن يظل مثقفًا … على المثقف كما أقول أن يعي هذه المشكلات وأنه يحاول أن ينخرط في إنتاج الوعي، لا بالمعنى السياسي النفعي المباشر، وإنما الوعي الذي ينظر إلى المستقبل، السياسة كما نعلم جميعًا «هي فن تحقيق الممكن»، ولكن الفكر هو «فن معرفة المجهول». وهناك فارق كبير بين تحقيق الممكن، لكن الفكر هو فن معرفة المجهول، وهناك فرق كبير بين تحقيق الممكن وبين معرفة المجهول، وده فرق كبير بين الثقافة وبين السياسية …

شئنا أم أبينا حين ينتقل المجتمع العربي هيكليًّا وبنيويًّا، ربما نستطيع أن نتحدث عن إيجابيات وأنا أول من يريد أن يجد إيجابيات في الوطن الذي يعيش فيه. أنا مش مبسوط إني أنا عايش في وطن منقوص الحريات.

السؤال الرابع؛ السيدة زليخة أبو ريشة: سعداء بالاستماع إلى هذا العمق في التحليل … سأحاول أن أكون أكثر تحديدًا. وألا أشتغل سياسيًّا بالمعنى البراجماتي بالمعنى الوصولي، في ظني أن المخاطر التي نواجهها الآن، أن الحركة الإسلامية تحديدًا، تعتقد أنها تملك الحقيقة، وبذلك ستدعي أنها تنصاع لسلطة الحقيقة، طبعًا الحقيقة الثابتة، والأخطر من هذا امتلاك الخطاب المغلق، الذي يعتقد أنه يمتلك سلطة المنع، الأخطر من هذا ظاهرة التماهي والاندماج بين القائل والنص، بين المفسر والنص، بين المجتهد والنص، وانتقادك لفكر الشافعي تسبب في الضجة التي سمعنا بها، ومشروع الأذى الذي تعرضت له، الآن أي خطاب خارج، أي نقد ليس للشافعي لحد هذه اللحظة المعاصرة، ستؤدي بالضرورة حسب هذا الخطاب إلى …

الآن الخطاب السياسي، المعارض للسلطة السياسية السائدة، في مصر والجزائر مثلًا، خطاب كما نعرف، دموي قمعي، ونقيضه خطاب مفتوح، مش اللي في السلطة طبعًا، وضد الخطاب المفتوح الديمقراطي. السؤال: في رأيك فكرة التعامل مع هذا الخطاب، ومع أصحاب هذا الخطاب، دون التورط في قمعه من جهة، ودون التورط طبعًا فيه، وهل يكفي لإثارة هذه المسألة تحليل، الإشارة إلى الهيمنة الغربية، البحث عن الهوية، الإحباطات العربية، الانهيارات إلى آخره؟ وشكرًا.

السؤال الخامس، عماد غانم: تحدثت عن الدور النفعي للثقافة، أنا بدي أضيف ما يتعلق بالمجتمع العربي، هنالك الدور الوظيفي للبيئة، فالسلطة الحاكمة بتوظف الدين لتؤكد سلطتها فيه، هنالك بنلاحظ أيضًا في هياكل بتوظف أيضًا الدين من أجل الوصول إلى السلطة، للأسف هذه الدائرة هي دينية في العالم العربي، في حين أن السواد الأكبر للمواطنين العرب هم مُسيطر عليهم ومُغيبون، وبالتالي، اللي بدي أحكيه إنه البلاد العربية خلال الأربعين سنة الماضية، المفهوم الأول هو مفهوم الثورة، الثورة على سلفًا. الموضوع الثاني هو المنصات الإسلامية، أو الشريعة الإسلامية، أو الإسلام السياسي، أو الإسلام الشعبي، فعندنا بخلاف في المجتمعات الغربية هناك فقدان للبعد التنويري، فحبذا لو تضيء لنا هذا الجانب، كيف يمكننا الوصول إلى التنوير؟
نصر أبو زيد: الأسئلة متشابكة إلى حد يجعل الإجابة عنها موحدة. إلى جانب دراسة الظاهرة، التي يُطلق عليها اسم الصحوة الإسلامية، دراسة عميقة أي تتشابك دراسة الظاهرة اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. كيف يمكن التعامل مع الظاهرة بما هي. كما قالت الأخت، بما هي نوع من امتلاك الحقيقة ويسعى إلى إقصاء الخصم. اسمحوا لي أن أبقى واضحًا جدًّا، ليس الخطاب الإسلامي وحده هو الخطاب المُغلق، يعني مُجمل الخطابات العربية خطابات مُغلقة، الخطاب السياسي العربي خطاب مُغلق بامتياز، وهو خطاب يمتلك الحقيقة المُطلقة وينازع عليها جماعات الإسلام السياسي، يعني هذا أمر واضح.

في تحليلي للخطاب الديني، في الواقع أنا قمت بعملية تحليلية لثلاثة أنواع من الخطاب، وليس الخطاب الديني بمعنى الجماعات الإسلامية، قمت بتحليل خطاب الجماعات، وخطاب رجال الدين الرسميين، والخطاب السياسي أيضًا، وكشفت أن البنية العميقة لهذه الخطابات الثلاثة واحدة، والمنطلقات الفكرية واحدة، من أجل هذا لست واثقًا تمامًا، على تحميل الظاهرة الإسلامية، جرم الانغلاق الخطابي، الذي يسود حياتنا.

الدين كان باستمرار أداة من أدوات الصراع السياسي في العالم الإسلامي، من أول المؤمنين، أي ظل الدين يُفسَّر من منظور توظيف سياسي، تحويل الدين إلى وقود للسياسي، وبالتالي حرمان المجتمع من قوة الدين الحقيقية، بالنسبة لهذا الأمر، لا يكاد يكون فارقًا بين السلطة السياسية ولا الإسلام السياسي، ويظل، الخلاف مع ذلك هو خلاف حول الحاكمية، حول من يحكم باسم الدين، باسم الله.

الحل في تقديري، لا يكمن في قمع الظاهرة الإسلامية؛ لأن القمع جُرِّب أيضًا تاريخيًّا، في تاريخ مجتمعاتنا، لا شك أن الإسلام يمثل ملاذًا وملجأً، يحب ذلك من يحب ويكره ذلك من يكرهه، مع عجز تام في الأنظمة العربية وفي الفكر العربي عن إحداث انتقالات حقيقية في الوعي، لا بد أن نسلم بالأشياء بصرف النظر عن توافقها أو اختلافها مع آرائنا، أنا أتصور أننا لن نخرج من هذه الأزمة إلا بتأكيد أو ترسيخ أو النضال أو الاستشهاد من أجل ديمقراطية حقيقية، ديمقراطية ليست بالمعنى السياسي فقط، وإنما بالمعنى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفكري، ديمقراطية لا تسمح فقط للتعدد الشكلي القائم، وإنما تسمح بتداول السلطة؛ لأن في اللحظة التي يتم فيها تداول السلطة لا يستطيع أي خطاب أن ينغلق، لماذا؟ لأنه سينتقل من السلطة إلى المعارضة، وفي حالة الانتقال من السلطة إلى المعارضة هيكتسب مرونة؛ لأنه يضطر إلى النظر في الفعاليات الاجتماعية، ويضطر إلى أن يعيد إنتاج نفسه، وليس أن يكرر إنتاج ذاته.

الفكر في المعارضة مخنوق، مقموع، أي فكر، الفكر الديني، الفكر الماركسي، الفكر القومي الفكر الناصري. أي فكر مقموع ليس أمامه إلا إعادة إنتاج ذاته، بشكل دائم، وبنفس المنطلقات وبنفس الدواير، الفكر لا يكتسب حيويته ولا يدخل في نقد ذاته إلا لما يتعرض للهواء الطلق، في رأيي أن الديمقراطية بالمعاني التي طرحتها، وهي المعاني المتجاوزة للمعنى السياسي، هي الحل الوحيد، لكي نبدأ في الدخول في حوار حقيقي، ليس هناك حوار، يعني القضية فيه إشكال في مصر وقامت هوجة بين الإسلاميين وبين العلمانيين لم يحدث حوار، كلٌّ يتحدث في غرفة مُغلقة، لم يحدث حوار حقيقي، لن نستطيع أن نكسر حدة انغلاق الخطابات إلا بالحوار. ولن نستطيع الحوار إلا في مناخ، اجتماعي وفكري يسمح بالحوار، نظام تعليمي يسمح بالحوار، نظام تربية يسمح بالحوار.

أؤكد لكم أنه مُنع الإسلاميون من الوصول إلى الحكم في الجزائر بقوة الجيش، وهلل الكثيرون لهذا، لحقن الدماء طبعًا، وللإيمان بالديمقراطية، حد والنبي يقول لنا الدماء التي سالت من أيامها حتى الآن أد إيه؟ وفين الديمقراطية التي أردت حمايتها؟ علينا أن نسلم لمرة واحدة في حياتنا أن نسمح لقوة سياسية للوصول إلى الحكم بطريقة ديمقراطية، وهتقدر الشعوب تقاوم بعد كده، إنما احنا افترضنا إن الإسلاميين إذا وصلوا إلى الحكم سيقضون على الديمقراطية، فقلنا احنا من قصيرها نقضي عليها. بيدي لا بيد عمرو.

وهذا مبدأ في العقل العربي أصيل جدًّا، وهو مبدأ نريد أن نرميه في الزبالة، وهو مبدأ «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح». لأ، جلب المصالح مُقدم على درء المفاسد؛ لأن كل تقدم يأتي بمفاسد، لكن العقل والجهد الإنساني يتجاوز المفاسد، نحو مزيد من الإصلاح، إنما احنا سياسة محلك سر، إذا خرجنا ربما نقع في حفرة، فلماذا لا نمكث في مكاننا، ونُغلق الرتاج على أنفسنا، حتى لا نقع.

على شعوبنا اللي احنا مش أوصياء عليها كمثقفين، وهذه مشكلة ثانية؛ لأننا بنمارس السلطة على شعوبنا، فتتحدث باسم الشعوب، الشعوب اختارت الإسلاميين، والحل الإسلامي، على المثقف ألَّا يكف عن التوعية، وأن يترك الشعوب تتحمل، سيظل الإسلام هو الحل هو الشعار، ستظل شعوبنا ولفترة طويلة جدًّا مع العجز، سيظل بمثابة شعار لا بد للشعوب أن تُجرب.

اسمحوا لي أبقى واضح جدًّا في هذه النقطة، على الشعوب أن تذوق هذا الحل وأن تدفع الثمن، الشعوب حين تدفع الثمن تتعلم، إنما احنا أوصياء على الشعوب، احنا نخبة، احنا زي النخبة العسكرية بالظبط، نوقف كل حاجة؛ «لأن الشعوب هتدفع الدم»، من الذي أعطانا هذه السلطة؟ إن احنا نعامل نفسنا بأننا سلطة، بحكم أننا نخبة، بحكم أننا ننتج فكرًا، لأننا نتصور أن إنتاج الفكر أفضل من الوقوف على الماكنة في المصنع، لأ، مش أفضل، اسمحوا لي؛ ليس أفضل. المثقف مواطن زيه بالظبط زي العامل، وحين يتحول المثقف إلى سلطة حتى لو كان تقدميًّا، هذه كارثة.

اسمحوا لي إن كلامي هذا قد يثير ردود أفعال متباينة، بس أنا أقول ما أعتقد أنه حق، وأنا أول واحد رقبته معرضة، مش أول واحد فيكم، لكن مستقبل الأمم لا يقاس بدماء الأشخاص. الظاهرة الإسلامية في تقديري ظاهرة اجتماعية، وظاهرة حقيقية، وليست مفتعلة ويجب التعامل معها، والفكر الإسلامي جزء من الفكر العربي منذ أيام حسن البنا، يعني تيار، تيار أصيل من هذه التيارات، وهذا موضوع تاني وقصة أخرى.

السؤال الأخير، الأخ ياسر أبو دلالة: بداية أشكر المؤسسة والمحاضر، في إجابته الأخيرة، هناك في العقل العربي عقدة اسمها الإسلام، أو حركة إسلامية، ننادي بالديمقراطية وننادي بالموضوعية، لكن حين يتعامل مع الإسلام، ينسى ذلك كله، كأنه استشراق للمثقفين في الغرب، يتعامل مع الإسلام ومع العروبة بموضوعية، أما في الشرق فيضع كل هذه الأشياء جانبًا. أنا ضد المحاضر لكن كلامه الأخير يجعل للجميع فرصة. اللي يهمني، إنه في مشكلة المثقف عندما وجد نفسه غير مقبول في المعارضة، كونه سلطة معارضة — حسب تعبيرك — وجد أن أقصر الطرق يكون مثقف سلطة، السلطة السياسية، ووقع في مطبات وفي خطايا لن يغفرها له المجتمع، ما صار في الجزائر سيئ مخزي جدًّا، المثقف العلماني ديمقراطي بحيث إنه ما يكون تابعًا للسلطة السياسية وفي شقها الأمني فقط، بشكل يجعل من المثقف، عبارة عن موظف لدى السلطة، ويجعله لماذا المثقف الحقيقة إنه ما كان يكتبه عن الأصولية وعن كلام مرفوض وغير ديمقراطي وغير علماني، وما كان إلا موظفًا لدى السلطة.

باختصار سؤالي: لن نجعل العلماني إسلاميًّا ولا الإسلامي علمانيًّا، لكن لو السلطات القائمة الآن أليس من المصلحة، أليس المثقف العلماني، وبدي أخصص مصر، هل ينحاز إلى المعارضة حتى ولو كانت إسلامية ولَّا المتكبر وهي السلطة السياسية ولا يكتفي بمجرد أنه محايد ولا إنه منحاز إلى جانب السلطة؟

نصر أبو زيد: يعني يبدو أن فيه مفاهيم اختلطت، مفهوم العلمانية، لأنك وصفت كثيرًا من الاتجاهات بالعلمانية. العلمانية في تعريفها الأولي أنها ضد خطاب الدوجما، يعني ضد أي خطاب يمتلك الحقيقة المطلقة، فأي مثقف يمتلك الحقيقة المطلقة فقد خرج من العلمانية من أوسع الأبواب. العلاقة علاقة تضادٍّ، بين العلمانية والإسلام، وهذا موضوع عايز يبقى موضوع المحاضرة الجاية، يعني موضوع مشتبك جدًّا، وحالة من الحالات، وأنا تعرضت له وأنا بتكلم عن إصرار قريش على ربط السلطتين الزمنية والدينية مع أنها كانت في مرحلة النبوة مرحلة مؤقتة.

تصور بقى أن ما هو مؤقت أصبح له الآن ثبات معرفي، إنه مفيش نبي بعد الرسول، لكن قريش صممت أنها تظل تحمل النبوة مع السلطة السياسية، ليه؟ لأنه النبي من قريش، وبنو هاشم أخذوا نفس المبدأ، فنحن نقف عند هذه المسألة، المصلحة وهو الجانب المادي للفكر من مصلحة العلمانيين الانحياز للإسلاميين، وليه متقولشي نظريًّا يعني وإجرائيًّا لا أقول بالواجب، فكل واحد يحدد مصالحه بنفسه، الآن الانحياز للإسلاميين ضد السلطة، وبعد ما يبقوا سلطة؟ إذًا المسألة ستقتضي أن الانحياز ينفك، رجعنا تاني إلى توظيف الفكر توظيفًا نفعيًّا، مؤقتًا، وده اللي المحاضرة التانية ستحاول أن تتناوله، اللي أنا أقوله إنه الانفصال الموجود في المجتمع ليس انفصال علمانية إسلامية. وأرجو أن هذه القضية تتسع في المرة القادمة.

مدير الندوة: إذًا محاضرنا سوف يلقي محاضرة السبت القادم في الساعة السادسة بعنوان «بين العلمانية والإسلام».

(٢) الفن وخطاب التَّحريم

مساء الخير، أهلًا بكم في مصر،٢ أهلًا بكم حقيقي. أولًا أحب أن أشكركم، على تجشم مشقة المجيء، وأنا أعرف القاهرة والتنقل فيها ماذا يعني. فأحب أن أشكركم جميعًا لتحمل هذه المشقة، مشقة المجيء لهذا المكان لحضور هذه المحاضرة. هذا تكريم يفوق أي تكريم، وهذه جائزة تفوق كل الجوائز التي حصلت عليها. أحب أن أشكر مؤسسة المورد على إتاحة الفرصة لإلقاء هذه المحاضرة، وعلى إلقائها في هذا المكان، وأحب أن أشكر بسمة الحسيني لأني ألقيت هذه المحاضرة في بيروت أمس. في إطار هذه الاحتفالية الربيعية الفنية الأدبية. أحب أن أشكر الجامعة الأمريكية على استضافة هذه المحاضرة، الجامعة الأمريكية بالنسبة لي ليست مكانًا غريبًا، أنا درست هنا مدة طويلة في نهاية السبعينيات.

المحاضرة هذه الليلة مرتبطة بسياق المهرجان، الذي تقيمه مؤسسة المورد بالمشاركة مع مؤسسات أخرى في العالم العربي. «الفن وخطاب التحريم»، قد يتبادر إلى الذهن أن خطاب التحريم هو الخطاب الديني فقط، وأنا أحب أن أوضح هذا المفهوم، أن خطاب التحريم هو خطاب يكاد يسود المجتمعات العربية. هناك خطاب التحريم السياسي، هناك خطاب التحريم الاجتماعي، هناك خطاب التحريم الفردي والشخصي، هناك خطاب التحريم الأكاديمي أيضًا، بالإضافة لخطاب التحريم الديني. القصد من هذا الشرح، أن أقول إن الخطاب الديني جزء من الخطاب العام، وإنه خطاب ليس مفروضًا على المناخ العام للخطابات، جزء من هذا الخطاب العام الذي يسود المجتمعات العربية والإسلامية.

إذا كان الخطاب العام خطابًا يستشعر المستقبل، يستشرف المستقبل، يتعامل مع الحاضر باعتباره نقطة لاستشراف المستقبل، فالخطاب الديني أيضًا يصبح خطابًا يستشرف المستقبل. إذا كانت الخطابات الأخرى الخطاب المسيطر على الواقع العربي والإسلامي خطابًا لا ينظر إلى المستقبل، خطابًا مسجونًا، خطابًا مختنقًا، يصبح ليس من الغريب أن نجد الخطاب الديني أيضًا هو خطاب مختنق.

حين أتحدث عن خطاب التحريم لا أقصد فقط عن الخطاب الديني. إنما أقصد كل تجليات خطاب التحريم في ثقافتنا الراهنة.

السؤال الذي طرح نفسه على ذهني وأنا أعد هذه المحاضرة: ما المخيف في الفن؟ ما هو ذلك الشيء الذي يصيب خطاب التحريم بالذعر؟ فيحاول خطاب التحريم على كل المستويات التي تحدثت عنها، على الأقل أن يحاصر الفن، أن يضع حدودًا، أن يضع ضوابط، أن يضع اختناقات، يصنع اختناقات في طريق الفن. الفن في تقديري، سواء كنا نتحدث عن الفنون القولية أو الفنون السمعية، أو الفنون البصرية أو فنون التشخيص أو الفنون الدرامية. هو أقصى ممارسة الحرية. في اللغة.

في المجال الفني الذي أعتبر نفسي متخصصًا فيه، الشعر، السرد كل الخطابات القولية تتجاوز حدود اللغة الوضعية، تتجاوز حدود اللغة كأداة للتواصل، تحول اللغة إلى غاية في ذاتها، تعيد تشكيل اللغة، من أجل إعادة تشكيل الواقع، فربما تضرب بكل القوانين اللغوية عرض الحائط. وإذا تتبعنا تاريخ الشعر العربي هنجد أن النحاة كانوا بالمرصاد للشعراء، إن النحوي يترصد الشاعر إذا أخطأ يقول له أخطأت، وربما المثال وقد يكون مضحكًا، أن أحد الشعراء كان يتصيده عبد الله بن إسحاق الحضرمي، النحوي، وأن الشاعر هجا عبد الله بن إسحاق الحضرمي فقال:

فلو كان عبد الله مولى هجوته
ولكن عبد الله مولى المواليا

فقال له على ماذا نصبت مواليا؟

فالشاعر قال له: على ما يسوءُك وينوءُك.

هذه معركة قديمة، المعركة بين مواضعات العرف، مواضعات المعيار، وبين مواضعات الفن.

نجد هذا التوتر في اللغة، نجد هذا التوتر في الموسيقى، نجد هذا التوتر في كل الفنون السمعية والبصرية وفنون التشخيص على وجه الحال. بما أن الفن جوهره هو ممارسة الحرية، يصبح هذا الفن خطرًا على كل خطابات التحريم. السياسية والاجتماعية والدينية على حد سواء.

عندنا خطابات تحريم كثيرة ولا أريد أن أستطرد، في طرح الأسئلة، ربما في النقاش نطرح بعض الأمثلة على خطاب التحريم. من أعجب ما قرأت مؤخرًا في خطاب التحريم؛ تحريم المظاهرات مثلًا. لا أدري على أي نص ديني، ولا على أي نص سياسي، ولا على أي نص اجتماعي، باعتبار أن حق الإنسان في أن يقول لا، حق الإنسان في أن يعترض. طبعًا التخريب و… إلخ هذه مسألة يتعامل معها القانون. على أي حال.

في محاور المحاضرة سأبدأ بما أسميه مقدمتين ونتيجة، وهنا سأقرأ نصًّا من كتاب سيد قطب «التصوير الفني في القرآن». اختيار نص من كتاب سيد قطب، لا يخلو من خبث من ناحيتي، وأنا أضع الأمر على البساط. هذا الكتاب «التصوير الفني في القرآن» صدر عام ١٩٤٥م، لكن خطاب سيد قطب في هذا الكتاب أيضًا ليس خطابًا منعزلًا عن سياق الخطاب العام. في ذلك الوقت كانت مدرسة التفسير الأدبي للقرآن مزدهرة، كانت هذه المدرسة بقيادة الشيخ أمين الخولي. تضع أساسها المنهجي في المقالة التي كتبها الشيخ أمين الخولي تعليقًا على مقال التفسير في الموسوعة الإسلامية. وتلامذة الشيخ أمين الخولي من بينهم الدكتورة بنت الشاطئ، وشكري عياد، ومحمد أحمد خلف الله، وآخرون. طوروا هذا المنهج الذي طرحه أمين الخولي كيف ننظر إلى القرآن؟ والشيخ أمين الخولي واضح في هذا. ربما أعود إلى هذه النقطة: أن القرآن قبل أن يكون كتاب دين، قبل أن يكون كتاب أخلاق، قبل أن يكون كتاب تشريع، قبل أن نأخذ منه أي شيء من هذه الناحية، هو كتاب العربية الأقدس، ونصها الأدبي الأرقى. وأن هذه المدخل، أي القراءة الأدبية للقرآن، هي المدخل الذي يتبناه أي قارئ للقرآن سواء كان مسلمًا أو غير مسلم، بوصفه عربيًّا. هذه المقدمة سنجدها واضحة جدًّا عند سيد قطب.

هذه هي المقدمة التي ستفتح باب النقاش حول الفن والتحريم. النقطة الأولى علاقة الدين بالفنون بشكل عام وليس الإسلام فقط. النقطة الثانية ستكون الإسلام والفنون. لا بد أن نتحدث عن الفنون البصرية باعتبار أن الفنون المتوارثة قبل الإسلام هي الفنون القولية فقط. فإننا لا نجد فنونًا تشكيلية أو بصرية ما عدا مسألة الأصنام والتماثيل … إلخ. النقطة الرابعة ستكون الفن والأخلاق. النقطة الخامسة ستكون الفن في حضارة المسلمين؛ لأنه في الحضارة التي نفخر بها جدًّا، الحضارة الإسلامية إذا حذفنا منها الفنون، إذا حذفنا الشعر، ورفعنا الغناء، إذا رفعنا العمارة والمساجد، ماذا يتبقى؟ ونحن نفخر كثيرًا بهذه الحضارة العربية الإسلامية، إذا نزعنا منها هذا الغنى الفني والأدبي، الذي كان يملأ ليس فقط قصور الخلفاء ولا قصور السلاطين والأمراء، وإنما كان يملأ أيضًا الشارع في فنون مختلفة في بغداد وفي غيرها من المدن، ماذا يتبقى من هذه الحضارة التي نفتخر بها جميعًا؟

سأبدأ بالمقدمتين والنتيجة ربما يكون الخطُّ غير واضحٍ لكني سأقرأ.٣

المقدمة الأولى: «التصوير — وأنا أؤكد كلمة التصوير — هو الأداة المُفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المُحسة المُتخيلة، عن المعنى الذهني، وعن الحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، وعن الطبيعة البشرية، ثم يرتقي — القرآن — بالصورة التي يرسمها، فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخصٌ حيٌّ، وإذا الطبيعة البشرية مُجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوى لها كل عناصر التخييل، فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلًا إلى مسرح الحوادث الأُول، التي وقعت فيها أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجسد الحركات وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يُضرب، ويتخيل أنه منظر يُعرض، وحادث يقع. فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات المنبعثة من المواقف المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة، إنها الحياة وليست حكاية حياة».

هنا استخدم سيد قطب مصطلحات مثل التصوير، الصورة المُحسة المُتخيلة، لوحة تخييل، العرض، مسرح … إلخ. يعني استخدم كل المصطلحات التي تكشف أن جوهر القرآن وهو التصوير قائم على هذه الأدوات الفنية، وإن كانت كل هذه الأدوات الفنية معروضة من خلال اللغة.

المقدمة الثانية: «قرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة، ولكني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل — لجأ لمصطلحات نقدية، سيد قطب ناقد أساسًا وجوهريًّا، وسيد قطب هو الذي اكتشف نجيب محفوظ، أول من كتب عن نجيب محفوظ هو الناقد سيد قطب — الذي كنت أجده في الطفولة والصبا، واأسفاه، لقد طُمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذة والتشويق، وعدت إلى القرآن، أقرأ في المصحف لا في كتب التفسير، وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة، أن الصورة في القرآن ليست جزءًا منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، إنه تصوير باللون بالحركة بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام الفن في التمثيل».

يطرح سيد قطب في هذا الكتاب، قصتين، قصة إيمان عمر بن الخطاب وقصة كفر الوليد بن المغيرة، ويرى سيد قطب أن عمر بن الخطاب آمن حين هزه سحر القرآن، وأن الوليد بن المغيرة كفر حين هزه سحر القرآن، يعني هذه الهزة السحرية بالاستماع إلى القرآن في ذلك الوقت، القرآن الأول قد تؤدي إلى الإيمان وقد تؤدي إلى الكفر. القصة، القرآن نفسه يتكلم عنها، قصة الوليد بن المغيرة، لكن القرآن يحكي القصص ويحذف الأسماء، وهذا له غرض ألا تكون القصة قصة شخص وإنما تجسد حالة عامة. القرآن يطرح هذه القصة في سورة «المدثر»، وسنرى الشعرية كيف يعبر هذا القرآن عن هذه القصة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (سورة ٧٤ المدثر: ١١–٢٦).

هذه الحالة التي يُعبر عنها القرآن تعبيرًا شعريًّا، تعكس حالة من التوتر الذهني، والتشتت الانفعالي، إصابة الشخص المبهم في الصورة، المعروف في كتب تفسير القرآن، إصابة هذا الشخص عند سماعه القرآن. وبعد التفكير والتقدير والتدبر والنظر، بتقليب الأمر على وجوهه كافة، لم يجد وصفًا يفصِّل ما أصابه من تأثير ما سمع سوى أنه سحر من أقوال البشر.

سيد قطب يخرج بالنتيجة: يجب إذن أن نبحث عن منبع السحر في القرآن، قبل التشريع المُحكَم، وقبل النبوءة الغيبية. وقبل العلوم الكونية، وقبل أن يصبح القرآن وحدة مكتملة تشمل هذا كله، فقليل القرآن الذي كان أيام الدعوة الأولى. كان مجردًا من هذه الأشياء التي جاءت فيما بعد. وكان مع ذلك محتويًا على هذا النبع الأصيل الذي تذوقه العرب، فقالوا: «إن هذا إلا سحر يُؤثر».

تأثير القرآن: الشيخ أمين الخولي يعتبر أن إيمان هذا الجيل الأول، هو عقد أدبي، التأثير القوي لهذا النص الأدبي هو الذي دفع الناس إلى الإيمان، إدراك أن هذا النص من حيث بنيته الأدبية، فيما بعد هذه أصبحت قضية الإعجاز. نحن نتكلم قبل أن تناقش القضية لاهوتيًّا فيما يسمى قضية الإعجاز، إن العرب أدركوا أن هذا النص، شعر، نثر، وسنرى كيف استقبل العرب القرآن وبأي شكل حاولوا أن يصنفوا القرآن في إطار ثقافتهم السائدة.

الدين والفنون: وهذا هو المحور الأول وسوف أمر هنا سريعًا. إن الصلوات والأدعية والابتهالات، في جميع الأديان. هي نصوص أدبية وشعرية، ليس فقط من حيث صياغتها اللغوية وإنما من حيث الطريقة التي ترتل بها وتُؤدى بها. يعني إذا حضراتكم في المسجد ونحن نؤدي الصلوات، نحن نؤدي الصلاة بطريقة من التنغيم، وبعض الناس حين يكون في التلفزيون ويتكلم مثل ما أتكلم هكذا، ويريد أن يستشهد بنص قرآني يغير نغمة الصوت، يخرج من نغمة الكلام العادي، إلى نغمة الترتيل، فإيقاع الكلام يختلف، بعض الناس يتكلم هكذا ويقول كما جاء في القرآن «بسم الله الرحمن الرحيم» ويبدأ الترتيل. أي يخرج من إطار اللغة المعتادة إلى إطار لغة أخرى لا يمكن إلا أن تُؤدى بهذه الطريقة. الصلوات والأدعية والابتهالات هي كلها نصوص أدبية تحليلها يؤدي إلى أنها نصوص أدبية، أداؤها نفسه يتوسل بوسائل إيقاعية، ووسائل تنغيمية، يدخلها في إطار الشعر ويدخلها في إطار الأدب.

التصوير والرسم: نحن لا نعرف على وجه التحديد ما إذا كان الدين قد انبثق من رحم الفن أم الفن انبثق من رحم الدين تاريخيًّا، أنثروبولوجيًّا، يعني الإنسان الأول في الكهف حين كان يرسم الحيوان وقد اخترقه السهم، قبل أن يخرج للصيد، ما هي العلاقة بين هذا الرسم وبين خروجه للصيد بعد ذلك، هل هي علاقة إيمانية عقيدية، إنه إذا قتل الحيوان في الصورة فإنه قادر على قتله في الواقع. هذه كلها مسائل دقيقة جدًّا تكشف العلاقة، العلاقة العضوية بين فن الرسم وفن التصوير، التصوير لا وجود له في إطار الحضارة العربية الإسلامية نعم، لأسباب تاريخية. لكن ماذا عن الخط؟ الخط، أنت تشتري لوحة مكتوبًا فيها قرآن، لكن ليس المقصود من اللوحة أن تقرأ. وإنما المقصود هو الأثر البصري الذي تُحدثه اللوحة لأنها مكتوبة بخط بسيط جدًّا وصغير. فن الخط هو فن تصويري بامتياز. ربما له علاقة ببعض المعتقدات اللاهوتية، لكن لا نريد أن ندخل في هذه العلاقة الآن.

الأرابيسك: هو نوع من الرسم، التصوير، ربما يخلو من التشخيص، ربما يخلو من الأشخاص، لكن في الفنون الهندية الإسلامية والفنون الإيرانية، كان ممكنًا أن يظهر جسم الشخص، كل الكتب التي ظهر فيها هذا الرسم، يعني تحريم رسم الأشخاص، وتحريم رسم الكائنات الحية، هو تحريم لم يكن أمرًا شائعًا في العالم الإسلامي كله. ربما كان أمرًا شائعًا في الثقافة العربية، لكن لم يكن شائعًا في الثقافة الإسلامية. ولا بد من التمييز بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، هذا أمر يغيب عن ذهننا، نخلط بين الثقافة العربية والثقافة الإسلامية، الثقافة الإسلامية أوسع من إطار الثقافة العربية. وربما ولا أريد أن «أزعلكم»، العرب أصبحوا أقلية. أغلبية المسلمين الآن ليسوا عربًا. لكن العرب يتصورون أنهم يمتلكون الإسلام لكن هذه قضية أخرى تحتاج إلى نقاش آخر.

التماثيل: وجدت التماثيل في الجزيرة العربية قبل الإسلام، الأصنام هي عبارة عن تماثيل. القرآن والإسلام بالأساس وبالجوهر دعوة ضد الوثنية والشرك، ومن هنا لازم نفهم هذا الحرص من البداية على تحطيم الأوثان. تحطيم التماثيل. لكن دعونا ننظر إلى العرب حينما خرجوا إلى العالم، حينما أتوا إلى مصر أو ذهبوا إلى الهند، ليس عندنا أي معلومات أنهم ذهبوا إلى المعابد وكسَّروا هذه التماثيل، التي يسميها البعض الآن أصنامًا. ولا راحوا المعابد البوذية وحطموا التماثيل البوذية، كان علينا أن ننتظر طالبان لكي يقولوا لنا: إن كل العرب والمسلمين الذين عاشوا كل هذه العصور لم يدركوا أن هذه أوثان. وهو أمر كما ترون مضحك. العرب كانوا مشغولين بإقامة الإمبراطورية، وإقامة الإمبراطورية تطلب الانفتاح على العالم. إذا دخلت بلدًا وحطمت كل ما فيه، ماذا يبقى لك لتحكم فيه؟

ومن هنا حرص العرب على استمرار نظام الإدارة. وعلى استمرار اللغة وعلى استمرار كل شيء كما هو، حتى تم التعريب تدريجيًّا. يعني العرب المسلمين كانوا أذكى بكثير في التعامل مع العالم. أنا عندي اقتراح: إن العربي الذي خرج حاملًا الإسلام إلى العالم الخارجي كان عنده إحساس كبير وقوي جدًّا أنه محتاج يتعلم من هذا العالم. وأنه تعلم، وما نسميه الحضارة العربية الإسلامية لا يمكن أنها كانت تقوم بهذا الغنى، اللاهوتي والغنى الفلسفي والغنى الصوفي دون هذا التفاعل مع الثقافات التي وجدت في العالم من قبل ذلك، من أول الثقافة الهلينستية، الهندية، الإيرانية، المصرية القديمة، اليونانية ثم عملية الترجمة بعد ذلك.

المثال الأخير فن العمارة والمعابد: والمعابد فن، هي أماكن للعبادة نعم، ولكنها فن سواء في التصميم، سواء في النوافذ، سواء في الألوان سواء في النقوش … إلخ. سواء نتكلم على معبد بوذي، أو على كنيسة، أو على مسجد. هذا فن بامتياز. وإذا كنا نتصور أن الإسلام ضد الفن، إذن لازم نُحطم هذه المساجد.

الإسلام والفنون: الظاهرة القرآنية في استقبالها الأول، وسنرجع إلى، كلام سيد قطب يؤكد هذا، وأمين الخولي ومدرسة التفسير الأدبي تؤكد هذا. القرآن نفسه يؤكد هذا، أن العرب قالوا إن القرآن شعر، وقالوا عن محمد شاعر. وقالوا عن القرآن سجع، وقالوا عن محمد كاهن، لأنهم وجدوا تشابهًا بين الآيات الأولى والسور الأولى.

وهذه الفنون القولية التي عاملوها؛ المفسرون في نظرية الإعجاز؛ أرادوا أن يميزوا بين السجع، لم يستخدموا كلمة سجع لكي يميزوا بين النص القرآني وغيره فسموها فاصلة. وهناك كتب عن فواصل القرآن. فواصل القرآن كظاهرة لغوية هي ظاهرة سجعية، لكن المفسر الأول حريص جدًّا؛ لأن القرآن نفسه حريص أن يقيم تمييزًا بينه، كنص، بين ذاته كنص، القرآن من أهم الكتب السماوية التي تكثر فيها الإحالة إلى نفسه، التي نسميها MetaText، تكاد تكون هذه ميزة في القرآن، أنه: لماذا هذه الإحالة وما سببها؟ سببها أي نوع من الهجوم يتعرض له القرآن، سحر، شعر، كهانة، جنون.

مجنون، ومجنون هنا ليس بمعنى أن يذهب إلى مستشفى الأمراض العقلية وإنما أصابته الجن؛ لأن نظرية الشعر عند العرب أن الشعر مصدره الجن. أن الشاعر توحي إليه الجن، وأن الجن تعيش على نفس الأرض في وادي عبقر، ومن هنا تأتي العبقرية. الوحي يأتي من هذا الوادي التي تعيش فيه الجن وهو وادي عبقر.

هذا الاستقبال للقرآن خلق توترًا، بين الوحي والشعر، وإذا قرأنا سورة الشعراء، أرجو أن تقرءُوها؛ لأنه ليس عندنا وقت لقراءتها. بناؤها الشعري وحرصها على الإيقاع، وهي ترفض أن يُسمى القرآن شعرًا، وترفض أن يُسمى محمد عليه السلام شاعرًا. بل إن هذا التوتر كان لا بد أن يصنع نوعًا من التمييز بين ظاهرة الوحي وبين ظاهرة الشعر.

بالرغم من أنه على المستوى البنيوي أنه لولا ظاهرة الشعر لم يكن العرب يتقبلون ظاهرة الوحي، يعني لولا الإيمان عند العرب بأنه يمكن أن يحدث تواصل بين الجن الذي هو لا ينتمي إلى نطاق البشر وبين البشر، أو بين الجن الذي يذهب إلى السماء ويأتي منها بالأخبار ويوحي بها إلى الكاهن. لولا أن التصور الثقافي العربي هذا موجود، أن إمكانية الجن تُلهم الكاهن بأخبار الغيب، وأن الكاهن يقول أخبار الغيب ولكن بلغة على درجة عالية من التكثيف، وأن الجن يُلهم الشاعر أن هذا الشاعر يقول الشعر، وأن كثيرًا من الشعراء يفتخر، لدرجة حتى أصبحت مثار سخرية عند الشعراء المتأخرين، يعني شاعر متأخر يسخر من كل هذه المفاهيم وقال:

إني وكل واحدٍ من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر

هذا شاعر متأخر بعد ما الحداثة دخلت في الشعر.

التوتر بين الشعر والوحي كان لا بد أن يُحدث هذا الفصل بين ظاهرة الوحي وظاهرة الشعر، أصبح الشعر تُمليه الشياطين، والقرآن تُوحي به الروح القدس. لكن فيه مشكلة واقعية، أن الشعر هو الإعلام في معركة الإسلام ضد قريش، وأن قريش جندت كل الشعراء ضد الإسلام، حتى إن بعض الشعراء أسلم وبعد ذلك رجع، لأسباب تذكر أنه لم يعجبه أن الإسلام يُحرم الخمر … إلخ. الإسلام كان لا بد أن يكون له شعراء؛ لأن هذه معركة لا يمكن أن يخوضها بدون الشعر، هنا كان حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة كانوا شعراء.

وكان فيه توتر آخر: أن محمدًا عليه السلام: «كيف تهجوهم وأنا منهم»؛ لأن الهجاء في ذلك الوقت، كان هجاءً للقبيلة بكاملها، تسفيه القبيلة، الحط من قيمة القبيلة، والهجوم هنا من قريش على محمد، وحسان وعبد الله بن رواحة يريدان أن يردا الهجوم على قريش، ومحمد من قريش، «كيف تهجوهم وأنا منهم» فحسان بن ثابت يقول «أَسُلك منهم كما تُسل الشعرة من العجين». قال: «قل وروح القدس يؤيدك».

أصبح عندي نطاقان من الشعر وليس تحريمًا للشعر. الشعر المؤيد لروح القدس، والشعر الموحى بالشياطين، وهذا سر الاستثناء في الآية «إلا الذين آمنوا». ربما نأخذ من سورة الشعراء كراهية الشعر، ليس كراهية الشعر مطلقًا ولكن كراهية الشعر على أساس ومعايير دينية وأخلاقية آنية. جزئية في هذه اللحظة.

الشعر بعد ذلك ازدهر عند العرب. الشعر خمد في هذه المرحلة، ويُقال، النقاد كلهم قالوا إن شعر حسان بن ثابت في الجاهلية كان شعرًا قويًّا، ولكنه أصابه اللين بعد الإسلام. اللين يعني الضعف. وهنا الناقد يقول لنا: «الشعر نكد، بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان»، أصبح ضعيفًا، هذه العبارة مهمة جدًّا؛ لأن الخير والشر هنا ليست مفاهيم أخلاقية، إنما الشعر إذا حدثنا بما نعلم: وعظنا أي عملنا وعظًا لا يكون شعرًا لا قيمة له. الجاحظ يقدم هنا شيئًا مهمًّا جدًّا، الجاحظ إلى بعض الشعراء أظن مثلًا أبو العتاهية:

ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء

الجاحظ قال «هذا ليس بشعرٍ، وقائله ليس بشاعرٍ، ولولا أدخل في الحكم بعض العنت لقلت لا يخرج من صُلبه شاعر. إنما الشعر صناعة وضرب من التصوير»، التصوير الذي يُصرُّ عليه سيد قطب، ويصرُّ عليه كل أبناء مدرسة التفسير الأدبي للقرآن. فحينما يقول الناقد «الشعر نكد بابه الشر» إن الشعر لا يخوض في المألوف، لا يخوض في المتعارف، لا يعلمني ما أعرف، إذا خاض الشعر في المألوف والمتعارف فهو لا يعلمني شيئًا، فقد قيمته. الشعر هو الذي يدخل في النكد، الذي أسماه الناقد هنا شرًّا؛ لأن الشعر العربي ازدهر مع الصراع الاجتماعي الذي نشأ في العصور الأولى، مع الصراع السياسي، والصراع الاجتماعي، والصراع الفقهي، والصراع اللاهوتي ازدهر الشعر، وازدهر الشعر في بلاط الخلفاء. والشعر هنا أخذ أبعادًا، أصبح عندنا الشعر السياسي، والشعر الصوفي.

والشعر الصوفي يوظف مفردات تدخل كلها في باب الحرام بالمعنى الديني. الخمر، والسكر، والصحو، والحب، والهجر والوصال، والفراق والبعد. يعني بين الخمر والحب تتحرك مفردات الشعر الصوفي بكامله لتعبر عن الحب الإلهي. أكثر من هذا، أن شعر الخمر تحول عند الصوفية إلى شعر يدل على وحدة الوجود، ابن عربي في كل صفحة تقريبًا من كتاب الفتوحات يستشهد بشعر لا يذكر بالطبع اسم أبو نواس. يتكلم عن الخمر يقول:

رق الزجاج وراقت الخمر
فتشابها وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر

يا سيدي كان «مسلطن». ابن عربي يستشهد بهذا لكي يقول كيف نميز بين الخلق والخالق، بناءً على نظرية معقدة جدًّا، نظرية في الوجود، ونظرية في المعرفة، أن الحقيقة تتلون بلون العارف كما يتلون الماء بلون الإناء. طبعًا لن ندخل في نظرية المعرفة عند ابن عربي. لكن كيف تم توظيف هذا الشعر. الشعر الذي يعتبره الفقيه حرامًا، أو يُحرمه الفقيه، لكن الصوفي يعتبره مُشِعًّا بالدلالات، ومشعًّا بالمعاني.

ليس فقط الجاحظ وليس فقط المتصوفة، ولكن دفاع عبد القاهر الجرجاني عن الشعر، هذه مسألة أنا كتبت فيها كثيرًا، عبد القاهر الجرجاني باحث عن سر الإعجاز، ويرفض عبد القاهر الجرجاني كل الإجابات التي طُرحت قبله عن الإعجاز. بما في ذلك «أنه يُدرك ولا يُعبر عنه»، عبد القاهر يقول لك إن هذا كلام فارغ؛ لأن الإعجاز هو معجزة القرآن، فكيف لا يُعبر عنها، لا بد من وسيلة للتعبير عنها. ولا بد من وسيلة لاكتشافها. ولا بد من بحث عن قانونها، مسألة أنك تقول «الله، هذا جميل» ليست كافية.

عبد القاهر الجرجاني لا يحب هذه الدروشة، قال لكي أبحث عن الإعجاز لا بد أن أبحث في قوانين اللغة وفي قوانين النحو. وتوصل إلى أن الذي يميز بين كلام وكلام هو النظم، النظم هذا ليس هو مجرد رصف الكلام، وإنما هو قوانين النحو، نظرية أيضًا معقدة لا نريد أن ندخل فيها، لكن من أجل أن نصل إلى قوانين اللغة وقوانين النظم التي تساعدنا على فهم إعجاز القرآن لا بد أن ندرس الشعر.

ويدخل عبد القاهر في معركة هائلة ضد من يحرِّمون الشعر، ويقول إن من يحرِّمون الشعر إنما يحرِموننا من فهم إعجاز كتاب الله. إذن الأداة لمعرفة الإعجاز حسب رأي عبد القاهر هي دراسة قوانين اللغة، المجال الذي تُدرس منه قوانين اللغة الرفيعة، وليس قوانين اللغة الوضعية، هو الشعر. يُصبح الشعر هو الأساس لفهم القرآن، طبعًا قبل هذا قال ابن عباس: إذا تعاجم عليكم شيء من القرآن فارجعوا للشعر، فإن الشعر ديوان العرب. إذن تحول الشعر الذي نظن أن القرآن يحرِّمه، تحول الشعر إلى مرجعية لفهم القرآن منذ فترة مبكرة قبل عبد القاهر الجرجاني؛ لأن هذا هو مصدر اللغة.

وأن طه حسين حينما كتب كتاب في الشعر الجاهلي، طبعًا كانت الجريمة هنا أنه يمس الشعر، الذي هو أساس تفسير القرآن، أنه يحاول أن يرى مدى وثوق هذا الشعر، شعر جاهلي، رغم أن القضية كلها عن الشعر. لماذا؟ لأن الشعر اعتُبر من جانب المفسرين، وإذا قرأتم تفسير الطبري أو أي تفسير فستجدون أن الاستشهادات الشعرية يكاد لا يخلو منها شرح آية. وإن لم يجد مفسر شعرًا، فيعتمد على شعر منحول. بل ويؤلف شعرًا.

وأنا طالب كنت أؤلف شعرًا في الإجابة عن الأسئلة لبعض الأساتذة، وأعتذر للأساتذة ربما يكون بعضهم هنا، كانوا يحبون أن نرصع الإجابة بالشعر. وأنا كان عندي مشكلة أن أدخل الامتحان والذاكرة ضعيفة، فأكتب إجابة كويسة لكن لم يكن هناك بيت شعر ربنا يفتح عليَّ به. أخرج بعد الامتحان كل الشواهد الشعرية في ذهني، كنت أؤلف شعرًا. للتشبيه مثلًا.

وشريط الترماي مثل الثعبان غير
أنه ليس به سم ولا أي حاجة

تشبيه رفيع. ولا أريد أن أعيب في أحد لكن بعض الأساتذة يقيس بالشبر، فلا يقرأ، فكنت أرصع الإجابة بالشعر وأحصل على ممتاز. على أي حال الشعر هنا قيمته، حسب عبد القاهر، هو أداتنا لفهم القرآن.

سيد قطب لولا أنه ناقد لم يكن يدخل في هذا الأفق في النظر إلى القرآن، لم يكن يشكو من أن المفسرين والأساتذة الذين شرحوا له هذا القرآن جففوا القرآن. لم يجد في قول هؤلاء المفسرين هذا القرآن، حسب رأيه «الجميل اللذيذ». التصوير والتمثيل وعِبر اللغة، القرآن لا يقدم هذا فقط من خلال التعبيرات اللغوية، ولكن القرآن أيضًا يُرتل. والترتيل نوع من الإيقاع، طبعًا طبقًا لقوانين اللغة؛ لأن قوانين اللغة أيضًا تتضمن هذا الإيقاع. الترتيل، «التصييت»، يعني نحن نفضل قارئًا على قارئ.

ومن منكم من الأرياف يعرف أنه حتى في المأتم والناس جاءت تُعزي، إنما يتسابق الشيخان في تلاوة القرآن ويتحول المَعزى إلى مناصري هذا الشيخ ومناصري هذا الشيخ، وتصبح سهرة، يعني يتحول العزاء إلى سهرة، الناس تستمتع فيها بالأداء. القرآن يُقدم على مستويات عدة ليس على مستوى بنيته اللغوية وإنما على مستوى أدائه، وعلى مستوى ما نتج عنه من فنون، ليس فقط فن الخط، وإنما كل فنون الصياغة، كل مجوهرات «ما شاء الله» التي ترتديها السيدات كلها ناتجة من استخدام آيات قرآنية صياغتها صياغة ذهب أو فضة، المصوغات الذهبية والفضية كلها تعتمد على هذا. فنون كاملة طلعت من هذا النص، الجميل اللذيذ، كما يقول سيد قطب.

تحريم التماثيل وعبادة الأصنام: خلصنا منها بقى، محمد عبده قال الكلام ده من أواخر القرن التاسع عشر، عيب أن أحدًا يخرج الآن ويقول إن التماثيل حرام، عيب، وعيب، عيب، مُخجل، أن محافظًا يقرر رفع التماثيل، إنه خايف على المسلمين الآن من عبادة الأصنام. يريدون حمايتنا من عبادة الأصنام، دي خيبة. ما إذا كنا سنعبد الأصنام فلنذهب في ستين داهية. هذا أمر مُضحك أم مُبكٍ.

عدم إدراك التاريخ، عدم إدراك الفارق بين لحظة تاريخية وبين التطور الذي حدث منذ هذه اللحظة التاريخية إلى هذه اللحظة. أو التمييز بين التماثيل الكبيرة والتماثيل الصغيرة، والتمثال الذي بالميدان والتمثال الذي بالبيت. كل هذه «تمحيكات» لا معنى لها. إن المصريين، وأنا مدين بهذه المعلومات لصديقي «زين العابدين فؤاد»، إن تمثال نهضة مصر عمله مختار بتبرعات المصريين، يعني: المصريون هؤلاء كلهم كانوا كفارًا، الذين تبرعوا لإقامة تمثال نهضة مصر، ليست الحكومة ولا وزارة الثقافة — لم تكن هناك وزارة للثقافة في ذلك الوقت — المصريون الذين عملوا جامعة القاهرة، الفلاحون المصريون الذين تبرعوا لإقامة تماثيل لسعد زغلول بعد موته، تمثال في كل محافظة لسعد زغلول. الإشكالية عندنا هي ثقافة سمعية تعادي الفنون البصرية. وشبابنا معذور، حينما كنت في المحاضرات الشباب يتكلم عن تحريم الفنون، كنت أجد لهم العذر طبعًا؛ لأنه لا عمره ذهب إلى متحف، ولا عمره تفرج على لوحة. الثقافة البصرية تكاد تكون غائبة. ومن هنا هذه الأحكام تجد لها الاستجابة.

أزمة الأداء الدرامي، تمثيل الشخصيات الدينية: أمر أيضًا عجيب، يعني كأنه لو نور الشريف قام بدور مثلًا ابن عباس، سيكون هو ابن عباس؟ عدم التمييز بين الممثل الذي يتقمص دورًا، والممثل يمكن أن يمثل ابن عباس ويمكن أن يُمثل أبو جهل في الفيلم الذي يليه، لا هو ابن عباس ولا هو أبو جهل. جيلي رأى فيلم بلال مؤذن الرسول، ويحيى شاهين قام بدور بلال وماجدة قامت بدور زوجته، وبلال صحابي، لا أعتقد أنه ممكن فيلم بلال مؤذن الرسول يُعمل اليوم. نحرم تاريخنا من التعبيرات الفنية التي يمكن أن تساهم في تعميق الوعي التاريخي وتعميق الوعي الديني عند أولادنا. عدم التمييز بين الفن والواقع.

ولا أريد أن أحكي حكايات: إنه المسلسل السوري الزير سالم، ومن حكى لي القصة بطل المسلسل، ولم يكن يعرفني، وكنت في زيارة لدمشق وكنت في مطعم وأتى ليسلم عليَّ وقال لي: لازم أحكي لك القصة: عملوا المسلسل أتته دعوة من السعودية، دعوة من القصر الملكي ليأخذ «التيم» ويزوروا السعودية، أخذهم وذهبوا إلى السعودية استُقبل في المطار كأنه الزير سالم، «أهلًا يا بطل، أهلًا يا بطل». الممثل الذي مثَّل دور جساس، قيل له: «اتفو» والله لا تدخل هذه الأرض المقدسة يا خائن. وقضوا في المطار ساعات، يقنعون هذا الموظف أنه، والله يا عم احنا نمثل، لا أنا الزير سالم ولا هو جساس، رفض تمامًا أن يعطي «الفيزا» لجساس، حتى تم الاتصال بالقصر الملكي وجاء مندوب من القصر الملكي ولم ينجح في إقناع موظف الجوازات، حتى قال له: فلان أنت في إجازة انتهى الأمر. وهو يحكي وأنا لا أصدق إلى هذا الحد. أكثر من ذلك أنهم ليس عندهم فكرة أن قبيلة تغلب هذه كانت قبيلة مسيحية. الممثل نفسه مسيحي الذي قام بالدور. ومجرد ما دخل قالوا له تعمل عمرة. قال لهم متشكرين بس أنا يعني مسيحي. ليس عندي مانع أعمل عمرة.

غياب هذا الفاصل بين الواقع وبين الفن، وهنا يُحاكم المؤلف على حوار جاء على لسان شخصية، يعني الرواية فن متعدد الأصوات، توضع على لسان كل شخصية في عمل روائي أو كل شخصية في عمل مسرحي، إلا أنك لا تعرف ما معنى الفن، ما معنى السرد. وإلا القرآن يصبح مليئًا بكفر؛ لأن القرآن يسرد على لسان الكفار الكفر. هذا كلام الله نعم، لكنه يروي، يسرد، مفهوم السرد هنا غائب مع أن القرآن بنية سردية بامتياز.

الفن والأخلاق: إن لم يكن هناك تحريم، يكن هناك وضع شروط الفن. وأنا قلت: «الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل عليه الخير لان»، الشعر لا يُعلِّم الأخلاق، الجاحظ واضح هنا، والقاضي عبد العزيز الجرجاني قال: «الشعر بمعزل عن الدين» ليس بمعزل عن الأخلاق «بمعزل عن الدين»؛ لأن هذا مجال وذلك مجال آخر، الحقيقة الشعرية غير الحقيقة الدينية … إلخ.

حسان بن ثابت يُنشد الشعر في المسجد ولا أستطيع أن أقرأ البيت الذي كان ينشده حسان. بيت فيه من الفُحش ما فيه. لا أستطيع أن أقوله الآن، حسان كان ينشد هذا، وهذا موجود عن السيوطي وموجود في كتب التفسير. كان ينشد الشعر في مسجد رسول الله فتصدى له أحدهم فقال: «أفُحش في مسجد رسول الله؟» فحسان قال له: «إليك عني إنما الفحش عند النساء.» أي إن الفحش في الفعل وليس في القول.

الفصل هنا بين مجال الفن ومجال الأخلاق. المعايير الأخلاقية طبعًا معايير تطور؛ يعني حينما كنت في صبايا الباكر، وأنا الآن الحمد لله في شيخوختي المتأخرة، كانت البنت من وراء الشيش تعمل لنا مشاكل، الآن البنت والولد في الفصل في المدرسة، أنا أتفرج على البنات والصبيان الآن كأنهم إخوة. يعني تقول له يا أخ ويقول لها يا أخت، إذًا حصل تطور هنا، لا نقدر أن نضع نفس القيم، أيام ما كنت طفلًا، آه طبعًا البنت إذا ما بانت أظافرها، والأمر لم يكن يخلو من أن نذهب عند الترعة ونرى البنات يغسلن الملابس. المعايير الأخلاقية حين تُفرض، هي تُفرض من إطار أخلاقي إلى حد كبير متزمت يضع هذه القواعد.

الفزع من جوهر الفن؛ لأن جوهر الفن هو الحرية، ومن هنا يفزع السياسي من الفن، يفزع الخطاب الديني من الفن، يفزع المجتمع من الفن، فيلم يطلع الناس كلها تهيج، أغنية: محمد عبد الوهاب «جينا الدنيا ما نعرف ليه»، شك، يا أخي الحقيقة تقع بين شكين، يعني هذا التوتر الإنساني عن المصير. هذا توتر شعري، هذا ليس توترًا دينيًّا، هذا ليس شكًّا في حقائق الدين … إلخ.

الفن في حضارة المسلمين: كما قلت في البداية، ترتيل القرآن فنٌّ موسيقيٌّ، لم يحطم العرب تماثيل مصر القديمة أو تماثيل بوذا. فن الغناء وكتاب الأغاني، فن المعمار … إلخ. إذا أخذنا الفن من الحضارة الإسلامية، لا يبقى منها إلا القليل. يبقى منها بعض الكتب، وبعض الكتب للأسف لم تعد مقروءة هذه الأيام.

أما قبل: وأنا مدين بهذه الخاتمة المقدمة، للمرحوم عز الدين إسماعيل، كان يكتب مقدمته لمجلة فصول بعنوان «أما قبل». بعد هذا العرض ليس هناك conclusion لكن هناك أما قبل. أنا شخصيًّا لا أتصور الحياة بلا فن، الحياة بلا فن خواء، أنا رجل صناعتي الكتابة والفكر، لكن بدون قراءة الرواية وبدون قراءة دواوين الشعر، وبدون مشاهدة السينما، وبدون زيارة المتاحف، واللوحات، والاستماع إلى الموسيقى. لا أعرف إذا كنت سأكون نفس الشخص أم لا؟

ونحن شباب صغار وصديق عزيز، وهو كاتب كبير الآن، كنا لما نسمع الموسيقى الكلاسيكية كان يقول: ما هذا؟ دي زجاجات «كازوزة» تخبط في بعضها، لكن كنا نحاول أن نتعلم، لم نولد بمعرفة الموسيقى الكلاسيكية. نحن مولودون بالموالد والأغاني الشعبية، التي ما زالت نحبها، وأغاني الأفراح نحبها طبعًا لكن كنا جيلًا، يريد أن يعرف ثقافة العالم، نفسه يتعرف على الموسيقى الكلاسيكية، وكنا نتابع برنامج الدكتور حسين فوزي في البرنامج الثاني. وهو يأتي بالسيمفونية وهو يشرحها، ونعرق ونتعب لكي نفهم، ولا نريد أن نعرض أبناءنا لمثل هذا، فنعرضهم لما يسمى الفنون الشبيهة.

الفن كما نعرف ليس دايمًا هذا العظيم الذي أتكلم عنه، الفن أيضًا قناة ممكن أن يستخدم، يعني مثلًا لا نقدر أن نسمي الفيلم الذي عمله الأخ الهولندي «فلدر»، هذا فنُّا، الفن يستخدم في الإعلان عن السلع، لكن الرسالة واضحة، ليست هناك رسالة إنسانية من ورائه، الرسالة في الإعلان واضحة. ترويج هذه السلعة أو تلك السلعة. ممكن يستخدم فيها الرقص، ممكن يستخدم فيها الموسيقى، ممكن تستخدم فيها كل عناصر الفن، لكن يكون واضحًا فيها أن الأدوات الفنية تخدم الدعوة. وليست هي نفسها المكونة للرسالة.

بما أن الفن هو الحياة، والدين حياة، بالمعنى الواسع جدًّا للحياة، وليس بمعنى دين ودولة. بمعنى حياة كاملة، يبقى أعداء الحياة هم الذين يحرِّمون الفن. المشكلة الحقيقية كما بدأت، ليست في خطابات التحريم، وليست في تحريم الفن فقط، وإنما في كل خطابات التحريم. المشكلة تكمن في تجريف العقل، تجريف العقل طبعًا ظاهرة مشهودة في المجتمعات العربية. وفي المجتمع المصري. مع غياب الحرية، يتوقف العقل تدريجيًّا عن النبض، يصبح الإنسان محتاجًا في كل صغيرة وكبيرة إلى مُوجه، الناس الآن يسألون عن أشياء لم تخطر على بال آبائنا ولا أمهاتنا، في مسائل الحرام والحلال. كأن آباءنا وأمهاتنا كانوا يعرفون، يعرفون ما هو الحلال وما هو الحرام. كانوا يذهبون إلى الشيخ في المسائل المعقدة، الطلاق والميراث، إنما ذهبوا إليه في مسألة: الست، في الضوء تخلع ملابسها مع زوجها أم لا؟ ما سمعنا بهذا أبدًا. تجريف العقل أدى إلى عجز الإنسان الفرد عن أن يتصرف، وأنه حتى يتصرف بارتكاب الخطأ، وأنه بعد ما يخطئ يتوب، ومفهوم أن الله غفور رحيم، واسع الرحمة، اختفى كله لصورة العقاب. يعني الحكم العسكري. منظومة الأحكام العرفية العسكرية، منظومة القوانين التي تُصدر في المجتمع كلها قوانين عقاب، كل ما قانون جديد يخرج هو قانون للعقاب، وقانون المرور الجديد إن قرأت فيه قليلًا كله عقاب، في عقاب، في عقاب. فلسفة العقاب قائمة على فلسفة حمائية، والفلسفة الحمائية هي جوهر الاستبداد والفساد.

تجريف العقل أدى إلى هذه الظاهرة، التي أسميها، سوق الفتاوى، أصبح هناك سوق، هناك سلعة، فيه طلب، فيه عرض، وكل قناة متخصصة في حاجة حسب الجمهور. يعني تحويل الدين إلى وقود، يحترق الوقود. وتحويل الدين إلى وقود لا أقصد أبدًا فريقًا معينًا.

لأن الدين تحول إلى وقود حتى في بنية الدستور عندنا، وأنا مصري، وأنا أعتقد أنني مصري، وأعتقد أنني أريد دستورًا جيدًا يحميني، ولا أقدر أن أرى الدستور الذي يقول المواطنة … إلخ، ويقول إن الإسلام دين الدولة، ليس عندي مانع، الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع ليس عندي مانع. لكن بعد هذا كله يقول عدم إقامة أحزاب على أساس ديني؟ يا دولة كلك قائمة على الدين. كيف يكون دستور الدولة قائمًا على الدين، وأضع نصًّا يُحرِّم قيام أحزاب على أساس ديني؟ لماذا؟

لحماية الناس، طيب احميني يا دولة من نفسك، اخرجي من الدين، يا دولة لا يصبح لك دين، يا دولة أنت لا تذهبين إلى الجامع، ولا تصلين، ولا تصومين في شهر رمضان، ولا تذهبين إلى بيت الله الحرام لتحجي، يا دولة أنت دولة لكل المواطنين، وأنا ليس عندي مانع، لكن يكون هناك نوع من التكافؤ.

أنا هنا لا أدافع، لكن أدافع عن منطق الدولة المصرية التي أريدها أن تحميني، وتحمي كل المواطنين، بمن فيهم أصحاب الدعوات الإسلامية؛ لأن من حق كل القوى السياسية أن تُمثل نفسها. قضية تحريم الفن هي فرع على قضية أعمق، وفرع على مشكلة أعمق في الواقع الذي نعيش فيه.

وشكرًا جزيلًا لكم.

النقاش

مقدمة الندوة: نشكر الدكتور نصر أم نلومه على إثارة الشجن والهموم؟ على أي حال، جاء وقت الأسئلة، أطلب من كل من عنده سؤال، يرفع يده، وهذا الميكروفون هو ما سنأخذ به، وممنوع حد يسأل أكثر من سؤال واحد فقط، وأرجوكم أسئلة وليس مداخلات، والدكتور سيرد على الأسئلة مجمعة، ثلاثة أربعة، مع بعض مثلًا. وليس مداخلة ولا ردودًا ولا تعقيبات طويلة؛ لأننا لا نريد أن نُثقل على الجامعة الأمريكية أكثر من ذلك.
السؤال الأول: سؤالي ثقافة الاستبداد السياسي وعلاقته بثقافة التحريم، يعني هل ترى أن الاستبداد السياسي، أثر بشكلٍ كبيرٍ جدًّا في ثقافة التحريم؟ لأننا نرى في كتابات الإسلاميين من محمد عبده والطهطاوي، ضعف هؤلاء الأفراد في حل هذا الإشكال، وحتى كتابات شخص مثل سيد قطب، فما موقف حضرتك من هذه العلاقة؟
السؤال الثاني ماهر مجدي، آداب إنجليزي، جامعة حلوان: بمَ تبرر إقصاء أفلاطون الشعراء عن أمثولته الخالدة في الكتاب السادس والعاشر، إذا كان إقصاء الشعراء في العصر الحديث، ينبع من أيديولوجية دينية، فماذا عن أفلاطون بما أن الصراع قديم بين الشعراء وبين السلطة؟
السؤال الثالث: أول حاجة في أفغانستان حينما جاء السياح وبدءُوا يعبد التماثيل تم هدم. الحاجة التانية، سيدنا إبراهيم قال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ. يعني أعطوني حرية التعبير؛ لأن احنا عايزين نعبر بقى، ففي بعض المدارس المسيحية البنت بتخضع لتمثال العذراء، هل دو …
مقدمة الندوة (قالت مقاطعة): «هتعمل مشاكل كده.»
نصر أبو زيد (قال حين دب ضجيج): «نسمع من فضلكم.»
استكمل السائل: فكرة الاختلاط بالبنات حرام، هل الحرام يتغير؟ هل من خمسين سنة البنت لما أمشي معاها حرام، ولما أمشي معاها الآن حلال؟ وشكرًا.
السؤال الرابع: أشكرك جدًّا على هذه المحاضرة، سؤالي باختصار، إيه اللي أوصل — ليس الثقافة الدينية بل المتلقي — إلى هذا الضعف، إن ناس تدفع موبيلات وفلوس كتير علشان تسأل إنها تدخل برجلها اليمين أو الشمال، ليه وصلنا إلى هذا المستوى؟
السؤال الخامس: أنا سؤالي خاص بقراءة القرآن والتعامل مع القرآن كنص تاريخي، يعني دراسة السياق التاريخي، النقطة التي تُشهر ضدنا أنه عند نقطة معينة هيبقى القرآن نص غير صالح، فمع مرور الوقت هتبقى كل أحكام القرآن باطلة، أو مفارقة للواقع، فبالتالي هيبقى نص غير صالح، إزاي حضرتك ترد على هذه الحجة؟
السؤال السادس: الجزء الذي حضرتك قرأته عن سيد قطب، حين قال إنه سيرجع للنص ويسمعه وليس للتفاسير، ورغم أني غير متخصصة فقد وصلت لهذه النتيجة منذ ثلاث أو أربع سنوات، هل حضرتك شايف إن الواحد ممكن يعتمد على فهمه، في قراءة النص، ممكن طبعًا الرجوع للتفاسير ولكن، إعمال العقل في فهم النص؟
نصر أبو زيد: سأحاول أن أرد باختصار؛ لأجل أن نعطي الفرصة للمزيد من الأسئلة:

المستبد؛ أو ثقافة الاستبداد تقوم على فكرة السيطرة والهيمنة، امتلاك الحق، والحماية. أي مستبد يتصور أنه الوحيد الذي يمتلك الحق، أو من يحيطون به، وإنه لا بد من حماية الناس من الخطر، وبالتالي يتم تقليم هذا الخطر. الكواكبي حلل مفهوم الاستبداد بشكل هائل، وقدرة الاستبداد على أن يخلق بطانة أسماهم الكواكبي «المتمجدين» أي الذين يبنون مجدهم على أساس القرب من المستبد، وعلى أساس خدمة المستبد، وعلى أساس إعادة إنتاج الاستبداد من خلال مستويات أخرى.

ثقافة الاستبداد هي طبعًا، والاستبداد مسئول إلى حدٍّ كبيرٍ عن الفساد، عن غياب الحرية، وعن المظاهر السلبية التي يمكن أن نتحدث عنها في أي مجتمع، طبعًا المستبد ليس من الضروري أن يكون مستبدًّا بالمعنى اللي كان فيه الإمبراطور مستبد؛ لأنه ممكن يكون استبداد عن طريق المؤسسات، المجتمعات القمعية البوليسية مثلًا، مجتمعات قائمة على بنية استبدادية، لما يصبح الأمن هو المسيطر على مقدرات وطن، وده في المنطقة العربية كثيرًا، فيبقى هذا ثقافة استبداد بامتياز، ومع استبداد بامتياز لا يوجد مجال للكلام عن الحرية، يسود التحريم على جميع المستويات، التحريم أنك تمر من هذا الشارع، أنك تعبر من قرب هذا الجدار، كل المحرمات التي تراها في محرمات الشارع، تتحول إلى محرمات على مستوى الثقافة وعلى مستوى الفكر. فكرة الحماية فكرة جوهرية في تغييب الحريات، أنا أعتقد أن الاستبداد والفساد، هي المفاهيم المفتاحية لتفسير أنماط التخلف التي تمر بها مجتمعاتنا.

أفلاطون طبعًا؛ لأنه خلط بين الحقيقة الفلسفية والحقيقة الشعرية، ووجد أن الشعراء يشوهون الحقيقة، وبالتالي استبعد الشعراء من جمهوريته تمامًا. لكن المفارقة أن أفلاطون نفسه عمل رسائله بأسلوب شعري، فهي مفارقة أن اللغة التي كتب بها رسائله كلها لغة شعرية، ولغة سردية على درجة عالية من الشعر، وكأنه شاعر أراد أن يُقصي الشعراء؛ لأنه زعم أنه شاعر يعرف الحقيقة، الحقيقة الفلسفية طبقًا لأفلاطون، وأن تشويه الحقيقة الفلسفية، في مفهومه للشعر، وفكرة التشويه موجودة في التراث النقدي الكلاسيكي، فكرة أن الشعر انحراف عن الحقيقة، تزوير للحقيقة عن طريق استخدام أدوات لغوية مثل المجاز، يعني حين تقول: بنت مثل القمر فأنت تشوه القمر وتشوه البنت في نفس الوقت، وفكرة ارتباط المجاز واللغة المجازية بالكذب، موجود في الفكر الكلاسيكي القديم وأنه عجز من جانب المتكلم أن يستخدم اللغة الوضعية، فيضطر هنا إلى تغيير دلالات الكلمات ويستخدم اللغة على سبيل الكذب، وعندنا في التراث الإسلامي قُرن المجاز بالكذب، وبالتالي فهؤلاء الذين قالوا بأنه لا يوجد مجاز في القرآن لأنهم قالوا إنه لا يوجد على الله سبحانه وتعالى أن يستخدم المجاز.

عبادة التماثيل وطالبان إلى آخره، ربما الآخرون كانوا بيعبدوا التماثيل، لكن المسلمين لا يعبدون التماثيل، يعني إذا أردت أن تُقيم وصاية على كل البشر في العالم، هذا أمر آخر. يعني لو أنت متصور أن المسيحية بتدخل أو البوذي بيدخل يعبده، لا لن ندخل في جدل في هذا؛ لأن هذا ليس عبادة، فلن ندخل في جدل كهذا، لكن أنت تريد أن تفرض هذه القيم على غير المسلم؟ المسلم لم تعد خطرًا عليه أن تكون هناك تماثيل، التماثيل تُعبد في ثقافات إذا صحت هذه العبارة. لكن لو هنعمم هذا سنكون داخلين في قضية تانية خالص، ليس لها علاقة بالفضاء الإسلامي. هل هناك خطر على الفضاء الإسلامي من التماثيل؟ هذا هو السؤال.

إذا كان المسلمون بهذه الهشاشة وبهذا الضعف، وإيمانهم بهذا الهزال، فيستحقون الفناء، قوة الإيمان لا تحتاج إلى دفاع.

بدأ السائل يذكر أحاديث.

قال نصر أبو زيد: أنا حافظ أحاديث زيك بالظبط، ما هو أنت لا تحول المحاضرة إلى محاضرة دينية. صلِّ على سيدك النبي، أنا رديت وأنت مش مقتنع مفيش مشكلة، مش ممكن لازم توصل إلى أن أنت تقتنع. إطلاقًا مفرضتش رأيي عليك، أنت شايف إن ده عبادة أصنام، أنا شايف إنه ليس عبادة أصنام، أنا عشت في اليابان وشفت الناس بيدخلوا المعابد، وعارف اللي أنت بتتكلم عنه، أنت غير مقتنع برأيي هذا حقك، لكن لا تعمل خناقة بقى، عيب لا تعمل خناقة.

الحرام يتغير؟ لأ، الحرام لا يتغير، والحرام محدود ومعروف، آيات التحريم واضحة.

هل الاختلاط حلال أم حرام؟ هذه مسائل كلها، الاختلاط وأي نوع من الاختلاط وأي شكل من الاختلاط … إلخ، مسائل معقدة جدًّا، تروح مجردها هكذا، هذا هو التبسيط المُخل، وأنا حين أتكلم عن التجربة، يعني في فترة معينة، أي شيء يظهر من الفتاة مثير للشهوة، في عصر ثانٍ لا يكون مثيرًا للشهوة، وهذه دراسة لما يُسمى تطور الثقافة وتطور مفاهيم الأخلاق في الثقافة.

الرد على السياق التاريخي: السؤال ينم عن إن احنا خايفين، يعني إذا وضعنا القرآن في سياقه التاريخي، وبعدين؟ يعني هنرفع حتة من القرآن تاريخية وبعدين حتة وبعدين إيه اللي هيحصل؟ أنا أطمئن هذا الخوف أن السياق التاريخي، ليس مقصودًا به إلغاء أجزاء من القرآن. السياق التاريخي لفهم الرسالة القرآنية. لفهم الأبعاد العميقة وراء كل التشريع في القرآن، ليس مجرد التشريع وإنما البعد الأخلاقي والبعد الروحي وراء التشريعات، المحايثة للتشريعات.

العبودية انتهت من العالم، ومع ذلك نتعبد بآيات في القرآن تتحدث عن العبودية، وعن العبيد … إلخ، يعني هذا التطور الذي حدث، والذي جعل العلماء يقولون إنه لا يوجد في القرآن ما يمنع تحرير العبيد، وما يُلغي الرق، لم يجعل الآيات القرآنية التي تتعامل مع هذه المشكلة آيات بره التاريخ. لأ، لم يحدث ولن يحدث؛ لأن العلماء الفقهاء وهم يتكلمون عن الناسخ والمنسوخ، يقولون إن المنسوخ الموجود في القرآن أنه يُتلى أيضًا، يُتلى بوصفه وحيًا، إنه لا يفقد هنا قيمته كجزء من القرآن.

الفهم الشخصي: من حق أي إنسان أن يقرأ كتابه المقدس وأن يتفاعل معه، هذا حقه، أن يستخدم كل إمكانياته لفهم هذا النص؛ لأن القرآن هو لكل الناس من أجل أن تفهمه. إنما لما يكون الأمر أمر معرفة، وأمر هيُفرض على الآخرين هذا يتطلب العلم، ويتطلب أيضًا التفاعل مع التفاسير السابقة، وليس أن يتجاوز هذه التفاسير السابقة.

سيد قطب يتكلم عن تجربته حين استقبل القرآن وهو طفل وهو يسمعه، واستقبله بكل دهشة الطفل، وبكل براءة الطفل، والخيال الذي خلقت فيه بعض الآيات القرآنية التي تطرحها، ثم لما قرأ التفسير وجد أن المفسرين غير قادرين على إدراك هذا البُعد، البُعد التخييلي، التصويري، في القرآن.

لكن أي إنسان من حقه أن يقرأ النص المقدس، في دينه، وأن يفهمه وأن يتفاعل معه بالشكل الذي تؤهله له معرفته.

الجولة الثانية من الأسئلة

السؤال الأول: شكرًا جزيلًا للدكتور نصر، قرأت كتابات دكتور نصر، ولم أفهم كثيرًا، نجد في كتاباته مجموعة من المناهج والأطر الأكاديمية، أتعب كثيرًا حتى أفهم هذه المناهج، كي أفهم ما توصل إليه الدكتور نصر، نظرية الإسلام ممكن نستخلصها من النص القرآني، تهافت نظرية الجمال في الإسلام.
السؤال الثاني: سؤالي لحضرتك هو مستقبل مصر دستوريًّا في إطار الصورة اللي حضرتك شُفْتَها من التحليل. والدكتورة رشا قالت إن حضرتك رجل دين متفتح، فهل أنت تعتبر نفسك رجل دين؟
السؤال الثالث: أعرف إن حضرتك من المؤيدين لإعادة تفسير النص، إعادة تفسير النص والاستبداد السياسي، أيهما نتعامل معه الأول؟
السؤال الرابع: نشكرك على إدارة الجلسة ونشكر الأستاذ الدكتور على المحاضرة القيمة. كنت سيادتك تتكلم عن اعتماد أني عندي عقل، فأنا لي ثلاثون سنة عقلي انتهى، نتيجة المؤسسات والمناخ الاجتماعي والسياسي الموجود، فالقضية ليست أنه ليس هناك إبداع، بل قضية أنه ليس هناك تفكير، هذا جزء.

الجزء الثاني سيادتك أسهبت كثيرًا في كلامك عن الشعر والشعراء، وجئت عند كتاب المرحوم طه حسين «في الشعر الجاهلي» ومررت مرور الكرام. وأنا عايز أعرف كتاب في الشعر الجاهلي أخطأ فيه ولا أيه؟ وشكرًا.

السؤال الخامس: حضرتك اعتمدت المحاضرة على نصوص لسيد قطب، وده يطرح سؤالًا: كيف تحول سيد قطب من شاعر وناقد ومكتشف نجيب محفوظ إلى ما أصبح عليه بعد ذلك، معالم على الطريق، والمجتمع الجاهلي؟
السؤال السادس: موضوع المحاضرة مُعقد شوية، خصوصًا أنك جبت كذا رؤية للفن، هل الفن وظيفي، أو الفن من أجل ذاته، فلما سمعت حضرتك خرجت بأن الفن هو ينمي الحس الجمالي عند الإنسان؟

لو احنا نظرنا لتماثيل اليونان مثلًا ستات عارية، هل ممكن نعمل «أنالجي»، تمثيل بينه وبين الأفلام الإباحية الآن؟

السؤال السابع: أنا عندي سؤال ليس على المحاضرة ولكن على رؤية حضرتك، أنا ناشطة ودايمًا أمام هذا التساؤل، هل نبدأ نصدم في الموضوعات التي لا تتقبلها الناس أم نتدرج؟
السؤال الثامن: هسأل سؤال بره المحاضرة، هو الأب متَّى المسكين في مؤتمر العقيدة اللي حصل في الفيوم، والصراع مع التيار الأصولي في الكنيسة.
نصر أبو زيد علق: هو أنت هتحملني حمل زيادة مش كفاية الورطة اللي أنا فيها. فضحكت القاعة.
السؤال التاسع: عندما أتي المفتي الدكتور علي جمعة إلى كلية الفنون الجميلة، منذ سنتين رُفعت الآثار من كلية الفنون الجميلة ووضعت في الفناء الخلفي، حتى لا تؤذي مشاعر مفتي جمهورية مصر العربية، المعادية للتماثيل، أما مسألة طالبان فطالبان سرقوا الآثار وبيعت في السوق، كما تشتري السلاح. سؤالي إزاي إنك تسرق الذهب من المسيحيين من أجل أن تشتري به سلاحًا، كيف تعطي تفسيرًا على نحو علمي لتحرير الروح الإسلامية من داخلها؛ لأن غياب الحرية عن الساحة العربية والإسلامية طال أكثر مما يجب؟ وهل لا بد أن نمر بمرحلة ما مرت بها أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؟
السؤال العاشر (مكتوب): ما رأيك للخروج من هذه العقلية الأزمة؟

ردود نصر أبو زيد

الواحد لازم يعمل مشروع للخروج من الأزمة بقى! وأنا لست صاحب مشروع، في جميع الندوات يقال إن الدكتور حسن حنفي، مشروع حسن حنفي، مشروع محمد عابد الجابري، مشروع نصر أبو زيد، فأنا أقول: إني ليس عندي مشروع يا إخوان، المشروع هذا موضوع نبوة، ونحن لسنا أنبياء، نحن باحثون، في البحث نبحث وندقق. لكن مشروع. هو أنا لا أعتقد أن أقول ما هو الحل، لكن أقدر أن أقترح بعض الاقتراحات، لكن الحل للخروج من الأزمة، يحتاجنا كلنا نفكر.

نظرية الجمال في الإسلام: هو أنا لم أقرأ كتاب الزميل الذي يُنكر وجود نظرية للجمال في الإسلام، وأعتقد أن هذا بحث في رأيي — لكن لازم أقرأ الكتاب قبل ما أحكم — كان فيه دراسات محمد قطب مثلًا كتب عن هذا، وكان فيه محاولة للبحث هل هناك نظرية جمالية في القرآن، أو نظرية جمالية في الإسلام، الدراسات كلها التي أنا أعرفها على الأقل، تدخل في الفقه وفي النقد الأدبي، تدخل عند النقاد المعروفين عند الجاحظ وعند ابن الطباطبا حتى تصل لعبد القاهر، لكن لا تدخل عند الفلاسفة، من أول الكندي حتى ابن رشد، ولا عند الفلاسفة الإشراقيين، ولا دخلت حتى عند ابن عربي.

وأنا لم أقم بهذا البحث ولا أزعم أنني سأصل لنتائجه، ربما فيه بذور يمكن لمها وإعادة بنائها لما يسمى النظرية الجمالية عند المفكرين العرب أو المفكرين المسلمين، وهذا موضوع عويص، محتاج دراسة، وليس دراسة على مستوى الدكتوراه، محتاج دراسة في نهاية العمر؛ لأن هذه دراسات يجب أن تشمل التراث بكامله سواء كان التراث الأدبي أو التراث الفلسفي، أو الإبداعات الفلسفية أو الجمالية التي كتبها علماء ومفكرون مسلمون من كافة أطياف الفكر العربي الإسلامي.

رجل دين: أنا لست رجل دين طبعًا، بمعنى أنني لا أصدر فتاوى، أنا أعتبر نفسي باحثًا، وباحثًا مشغولًا بتحليل الخطاب، سواء هذا خطاب ديني أو خطاب غير ديني، وبدأت هذا منذ كتاب نقد الخطاب الديني، وفي نقد الخطاب الديني أنا عملت مشابهات بين الخطاب السياسي، وبين الخطاب الديني على مستوى البنية، وعلى مستوى المنطلقات لهذه الخطابات.

لكن لا أعتبر نفسي رجل دين ولا أفتي، ويتم زنقي أحيانًا، لكي أقدم فتوى، وأخيِّب ظن المستفتي ببساطة شديدة؛ لأني أحاول أن أرد المستفتي أنه يفكر، وهو لا يريد أن يفكر، وهي لا تريد أن تفكر، يعني أقول له: إن الله غفور رحيم وإنه حتى لو أنت ارتكبت ذنبًا فهذا لن يخرجك من الإيمان، إنما كل اللي بيسألوني يريدون حلول، يعني مثلًا شاب ليس مسلمًا وبيحب بنتًا إندونيسية، وطبعًا فيقول لك ده مفكر ليبرالي وسيعطيني رخصة، هناك مشكلة أن يكون أحد مُصنف ضد إرادته، هذا الشاب مثلًا إن قلت له هل أنت تحب هذه البنت؟ فقال آه، أحبها، فقلت له آه طبعًا في الإسلام حرام أنها تتزوج بواحد غير مسلم، وأهلها ممكن يذبحوها مثلًا. سألته أنت متدين؟ فقال لا، أنا مُلحد. فقلت له طيب علشان البنت التي تحبها ادخل في الإسلام، فقال لا، هذه مسألة مبدأ، قلت له إذًا لا تحب، القضية أبسط من أن نُدخلها في جدل لاهوتي.

فأنا أبعد عن هذه الفتاوى، أشرف على رسائل لطلبة مسلمين يدخلون أحيانًا في هذه المسائل، التوتر بين البحث العلمي وبين المسلمات التي هو نشأ عليها، وهنا أنا أساعده، لكن لا أفرض عليه.

كتاب في الشعر الجاهلي أخطأ أم لم يخطئ، اسمح لي؛ سؤال غلط، لا يوجد كتاب يخلو من الخطأ، لا توجد دراسة مثالية، لا توجد، كلها اجتهادات، أي كتاب يصدر أو بحث يصدر لا بد فيه عوامل نقص، وعوامل النقص هذه ماذا يصححها؟ النقاش، النقاش الحر. لكن واحد يخطئ في … (صوت التسجيل غير واضح هنا) هذا موضوع آخر. خرجت كتب كثيرة مثل كتاب «أبي آدم» مثلًا فيه خطأ. لكن نمِّوت الرجل لأنه عمل حاجة خطأ!

كتاب «في الشعر الجاهلي» يخوض في قضية نوقشت في التراث العربي والإسلامي، قضية إلى أي حد الشعر الجاهلي يُمثل الحياة الجاهلية، وهذا سؤال مشروع وما زال مشروعًا. اعتمد طه حسين على بعض المسلَّمات، والتي هي محل فحص، وقد رُدَّ على هذا الكتاب بردود علمية. وطه حسين نفسه أوسع الكتاب بعد هذا في كتاب «في الأدب الجاهلي».

هي الجملة التي عملت المشكلة كلها هي جملة الفصل بين القصَص القرآني وبين الحقيقة التاريخية، وبين الواقع التاريخي، الجملة التي أُخذت من الكتاب وعملت كل المشاكل. هذا الفصل بين الواقعة القصصية في القرآن وبين الواقع التاريخي في القرآن، عمله محمد عبده، وقال القصص القرآني ليس تاريخًا، وإنما هو وعظ وتمثيل، واستخدم محمد عبده مصطلح التمثيل، وأنه لا نستطيع أن نأخذ التاريخ من القصص القرآني، وأعطى أمثلة كثيرة جدًّا، جدًّا، منها غياب المكان وغياب الزمان، وغياب أسماء الشخصيات، وتكرار القصة في أكثر من موضع في القرآن، لكن بمعانٍ ودلالات أخرى عن الموضع الذي وردت فيه، وهو البحث الذي استمر فيه محمد أحمد خلف الله بعد ذلك، عام خمسة وأربعين أيضًا، تمامًا في نفس الفترة التي كتب فيها سيد قطب.

ما هو الفرق بين سيد قطب وبين محمد أحمد خلف الله؟ الفرق في اللغة، لغة سيد قطب لغة ناقد انطباعي، لغة محمد أحمد خلف الله لغة ناقد يعتمد على مناهج لغوية. وهذا هو الفرق بين الشيخ أمين الخولي وبين محمد عبده، فرق زمن، محمد عبده لغته — هذه بالضرورة لغة القرن التاسع عشر — ليست لغة استفزازية. لغة طه حسين لغة استفزازية.

وهذا يجرني إلى مسألة الاستفزاز والمثقف، إذا ظللنا نحافظ على اللغة غير الاستفزازية وغير المصادمة، فسنظل نتحرك في نفس المكان، الصدام ليس في اللغة التي يكتبها هذا الباحث أو ذاك، إنما الصدام يُخلق من الوسطاء الذين يفسرون للعامة، ما يقوله هذا الباحث، كما قلت فنحن ثقافة سمعية، ربما أكشف لكم سرًّا، لا من أيدوني ولا من هاجموني قرءُوا ما كتبت، كثير من المؤيدين لي أيدوني باعتباري أني أنا كافرٌ فعلًا، وإن أنا مع الكفر. ومن هاجموني باعتباري أني أنا كافر وهم ضد الكفر، وأنا مش كافر وهذه هي المشكلة.

أنا آسف طبعًا أني أقول هذه الحقيقة، هذه معركة خاضها فريق ضد فريق وأنا وقعت في المنتصف، وكل واحد يجرني إلى هذه الناحية، وفاكر كويس حين خرج كتاب «مفهوم النص» أن أحد المثقفين قابلني على مقهى ريش، وكنت في انتظار صديق، فسلم عليَّ بحرارة شديدة، كتاب عظيم يا دكتور نصر لكن أنت ليه متردد، فقلت له متردد ليه؟ قال لي: قل إن هذا من تأليف محمد. قلت له لماذا لا تؤلف أنت كتابًا وتقول إنه من تأليف محمد. هو قرأ مقدمة الكتاب.

أول كتاب كتبته بعد ما خرجت «دوائر الخوف»، في المقدمة قلت: أيها القارئ العزيز لا تبحث عن العفريت، لا توجد عفاريت في الكتاب، لا تبحث عن عفريت كفر ولا تبحث عن عفريت إيمان. فما يكون هو عايز كفر فيجدك مؤمنًا فيقول ما هذه الخيبة ده مؤمن. هذا حدث لي في أوروبا، حين ألقيت محاضرة الكرسي في جامعة لايدن، الناس كلها قالت ماذا تعمل هنا؟ أنت مسلم كويس أهوه، لأنهم عايزين يؤكدون مسألة الكفر. القراءة المتربصة، سواء بشكل إيجابي أو بشكل سلبي، لكن في كلتا الحالتين قراءة متربصة. حسن حنفي أكثر أحد قُرئ قراءة متربصة. الشيوعيون يقولون عليه إخواني، والإخوان يقولون عليه شيوعي. هذا الخطف هو الذي يُحدث الصدمة. لم أظهر في التلفزيون أو أتكلم في ندوة لا نُحدث صدمة. المسألة ليست صدامًا، ليست صدامًا مع قائد وليست صدامًا ضد الإيمان. ولا أعتقد في كل ما كتبت فيه شيء ضد الإيمان. أنا أنقد فكرًا إنسانيًّا، لكن الإيمان الذي يمارسه البشر بشكل ليس به فرض، وبشكل ليس فيه تعسف، هو إيمان كلنا يجب أن نحتفل به، بل نريد أن نستعيد هذا الإيمان، من أفق التوترات والصراعات.

كلمة جمال في الفن: أحيانًا توحي بأن يكون شيئًا جميلًا، العقاد كاتب عن لوحة فيها تورتة وعليها ذبابة، طبعًا هذا منظر قبيح جدًّا حين تراه في الواقع، لكن اللوحة جميلة، فمفهوم الجمال ليس المفهوم بالضبط الذي نفهمه حين نقول: الله، الرائحة هذه جميلة … إلخ. الجمال هو أداة الفن في التعبير لبعد معرفي، يعني إذًا التجربة الجمالية لا ينبثق عنها تجربة معرفية، يعني وعيًا مختلفًا بالعالم، تصبح تجربة جمالية استاتيكية، تجربة جمالية غير مُنتجة إذا صح تسميتها تجربة جمالية، مفاهيم الخير والشر. اللوحة التي تكلم عنها العقاد، إذا نظرت لها في الواقع تراها قبيحة، لكن حين تنظر إليها في لوحة، تكتشف عناصر التناسق في الألوان، عناصر التناسق في الخطوط … إلخ. تكتشف جمالًا في منظر لو أنه خارج اللوحة يكون قبيحًا.

الفن اليوناني والأفلام الإباحية: لا أستطيع أن أقارن، لا أعرف الأفلام الإباحية، ما المقصود بها بالضبط، فيه طبعًا قباحة كثيرة في العالم. لكن سأرجع إلى حسان بن ثابت مرة أخرى «إنما الفحش عند النساء»، في الفعل، وليس في القول، العمل الفني يُقيَّم على أساس مقاييس الفن، يُرفض أو يُقبل على أساس مقاييس الفن، وليس على مقاييس العلاقة بين الواقع.

الكنيسة: ورغم الحرج في السؤال، الفكر الديني المصري يمتاح من نفس البئر، يعني ليه احنا نفترض أنه هناك فكر وفكر، هناك أربع كنائس في هولندا ويدعونني في ندوات ثقافية، أول مرة منذ عشر سنوات، دُعيت إلى ندوة ورحت افتتحت النادي الثقافي للكنيسة القبطية في أمستردام، كان التجمع مثلكم كده ستات وبنات ورجاله، بعد عدة سنوات دُعيت لعمل ندوة فوجدت رجالًا فقط.

أول سؤال سألته أين السيدات؟ وقلت إن الموقف ضد المرأة ليس إسلاميًّا، هذا موقف مصري، طبعًا زعلوا مني كلهم الإخوة الأقباط. الفكر الديني يحتاج إلى إصلاح، الفكر الديني بشكله العام، يحتاج إلى إصلاح. الاستبداد وغياب الحريات: بيكون ألعن إذا وجد في مجال الفكر الكهنوتي، ألعن. الحرمان الديني، في الكنيسة القبطية، لأسباب سياسية أنا لا أقبله، لا أقبله كمواطن مصري، مع التقدير للبابا شنودة، ومع موقفه العظيم جدًّا ضد التطبيع، اللي احنا كلنا كمصريين ضد التطبيع، لكن معاقبة أحد عقابًا دينيًّا، لا. عقاب ديني، يعني احنا كلنا ممكن ندين أي أحد يذهب إلى إسرائيل، إلى القدس، لكنْ عقاب ديني، لأ. أتحرج أكتب في هذا طبعًا؛ لأن المسألة لا ينقصها احتقانات، لكن لا نستطيع أن نعمل تمييزًا وأن نقول، إنما الخطاب الديني في مصر بشكل عام واحدٌ، لأننا أبناء وطن واحد، والظروف الموضوعية التي تحكمنا واحدة، والمخاوف والهواجس هي كلها على نفس المستوى.

الحرية: طبعًا هي الكلمة المفتاح، لا أعتقد أننا لازم نمر بكل المراحل، نحن نحرق المراحل، احنا مررنا بمرحلة نهضة، ومرحلة تنوير، المُزعج هو أننا نعود إلى نفس الأسئلة التي تمت الإجابة عنها قبل ذلك، نعود إلى أسئلة كنا ظننا أنها قد حُلت. المشكلة أيضًا هي غياب حتى الوعي بهذه الإجابات التي طُرحت عن هذه الأسئلة، أين محمد عبده في مناهج الأزهر؟ ابن الأزهر، وليس نصر أبو زيد، محمد عبده ابن الأزهر، أين هو؟ لا يوجد في مناهج الأزهر محمد عبده.

كتَّاب عصر النهضة جميعًا يكاد يكونوا غايبين، كل واحد يدرس في الجامعة يدرس كأنه هو البداية، فكر النهضة ليس فقط طه حسين، وأحمد أمين وأمين الخولي، ومصطفى عبد الرازق وعلي عبد الرازق، وسلامة موسى وغيرهم، هذه الكوكبة غايبين من أفق الوعي العام، والغيبة الأكبر هي غيبة محمد عبده عن الأزهر، ويفتخر به الأزهر أحيانًا هنا أو هناك، لكن طالب الأزهر لا يقرأ محمد عبده. رسالة التوحيد لا تكاد تكون معروفة، مثلًا، وهي رسالة في علم الكلام، في العصر الحديث.

الحرية هي المفتاح، والحرية ليست فقط لهذا الفريق أو لذاك الفريق، الحرية للجميع، لقد جربنا، ولازم نتعلم، جربنا نعمل الحرية مع استبعاد هذا الفريق أو ذاك الفريق، وتكون النتيجة أن كلنا نعاني من هذا الموقف، زي الرجل الذي قال، جم قبضوا على اليهود، فقلت هو أنا يهودي، قبضوا على السود، قلت هو أنا أسود … إلخ فلما جم يقبضوا عليَّ لم أجد أحدًا يدافع عني.

نحن محتاجين أن ندافع عن حريتنا مع كل اختلافاتنا، يعني بدل ما نحن نطالب الغرب بأنه يقبل الاختلاف … إلخ فنحن لا نقبل الاختلاف بيننا وبين بعض.

ما معنى أن النص تاريخي: يا إخوانا التاريخي غير الزماني، التاريخي غير الزماني، نقول تاريخيًّا يتم فهمها على أنها زماني، إنه فلكلور؛ بعض الناس قالوا هذا الكلام، إن نصر أبو زيد قال: القرآن فلكلور، لأ.

تاريخي تعني: أنه نشأ في لحظة في التاريخ، في سياق. لكن ليس معنى هذا أن المعنى مرتبط فقط باللحظة التاريخية، يا إخوانا نحن ما زلنا نقرأ أرسطو وأفلاطون، والمعري وشكسبير، حد سيقول عن القرآن تاريخيًّا يعني خلاص انتهى! تاريخي غير زماني، وهذه مصطلحات في الوعي العام متداخلة، مثل نقد ونقض مثلًا، فالنقد ليس هو النقض.

قراءة الشافعي قراءة متربصة: يا ريت أحد يقرأه قراءة غير مُتربصة، سأكون أسعد الناس أن أحدًا يُظهر التربص في قراءة الإمام الشافعي، فمن ردوا على هذا الكتاب لم يردوا من كلام الشافعي، ردوا من الشافعية المتأخرين، أنا لم أتكلم عن الشافعية، أنا كنت أحلل خطاب الإمام الشافعي، في كتابه «الأم» وفي كتابه «الرسالة»، في كتاباته الأصلية، إنما كل من ردوا ردوا على الشافعية كمذهب. وطبعًا فيه تمييز بين الإمام الشافعي وبين الشافعية كمذهب كما تطورت بعد ذلك.

موضوع الحجاب: الحقيقة لم أدخل فيه، ولا أريد أن أدخل فيه؛ لأنه موضوع يرتبط بالاختيار الشخصي، ولا أريد أن أدخل فيه لأني أنا في الغرب لازم أدافع عن الحجاب، لازم أدافع عن الحجاب ضد القوانين التي تضعها دولة علمانية، ودولة علمانية تؤمن بحرية الإنسان، وباختياره الفردي، ثم تُجرم الحجاب.

لكن أيضًا لا أستطيع أن أقبل أن الحجاب فريضة، يعني أُضيفت على الفرائض فريضة جديدة، إنما قضية الحجاب وقراءة الآيات المرتبطة بالحجاب فيها عناصر كثيرة جدًّا من عناصر أعمق بكثير جدًّا من أن الست تغطي شعرها أم لا تغطيه، أعمق بكثير جدًّا، فيها غض النظر، وغض النظر للرجال وللنساء. ومحمد عبده كان يتكلم عن النقاب، وقال؛ إذا كانت المسألة فتنة، فهناك رجال فاتنين وحلوين، لماذا لا يغطون وجوههم، فيه مبررات في ثقافتنا هذه «ماشي»، لكن تحويلها إلى فرض ديني، بالمعنى الفقهي والقانوني، أعتقد أن هذا صعب.

إجابة أسئلة مكتوبة

الدكتور حسن حنفي: كل اللي هاجموه تلامذته.

هل فشل تكوين مدرسة ليبرالية في الجامعات؟

وهل هم أخذوا الفرصة، يا دوب، كان عندي بعض الطلبة بربيهم وفجأة جاءت الريح فطمست، وأنت تحاول أن تكون تلميذًا، ودكتور حسن حنفي طبعًا، وأنا لا أعيب فيه، لأنه أستاذي وأنا فخور بأنه أستاذي، دكتور حسن حنفي عمره ما فرض على تلامذته بأنهم يتبعونه حذو النعل بالنعل، لقد تخانقت معه في أول محاضرة، خناقة لرب السماء، وأعطاني امتيازًا، لا نخلق طبعات، نُسخ، لأن هذه ليست مهمة الأستاذ، مهمة الأستاذ أن يخلق باحثًا.

المناخ العام غير مساعد على هذا، يعني المعيد بياخد مرتب أيه؟ عايز يعطي دروس، عايز يطبع مذكرات، فالدكتور حسن حنفي يقول له: لا، عيب، والقيم والمبادئ، فهو يقول له: بس أنت كبرت وأصبح عندك بيت. ويكون عنده حق، أنا ساعات أقول لتلامذتي لو أنا كنت ضمنكم ربما كنت أصبحت إرهابيًّا، كنت هاعمل إيه يعني، وأنا لا أعطي تبريرًا للإرهاب، لكن تعمل أيه في انسداد أفق المستقبل، أمام الشاب الذي يتخرج، ويظل عالة، ليس عنده وظيفة. احنا جيل خرج في مجتمع ناهض، مجتمع يحلم، مجتمع يبني، في مجتمع كنت تعرف تاخد حقك، الآن المسألة مختلفة، فالفشل في الحقيقة ليس فشل الأساتذة الكبار، وإنما فشل واقع عام. لأني أنا تلميذ الدكتور حسن حنفي، إذا اعتبرت الدكتور حسن حنفي فشل، فأنا تلميذه، إذا كان ليس عنده غيري، فيهيأ لي كفاية يا دكتور حسن، ولا أيه؟ لكن عنده تلامذة أحسن مني بكثير.

الناسخ والمنسوخ: قضية واسعة جدًّا وعميقة جدًّا، وتحتاج إلى دراسة مستقلة، وتحتاج إلى إعادة نظر نفسها في مفهوم النسخ. ما إذا كان مفهوم النسخ في القرآن يعني التغيير، أم يعني الإزالة؟ يعني محتاجة إلى قراءة ثانية لآليات النسخ وقراءة ثانية لآليات الفقهاء في قضية هذا الناسخ والمنسوخ؛ لأنه طبعًا في تمييز بين النسخ والبدء، «أن الله غيَّر رأيه» وهذا كلام لا يمكن لمسلم أن يقوله.

ظنية الدلالة وقطعية الدلالة: الحقيقة؛ قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، هذا نادر، يقول الفقهاء «النصوص عزيزة» وكلمة نص هنا هو قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، الذي لا يحتمل أي قراءة غير معناه الظاهر، وكلمة النصوص غير كلمة نص في الفكر المعاصر، كلمة نص في الفكر المعاصر تعني مُجمل البنية اللغوية، لكتاب أو لقصيدة أو لرواية، ولما القدماء قالوا: لا اجتهاد لما فيه نصٌّ، لم يقصدوا مُجمل القرآن. وإنما قصدوا هذه العبارات العزيزة، التي أعطى الإمام الشافعي؛ «فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة». يعني ليس هناك مجال تحسب سبعة وثلاثة كام وتغلط. هذا هو النموذج الذي أعطاه الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة» عن النص.

السيوطي يقول: إنه «حُرمت عليكم أمهاتكم» ليست نصًّا، لأنه لا بد أن تُقدر محذوفًا في الكلام، حُرم عليكم نكاح أمهاتكم، فإذا افترضنا وجود محذوف في الكلام، فهذا يخرج عن معنى كلمة نص.

لذلك أكذوبة هائلة أن يُرفع شعار: «لا اجتهاد لما فيه نص»، ومقصود به القرآن كله. الفقهاء حينما قالوا لا اجتهاد لما فيه نصٌّ يقصدون هذه النصوص العزيزة، يعني النادرة في القرآن.

الحديث كله ظني الثبوت، مع كل التدقيقات التي عملها البخاري، والتي عملها مسلم، لكن يظل الثبوت ظنيًّا وتظل الدلالة ظنية، ولذك اعتبر الفقهاء لا يُؤخذ بالأحاديث مهما كانت صحيحة في الأحكام الكبرى.

اختلاف في الدرجة واختلاف في النوع: طبعًا في تحليل الخطاب الديني ستجد، فيه أكثر من تجليات في الخطاب الديني، وتجليات أكثر من تجليات الخطاب السياسي. في تحليل هذا الخطاب أنا ميزت بين المنطلقات الأساسية للخطاب، وبين الآليات التي يستخدمها هذا الخطاب. في المنطلقات الأساسية للخطاب أنا لم أجد حتى الآن أن فيه اختلافًا بين ما يسمى المعتدل وبين ما يُسمى المتطرف، على مستوى المنطلقات، لكن هناك اختلافًا في الآليات، التي يعرض بها الخطاب نفسه. فيه اختلاف بين التطرف وبين الاعتدال.

أنا أعتقد أن خطاب الاعتدال مهمٌّ جدًّا أن نأخذه مأخذ الجد، ونأخذه مأخذ الجد بالانخراط معه في حوار؛ لأن أنا أؤمن أن لا أحد يتغير من تلقاء نفسه، يتغير الناس بالحوار مع الآخرين، أوروبا لم تخرج من العصور الوسطى سوى بتعرفها على الإسلام وعلى الحضارة الإسلامية، فرأت صورة أخرى، وبالتالي كذلك نحن في العصر الحديث، حين تنظر إلى المرآة، إن لم يكن هناك مرآة فأنت راضٍ عن نفسك كويس جدًّا، لكن حين تنظر في المرآة تظهر بذقن طويلة وشنبك مش مظبوط. الآخر هنا ثقافيًّا وحضاريًّا، هو المرآة التي ننظر إليها.

داخل المجتمعات العربية والإسلامية، الآخر يجب أن يكون المرآة أيضًا، وأنا أعتقد أنه لا بد من الدخول في جدل وفي نقاش وفي حوار، ولكن من أجل تحقيق هذا نحتاج إلى الحرية، نلف نلف ونرجع لسؤال الحرية.

مقدمة الندوة: نشكر دكتور نصر أبو زيد، ونشكر الجامعة الأمريكية، ونشكر د. فريال غزول على استضافة المحاضرة.
١  الأردن، ٣١ أغسطس ١٩٩٣م.
٢  ألقيت في شهر مايو ٢٠٠٨م بالقاهرة، بالجامعة الأمريكية. ضمن محاضرات مؤسسة المورد، في الربيعة، وكان قد ألقاها في بيروت قبلها بيوم أيضًا.
٣  يشير إلى العرض الذي على الشاشة أمام جمهور الندوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤