الفصل الرابع

من القراءة العلمية للتراث إلى المنفى والمقاومة

(١) القراءة العلمية للتراث

محمد حربي:١ «نصر حامد أبو زيد» … تذكروا هذا الاسم جيدًا فهو اسم لمفكر كبير مع أنه لا يزال شابًّا، يقدم طرحًا جديدًا، ويقرأ التراث بعقلانية مفتوحة وبحرية كبيرة بحثًا عن إجابات لأسئلة مهمة حول هذا التراث الذي ندَّعي جميعًا انتماءنا إليه، وأنه دليل خصوصيتنا، ومع ذلك فنحن لا نعرفه، فعندما يقول نصر أبو زيد إن أسئلة التراث غير أسئلة الحاضر وإن همَّ الماضي ليس همَّ الحاضر والمستقبل فلا نملك — حتى ولو اختلفنا معه — إلا أن نحترم عقليته ومنهجه العلمي في التعامل مع التراث الذي لا بد أن نعرفه قبل أن نفكر في إحيائه بل لكي نستطيع إحياءه.

لكل مشروع ثقافي أساس فكري، والمتتبع لأعمالك يُلاحظ محاولاتك لبعث دماء العقلانية في جسد التراث العربي من خلال كتبك: التأويل، مفهوم النص، رفض الوسطية. فهل يمثل «المعتزلة» أساسًا فكريًّا يمكن الارتكان إليه في قراءة مشروعك الثقافي؟

نصر أبو زيد: بدون ادعاء تواضع زائف، أنا لا أعتبر نفسي صاحب مشروع ثقافي بالمعنى المتعارف عليه، ولكني قمت بمحاولة لتقديم قراءة علمية للتراث.

وفي فترة ما كانت كتاباتي تتخذ المعتزلة إطارًا مرجعيًّا لها، فقد انبهرت بهم وبإنجازاتهم، وخاصة فيما يتعلق بقولهم بالحرية في مواجهة الجبرية، ولكني بعد فترة من تطور وعيي العلمي والفكري تجاوزت هذا الانبهار، وعرفت أن هذه الأفكار أفكار تاريخية، وبالتالي فهي مرهونة بالظروف والملابسات التي أدت إلى طرحها، بل إن فكرة الحرية عندهم كانت تتضمن عوامل فشلها الداخلي.

محمد حربي: لماذا؟
نصر أبو زيد: لأن فكرة الحرية عند المعتزلة لم تكن مطروحة في مواجهة واقع، ولكنها ناقشت مفهوم حرية الإنسان في مواجهة قيود الواقع الاجتماعي، وعلى ذلك فإن أي فكر يحاول أن يُنتج مفاهيم لها طابع تقدمي ثم يظل يدور في إطار الفكر الديني فإنه ينعكس على ذاته ويصبح هذا الفكر المتحرر فكرًا تدميريًّا، يدمر البنية العقلية. في مرحلة من تكويني الفكري، كان المعتزلة يمثلون إطارًا مرجعيًّا وربما يظهر ذلك بوضوح في كتاب «مفهوم النص»، لكن بعد هذا الكتاب بدأت أدرك هذا التناقض في بنية هذا الفكر، وبدأت أدرك وأفهم فكر المعتزلة في سياقه التاريخي، وأعترف لهذا الفكر بأنه حقق في لحظته التاريخية، إنجازًا مهمًّا، ولكنه ليس بالضرورة أن نعيد بعثه من جديد أو بعث التراث؛ لأنه — أي التراث — لن يحل لنا مشكلاتنا فمشاكلنا لا بد أن تُحلَّ بطرق أخرى.
محمد حربي: ما هي؟
نصر أبو زيد: هي في تقديري، إنتاج معرفة علمية بالتراث بشكل عام، والمعرفة العلمية معناها إدراك هذا التراث في سياقه التاريخي والاجتماعي، أي في سياق عملية إنتاجه نفسها، وإدراك هذا التراث كمنظومة ولو أنجزنا هذه المعرفة العلمية فسندرك تنوع مدارس التراث، ونُفرق بين التراث المعتزلي والتراث الأشعري والتراث الشيعي، وكل هذه المنظومات هي نتاج ظروف تاريخية، قد يكون لبعض هذه الأطروحات مغزًى ولكن لكي أكتشف؛ هذا المغزى وهذا الاتصال بين الماضي والحاضر لا بد أن يتخلص بالتدريج من ملابساته التاريخية. أنا أقدر حرية العقل عند المعتزلة ولكني لا أستطيع أن أقف بها، حرية العقل، في تأويل النصوص، وإنما لا بد أن تمتد إلى حرية العقل في فهم قوانين الطبيعة، وحرية العقل في فهم قوانين المجتمع وحرية العقل في إنتاج المعرفة.

وإذا كنت قد بدأت من المعتزلة، وأظن أن كثيرًا من أساتذتي بدءُوا من هذه البداية، فإنني وزملائي نطمح أن نطرح تصورات أو ننتج معرفة علمية في نفس المجال نبتعد فيها عن الاستخدام الأيديولوجي النفعي للتراث — وهو الأمر السائد نوعًا ما حتى الآن — ثم نتحول إلى إنتاج وعي علمي بهذا التراث قد يحقق لنا ما يسميه البعض «القطيعة المعرفية»، وهي لا تعني إبادة التراث، وإنما هي حسبما قال أمين الخولي: «قتل القديم فهمًا».

وإذا جئنا للحظة التي نعيشها لوجب أن نسأل: هل ما نواجهه الآن في لحظتنا التاريخية من سؤال الديمقراطية وسؤال الحرية هو نفس سؤال المعتزلة؟ بالطبع نحن لسنا نُقصر الحرية على الحرية الدينية، ولكننا نطمح لتحقيق حرية أكبر في المجال الفكري والاقتصادي والسياسي والديني أيضًا. والحرية لن تتحقق ونحن ندور في تلك النصوص القديمة ونرتكز عليها، فيرتكز السلفيون على نص ديني ويرتكز المستنيرون على نصٍّ دينيٍّ آخر، وهكذا.

محمد حربي: عندما نتحدث عن الثقافة العربية الإسلامية نتحدث عن إطار عام يجمع تحت سقفه ثقافات متعددة تتشابك في خلق وحدة خصبة. إلى أي مدًى يصدق هذا المفهوم عندما نطبقه على علاقات الثقافة العربية الإسلامية بواقعها، ثم على علاقتها بالآخر كالغرب مثلًا؟
نصر أبو زيد: عندما نتحدث عن الثقافة العربية والإسلامية فإننا نعني الحضارة المستوعبة للثقافات السابقة عليها، فالثقافة العربية الإسلامية لم تبدأ بالإسلام ولم تبدأ من الفترة السابقة على الإسلام بمائتي عام، وإنما من حضارات المنطقة كلها وتفاعلات ثقافاتها، والثقافة العربية ليست بالفعل ثقافة واحدة بل هي تعدد على كل مستوى: جغرافيًّا واجتماعيًّا وعندما تظهر مشكلة في الأفق يظهر هذا التعدد. إذن نحن لا نمثل ثقافة واحدة بل حضارة عامة تجمع متناقضات ثقافية.

هذه نقطة، أما قضية الثقافة العربية الإسلامية في مواجهة الآخر فعندما أطرح الآخر فإنني لا أعني النقيض بشكل كامل؛ لأننا مع الأسف ننسى أو نتناسى أننا كثقافة عربية وإسلامية تعاملنا مع الآخر بدءًا من القرن الثاني أو الرابع الهجري تفاعلًا جدليًّا أخذنا منه وأعطيناه.

والنظر إلى الحضارة العربية على أنها كلٌّ موحدٌ أمر خاطئ؛ لأن الغرب ليس شيئًا واحدًا بل ثقافات متعددة تجمعها حضارة واحدة كبرى، ولكن للأسف الشديد يظل المثقف العربي يفكر في الثقافي وعينه على السياسي، وهو حين يتعامل مع المواقف والأزمات يُنتج مواقف سياسية ولا يُنتج معرفة علمية، وادرس لو شئت مواقف الجماعات والتيارات الفكرية من أزمة الخليج الأخيرة!

محمد حربي: ربما أفسدت رؤيتنا للآخر فكرة التفسير التآمري للتاريخ على أساس أن هناك دائمًا مؤامرة غربية على الأنا العربية؟
نصر أبو زيد: لعل إنتاج معرفة علمية بالآخر يكشف لنا الحقيقة؛ لأن بكل ثقافة في أي مكان تصور عن الآخر، ولكن لأننا لم ننتج معرفة علمية عن أنفسنا وتاريخنا ولم ننتج معرفة علمية عن تاريخ أوروبا، فإن لدينا دائمًا التفسير التآمري الذي يصور الآخر طول التاريخ يتآمر علينا، ونحن دائمًا موضوع للتآمر وموضوع للمؤامرة.

وأقول إن الوعي بالذات يتناسب مع الوعي بالآخر ولكن لأننا نتعامل مع هذا الآخر سياسيًّا فإن معرفتنا تحكمها السياسة.

محمد حربي: هل هذا هو الذي يجعل البعض يطالب بإحياء التراث وبعثه في مقابلة التغريب التآمري القادم من الغرب؟
نصر أبو زيد: ليس المطلوب بعث مرحلة تامة، ولا إحياء التراث أو بعثه من جديد؛ لأن هذا الإحياء يعني أن أظل مشتركًا معه في حلول مشاكل الماضي، المطلوب قتل القديم فهمًا، وإنتاج وعي علمي بهذا التراث بكل جوانبه حتى نعرف ما له مغزًى من هذا التراث يصلح معنا اليوم فنستكمله، ونطوره وما هو مجرد ابن لحظة تاريخية معينة ليس له مغزًى عندنا اليوم، فلا يستحق البعث والإحياء.
محمد حربي:٢ نواصل مع المفكر المصري الجديد الدكتور نصر حامد أبو زيد، رحلة البحث عن المعنى والمغزى والدلالة في أعماق النص التراثي، باحثين معه عن أرض صلبة نغرس فيها أقدامنا، ويستكمل د. أبو زيد معنا رحلة قراءته الجديدة للقديم ومحاولته لمنهجته التراث وفرزه، وهنا يقدم المفكر المصري الجديد رؤيته حول العقلانية والعلاقة بين النص التراثي والواقع.

العقلانية التي تطالب ببعثها في فحص التراث ودرسه، ما طبيعتها؟ هل تعتمد النص التراثي وتفسِّره أم هي تعتمد العقل أساسًا تنطلق منه؟

نصر أبو زيد: العقلانية المطلوبة هنا هي المنهجية العقلية العلمية كما صاغها العقل الحديث بكل إنجازاته وطموحاته للتحرر، والعقل فيها يواجه أمرين هما: الطبيعة والمجتمع ومهمة العقل هي اكتشاف قوانين الطبيعة، وقوانين المجتمع بهدف كشفها ومعرفتها وتوظيفها لخدمة الحياة. وأي قيد على حرية العقل يهدد عملية الاكتشاف ويعيق طرح أي جديد لمعرفة قوانين الطبيعة والمجتمع. وللأسف الشديد فإن العقل العربي مكبل ومُقيد بآلاف القيود اجتماعيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، والحل في رأيي هو تحرير العقل وإطلاقه لكي يتحرك بحرية كاملة كعقل مفكر ينتج المعرفة العلمية!

وتوكيد سلطة العقل على الأسس التي يتعامل بها الناس مع الواقع ليست همَّ المفكر بل هي همٌّ سياسي واقتصادي واجتماعي وديني ومعرفي بالدرجة الأولى، ولن يتم هذا التأكيد إلا بتحقيق ثورة علمية وفكرية مهمتها توعية المواطن بكل أشكال المعرفة الممكنة والضرورية، إذا لم نفعل ذلك فنحن مهددون بمصير كالهنود الحمر الذين جاءهم العلم غازيًا فتعاملوا معه بالأسطورة والخرافة فانقرضوا.

محمد حربي: هل معنى ذلك تنحية فكرة الوسطية كما أرسى قواعدها الشافعي في مجال الفقه والشريعة والأشعري في مجال العقيدة والغزالي في الفلسفة، رغم أن الوسطية هي كما يُقال جوهر الحضارة الإسلامية؟
نصر أبو زيد: أولًا: لا بد من فهم الوسطية الإسلامية فهمًا تاريخيًّا على أنها نتيجة ظروف تاريخية وليست صفة جوهرية للعقل الإسلامي؛ لأنها لو كانت صفة جوهرية لما أنتج العقل العربي الفكر الاعتزالي، ولا أنتج برهانية ابن رشد، هي إذن لا تعد سمة طابعة للإسلام بل هي مفهوم تستخدمه كل قوة سياسية ترى أن مصالحها تحقق مصالح المجتمع كله في لحظة تاريخية معينة.

ثانيًا: الإسلام ليس دين الوسطية، نحن لا نعرف ملابسات النص التاريخية (أسباب النزول)، وكنتم أمة وسطًا كلمة لغوية لا تحدد مذهبًا فكريًّا، تحدد التاريخ لا المنهج الفكري، بمعنى أننا أمة جاءت قبلها أمم وسيأتي بعدها أمم، أي الوسطية بالمعنى التاريخي.

ثالثًا: وكيف يكون الإسلام وسطيًّا وهو دين جاء ليلغي جميع الآلهة ويدعو إلى الله، الإله الواحد فما هي الوسطية في ذلك؟ ثم إن الإسلام جاء ينادي بالمساواة بين البشر: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى» فأي وسطية في ذلك؟

في إطار العلاقة بين النص والواقع نطرح سؤالًا حول قراءة هذا النص التراثي كله، فنحن لا نقرأ قراءتنا الخاصة ولكننا نقرأ التراث عبر بوابات الآخرين من المفسرين والشراح القدامى، فمتى نقرأ قراءتنا الأولى، وما هي المنطلقات الخاصة بنا التي نرتكز عليها، وهل نلغي في فصل القراءة ما قد سبق من قراءات السلف؟

أولًا قراءات القدماء بدءًا من ابن عباس وصولًا لسيد قطب قراءات يلتبس فيها الفهم والتفسير بالأيديولوجيا، ويجب أن نقرأ هذه القراءات تاريخيًّا، وعلينا أن نُدرك ما فيها من أسلوب علمي وكيفية استخدام هذا الأسلوب العلمي لتأكيد موقف فكري معين، ولا بد من قراءة هذه التفسيرات قراءة نقدية واعية إطلاقًا لمبدأ الفهم خصوصًا وأن هذه النصوص لم تقرأ في سياقها التاريخي وكذلك تفسيراتها باعتبارها نصوصًا تاريخية، وقد قمت بقراءة استكشافية فرقت فيها بين ثلاثة أنماط من الدلالة في النص:
  • أولًا: الدلالة التاريخية فهناك نصوص هي مجرد شواهد، أي إنها تشير فقط إلى وقائع تاريخية وليس لها الآن دلالة في سياق الواقع المعاصر. وللأسف الشديد نرى الخطاب الديني يُعيد طرح مثل هذه النصوص الخارجة عن سياق الواقع، مثل مفهوم العبودية والحاكمية ويستخدم في هذا الطرح الأدوات التعبيرية ذات الطبيعة التاريخية.
  • ثانيًا: الدلالة المجازية: فهناك من التعبيرات في النصوص ما يجب أن تفهم فهمًا مجازيًّا، ولا بد أن تُفسر مثل هذه التعبيرات مجازيًّا.
  • ثالثًا: نمط الدلالة الذي يُمكن أن يكون له مغزًى في الواقع المعاصر. وهنا تقع دائرة الاجتهاد والتشريع الذي يقوم على عدة شروط على رأسها أن أعرف اتجاه النص، ولن أعرف اتجاه النص إلا إذا ربطت النص بواقعه وعرفت مستويات دلالات النص وهل هي دلالات تاريخية أم ذات مغزًى يصلح للحاضر.
محمد حربي (مقاطعًا): ما معنى اتجاه النص؟ وكيف يمكن اكتشافه؟
نصر أبو زيد: لنأخذ مثلًا قضية المرأة وننظر إلى النص ونسأل: هل هو مع تحرير المرأة؟ أم مع فرض مزيد من السيطرة عليها؟ إذا قمت بهذا القياس أو السؤال فإنني أسعى إلى إدراك اتجاه النص أو موقف النص المبدئي من قضية ما (قضية المرأة هنا)، فإذا قررنا أن الإسلام مع تحرير المرأة، فإن الاجتهاد التشريعي هنا لا بد أن يكون في هذا الاتجاه.

فالإسلام عندما جاء قال: «المؤمنين والمؤمنات» وفرَّق بين الرجل والمرأة ولم يجمعهما في سلة واحدة، أي إنه أعطى للمرأة مكانة مستقلة، ولم يكن هذا مطروحًا في الثقافة الجاهلية إلا في شعر الصعاليك. ثم قدَّم الإسلام من خلال أحكامه مزايا عديدة للمرأة، مثل أنه جعلها ترث ولم تكن ترث، وجعلها متحكمة في مالها ولم تكن كذلك قبله. وكان العرب المتلقون للنص يقولون: كيف نورث من لم يحمل سيفًا ولم يركب فرسًا ولم يقتل عدوًّا: ونحن نستخلص من ذلك أن النص مع تحرير المرأة، واجتهادي أي يجب أن يكون في هذا الاتجاه.

محمد حربي: هذا الاجتهاد من يقوم به في ظل الغيبوبة الفكرية؟
نصر أبو زيد: حقيقة لست أعرف، ولكن كلما ضاقت الحلقة ربما تنفرج، وللأسف الشديد فإن سيادة الفكر الجامد ليست بسبب أصالة هذا الفكر، بل لأن بعض المفكرين حولوا طاقاتهم الفكرية إليه بعد فشل المشروعات الفكرية الأخرى، وبسبب الجهل والأمية المتفشية ومناهج التعليم والإعلام التي تُفرِّخ الإرهاب والتطرف أكثر مما تطرحه الجماعات الدينية المتطرفة والذي لا يصدق عليه أن يرجع لنصوص القراءة والتربية الدينية في المدارس، وعليه أن يتابع البرامج الدينية في الإذاعة والتلفزيون وينظر ماذا يرى؟!
محمد حربي: سؤالنا الأخير: لمن تكتب يا دكتور نصر: للصفوة أم للناس؟
نصر أبو زيد: هذا السؤال يظل طول الوقت سؤالًا محيرًا ومُلحًّا على كل مثقف يكتب ويطمح لتحقيق أي نوع من التأثير في كتاباته، وأنا مُتفق معك تمامًا على أننا نكتب للصفوة والخاصة والنخبة المثقفة للأسف الشديد، ولكن ذلك بحكم عوامل أخرى على رأسها الأمية، فدرجة الأمية الأبجدية عالية جدًّا ودرجة الأمية الثقافية أعلى، فماذا يفعل المثقف إزاء هذه الأمية، وماذا يكتب ولمن يتوجه بالخطاب وكيف يحدث تأثيرًا وكل أدوات التأثير بسبب الأمية صارت غير الكتاب وصار الكتاب آخر أدوات التأثير.

وربما لأنني أدرِّس في الجامعة فقد توصلت لصيغة علاقة مع الطلاب قد تخفف عني بعض الشيء حدة وخطورة هذا السؤال، ولكنه يظل واردًا وخطيرًا … لمن نكتب؟

وأعتقد أنه لا حل ولا إجابة لهذا السؤال وهذا الشكل الثقافي الكبير والخطير إلا بإيجاد تنظيمات وشعبية.

محمد حربي: وبعد، فهذا الحوار مع مفكر مصري يولد على ساحة الفكر والبحث الجاد والأصيل، لا يهدف لإخراج كل ما في جعبته من أفكار مختلفة ورؤًى مغايرة؛ لأن ذلك لا يفعله حوار، ولكننا نهدف — دون أن نُصادر حق القارئ — إلى وضع مقدمة للقراءة له ولغيره من المفكرين الذين يجتهدون فلا يجب أن نصم آذاننا ولنقرأ، فكل شيء قراءة!

(٢) المشهد الفكري في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي

مجلة العربي: غني عن التعريف، له من اسمه «العالم» النصيب الأوفى، يتعانق في ممارساته الفكرية والإبداعية «النظر» و«العمل»، دون أن ينتمي إلى مفكري «البرج العاجي»، ولا إلى «نفعية» رجل السياسة، قادر دائمًا على ممارسة «النقد الذاتي» على المستويين النظري والعملي، ولعل هذا هو الذي مكَّن له سبيل الحماية من التقهقر عمَّا يؤمن به، فلم يرتحل من «اليسار» إلى «أقصى اليمين» كما حدث لبعض أقرانه، ولم يدخل في سلسلة «التنازلات» اندماجًا في «الأمر الواقع» كما حدث ويحدث للكثيرين. إنه مفكر صهرته التجارب، وعلمته الحياة أن الفكر إن لم يكن متجذرًا في أرض الواقع جنح إلى اليوتوبيا، وإن استغرقه الواقع المباشر اليومي والمتجزئ صار «أيديولوجيًّا». هذه الحياة الثرية التي تمتد من الجامعة إلى المعتقل، ومن رئاسة مجلس إدارة أكثر من مؤسسة صحفية وثقافية «دار الكاتب العربي، ومؤسسة المسرح والموسيقى، وأخبار اليوم» إلى المعتقل مرةً أخرى. هاجر من الوطن حيث عمل في إنجلترا في كلية القديس أنطون، ثم رحل إلى باريس حيث عمل مدرسًا، فأستاذًا مساعدًا بجامعة باريس، وهناك قام بإصدار مجلة شهرية باسم «اليسار العربي»، ثم عاد إلى مصر عام ١٩٨٤م. يشرف على إصدار «قضايا فكرية» كتاب غير دوري، وقد أصدر منه أربعة عشر عددًا، وما زال يواصل كتاباته النقدية والفكرية والسياسية. رحلة مع الحياة والفكر جاوزت السبعين عامًا جديرة بأن تثمر عطاءً مترامي الأطراف في مجالات عدة كانت محور هذا الحوار الذي نقدمه اليوم للقارئ العربي، وقد أداره أستاذ الأدب والمفكر العربي المعروف الدكتور نصر حامد أبو زيد …
نصر أبو زيد: يمتد نشاط محمود أمين العالم، الفكري، ليشمل الفلسفة والفكر السياسي والنقد الأدبي والإبداع الشعري، من «فلسفة المصادفة» إلى «في الثقافة المصرية» و«تأملات في عالم نجيب محفوظ»، تتنوع الكتابات بين «معارك فكرية» و«الثقافة والثورة» و«الوجه والقناع في المسرح العربي المعاصر» و«توفيق الحكيم مفكِّرًا وفنانًا»، ويطول بنا المقام لو عكفنا على تعداد إسهاماته في مختلف المجالات.

لكن أهم ما يميز محمود أمين العالم أنه ينتج خطابًا «مفتوحًا»، ولعل هذا سر الاحترام الذي يتمتع به من خصومه قبل مريديه، والخطاب المفتوح هو نقيض الخطاب المغلق المتعصب؛ لأن الأول يتجدد من داخله بحكم قدرته على نقد ذاته والاستماع إلى نقد الآخرين، في حين أن الخطاب الثاني يتآكل بفعل الصدأ الناتج عن عدم قدرته على التجدد والنمو، ولأن خطاب العالم من النوع الأول، فإنه يتمتع على المستوى الشخصي بحيوية ونضارة يحسده عليها الشباب، حيوية العاشق للحياة ونضارة العقل المتفتح دومًا للجديد والقادر دائمًا على النفي والإلقاء بكل ما يثبت زيفه إلى سلة المهملات، من الأسف أن المجال لم يتسع لأكثر من هذه الأسئلة السبعة المتشعبة في حوارنا مع الرجل الظاهرة، مدَّ الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية …

السؤال الذي يفرض نفسه: هل يعني انهيار الاتحاد السوفييتي كدولةٍ انهيار المنظومة الاشتراكية والوصول إلى نهاية التاريخ كما زعم فوكوياما؟ وما هو مستقبل المنظومة الفكرية للاشتراكية فيما يسمى «النظام العالمي الجديد»؟

محمود أمين العالم: لقد انهارت المنظومة الاشتراكية بالفعل بانهيار الاتحاد السوفييتي ودون أن ينفي هذا استمرار وجود تجارب ونماذج اشتراكية في الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام وكوبا، فضلًا عن وجود أحزاب شيوعية واشتراكية ديمقراطية في كل بلدان العالم الرأسمالي، بل في روسيا نفسها وبعض بلدان القوميات التي كانت مندرجة في الاتحاد السوفييتي، أو في إطارها إلى جانب بعض بلدان العالم الثالث، وهناك أنشطة وندوات ومؤتمرات ومهرجانات تُجرى وتنعقد في أنحاء عديدة من العالم تحت راية الاشتراكية والماركسية، والماركسية لا تزال مادة دراسية ومنهج بحث في مختلف جامعات العالم، والكتابات عن الماركسية لا تزال تتصدى لقضايا الواقع الراهن، سواء في المجلات الماركسية التي تنشر في مختلف لغات العالم، أو في بعض الكتب والدراسات الجديدة، فأنا أقرأ هذه الأيام كتابين مهمين، أحدهما للمفكر الفرنسي باليبار بعنوان «فلسفة ماركس»، والآخر للفيلسوف دريدا عن أشباح ماركس، على الرغم من اختلافهما منهجًا ورؤية، فكلاهما يناقش دلالة الماركسية واستمرارها كفكر نقدي أو كممارسة ثورية. إن التاريخ بالطبع لم يصل إلى نهايته — إذا كانت له نهاية اللهم إلا نهاية كونية فاجعة — وما يقوله فوكوياما هو موقف فكري أيديولوجي يسعى به لتكريس وإعطاء مشروعية كلية مطلقة للنمط الليبرالي الرأسمالي. على أن الصراع الطبقي لم يتوقف على مستوى كل بلد وعلى مستوى العالم أجمع، ويتخذ هذا الصراع أشكالًا مختلفة وطنية وقومية وعرقية وأيديولوجية، والنظام الذي يسمى بالجديد لم تتحدد معالمه النهائية بعد، فالعالم يمر في مرحلة انتقال معقدة تعاد فيها صياغة أشكال العلاقات والهيمنة الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية، ويتداخل فيها مفهوم الهيمنة بمفهوم المشروعية الدولية، ولا تزال الاشتراكية كخبرة وفكر وأفق وصراع تشكل قسمة من قسمات الواقع الراهن، وإن تكن قد فقدت مكانتها السابقة بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، على أن مستقبل الاشتراكية رهن بتطور الصراعات العالمية الوطنية والاقتصادية والمصلحية عامة، فضلًا عن الدور الكبير الذي تلعبه اليوم الثقافة عامة والعلم والتكنولوجيا بوجه خاص، وأتوقع قيام أممية جديدة يغلب عليها الطابع الشعبي الديمقراطي، ولا تكون خاضعة لمركز واحد، كما الشأن من قبل، بل تكون أقرب إلى التحالف مع مختلف القوى الديمقراطية والوطنية والتقدمية في العالم بما في ذلك قوى السلام وحقوق الإنسان والقوى المدافعة عن البيئة إلى غير ذلك. ولن يتخذ الأمر صورة استقطاب بين شمال وجنوب، ففي الشمال جنوب كما أن في الجنوب شمالًا، وإنما سيكون نضالًا عالميًّا مشتركًا من أجل دمقرطة العلاقات العالمية، والقضاء على الهيمنة والتسلط، وإقامة نظام عالمي يقوم على التكافؤ والتنوع والتعدد والتضامن الإنساني، ولن تكون الاشتراكية بعيدة عن المشاركة في صياغة هذا النظام العالمي الجديد.

الإسلام كبديل حضاري

نصر أبو زيد: «الإسلام» مطروح كبديل أيديولوجي لمفهوم «العدو» في النظام العالمي الجديد، كما أنه مطروح من جانب جماعات الإسلام السياسي بوصفه «بديلًا حضاريًّا» للنظام العالمي. ما رأيك في هذه الإشكالية، خاصة وقد أشرفت على إصدار كتابين بينهما خمس سنوات كان أولهما بعنوان «الإسلام السياسي»، وثانيهما بعنوان «الأصولية الإسلامية»، وما الفرق بين المصطلحين في دلالتهما الزمنية والتاريخية في الكتابين؟!
محمود العالم: في تقديري أن هناك محاولة أيديولوجية مقصودة تبذلها القوى الرأسمالية العالمية المهيمنة لتضخيم ما يسمونه بالخطر الإسلامي واعتباره العدو الأيديولوجي البديل بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. لا شك أن في العالم الراهن صدامات وصراعات دينية وعرقية وقومية وثقافية، نتيجة لاختلال التوازن الدولي الراهن، وانهيار الحدود والأنظمة السياسية التي تشكَّلت نتيجة لاتفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية، فضلًا عن تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وازدياد الهيمنة الأمريكية على مناطق عديدة في العالم، والحركات الإسلامية السياسية جزء من هذه الظاهرة الشاملة، ولكن … في تقديري أن النظام الرأسمالي العالمي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى لتضخيم ما تسميه بالخطر الإسلامي الذي يهدد الحضارة الأوروبية، كجزء من الأيديولوجيا التي تخفي بها عدوانيتها العالمية من ناحية، وكجزء من سياستها العالمية كذلك لإدارة أزمتها من ناحية أخرى، فليس خافيًا ما تعانيه البلدان الرأسمالية من أزمة اقتصادية حادة، ومن صراعات فيما بين بعضها البعض، والواقع التاريخي والعملي يشهد أن البُلدان الرأسمالية، وبخاصة أمريكا، على علاقة طيبة مع البلدان الإسلامية في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بل كانت وراء إنشاء بعض الأحلاف الإسلامية في الماضي، أما حركات الإسلام السياسي ذات الممارسات الإرهابية، فإنها — موضوعيًّا وبصرف النظر عن نوايا قواعدها — تغطي على الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادها وتشغل هذه البلاد عن قضاياها الأساسية، بما تستفيد منه الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد بدعم مشروعيتها، وهذا ما تستفيد منه كذلك الدول الرأسمالية في إدارتها لأزمتها، وهناك من الشواهد التي تدل على تغذية بعض الدول الرأسمالية هذه الجماعات الإسلامية بالمال والسلاح بشكل مباشر أو غير مباشر.

هذا عن الشق الأول من السؤال، أما عن الشق الثاني حول الفرق بين كتاب «الإسلام السياسي» وكتاب «الأصولية الإسلامية»، فلعل الكتاب الأول قد غلبت عليه الدراسة الخارجية للظاهرة رغم توافر بعض الدراسات التحليلية الداخلية، على حين غلبت على الكتاب الثاني الدراسات التحليلية الداخلية رغم توافر بعض الدراسات الخارجية، فضلًا عن دراسة بعض جوانب الظاهرة التي لم تتم دراستها في الكتاب الأول. والواقع أن هناك إشكالية تحتاج إلى مزيد من البحث بين التعابير النظرية والتجليات العملية لهذه الظاهرة الإسلامية السياسية.

مستقبل نظرية الانعكاس

نصر أبو زيد: يتصل بالمنظومة الاشتراكية جانبها النقدي في مجال نظرية الفن والأدب: هل لا يزال لنظرية «الانعكاس» أي مشروعية؟ وهل التطورات الأخيرة في «علم اجتماعية النص» خروج من أسر «الانعكاس» أم تطوير له؟
محمود أمين العالم: في تقديري أن نظرية الانعكاس قد أسيء فهمها من ناحية كما أسيء استخدامها من ناحية أخرى، فليس في هذه النظرية ما يعني الانعكاس المرآوي كما توحي كلمة الانعكاس، بل هي تتضمن ببساطة أن الأدب والفن ليسا منبتَّين عن الواقعين الاجتماعي والتاريخي اللذين نشآ فيهما ومنهما، بل هما ثمرة لهما، لا ثمرة مباشرة، بل ثمرة ممارسة حية في هذين الواقعين الاجتماعي والتاريخي. وفضلًا عن هذا فالأدب والفن، لا يعبران عن الواقع بلغة الواقع الذي يصدران عنه، وإنما بلغة الأدب والفن، وبالتالي فهما، في الحقيقة إبداع، أو إعادة رؤية للواقع في جوهره لا في مظهره، بل إعادة اكتشاف جمالي له، أي إبداع لواقع جديد مستلهم من الخبرة الحية للواقع القائم، ولهذا فمفهوم الانعكاس لا يعني المطابقة، لا في الأحداث، ولا في اللغة، ولا في البنية، ولا في الإيقاع، فلكل من الأدب والفن بنيته الخاصة ولغته الخاصة، ورؤيته الخاصة وإيقاعه الخاص. إن الأدب سواء بسواء، كالفن، ابن لسياقه ومشروط بهذا السياق، دون أن ينفي هذا خصوصيته الإبداعية أو الخلق في المنطق الديني، أي ليس إبداعًا أو خلقًا من عدم، على أن نقيصة مفهوم الانعكاس ليست في المفهوم نفسه — كما ذكرت — وإنما في فهمه الميكانيكي الضيق من ناحية، وفي تطبيقه الميكانيكي الضيق كذلك من ناحية أخرى، فضلًا عن انحساره في أحكام يغلب عليها الطابع الإطلاقي والأحادي الجانب والعمومية، وإن كنت لا أنكر كذلك أن وراء الحملة على مفهوم الانعكاس — عند البعض — محاولة لطمس الدلالة الاجتماعية والتاريخية للأدب والفن باسم استقلاليتها المطلقة. أيًّا ما كان الأمر فلا شك أن علم اجتماع النص هو امتداد للمفهوم العميق للانعكاس مع تغذيته بأساليب إجرائية تتيح له كفاءة أقدر في التعرف على أسرار البنية الداخلية والدلالة الخبيئة للأعمال الأدبية والفنية والفكرية عامة في إطار سياقاتها الخاصة، وإن كنت أرى أن علم اجتماع النص ينجح نجاحًا باهرًا في مجال الأقوال والنصوص الفكرية، أما النصوص الأدبية والفنية فإنها تستفيد من هذه الدراسة الاجتماعية النصية لكشف الدلالة، ولكن يبقى الجانب الجمالي الفني الذي لا تكتمل المعرفة به إلا بصياغة إجرائية موحدة تجمع بين هذه الدراسة التحليلية الدلالية والرؤية التركيبية الجمالية.

في الثقافة المصرية

نصر أبو زيد: «في الثقافة المصرية» بيان واقعي مرجعي مهم في تاريخ الثقافة العربية، بعد مرور حوالي أربعين عامًا على طبعته الأولى: فيمَ يتمثل القصور الأساسي في هذا الكتاب من منظور «النقد الذاتي» والمراجعة المنهجية اللتين تعودناهما من الأستاذ العالم؟
محمود العالم: لعلنا، د. عبد العظيم أنيس وأنا، قد أجبنا عن هذا السؤال في الطبعة الثالثة المصرية لهذا الكتاب، فأولًا: هذا الكتاب لم يؤلف ككتاب، وإنما كان مجموعة مقالات متفرقة قام د.عبد العظيم بجمعها وتنسيقها عندما كان في بيروت في منتصف الخمسينيات، وأسهم معه في هذا الصديق محمد دكروب. وثانيًا: إن هذه المقالات كتبت في مرحلة صراع وطني واجتماعي وديمقراطي كان محتدمًا في السنوات الأولى من الخمسينيات، وكانت مقالات هذا الكتاب، تعبيرًا — في مجال هذا الصراع، النقد الأدبي وبأدواته — عن … ولهذا غلب على مقالاته الطابع السياسي في كثير من الأحيان، فالكتاب ابن لحظة كان فيها النقد الأدبي بُعدًا من أبعاد الصراع الفكري العام الدائر في المجتمع عامة، وفضلًا عن هذا فقد كنا نمتلك آنذاك رؤية نظرية في النقد الأدبي أكثر مما كنا نمتلك أدوات إجرائية في تطبيق هذه النظرية، ولهذا غلب على هذه المقالات طابع الأحكام العامة، وكانت العناية بإبراز المضمون — لا مجرد الموضوع كما يقال — أكبر من العناية بإبراز القيمة الجمالية والفنية، وليس تبريرًا أن أقول: إن هذا كان هو الطابع الغالب على المدارس النقدية ذات التوجه الاجتماعي في هذه المرحلة من تاريخ النقد الأدبي على المستوى العالمي، ولعلنا تجاوزنا ذلك إلى حد ما فيما كتبناه من نقدينا بعد هذه المرحلة.
نصر أبو زيد: بماذا تفسر ظاهرة غياب «الحوار» بين الاتجاهات النقدية المختلفة، إذ يبدو أن كل اتجاه يسير متجاهلًا غيره من الاتجاهات، هل يرتد ذلك إلى ظواهر في بنية الثقافة، أم يرتد إلى بنية سياسية اجتماعية؟
محمود العالم: لعل هذا يرجع إلى الأمرين معًا، فهو من ناحية يرجع إلى ضآلة الفكر النظري عامة في المجتمع، وبالتالي ضآلة الحوار النظري عامة سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي، فلا يزال التعبير «بلاش فلسفة» هو السائد مع الأسف في حياتنا عامة، ولا شك أن ذلك ثمرة الأوضاع العامة السائدة التي يغلب عليها الطابع العملي البرجماتي النفعي، «اللي تكسب به العب به»، ولهذا يسود منطق الربح والإزاحة والاستعلاء والغلبة والاستغلال والتسطح والابتذال، ولا يختلف الأمر في مجال الثقافة، فهناك ثقافة التلقين والأوامر لا ثقافة التفاهم والتحاور، فضلًا عن سيادة الاتجاهات المتعصبة الإطلاقية التي تكفِّر كل من يختلف معها في الرأي، بل يصل الأمر إلى حد الاغتيال والإزاحة البدنية، ولعلك كنت وما زلت يا دكتور نصر واحدًا من ضحايا هذا الفكر، أتمنى ألا يصل إلى مداه معك! على أن هذا لا ينفي أن هناك بعض الندوات والمنابر والمجامع الثقافية التي تتيح قدرًا من الحوار المتحضر، ولكنها مع الأسف جزر معزولة نتمنى أن تتسع لا في مجال الأدب وحده، وإنما تصبح ظاهرة مجتمعية شاملة.

أزمة المنهج

نصر أبو زيد: آخر كتاب صدر يتناول أزمة «المنهج» هو كتاب سيد البحراوي: تناول فيه بالتحليل «الديوان» و«في الشعر الجاهلي» و«مقدمة لويس عوض لترجمة برومثيوس طليقًا» ثم «في الثقافة المصرية»، ما تعليقكم على مسألة أزمة المنهج، وهل يمكن إيجاد ما يسمى «منهج عربي في النقد»؟
محمود العالم: مع تقديري العميق لاجتهادات الدكتور سيد البحراوي، ودأبه في البحث عن منهج نقدي جديد، فإنني أختلف معه في مسألة أزمة المنهج، التي لا يقصد بها تخلفًا للمنهجية النقدية، بقدر ما يقصد انتسابها إلى المناهج الغربية وتبعيتها، وهي دعوة يغلب عليها — في تقديري — الطابع الشوفيني القومي، فما نسميه مناهج غربية في النقد الأدبي هي مناهج لها قيمتها الكلية، فرغم صدورها عن مجتمعات أوروبية أو أمريكية فهي تنتسب إلى النقد الأدبي كبنية نظرية موضوعية لتناول الظاهرة الأدبية، لا شك أنها تحتوي على جذور قومية؛ لأنها صادرة عن خبرة ثقافية قومية بالضرورة، ولكن هذا لا ينفي موضوعيتها، حتى المناهج العملية الدقيقة في مجال الفيزياء مثلًا نستطيع أن نتبين في جذورها عناصر ذاتية أو أنثروبولوجية عامة، فما بالنا بالعلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع فضلًا عن النقد الأدبي! علينا أن نسعى للقضاء على الجذور الذاتية، لتأكيد وتعميق علميتها، لا أن نتهمها بأنها مجرد جزء من نسيج ذاتي أو قومي، وأن نتهم كل من يستفيد منها بالتبعية، إنها تراث إنساني عام رغم نشأتها في سياق قومي معين، والمهم أن نحسن الاستفادة من هذه المناهج وأن نحسن تطويعها مع الطبيعة الخاصة لإنتاجنا الأدبي، أي لخصوصيتنا القومية والإبداعية.

وأزعم أن كثيرًا من المناهج النقدية في بلادنا العربية قد استفادت من هذه المناهج الأوروبية والأمريكية وطوَّعتها بالفعل في التطبيق النقدي لخصوصية نصوصنا الإبداعية، وحققت بهذا إضافات نقدية تطبيقية جيدة، والغريب أن الدكتور سيد يمتدح النقاد الذين يتمسكون بالمناهج التقليدية والذين كفوا عن متابعة أي جديد في ساحة النقد الأوروبي، وهي دعوة في الحقيقة للكف عن الاستفادة بالخبرات العلمية الجديدة! وإن كان في الوقت نفسه يمتدح نقادًا آخرين يتعاملون مع الجديد في النقد الأدبي الأوروبي بوعي — على حد قوله — ويستفيدون بتطوير خبرتهم الخاصة، وما أعتقد أن معظم المدارس النقدية التي ينتقدها في كتابه إلا تعبير — مع اختلاف مستوياتها — عن هذا الاتجاه الذي ينادي به! مرحِّبًا بأي اكتشاف جديد في النقد الأدبي وفي غير النقد الأدبي، ولكن الأمر لا يتحقق بالتنكر للمكتسبات الإنسانية في مختلف المجالات العلمية والاستغناء عنها باسم القطيعة المعرفية، أو باسم التحرر من التبعية، وليس في هذا قطيعة معرفية، بل هي قطيعة عن المعرفة! فالقطيعة المعرفية لا تعني القطع بل التمثل والتجاوز، وليس في هذا تحرر من التبعية إنما هو استعلاء قومي، وأصولية وإن اتخذت شكل الأصالة.

تأسيس الوعي العربي

نصر أبو زيد: «دفاعًا عن المادية والتاريخ» لصادق جلال العظم، كان أسرع استجابة عربية لمقولة فوكوياما التي تناولناها في السؤال الأول: هل هو مجرد موقف دفاعي أم إعادة تأسيس للمقولات في الوعي العربي؟
محمود العالم: في تقديري أن هذا الكتاب «دفاعًا عن المادية والتاريخ» يعد تتويجًا رائعًا للمتابعة النظرية العميقة المستمرة التي يقوم بها المفكر صادق جلال العظم للعديد من قضايانا السياسية والاجتماعية والدينية والفكرية، ولكنه في هذا الكتاب يقف في مواجهة التردي النظري الذي أخذ يرين على العالم كله وينعكس بالتالي على كثير من مثقفينا، إنه يقدم رؤية عقلانية موضوعية نقدية دقيقة للعديد من الحقائق النظرية في المجال الفلسفي واللغوي والأدبي والمنهجي عامة التي يسعى بعض المفكرين في العالم إلى تمييعها وطمس حقيقتها، ولهذا فهو كتاب سجالي مع أغلب الفلسفات المعاصرة في العالم، وصياغته الحوارية تساعد على إبراز الطابع النقدي، وهو تقليد من أرقى التقاليد الفلسفية منذ محاورات أفلاطون، ولعله — بدون مغالاة — أن يكون من أنضج ما ظهر من كتب في المكتبة العربية خلال السنوات الأخيرة، وهو صورة شامخة للفكر العربي في تحاوره مع أرقى مستويات الفكر العالمي على مستوى من الندية والكفاءة والعمق والذكاء.

وهو رمز لما ينبغي أن يكون عليه موقفنا من الفكر العالمي، لا أن يكون القطع والقطيعة والاستعلاء، بل أن نحسن استيعاب هذا الفكر، وأن نحسن الحوار معه على أرض من التكافؤ والوعي الصادرين عن خبرة ذاتية خاصة، هذا نموذج في الثقافة ما أجدر أن نحاول تعميمه في السياسة والاقتصاد ومختلف معاملاتنا مع الفكر الغربي والشرقي، إنه كتاب مشرف للعقل العربي المعاصر، ما أحرانا أن نقيم حوله ندوة عربية لحوار جاد شدَّ ما نفتقده.

(٣) لماذا غادرت مصر؟

محمود الورداني:٣ أثناء حضوري ندوة «الأدب وحرية وسائل الإعلام وحقوق الإنسان في المجتمعات الإسلامية» التي نظمتها أكاديمية لوكوم في هانوفر الشهر الماضي، التقيت على هامشها الدكتور نصر حامد أبو زيد.

ومنذ خروج أبو زيد من القاهرة قبل عام وفي أعقاب الحكم بالتفريق بينه وبين زوجته ابتهال يونس، الأستاذة في جامعة القاهرة، ثم إهدار دمه، منذ هذا الوقت وهو يتنقل بين دول ومدن أوروبية عدة من إسبانيا إلى ألمانيا إلى هولندا، التي استقر فيها أستاذًا في قسم الدراسات الإسلامية.

زاد وزن أبو زيد كثيرًا لكنه يعمل كثيرًا كما أخبرني، قال: إن الموقف ما زال عصيبًا غير أنه استطاع أن يتغلب على الوضع المتوتر الدائم بالعمل المتواصل، لقد تعلَّم أخيرًا أن يعمل على الكمبيوتر الذي اكتشف أنه أشبه بالسحر المنظَّم وهو يوفر وقتًا وجهدًا هائلين.

في هذا الحوار الذي جرى معه في إحدى حجرات أكاديمية هانوفر في ألمانيا يحكي أبو زيد وقائع مغادرته مصر والظروف الدقيقة التي وجد نفسه فيها، وكيف يعيش الآن ومشروعاته وعمله ومستقبله مع زوجته بعدما واجها معًا واحدة من أخطر القضايا الحياتية والفكرية بصلابة وحسم.

يتردد أن مغادرتك مصر وقرارك بالعمل في جامعة لايدن في هولندا يُعدَّ نوعًا من الهروب من المواجهة بعد الحكم الصادر بتفريقك عن زوجتك، ما رأيك؟

نصر أبو زيد: المواجهة فكرية عبر ثلاث أدوات أساسية: الأولى أنني كاتب وأنشر كتبي وأبحاثي، والثانية أنني أدرِّس في الجامعة، والأخيرة مشاركتي في الندوات مثلًا أو عبر الأحزاب والتجمعات المختلفة.

وبعد صدور الحكم والتهديد بالقتل الذي نُشر في الحياة زودتني الدولة بحراسة شديدة في البيت، ومن قواعد هذه الحراسة أن يرافقك الأمن إلى أي مكان تذهب إليه، وعندما يأتيك زائر لا بد أن يمرَّ على الأمن، يعني حياة ليست لطيفة على الإطلاق.

تحمَّلت هذه الحياة ولم أتخذ قرارًا بالسفر إلا عندما ناقشت إحدى الرسائل الجامعية عن حسن حنفي وعابد الجابري أعدَّتها إحدى طالباتي وكنت مشرفًا عليها وتم تحديد موعد المناقشة من قبل، حاول الأمن تأجيل ذهابي لكنني صممت. كنت أركب سيارتي ومعي رجال الأمن، فضلًا عن سيارة حراسة أخرى، وذهبت إلى الجامعة حيث فوجئت بالحرس ينتشرون في كل مكان، دخلت إلى كلية الآداب عبر الجهاز الذي يجب أن يمرَّ عليه كل واحد للكشف عما إذا كان يحمل أسلحة، لم يكن منظر هذه الحراسة مما يمكن احتماله.

كان هذا الموقف بالغ الصعوبة. هل من الممكن أن يستمر الوضع على هذا النحو. كلما خرجت وذهبت إلى جامعتي أدركت أنني لن أستطيع تحمل هذا الوضع، كما أن الجامعة لا تستطيع أيضًا تحمُّله، وفي هذا اليوم عرفت أن جزءًا كبيرًا من فعاليتي ونشاطي، وهو التدريس في الجامعة، قد تم استئصاله، إذًا أنا محبوس وعمليًّا مسجون، إذا خرجت للتريض مثلًا أو زيارة أحد أصدقائي أو السهر معه فلا بد أن تكون الحراسة معي، ترافقني.

الحقيقة أنني تعودت مع تلاميذي الذين لم يكن ممكنًا أن أعيش بعيدًا عنهم سواء في قاعة المحاضرات أو في الممرات أو في حجرة الأساتذة لم يكونوا يفارقونني حتى أزعق فيهم ليتركوني دقائق. العلاقة بيني وبينهم كانت دائمًا تتجاوز العلاقة التقليدية بين التلميذ والأستاذ، لتصبح علاقة بين أصدقاء أو باحثين يعملون معًا.

كيف يمكن لي أن أعيش إذن؟

ليكن ما شعرت به مسألة عاطفية أو رومانسية أو سمِّها ما شئت لكنني لم أستطع أن أتحمل دخولي للجامعة على هذا النحو وحصار الجامعة على هذا النحو وإبعاد الطلبة عني على هذا النحو.

محمود الورداني: هل ظلت علاقتك إذن بطلابك محتفظة بالحرارة نفسها حتى بعد صدور الحكم؟
نصر أبو زيد: الحكم صدر أثناء الإجازة الدراسية وفي نهاية الامتحانات السنوية، تحديدًا في ١٥ يونيو وكنت أستعد لتصحيح المسابقات في البيت كما جرت العادة. وقلت لنفسي ما العمل إذا كان هذا هو ما جرى في الجامعة خلال الإجازة الصيفية وأثناء مناقشة الرسالة؟ وما الذي يمكن أن يحدث أثناء السنة الدراسية؟

ورحت أتساءل بيني وبين نفسي: إذا اتخذت الجامعة قرارًا بإبعادي عن التدريس على أساس أنه لا يمكنني التدريس وسط ظروف الحصار. وإذا صمَّمت على الاستمرار في الدراسة فإن هذا يمثِّل ضغطًا على الجامعة، التي تتعرض في الوقت نفسه لضغوط شديدة من المتطرفين لفصلي بعد صدور الحكم بالتفريق.

هل تعرف أن أحد الأساتذة واسمه نصر موافي قدَّم طلبًا في أول اجتماع للقسم يطلب فصلي، وهذا الشخص في المناسبة كان أحد تلاميذي.

وهكذا لم أرد من ناحية أن أدخل في صراع مع الجامعة، ومن ناحية أخرى كنت محتاجًا إلى تخفيف الصراع معها ومحاولة تقليل الضغوط التي تتعرض لها.

محمود الورداني: هل كان يمكنك الاستمرار في العمل داخل منزلك؟
نصر أبو زيد: منذ صدور الحكم وفرض الحراسة على منزلي وعشرات الأصدقاء والتلاميذ يزورونني، بل إن الصالة لم تكن تخلو من الناس منذ استيقاظي وحتى المساء، هذا فضلًا عن ظروف الحراسة نفسها وما تفرضه عليك من شروط، فمثلًا في إحدى المرات فوجئ رجال الأمن بأتوبيس يقف أمام الباب وخرج منه عشرات الطلاب، وأنت تعرف أنني أسكن في ضاحية بعيدة عن القاهرة، جمع هؤلاء الطلاب والأصدقاء أنفسهم واستقلوا باصًّا وجاءوا يزورونني مما دفعني للخروج إليهم والترحيب بهم أمام البيت والاعتذار لهم.

كانت زوجتي ابتهال ستحصل على منحة إلى إسبانيا قبيل الحكم بالتفريق. مرَّ شهرا يونيو ويوليو وأدركت أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر واتفقنا — زوجتي وأنا — ما دامت هي ستسافر إلى إسبانيا من أجل المنحة، وما دامت ضغوط الحراسة والأمن على هذا النحو، على أن نقضي شهر أغسطس في إسبانيا لتستعد لمنحتها.

كما اتفقنا على أن نعلن لكل الناس أننا سنسافر إلى الساحل الشمالي في مصر لقضاء شهر إجازة — وهو الأمر الذي لم يكن ممكنًا من الناحية العملية؛ لأن هذا معناه أن ترافقك الحراسة أيضًا إلى الساحل الشمالي — أما من كان يعرف بقرار السفر إلى إسبانيا فالأمن فقط.

محمود الورداني: تردد أن هناك بعض الجهات المسئولة في الدولة طلبت منك أن تغادر مصر في هذه الظروف.
نصر أبو زيد: لم يحدث مطلقًا، وكل ما جرى أننا لملمنا كل ما نملك وقررنا السفر الذي كان مقررًا من قبل إلى إسبانيا وقضاء شهر معًا قبل المنحة ونفكر أثناءه على مهل في القرار التالي.

وصلنا إلى إسبانيا وكانت درجة الحرارة ٥٠ درجة مئوية، ومع ذلك كنا في أقصى درجات الفرح، بل إننا ألقينا حقائبنا في الفندق وخرجنا في اللحظة نفسها إلى الشوارع للمرة الأولى من دون حراسة.

وبعد مرور الشهر ذهبت ابتهال زوجتي إلى منحتها وتوجهت أنا إلى المكتبة القومية في مدريد، وأثناء بحثي عن بعض كتب التفسير عثرت على ترجمة للقرآن الكريم عام ١٩٢١م صاحبها هندي اسمه محمد أحمد علي ينتمي إلى المدرسة الأحمدية.

محمود الورداني: هل الترجمة إلى اللغة الهندية؟
نصر أبو زيد: لا، إلى الإنجليزية، والحقيقة أنها لم تكن مجرد ترجمة بل تفسير، حيث تضم ما يزيد على ألفين من الشروحات والتفسيرات المرقَّمة. عملت في هذه الترجمة على مدى شهري سبتمبر وأكتوبر.

من ناحية ينتمي هذا التفسير — ولا أقول الترجمة — إلى بداية القرن العشرين أي بعد الشيخ محمد عبده بسنوات قليلة، ومن ناحية أخرى يتعرض لكل مشكلات التحدي المطروحة على الفكر الإسلامي في الغرب، سواء المرتبطة بالمسيحية أو طبيعة المسيح وتأويل السور وقضية الجبر والاختيار والناسخ والمنسوخ من منظور واحد وهو منظور الدفاع عن الإسلام.

في هذه الأثناء كنت بدأت في التحضير لجزء ثانٍ من كتابي «مفهوم النص» وإذا كان الجزء الأول عن القرآن، فإن الجزء الثاني كما كنت أريد سيكون حول السُّنة، وبالفعل كان الاختيار الأول لدراستي للسُّنة هو كتابي عن الإمام الشافعي.

ما حدث أنني تركت كل هذا وتوقفت حائرًا أمام السؤال الآتي: لماذا تتعرض شجرة التنوير للذبول بل والموت كلما نَمَت قليلًا؟ وبدا لي أن جذور الإجابة عن مثل هذا السؤال غائبة عني ويجب أن أناقشها من خلال التفسير. وعثرت أثناء بحثي على كتاب آخر، للطاهر بن عاشور في عنوان «التحرير والتنوير» وهو كتاب في التفسير، وهو مفكِّر تونسي عاش في بدايات القرن أيضًا.

وهكذا تركت مشروعي الأول في البحث في السنَّة وانشغلت بالبحث في إشكاليات التفسير والتنوير في بداية القرن، بل منذ رفاعة الطهطاوي وحتى مصطفى صادق الرافعي وقاسم أمين والعقاد، وتطور الأمر إلى ضرورة دراسة محمود طه من السودان ومحمد شحرور من سوريا والطاهر بن عاشور من تونس ومن الهند إقبال والسيد حمد خان والمودودي والندوي، كل هذا كان ضروريًّا لدراسة القضايا التي كانت مطروحة على الفكر الإسلامي في هذا الوقت، ولكن من خلال وقائع معينة هي تفسير القرآن.

محمود الورداني: هل تعود مرة أخرى إلى ظروف انتقالك من إسبانيا إلى هولندا؟
نصر أبو زيد: قبل سفري كنت أعرف بعض الباحثين الهولنديين من بينهم رئيس المعهد العالي للدراسات الآسيوية، وهو في الوقت نفسه رئيس قسم المشروعات، كما تعرفتُ في القاهرة إلى فريد ليمهاوس، الذي كان رئيسًا للمعهد الهولندي في القاهرة. وقبيل صدور الحكم مباشرة بالتفريق كان هذا الرجل ألقى محاضرة تتناول أبحاثي، وكان مقررًا سفره بعد هذه المحاضرة لكنه اتصل بي هاتفيًّا بعد صدور الحكم وقبل سفري.

إلا أنني يجب أن أوضح أولًا أن فريد ليمهاوس أستاذ في الدراسات الإسلامية ومترجم معاني القرآن إلى الهولندية، ودراساته كلها حول التفسير في المراحل الأولى وقد تعرفت إليه في القاهرة من خلال الهاتف فقط لسنوات عدة حيث كنا نناقش بعض المسائل حتى التقينا في العام الأخير.

وعرض عليَّ ليمهاوس قبل سفره أن أذهب إلى جامعة لايدن في هولندا للعمل. فوافقت على الفور؛ لأن جامعة لايدن هي حلم أي باحث في الدراسات الإسلامية، فهي أحد المراكز العريقة وذات تاريخ طويل في الدراسات الإسلامية.

وفي الوقت نفسه أنا عضو في مجلس تحرير الموسوعة القرآنية التي ستصدر عن مطبعة بريل.

تلك هي علاقتي بهولندا. بل إنني قبل صدور الحكم بالتفريق كنتُ تلقيت دعوة من معهد الدراسات المتقدمة في برلين للعمل لمدة عام، وهي منحة تخصص للباحثين الذين حققوا إنجازات ملموسة مثل محمد أركون، وآخرين. وبمجرد صدور الحكم أرسلوا إليَّ يخبرونني أنه يمكنني السفر فورًا إذا أردت، ومن جانبهم سيعدلون الموعد الذي كان مقررًا أن يتم في أكتوبر ١٩٩٦م.

وهكذا كانت الدعوة من معهد برلين مفتوحة، والحقيقة أنني كنت معروفًا في الدوائر العلمية الألمانية قبل صدور الحكم الذي حقق لي الشهرة والتهمة معًا، وأعدَّ ثلاثة من الباحثين الألمان في بون وهامبورج وبرلين ثلاث رسائل ماجستير عن أبحاثي قبل صدور الحكم أيضًا.

ومن جامعة بون تلقيت مكالمة هاتفية من رئيس قسم الاستشراق في جامعة بون وهو صديقي ومحب للعرب ومصر، ولا أنسى كلماته التي وجَّهها إليَّ بالعربية:

«يا نصر؟ هات ابتهال وتعالَ».

محمود الورداني: أمام كل هذه العروض، ماذا قررت في النهاية؟
نصر أبو زيد: الحقيقة أنني اخترت هولندا؛ لأنها جامعة عريقة ومعروفة فيما يتعلق بتخصصي تحديدًا. والحقيقة أيضًا أن فرحة عمري كانت عندما تأكدت أنني قادر على العمل على رغم الظروف المحيطة.
محمود الورداني: الآن وبعد مرور قرابة العام على خروجك من مصر، هل تشعر أنك قادر على الاستمرار في أبحاثك؟
نصر أبو زيد: بالطبع، بل إنني تقدمت أيضًا بضع خطوات وإن كنت لم أنقطع عن الاهتمام بالقضية، وإذا كنت قد تحمَّلت مثل هذه المخاطر المتمثلة في الحكم الصادر ضدي بالتفريق، إلا أن المجتمع استفاد من صدوره. والمثقفون أيضًا استفادوا فقد تغيَّرت بعض مواد قانون الحسبة أخيرًا. والآن يتأكد لي أن موقفي كان سليمًا تمامًا فيما يتعلق برفضي مؤامرة عدم ترقيتي التي لم تكن مجرد تدرج وظيفي بل قضية سياسية وفكرية تتعلق بحرية التعبير.
محمود الورداني: وفيما يتعلق بالبيان الذي نُشر في الصحف أثناء وجودك في هولندا وقيل إنك أرسلته من هناك بناءً على طلب المحامين أثناء النظر في قضيتك؟
نصر أبو زيد: أود أن أوضح أولًا استيائي من الحملة التي شنَّها عليَّ البعض، حيث نشر أنني تخليت بهذا البيان عن مبادئي ومواقفي. والحقيقة أن هذا البيان هو البيان الذي سبق لي نشره في الصحف قبل سفري وهو أنني باحث مسلم أعتزُّ بإيماني وإسهامي في الفكر الإسلامي. والجديد فقط هو أن المحامين أرسلوا يطلبون توقيعي على هذا البيان لتقديمه إلى المحكمة أثناء سفري، فذهبت إلى السفارة المصرية في هولندا وكتبت البيان ووقعت عليه وشهدت السفارة واعتمدته وأرسلته إلى المحامين.

الحقيقة إذًا أن البيان نفسه كما رويت لك ولم أعلن من خلاله توبتي كما نشرت بعض الأقلام، إن معنى توبتي أن أحرق كتبي وأتزوج من زوجتي مرة أخرى، التوبة معناها الاعتراف بالارتداد عن الإسلام وهو ما لم يحدث.

أنا لم أهرب إذًا من المواجهة كما قيل ولم أرسل بيانًا أعلن فيه توبتي.

أود أن أضيف أيضًا أنني تعرضت لتفاصيل جعلت استمراري في جامعة القاهرة شبه مستحيل. فقد نشر أحد تلاميذ عبد الصبور شاهين كتابًا وُزع بالمجان في الجامعة ذكر فيه أن زوجتي زانية؛ لأنها مصرَّة على زواجنا ورافضة للحكم بالتفريق بيننا.

محمود الورداني: ننتقل إلى نقطة أخرى، إلى جانب ترجمة بعض كتبك ما الذي أنجزته خلال وجودك في جامعة لايدن؟
نصر أبو زيد: هذه الترجمات كان متفقًا عليها قبل سفري وقبل صدور الحكم بسنوات، وما حدث أن حضور المؤتمرات والندوات التي أقيمت في مدن أوروبية مختلفة شغلني عن أبحاثي، ولذلك فإنني أنوي مع بداية العام الدراسي أن أعتذر عن هذه الندوات والتفرُّغ لعملي؛ لأن المطلوب مني ليس البحث فقط، بل الدفاع عن الإسلام أيضًا من خلال وجودي.
محمود الورداني: بأي معنًى تدافع عن الإسلام؟
نصر أبو زيد: بمعنى أن صورة الإسلام مشوهة في أوروبا حتى داخل الدوائر الأكاديمية. فعندما تناقش قضية الأصولية مثلًا ستجد أن المفهوم الضمني أن الأصولية بالمعنى الذي استقر عليه الغرب جزء أصيل من نسيج الفكر الإسلامي.

عليَّ إذًا أن أدافع عن الإسلام الحقيقي بصورته النقية. الإسلام في الغرب تحول إلى مشروع تجاري ناجح جدًّا على المستوى الأكاديمي، سواء من جانب بعض الجهات التي تدعم الأبحاث أو من جانب بعض الدوائر الأكاديمية، مجرد مشروع تجاري ناجح يدرُّ أموالًا.

محمود الورداني: متى ستعود إلى القاهرة؟
نصر أبو زيد: لا تتصور مدى حنيني للعودة، هناك ظروف دقيقة، كما تعلم، تجعلني حريصًا على اختيار توقيت يتوافق مع هذه الظروف. وعمومًا بعد أن ينتهي العام الدراسي الحالي سيكون بوسعي أن أفكر في الأمر مليًّا.

(٤) غربة المنفى

إلياس خوري:٤ يعيش الكاتب والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد مع زوجته ابتهال يونس في هولندا. فبعد صدور الحكم بتفريقه عن زوجته إثر اتهامه بالردة بحسب قانون غريب يُعرَف باسم «قانون الحسبة»، وجد المفكر المصري نفسه في جامعة لايدن، يكتب ويحاضر ويدرِّس، ويعيش مرارات المنفى.

ومنفى أبو زيد مستمر بلا سبب. فلقد أُلغي قانون الحسبة في مصر، لكن الحكم القضائي في حق المفكر العقلاني لا يزال ساريًا، والمداولات القانونية مملة وبطيئة، وسط صمت العجز الذي تعيشه الثقافةُ العربية في جميع أمصارها.

فهل يبقى أبو زيد في المنفى إلى الأبد؟ متى ينكسر جليدُ الانحطاط الثقافي العربي، فيتم الاعتذار من الكاتب الذي فُرِضَ عليه أن يعيش في المنفى؟ في نيويورك، التقيت به. كان يجلس في مكتبة الجامعة، وكان بيننا حوار المنفى …

قال نصر حامد أبو زيد: «بخاطرك يا مصر!»

اعتقدت أنه يستخدم كلمة «بخاطرك» بالمعنى اللبناني، من أجل أن يقول لبلاده وداعًا. لكنه صحَّح لي وقال: «بخاطرك، تعني كما تريدين. أقول لمصر كما تريدين: تريدين لي المنفى، فأنا بخاطرك وتحت أمرك!»

حاولتُ أن أشرح له أن المعنى الذي قصده موجود أيضًا في اللهجة اللبنانية، فضحك وقال إن ما يجمعنا نحن العرب هو الكلمات التي تدل على القسوة والقمع. ثم سألني عن قضية مارسيل خليفة، وقال في أسًى: إن قضية خليفة انتهت، أما قضيته هو فلا تزال عالقة.

«عالقة؟» سألته.

نعم، يا سيدي … بعد صدور الحكم في الاستئناف، ثم في محكمة النقض، بدا لي أن لا وجود لحل. فاتصل بي أحد المسئولين الكبار من أجل إقناعي باقتراحه: أن أتزوج ابتهال يونس — زوجتي! — مرة ثانية في السفارة المصرية، وبذلك تُحَل المشكلة، إذ لم يعد في استطاعة أحد رفع دعوى ضدي؛ لأن قانون الحسبة تغير. وبدلًا من أن أجيبه بأن ما يقوله كلام فارغ، وبأنني لست على استعداد للقبول به، أجبته — تأدبًا — بأنني سأفكر في الأمر. فقال: «لا يا دكتور نصر، ما تفكَّرش!»

«ثم ماذا؟» سألته.

«لا شيء»، قال. «ولكن هذا الحوار بالغ الدلالة. مسئول كبير يقول لأستاذ جامعي: لا تفكر. هل هذا معقول؟! عند ذاك، أدركت عبثية وضعي. فأنا لا أحسن سوى التفكير والكتابة، ولم أعلِّم طلابي سوى على التفكير والنقد. لذلك … بخاطرك يا مصر!»

هكذا بدأ حواري مع نصر حامد أبو زيد، حين التقينا في شهر مايو (أيار) ٢٠٠١م في نيويورك. عندما جاء إلى مكتبي في الجامعة، بادرني بالسؤال: «وأنت أيضًا؟!» ضحكتُ من المفارقة: نصر يعيش في المنفى، ويشعر بالمرارة؛ لأن مصر أجبرته على الخروج منها مطرودًا، في حين أرى في رحلتي إلى أمريكا مناسبة للابتعاد والتجدد والاكتشاف.

قلت إن بيروت لا تزال تتسع لنا، على الرغم من كلِّ شيء. فقال إنه عندما زار بيروت منذ عامين شعر بفرح كبير.

«لكنها ليست بيروت»، قلت له: «إزاي يعني؟»

«لو كانت بيروت هي بيروت لما كنت أنتَ الآن أستاذًا في هولندا، بل كنتَ …»

قاطعني وقال: «تريد أن تقول في بيروت، أليس كذلك؟ لكنك لا تعلم، يا صاحبي، أنني لم أتلقَّ دعوة للتعليم من أية جامعة في العالم العربي. المسألة ليست بيروت وحدها، بل العالم العربي بأسره الذي صار مجرد عتبة إلى المنافي. تخيَّل، تقدمت بطلب للتدريس في جامعة بروناي، فلم أتلقَّ جوابًا!»

ضحك نصر حامد أبو زيد، وهو يروي لي مرارته في المنفى. «لكن مَن أنت؟» سألته.

ولد نصر حامد أبو زيد في قرية قحافة، طنطا، في يوليو (تموز) ١٩٤٣م. دخل الكتَّاب في قحافة، ثم التحق بالمدرسة الابتدائية والإعدادية في طنطا، وبسبب مرض والده دخل مدرسة الصنائع، حيث نال دبلوم اللاسلكي في العام ١٩٦٠م. خطة والده كانت إدخاله إلى الأزهر فلقد حفظ القرآن وهو في الثامنة من عمره، لكن الظروف رسمت له طريقًا آخر.

بين العامين ١٩٦٠ و١٩٧٢م، عمل فنيًّا في المحلة والمنصورة ودمياط وبورسعيد. وفي الوقت نفسه، نال الثانوية العامة، ثم تخرَّج في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، في العام ١٩٧٢م بتقدير ممتاز. أُعفِيَ من الجيش لأنه كان كبير أشقائه ومسئولًا عن العائلة وصحافيًّا. عُيِّن في العام ١٩٧٢م معيدًا في جامعة القاهرة، ونال شهادة الماجستير عن أطروحته: المجاز في القرآن عند المعتزلة، ثم الدكتوراه بعدما درس تأويل القرآن عند ابن عربي. يعمل الآن على ثلاثة مشاريع كتابية:
  • المشروع الأول: كتابة سيرته الذاتية: حياتي من القرية إلى المنفى.
  • المشروع الثاني: دراسة مشكلات تأويل القرآن في العصر الحديث، منطلقًا من نقد خطاب الإصلاح الديني، باحثًا عن الأسئلة الغائبة، محاولًا تقديم قراءة تشبه قراءة ألتوسير لماركس. أي إنه يبحث عن المُضمَر، المسكوت عنه.
  • المشروع الثالث: دراسة القرآن كمفهوم تاريخي، ويتضمن مراجعة نقدية لمفهوم النص.

بين الطالب الجامعي في القاهرة والأستاذ الذي يعيش في المنفى في لايدن مجموعة كبيرة من المؤلَّفات، منها: الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي، إشكاليات القراءة وآليات التأويل، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة.

الغربة والمنفى

عندما سألته عن شعوره في غربته الطويلة، قال إنه لا يشعر بالغربة. ربما لأن شيئًا انكسر في داخلي. وهذا يسبب لي قلقًا، فكأنني لم أعد أنا. هل تعلم كيف غادرت مصر؟ كان الترتيب أن أذهب مع ابتهال، زوجتي، إلى مدريد مدة شهرين. إذ كانت قد حصلت على منحة لمدة شهرين، فقلت: أذهب معها. غادرنا مصر ليلة ٢٣ يوليو (تموز)، وفي الطائرة قلت لها إنني لن أعود، وسأذهب إلى لايدن. وهكذا بدأت غربتي الطويلة. وحدث ما يمكن أن أسميه جفافًا عاطفيًّا. أنا لا أعاني الشوق إلى الوطن! لقد انقسمت حياتي نصفين: نهاري أمنحه للعمل والتدريس والطلبة، ثم يأتي الوطن فيحتل ليلي. يصير ليلي حالًا تقع بين الحلم والكابوس. ألتقي بموتى، لكنهم يظهرون لي أحياء. الوطن يطرد النوم من عينيَّ، يجعلني أعيش ليلًا شبيهًا بليل امرئ القيس.

«ألتقي بالعديد من أصدقائي في هولندا وأوروبا وأمريكا. أشعر أن الوطن صار موجودًا في كل مكان. أحد الأصدقاء اكتشف أنني أضيع في شوارع لايدن. حين أخرج من الجامعة أضل طريقي! فقال لي زين العابدين فؤاد: «أنت، يا صديقي، لا تعيش في هولندا، أنت تسكن هنا فقط»!»

قال إنه يشترك مع أستاذ ألماني في جامعة لايدن في ورشة عمل يسمونها «بيبليودراما» نسبة إلى «الكتاب». في هذه الورشة، يحاول الأستاذ الألماني دراسة التأويل، ليس من خلال النص، بل من خلال التمثيل.

قرأ الرجل كتابي نقد الخطاب الديني، وقال إنه مهتم بنظريتي في التأويل، ودعاني إلى المشاركة في البيبليودراما. وهناك اكتشفت أن العلاقة بالنصوص ليست علاقة فكرية فقط، ولكنها جسدية أيضًا. قررنا العمل على قصة يونس من دون الرجوع إلى نصٍّ مكتوب. اخترتُ لنفسي دور بحار على السفينة، وكنت مهتمًّا أن أسأل النبي يونس لماذا كان غاضبًا على الله: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (سورة ٢١ الأنبياء: ٨٧). سؤالي هو: لماذا يغاضب نبيٌّ ربَّه؟ ألا يُعَد هذا نوعًا من التمرد، خصوصًا أنك حين تقرأ القصة في التوراة (سفر يونان، ٤)، تكتشف أن يونس كان غاضبًا؛ لأن الله سيدمِّر القرية!

«بدأت السفينة تتحرك، ونبَّهوني إلى أنني يجب أن أركب السفينة قبل أن تبحر. ويومذاك اكتشفت أنني صرت بحارًا، أزور الموانئ، ولا مرساة لي سوى أسئلتي.»

الليل والنهار

قال نصر حامد أبو زيد إن المنفى قسمه نصفين: في النهار، أشعر أنني غريب، لكنني أداري غربتي بالعمل والتدريس والمناقشات. العمل هو وطني في النهار. أما الليل فتلك حكاية! الآن فهمت شعر امرئ القيس عن الليل. أنا لا أنام. بل أنام، لكنْ في شكل متقطع. أستيقظ كل ساعة، فأذهب إلى النافذة كي أرى إذا كان الضوءُ قد طلع. أنام في العادة مبكرًا. أحيانًا يغالبني النومُ في التاسعة مساء، وحين أدخل الفراش يبدأ كللُ الليل. أحيانًا أصرخ، أشتم، ولا أتذكر الأشياء إلا في شكل غائم. أنهض من السرير بعد ساعة من النوم المرهق، لأكتشف أن الشمس لم تشرق، فأعود إلى النوم لساعة أخرى، وهكذا. أرى في نومي المتقطع أهلي الذين ماتوا: أبي وأمي وأختي، كما أرى عبد المحسن طه بدر. أستاذنا طه بدر يأتيني كثيرًا في المنام. هذا الرجل هو أحد أواخر الأكاديميين المحترمين في مصر. لو كان بدر حيًّا لما حصل الذي حصل. لو سمع بدر عبد الصبور شاهين يقرأ تقريره في لجنة الترقية لمنعه من إكماله. لكن جميع أعضاء اللجنة كانوا مرعوبين من تهمة الكفر. أتخيل أن بدرًا كان سيتخذ موقفًا آخر. وربما لهذا السبب يزورني أستاذي في ليلي المتقطع. مصر كلها تعرف مَن هو عبد الصبور شاهين: نصَّاب في هيئة عالِمٍ (كان مستشارًا لشركة «الريان» للأموال). والموضوع الأساسي هو موقفي ضد شركات الأموال، نقضي للفتوى التي قضت بوضع الأموال فيها.

والآن، أسأل: كيف حصل هذا كله؟ إنها بنية فاسدة، والفساد يحمي الفساد. عبد المحسن طه بدر كان أخلاقيًّا وصادقًا، كما كان قاسيًا معنا. هذا الرجل، في نظري، هو رمز الوطن الذي كان.

«ليلي مزيج من حنين وغضب وخوف، لكن النهار ملكي تمامًا. قلت مرة: «النهار ملكي، ولك الليل، أيها الوطن»!»

غضبي من الوطن لم يعجب الكثير من أصدقائي المصريين؛ لأنهم يتصورون أن الغضب مسألة شخصية، وهذا ليس صحيحًا. عندما أصدر شاهين كتابه (أبي آدم)، وحاول أصدقاؤه القدماء تطليقه من امرأته بتهمة الكفر، مثلما فعل هو بي، دافعتُ عنه، وقلت إنه الحريق، وكلنا يجب أن نقف في مواجهته ونطفئ النار. مواجهة الكتاب السيئ تكون بأن نكتب كتابًا جيدًا.

القضية، في نظري، ليست قضية شخصية. إنها قضية طفل تخلَّت عنه أمه. أنظر إلى مصر، التي هي أمي، وتدمع عيناي، وأقول: «بخاطرك يا مصر! أردتُ أن أخدمك، لكنك أنت التي لا تريدينني!»

لا بديل من الوطن!

عندما سألته عن تجربته الفكرية في المنفى، قال إنه لا يرى أفقًا في المنفى. على المنفيِّ أن يختار بين الاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه الآن، أو أن يبقى في رحلة يومية إلى الوطن.

«اختياري الفردي هو أن أبقى في الوطن، وبذلك لا يكون المنفى سوى مكان إقامة. أنا لم أكتب بالإنجليزية أكثر مما كنت أكتب في مصر بهذه اللغة. فأنا أعي أن رسالتي هي باللغة العربية. رسالتي موجهة إلى بلادي. المنفى لا يمثل بديلًا؛ لأن المكان سوف يبقى عاملًا مهمًّا جدًّا. الوطن كان أولًا، قبل أن يكون معنًى أو رمزًا أو مغزًى. الوطن هو الأصدقاء والطلاب والقراء. لا، لا بديل من الوطن!»

المنفى سمح لي بأن أرى احتمالات تغيير على مستوى الإسلام. إن وجود مسلمين من جنسيات مختلفة في تجمعات كبيرة تبحث عن أسئلتها غير الموجودة في الوطن يسمح بتطوير ما يمكن أن نطلق عليه اسم فقه الأقلية. هذه أسئلة تنبع من هنا، وتطرح نفسها على العلماء في العالم الإسلامي. أستطيع القول إن الأقليات العربية والإسلامية في الغرب حققت إنجازًا على مستوى الفقه، ولم تنتقل إلى الثيولوجيا. وهذه هي المشكلة الحقيقية في الفكر الإسلامي.

«على مستوى آخر، تبدو الجاليات العربية كأنها لا تملك قضية سوى القضية الفلسطينية. ثم نكتشف أن أيَّ خطاب يأتي من الخارج يُعتبَر خيانة. الأقباط المصريون في الولايات المتحدة يشكلون قوة لا يستهان بها. مجموعة منهم كوَّنت منبرًا للدفاع عن المصريين، ونشرت ميثاقًا خاصًّا بالدفاع عن الحريات في مصر، مع التركيز على مشكلة الأقباط (التخفيف من مشكلة الأقباط والقول: إنها ليست موجودة، يصيبني بالخوف!) قلت: إن النص ممتاز، ولكن لماذا نجعل المنبر خاصًّا بالأقباط وحدهم؟ لماذا لا يكون منبرًا مصريًّا؟ وهكذا بدأنا التفكير في هذا الاتجاه، حين اقترح بعض الأصدقاء أن يصدر الميثاق من داخل مصر؛ لأن هناك شكوكًا حول كلِّ شيء يصدر في الخارج. ما هذا التمييز بين الداخل والخارج؟!»

«ربما كان أفضل مثال على ما أقول هو قضية سعد الدين إبراهيم. أنا لا أدافع عن الرجل، بل أقف ضد الاتهامات الباطلة، وأشعر أن هناك شيئًا قريبًا من التكفير عند المثقفين غير الإسلاميين.»

الوطن ليس مقبرة!

النظرة إلى الخارج مليئة بالشكوك، وعلى الشخص الذي وجد نفسه في المنفى أن يثبت كلَّ الوقت أنه ينتمي إلى وطنه. ما هذا؟!

«سألني أحد الدبلوماسيين، في إحدى محاضراتي هنا، في واشنطن: «هل صحيح، يا دكتور، أنك قلت في إحدى المقابلات إنك طلبت من زوجتك ألا تنقل جثتك إلى مصر إذا متَّ في الخارج؟» قلت: «نعم، يا سيدي، هذا صحيح؛ لأن الأرض كلَّها هي أرض الله. أنتم استأتم مني لأنكم تعتقدون أن مصر هي مقبرة. لا، أيها السادة، مصر مقبرة الغزاة، لكنها ليست مقبرة المصريين. فحين أُمنع من العيش في مصر، فهل تعتقدون أن الأمور ستسوَّى حين أُدفَنُ فيها؟» هل تعلم ماذا جرى لنزار قباني؟ نعم، دفنوه في دمشق، لكنه عاش حياته كلَّها في المنفى، ثم أتى في لندن مَن حاول منع إدخال نعشه إلى الجامع من أجل الصلاة عليه! الوطن مقبرتنا حين يكون لنا، لكنه — للأسف — ليس كذلك.»

وعندما سألته عن شروطه للعودة إلى مصر، قال إنه محتاج إلى شكل من الاعتذار: «الشعب المصري كله عايز اعتذار من الحكومة، وليس أنا فقط.» قال: إنه مستعد للعودة، شرط أن تضعه جامعة القاهرة في لجنة لمناقشة شهادة دكتوراه أو ماجستير في اختصاصه؛ وهذا يعني اعترافًا بأنه أستاذ في الدراسات الإسلامية، لكن هذا لم يحصل إلى الآن.

إنها فلسطين!

في نهاية حديثنا، روى نصر حامد أبو زيد عن فلسطين. قال إنه شعر بتأثر شديد حين منحتْه جامعة لايدن كرسي Cleveraniga. فهو أول أستاذ غير هولندي يُمنَح هذا الكرسي تخليدًا لذكرى الأستاذ الذي وقف في وجه النازيين.
عندما صدر قرار من النازيين بفصل جميع الأساتذة اليهود من الجامعات، ألقى الأستاذ Cleveraniga محاضرة في جامعة لايدن بتاريخ ٢٦ تشرين الثاني ١٩٤٠م، أعلن فيها استهجانه القرار، داعيًا الطلاب إلى دوسه بأقدامهم. وبعد المحاضرة، جرت تظاهراتٌ في لايدن، وأُغلِقَت الجامعة؛ لأنها كانت الجامعة الوحيدة التي اعترضت على القرار، واعتُقِلَ الأستاذ. في العام ١٩٧٠م، تقرر إنشاء هذا الكرسي الذي يُمنَح كلَّ سنة لشخصية عامة في مجال الدفاع عن الحريات، وخصوصًا الحريات الدينية.

فوجئت في كانون الثاني ٢٠٠٠م بمنحي هذا الكرسي، فقرأت عن الرجل، وتماهيت مع مواقفه الإنسانية. بدأت بإعداد محاضرتي، وقررتُ الكتابة عن الرواية العربية، وكان في نيتي الكتابة عن ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، التي أرى أنها كتابة ثانية لرواية أولاد حارتنا. ومع اقتراب موعد المحاضرة، اندلعت الانتفاضة في فلسطين. عند ذاك سألت نفسي: «ماذا سيكون موقف الأستاذ الذي دافع عن اليهود في العام ١٩٤٠م؟ وماذا كان سيقول لو طُلِبَ منه أن يحاضر اليوم؟»

«إذ ذاك قررتُ ألا تكون محاضرتي عن الأدب، بل عن «مفهوم العدل في القرآن»، فبدأت محاضرتي بالقول: «إني فكرت في الكتابة عن مفهوم العدل في الإسلام، لكني وجدت صعوبة في التحدث عن موضوع العدل؛ لأن العدل يُقتَل اليوم في كلِّ مكان، وأنا أتكلم عن القتل اليومي للفلسطينيين، وجريمتهم كلها أنهم يريدون وطنًا ومدرسة. سوف أستعيد أمامكم ما قاله Cleveraniga عن النازي في هذه الجامعة في العام ١٩٤٠م: «عنف يستند إلى قوة عمياء.» إنها مخالفة واضحة للقانون الدولي. فلنضع هؤلاء تحت أقدامنا، ولننظر إلى الأعلى، لأني سآخذكم في رحلة إلى القرآن».»

قال نصر حامد أبو زيد: «قضيتنا، نحن المثقفين، هي الحرية والعقل والعدالة. من دون هذه المفاهيم، نفقد دورنا، ونتحول إلى شهود زور على زمننا.»

«ولكن لماذا رويت لي حكاية هذه المحاضرة؟» سألته.

«من أجل أن أقول عن العدالة. في منطقة تقاوم هذا الظلم الفادح الذي صنعته إسرائيل، لا نستطيع سوى أن نتمسك بالعدالة كقيمة أخلاقية وسياسية وسلوكية. من أجل هذا أخبرتك حكاية المحاضرة. متى نعي أننا نتعرض لظلم فادح، وأن علينا مقاومته، ليس من أجلنا فقط، بل من أجل الدفاع عن حقِّ الإنسان، في كلِّ مكان وزمان، في العدالة.»

ومصر؟

«ومصر؟» سألته.

سألته عن مصر كي نستعيد بداية الحوار، وكي أسمع منه كيف طُلِبَ منه أن ينطق بالشهادتين في المحكمة. لكن نصر حامد أبو زيد رفض الخضوع ورفض أن يسمح للمحتسبين، الذين يجسِّدون لحظة الانحطاط في الثقافة العربية بابتزازه. فمناقشة كتاباته العقلانية لا تتم في أروقة المحاكم، ولا في منابر مجموعة من الجهلة الذين لا يعلمون أنهم، بدفعهم الثقافة العربية إلى هاوية الجمود، يصنعون من الثقافة والدين صنمًا جامدًا، ليس سوى الوجه الآخر للاستشراق.

قال نصر حامد أبو زيد إن الثقافة العربية حية؛ لأننا نصنعها.

قال إن المنفى لا يخيفه؛ لأن الكلمة أقوى من الحدود والشرطة والقمع والانحطاط!

(٥) المقاومة هي العلامة الوحيدة الباقية على أننا لم نمت

محمد حربي:٥ قبل أن تقرأ، في العام ١٩٩١م أجريت معه حوارًا مطولًا قلت فيه: تذكروا هذا الاسم جيدًا لأنه لرجل خطير وهو خطير فقط لأنه يفكر، ويبدو أن السلطات الفكرية والدينية صدقت نبوءتي بحرفيتها ولم تقم بتأويلها، فتعاملت مع الرجل باعتباره خطرًا على السلم الأهلي والمناخ الديني، وطاردته عقليًّا وراقبت منه حتى النخاع.
كل قفا وراءه عينان تخرقان ظلمة النخاع،
تسألان عن هواجس الهوية.

كما صرخ عفيفي مطر في قصيدته الشهيرة سهرة الأشباح.

دارت دورة الزمن وتعرض الرجل لمحنة التكفير والاتهام بالردة، ولم يقف الأمر عند أسوار الجامعة كما كان واجبًا أن يقف، بل امتد إلى ساحات المحاكم قبل أن يغادرها إلى قضبان وأعمدة الصحف التى حولت الرجل إلى قضية رأي عام، لم يستوعب النقاش حول أمور لا يفهمها، فارتكن كل إلى ما يريد وصارت قضية نصر حامد أبو زيد رمزًا على التباس الوعي وانقسام الذهن المصري والعربي في إطار سور كبير يسمونه اختصارًا الوطن، وبعد أزمة التكفير والتطليق القسري للزوجة بحكم محكمة — وهو ما لم يتم في الواقع — هاجر الرجل باجتهاده — الذي قد نختلف معه أو نتفق — إلى هولندا حيث مارس التدريس الذي حُرم منه في جامعته الأم القاهرة.

كما مارس الاجتهاد في القراءة للنص القرآني والواقع الفكري سياسيًّا ودينيًّا.

ورغم غيابه عن عالمنا العربي إلا أن الرجل تحول إلى رمز على غلبة الأيديولوجيا الدينية المتشددة على الوعي المعرفي «الإبستمولوجي» بات مطروحًا أكثر في المشهد الثقافي، ربما لأنه لم ينقطع عن الاجتهاد أو لأننا لم نوقف آلة التكفير بعد.

أنا هنا لا أحاور نصر حامد أبو زيد المفكر المصري المعروف حول مفهوم النص أو نقد الفكر الديني «مشروعه الأساسي»، بل أحاور الواقع السياسي العربي في تماسه مع الأصولية الأكبر في العالم «أمريكا عبر قراءته لصعود الدين وهبوط الديموقراطية في العصر الإمبراطوري الأمريكي»، ولذلك لن يعنيني كثيرًا أن أتوقف لأبرئ الرجل فهو عندي — دون أن أتورط في الإدلاء بآراء فقهية — مجتهد له أجران إن أصاب وله أجر الاجتهاد إن أخطأ كما علمنا تراثنا العظيم، ذلك التراث الذي أنفق نصر أبو زيد عمره يقرؤه ويفنده وأفادتنا قراءته حتى ولو كانت خاطئة؛ لأن إعادة تقليب تربة التراث وحرثها من جديد ثورة بحد ذاتها.

في الحوار يقترب أبو زيد ذو الحس النقدي من ملامح أولية للمشروع الإمبراطوري الأمريكي ذي النزعة الأصولية والعنصرية في آنٍ، ويرى أن تجديد الخطاب الديني مطلوب حتى في أمريكا ولكن التجديد والتغيير لن يتم إلا بفعل مقاومة الدول والمجتمعات المتضررة من النزوع الإمبراطوري الأمريكي.

بين حوار ١٩٩١م وحوار ٢٠٠٦م جرت في نهر الحياة أنهار كثيرة، وأنت لا تنزل النهر مرتين، كما أخبرنا هرقليطس قديمًا، ولكني كنت أحاور المنهج النقدي ذاته والرجل النقدي نفسه بعد أن أكسبته المحنة والغربة آفاقًا أوسع للتجربة وصلابة أكبر للمقاومة.

اللافت أن نصر حامد أبو زيد يرى في حسن نصر الله نموذجًا رفيعًا للمقاومة ليس بفعل الصمود فقط، بل لأنه يقدم نموذجًا للثائر الوطني وجيفارا المسلم الذي يتمثل القيم الإنسانية الرفيعة النبيلة، فنصر الله أو حزب الله لم يتورط في الكذب، ولم يطلق رصاصة واحدة ضد مسلم أو عربي في لبنان أو المنطقة.

ويرى المفكر العربي أن العرب إن كانوا يكرهون البيت الأبيض والبنتاجون بحسب ما ذكر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة زغبي لاستطلاعات الرأي فإنهم يكرهون السلطة في أمريكا بينما يحبون هوليوود، ربما لأنها مؤسسة أكبر من أمريكا؛ لأن الولايات المتحدة ليس لديها بحسب رأيه ما تقدمه العالم ثقافيًّا وحضاريًّا، ومن هنا تسعى — فاشلة — لكي تصبح «إمبراطورة وحيدة للعالم»، وهذا مشروع فاشل تمامًا.

ويرى نصر أبو زيد أن قوى المقاومة في العالم هي وحدها القادرة على تخليص الخطاب الأمريكي من عنصريته مستبعدًا أن يتم تجديد هذا الخطاب من داخل أمريكا.

وكشف في الحوار عن قصته مع أمريكا التي درس فيها ورفض البقاء بها بعد زيارته العلمية، ثم رفض زيارتها أو بالأحرى قاطعها بعد أحداث ١١ سبتمبر بسبب الإهانات التي تحدث للمسلمين، مع اعترافه بأن حادث سبتمبر جريمة قتل مرفوضة مثلما جرائم القاعدة التي تقتل على الهوية.

في منتصف عقد السبعينيات قال الرئيس المصري الراحل أنور السادات إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة … هل تراه كان مصيبًا في رؤيته للواقع الأمريكي … وخاصة الآن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وسيطرة أمريكا على المسرح السياسي العالمي؟

نصر أبو زيد: نعم، كان الرئيس مصيبًا من حيث وصفه للواقع، لكن علينا أن نميز بين وصف الواقع، واقع القوى الدولية وتوازناتها مع العرب أو ضد العرب. وبين محاولة تغيير هذا الواقع بكل وسائل التغيير الممكنة والمتاحة، حين أعلن الرئيس السادات ذلك كان يعلن رسالة أخرى، فحواها أن علينا تسليم كل «الأوراق» للولايات المتحدة وأن نعتمد عليها اعتمادًا مطلقًا في كل شيء يخص القضايا العربية من ناحية الصراع العربي الإسرائيلي. هذه جهة، أما الجهة الأخرى وهي ليست معزولة عن الجهة الأولى فهو التوجه الاجتماعي الاقتصادي من «الاشتراكية» إلى «الانفتاح الاقتصادي»، وهو توجه يستبدل القِبلة الأمريكية الرأسمالية بالقِبلة السوفيتية الاشتراكية. التحول إذن لم يكن سياسيًّا فقط ويرتبط بحل مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي، بل كان تحولًا استراتيجيًّا كاملًا داخليًّا وخارجيًّا. من هنا لم يكن الإعلان مجرد إعلان، بل كان قبولًا وتسليمًا.
محمد حربي: منذ منتصف عقد السبعينيات تمارس معظم الأنظمة العربية سياسة صداقة مع الولايات المتحدة، ولكن الشعوب العربية تنظر — في معظمها — إلى الولايات المتحدة باعتبارها عدوًّا. كيف تقرأ هذا التناقض العربي، وهل هو تناقض بين الحكومات والشعوب أم أن الشعوب العربية أكثر وعيًا من حكوماتها؟
نصر أبو زيد: الشعوب تدرك بالفطرة، رغم كل محاولات التزييف والتعتيم وغسل المخ التعليمي والإعلامي، أعداءها الاستراتيجيين. أما الحكومات — وهي حكومات غير معبرة عن شعوبها؛ لأنها لم تأتِ بانتخابات حرة مباشرة — فهي تمثل مصالح طبقة أو فئة أو أسرة، وتتوجه إلى القبلة التي تتحقق من خلالها هذه المصالح، مهما كان هذا التوجه ضارًّا بمصالح الشعوب، أو بالأحرى بمصالح الفئات المنتجة. انظر للموقف الآن — أعني موقف الشعوب وموقف الحكومات — من الحرب الدائرة في لبنان؛ حيث تحاول «إسرائيل» تدمير لبنان كله بدعاوى تدرك الشعوب لا الحكومات زيفها. الحكومات العربية والولايات المتحدة وحلفاؤها معنيون بوقف كل أنواع المقاومة في فلسطين وفي لبنان. بالنسبة لهم فالفرصة متاحة الآن. بالنسبة للشعوب لا بديل عن المقاومة، إنها العلامة الوحيدة الباقية على أن الشعوب لم تمت.
محمد حربي: كشف استطلاع أجرته مؤسسة زغبي في خمس دول عربية أن الشباب العربي يكره البيت الأبيض والبنتاجون أو السلطة، ولكنهم يحبون الثقافة الأمريكية وخاصة هوليوود. كيف تفسر هذا التناقض؟
نصر أبو زيد: إذا صحت نتائج هذا الاستطلاع، فإن كراهية البنتاجون والبيت الأبيض هي كراهية للسلطة التي تسعى للسيطرة على الشعوب من أجل مزيد من القوة العسكرية والاقتصادية. لاحظ أن الضربات التي وجهتها القاعدة انصبت على الرموز الاقتصادية برجي التجارة، والعسكرية البنتاجون، والسياسية البيت الأبيض. هوليوود هي مدينة السينما، الفن السابع كما يقولون، فهي رمز مغاير نوعًا ما. ثم إن هوليوود ليست مؤسسة أمريكية، إنها مركز للفن يستقطب الفنانين، ممثلين ومخرجين وكتَّابًا ومصورين، من كل أنحاء العالم. إننى أقدر هذا التميز الراقي عند الشعوب العربية بين مركز «الفن» وبين مراكز القوة والسيطرة والغطرسة.
محمد حربي: هل ترى أن سطوة البنتاجون (نموذج القوة) على مقدرات السياسة الأمريكية عبر صقور الإدارة مثل «رامسفيلد» أضعف إمكانيات الولايات المتحدة في فرض (قوة النموذج)، (أو القوة الناعمة بحسب تعبير جوزيف ناي) التي تمتلكها بفضل ثقافتها وفنونها وأسلوب حياتها المتعدد والحيوي في المأكل والملبس وغيره؟ وهل ترى أن سطوة العسكر تفسد صوت الولايات المتحدة التي كانت تمثل حلمًا للكثيرين، وخاصة في عالمنا العربي؟
نصر أبو زيد: أي نظام إمبراطوري والولايات المتحدة تسعى لتكون الإمبراطورية الوحيدة في العالم، هو نظام خاسر في القرن الواحد العشرين. الولايات المتحدة ليس لديها ثقافيًّا وحضاريًّا جديد ما تقدمه للعالم، إنها تمثل ثقافة «الاستهلاك والإشباع» على مستويات كثيرة، ورصيدها الفكري والفني، وكذلك العلمي والتقني، نابع من ثراء قادر على شراء العقول. قارن ذلك بالإمبراطوريات السابقة التي اعتمدت في بناء نهضتها على ما ينتجه الآخرون، سواء الذين تم استعبادهم أو الذين تم شراؤهم بالمرتبات المغرية والتسهيلات الجذابة، إمبراطورية الفرس والرومان ثم أخيرًا العثمانيين. انتهت الإمبراطوريات واحتفظت الدويلات المستعمرة بالتراث الثقافي والحضاري. الولايات المتحدة أقوى وأغنى دولة في العالم الآن، لكن ليس لديها ما تقدمه للحضارة الإنسانية. من هنا السعى الفاشل لبناء إمبراطورية، وهو فاشل؛ لأن التاريخ تجاوز عصر الإمبراطوريات. لاحظ مقاومة «كوريا الجنوبية» لفرض أي عقوبات على «كوريا الشمالية»، شقيقتها، أليس كذلك؟ ولاحظ محاولة الشعوب الآسيوية للالتحام والتجمع، وحده العالم العربي سلم أوراقه كاملة، لكنها الأنظمة وليست الشعوب.
محمد حربي: كيف تقرأ كباحث مهتم بالأديان صعود الأصولية الدينية في الولايات المتحدة؟ وهل ترى كما يذهب بعض الباحثين إلى أن هذا الصعود طارئ يرتبط بصعود تيار المحافظين الجدد منذ عقد الثمانينيات، أم أنه جوهر أصيل في الثقافة الأمريكية التي ينادي دستورها بالفصل بين الدين والدولة ويؤكد واقعها أن الفصل التام بين ما هو سياسي وما هو ديني أمر صعب؟
نصر أبو زيد: صعود الأصولية الدينية في الولايات المتحدة جزء من صعود الأصوليات في العالم كله، وما نراه من صراع في العالم اليوم ليس إلا صراع أصوليات، تحليل الخطاب السياسي الأمريكي ومقارنته بخطاب «القاعدة» يكشف عن علاقات بنيوية وسمانتيكية (دلالية) عديدة. إن المهاجرين الأوائل كانوا في الغالب من البروتستانت المتطهرين الهاربين من الاضطهاد. أرادوا أن يقيموا مملكة الله، وهي المملكة التى لا مكان فيها لغير المسيحيين. من هنا يجب أن نفهم تاريخ المذابح التي ارتُكبت ضد السكان الأصليين، والتي ارتُكبت ضد الزنوج، الذين اختطف أسلافهم من قراهم في أفريقيا في وقائع أصبحت موثقة تاريخيًّا.

كان الفصل بين الدين والدولة محاولة لتجنب المذابح بين البروتستانت والكاثوليك، لاحظ أن اكتشاف أمريكا تم من جانب الكاثوليك، لكن أغلبية الكنائس في أمريكا الآن كنائس بروتستانتية. الفصل إذن فصل سياسي في حده الأدنى، لكن حتى الآن لم يعتل الرئاسة في أمريكا رئيس ذو خلفية كاثوليكية، باستثناء جون كيندي في الستينيات، والذي تم اغتياله لأسباب ما زالت مجهولة. هل هذا مصادفة؟ من هنا تجد العلاقة بين الدين والسياسة قائمة، بل إن التعليم الديني ومدارس الأحد مزدهرة في ولايات عديدة في أمريكا. هذا بالإضافة إلى أن نظام الفيدرالية يسمح بتعدد أنظمة التعليم، لهذا لم تجد نظرية النشوء والارتقاء — لداروين — قبولًا في بعض الولايات، وما زال الجدل الديني حولها قائمًا.

ليس معنى ذلك القول بأن «الأصولية» جوهر أصيل في الثقافة الأمريكية، ومن جهة أخرى يصعب الحديث عن ثقافة أمريكية واحدة، بل ثقافات لها أصول أوروبية وآسيوية عديدة، إلى جانب تأثيرات لاتينية — أي من أمريكا اللاتينية — فأمريكا جغرافيًّا قارة وليست بلدًا، وهي سكانيًّا خليط من أصول إثنية وعرقية عديدة، ومن المستحيل، من ثَم أن نتحدث عن عناصر ثقافية تجمع كل هذا. إن فخر أمريكا أنها بوتقة انصهار للأجناس والسلالات والثقافات. الزعم الآن بوجود نمط حياة أمريكية يراد فرضه على العالم هو زعم يختصر الثقافة في بعض تعبيراتها السياسية والاقتصادية.

محمد حربي: هل ترى أن تحالف المحافظين الجدد واليمين المتطرف في أمريكا مرشح للاستمرار في السيطرة على المشهد الفكري والسياسي الأمريكي على الرغم من تردي الأوضاع في العراق؟ وما هي أسباب استمراره؟
نصر أبو زيد: كلما ازداد تورط الأمريكي ازداد تطرفًا. لا أريد أن أستشهد بالماضي — التورط في فيتنام — ولكن اللحظة الراهنة تشهد على ذلك. التورط في العراق، الذي صار بالفعل مستنقعًا لأمريكا، يؤدي إلى مزيد من التورط الآن مع إسرائيل في لبنان. الهدف المعلن حزب الله، والأهداف الحقيقية غير خافية على أحد، ولا هم يخبئونها. الأمم المتحدة رهينة بالكامل الآن للفيتو الأمريكي. الآن الفيتو الأمريكي هو وحده الذي يعمل رغم أن هناك أطرافًا أخرى تتمتع بنفس الحق. أوروبا والاتحاد الأوروبي عسكريًّا في حوزة أمريكا. وأخيرًا الأنظمة العربية في حذاء أمريكا. لماذا نتصور أن تحالف اليمين المتطرف والمحافظين يسقط؟
محمد حربي: يذهب باحثون كثيرون إلى أن الولايات المتحدة استبدلت الإسلام كعدو بالشيوعية، كيف تقرأ هذا العداء الأمريكي للإسلام؟ وهل ينطلق من أسس أصولية بسبب المحافظين الجدد ذوي الرؤى الرسالية، أم ينطلق من أسباب سياسية نظرًا لانتشار الإسلام في الشرق الأوسط خزانة النفط العالمية؟
نصر أبو زيد: أعتقد أن هذا طرح لاهوتي، يجب أن نحذر منه، للصراع. لا الولايات المتحدة تعادي الإسلام كدين (هناك ملايين من المسلمين يعيشون في الولايات المتحدة، ولهم مؤسساتهم ومساجدهم وممثلون لدى الحكومة) ولا القاعدة ستقضي على الولايات المتحدة. الإمبراطورية الجديدة تريد لاهوتها الخاص، شأن كل الإمبراطوريات القديمة؛ هذا اللاهوت بدأه فرنسيس فوكوياما ١٩٩٢م بنظرية نهاية التاريخ (البشارة الدينية بنهاية العالم القديم وميلاد عالم جديد هو عالم المؤمنين، سمة في بداية كل الأديان) وطورها صامويل هنتنجتون عام ١٩٩٣م ﺑ «صدام الحضارات،» وهي عبارة أول من صكها برنارد لويس عام ١٩٥٨م، ثم أعاد الحديث عنها عام ١٩٩٢م.

هذا هو اللاهوت الأمريكي البشارة بالحياة الجديدة، لكنه لاهوت له تعبير أكثر تخفيًا وسحرًا هو لاهوت «العولمة». وأي تحليل لخطاب «العلمنة الاقتصادي» يكشف عن وجود إله لا يُعصى ولا يقهر، عذابه شديد، وانتقامه من العصاة أشد، ذلك هو «السوق». مجاهدو هذا الإله هم الأمريكان، أو بالأحرى الإدارة الأمريكية التي حباها إله العولمة بكل القوة اللازمة. لا يجب علينا أن ننساق وراء هذا المنطق اللاهوتي وننسى ما وراءه، إرادة الهيمنة والسيطرة. إذا ابتلعنا الطعم — العداء للإسلام — فسنتصدى لهم بلاهوتنا، سلاح الضعفاء. لكن المأساة تكون أنكى حين يوجه سلاح اللاهوت هذا للداخل فيكون ناجعًا في التدمير والخراب.

محمد حربي: هل ترى أن هناك عداءً حقيقيًّا بين الإسلام والحداثة يستدعي هذا الخوف من الإسلام الذي عبر عنه جون اسبوزيتو في كتابه «التهديد الإسلامي حقيقة أم خرافة»؟ وهل يمكن اعتبار الولايات المتحدة ممثلة الحداثة الغربية؟ أم أنها مرحلة انتقالية بين الإمبريالية وإمبراطورية العولمة إذا استعرنا لغة أنطونيو نيجري في كتابه «الإمبراطورية»؟
نصر أبو زيد: معادلة لا معنى لها حين نضع الإسلام هكذا بلا تحديد تاريخي أو جغرافي أو ثقافي، إزاء الحداثة دون تحديد أيضًا. الإسلام عايش أنظمة عديدة من قبلية في القرن السابع، إلى إمبراطورية حتى بداية القرن العشرين ثم تعايش مع الدولة القومية، وما يزال حيًّا حتى الآن في سياقات وبيئات جغرافية وثقافية متباينة. الإسلام الآن حاضر في أوروبا وأمريكا. وحين نتحدث عن الإسلام يجب أن ندرك أننا نتحدث عن المؤمنين بهذا الدين، أي عن الفاعلين الاجتماعيين. حين نقول الإسلام في أوروبا فلا معنى للعبارة إلا أن تكون المسلمون في أوروبا أو في الغرب أو في الشرق الأوسط أو في آسيا أو في أفريقيا … إلخ. بعض المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة تتعثر خطاها في طريق التنمية والتحديث والحداثة. لماذا؟ هل نبحث عن العلة في الدين ذاته، أم نبحث عن مشكلات الفاعلين الاجتماعيين، عن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي على أساسه يرتبون حياتهم، وعلى أساس ترتيب هذه الحياة تتحدد ثقافتهم، وعلى أساس ذلك كله يتحدد في وعيهم معنًى، أو معاني، الدين الذي يؤمنون به؟ مشكلة العالم الإسلامي أو العربي مع الحداثة ليست مشكلة دينية لاهوتية.
محمد حربي: كيف تقرأ الاستشراق الأمريكي المعني بدراسة الإسلام والتخويف منه في إطار نظرية إدوارد سعيد، وخاصة عند الباحث المعروف برنارد لويس؟
نصر أبو زيد: برنارد لويس وأمثاله باحثون باعوا أنفسهم للشيطان. هذا يحدث في كل بلدان العالم، حين يتحول العالم والباحث والمثقف إلى أداة. هو — أي برنارد لويس — في الأخير مؤرخ متخصص في تاريخ الإمبراطورية العثمانية، لكنه يقرأ تاريخ الإسلام في الحروب والمعارك والمواقع مع البيزنطيين وحصار فيينا … إلخ. وهو وكثيرون مثله ما زالوا يعيشون التاريخ وكأنه ما زال ماثلًا، تمامًا كما يقرأ البعض عندنا تاريخ الاستعمار باعتباره تواصلًا مع الصليبية، (حروب الفرنجة كما كان المؤرخ العربي يطلق عليها). على المستوى الشخصي هو شخص فضيحة، الذين حضروا ندوة «حوار الثقافات: هل هي ممكنة» في الرباط عام ٢٠٠٣م واستمعوا إلى كلمته التي تعمد فيها أن يهين اسم إدوارد سعيد دون أن يذكر اسمه، وكانت الندوة كلها مهداة إلى اسم إدوارد سعيد ثم مغادرته القاعة مباشرة بعد إلقاء كلمته وقبل أن تنتهي الجلسة، الذين شهدوا ذلك يدركون الفضيحة التي اسمها برنارد لويس. فقدان النزاهة والشرف العلمي كارثة تخلع عن العالِم إنسانيته مهما بلغ علمه. هذا هو برنارد لويس وهو نموذج له أشباه في كل مكان لا في أمريكا وحدها.
محمد حربي: كيف ترى ١١ سبتمبر؟ وهل هو جريمة إرهابية؟ أم انتفاضة ضد سطوة الولايات المتحدة كما يذهب كثير من الباحثين من أمثال تشومسكي ووليام بلوم؟ وكيف تقرأ رد فعل أمريكا العنيف ضد أفغانستان والعراق؟
نصر أبو زيد: ١١ سبتمبر جريمة أيًّا كانت الأسباب والدوافع، جريمة قتل راح ضحيتها آلاف الأبرياء، وجرائم القاعدة هي القتل على الهوية لا في أمريكا فقط، بل في العراق كذلك. هناك تمييز يجب أن يكون واضحًا بين الجرائم الإرهابية وبين المقاومة المشروعة. رد فعل أمريكا هو الرد على جريمة بجرائم. القضاء على الإرهاب بوصفه جريمة كان يتطلب استراتيجية أخرى تمامًا غير قتل المدنيين واحتلال البلدان. المخطط الأمريكي للسيطرة على منابع النفط وعلى خطوط انتقاله كان مخططًا معروفًا منذ حربي الخليج الأولى والثانية. الجريمة لا تبرر الجريمة، لكن الجرائم التي ترتكبها الدول جرائم أشنع.
محمد حربي: من خسر المعركة برأيك، في ١١ سبتمبر الإرهاب الذي انتشر بعدها وطال مدنًا أكثر مثل مدريد ولندن وشرم الشيخ. أم أمريكا التي أصدرت قوانين تقيد الحريات وتقلص من حدود الخصوصية، وكيف يمكن مواجهة الإرهاب قبل أن نحدده بدقة؟ ولماذا خسرت أمريكا معركتها مع الإرهاب؟
نصر أبو زيد: الذي يخسر كل يوم هم المواطنون الأبرياء في كل مكان: لندن، مدريد، وشرم الشيخ، والرياض، لا فرق. تقييد الحريات وتقييد حدود الخصوصية ليس خسارة لأي نظام، بل هو وبال على المواطنين. التضحية بالحرية من أجل الأمان هي أكذوبة أنظمتنا التي صارت الآن أكذوبة الغرب. لم يعد هناك فارق كبير بين الغرب والشرق. مواجهة الإرهاب لا تبدأ إلا بإزالة أسبابه، لا نتحدث الآن عن أسبابه الأساسية، غياب الحريات في المجتمعات العربية. ولا يجب أن ننسى أن الإرهاب بدأ هنا عندنا في مصر أولًا، ثم انتشر في العالمين العربي والإسلامي قبل أن تحمله رياح العولمة إلى كل مكان. الآن يعيد الإرهاب تصدير نفسه لعقول الشباب المحبط في كل مكان حين يتحدث عن فلسطين وأفغانستان والعراق، وهي مشكلات حقيقية آن للعالم أن يحاول جادًّا حلها. نعود الآن إلى ما يحدث في لبنان من دمار شامل، والعالم ليس فقط صامتًا، بل يبدو شامتًا ومحبذًا على أساس أنها حرب ضد الإرهاب، وهي الجريمة الكبرى التي ما يزال العالم يرتكبها: الخلط العمدي الماكر والزائف بين المقاومة والإرهاب.
محمد حربي: في جوانتانامو، وأبو غريب، كما كشف سيمور هيرش، مارس «الأمريكي» عنفًا نفسيًّا وجسديًّا ضد الآخر، يذكرنا بالعنف الذي مارسه منذ البداية ضد الهندي الأحمر، وضد السود في مراحل العنصرية، كيف تقرأ التاريخ الأمريكي والعنف ضد الآخر؟
نصر أبو زيد: تحدثت قبل ذلك عن التاريخ، ولا أريد أن أكرر ما قلت، ولا أريد أيضًا أن أقع في التعميم، فأنسب ذلك العنف إلى الثقافة الأمريكية، التي سبق أن بينت أنها نسيج متعدد من ثقافات أوروبية وغير أوروبية. العنف مارسه جنود تمرينهم الوحيد هو «القتل» لا الاحتلال، القتل والقتل فقط. هذا الجندي ماذا تتوقع منه حين تسند إليه وظيفة السجان، وهي وظيفة لم يتمرن عليها. الأهم من ذلك أن المواطن الأمريكي بصفة عامة قد تربى على أن «أمريكا» هي العالم، ومدينته هي قلب العالم. العالم لا وجود له في العقل الأمريكي المتوسط، فالأخبار المحلية لها دائمًا الصدارة. كان هذا يزعجني طول … وقد تعودت على تربية تهتم بشئون العالم؛ لأن الشئون الداخلية مرتبطة بهذا العالم. حين قامت الثورة الإيرانية ونجحت في طرد الشاه، كان الطلاب وبعض الأساتذة في الجامعة غير قادرين على التمييز بين الإيرانيين والعرب. العنف جزء من ثقافة الكاوبوي، الخلافات لا تحل بالتفاوض بل بالقوة حتى بين الأشقاء. تذكر حين أنتجت هوليوود الجزء الأول من «رامبو»، ماذا كان تعليق الرئيس ريجان بعد أن شاهده — وهو كان ممثلًا على أي حال — قال: هذه هي الطريقة. هذه ذهنية المواطن الأمريكي.
محمد حربي: قلت في إحدى محاضراتك في هولندا أن الغرب عرف كيف يحل مشكلة الاختلاف في الرأي أما نحن ففشلنا. هل ترى ذلك أمرًا حقيقيًّا، خاصة أن أمريكا تفرض آراءها ورؤاها بالقوة ولا تقبل بالاختلاف «من ليس معنا فهو ضدنا» كما حدث مع غزو العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل؟
نصر أبو زيد: كنت أتحدث عن «الديمقراطية» كمؤسسة حضارية للتعامل مع الخلافات والاختلافات السياسية داخل كل دولة. وحين تعرضت أوروبا لخطر النازية توحدت كلها في وجهها. لم يستطع العرب أن يفعلوا ذلك حين اعتدى النظام العراقي على الكويت واحتلها. السبب ببساطة أن الديمقراطية لم تكن قد تأسست، فكيف يحارب الطغاة طاغية مثلهم إلا إذا كانوا واثقين من النصر، ولم يكن في القيادات العربية من هو قادر على ذلك.

الغرب في تعامله مع العالم غير الغربي، قصة أخرى، لا ديمقراطية ولا حقوق، إلا إذا كان هذا العالم غير الغربي يمتلك قوة ذاتية. هذا كله انتهى بعد أن سلم السادات الأوراق كلها إلى أمريكا. لاحظ أن أمريكا — بكل جبروتها وسلطانها — غير قادرة على تنفيذ نفس السياسة ضد كوريا الشمالية ولا ضد إيران حتى الآن. لا تلم قوة الآخر، بل ضع اللوم كله على ضعفك. الديمقراطية الغربية لم يؤسسها للغرب الغرباء، بل هم تحاربوا حتى تعبوا من الحروب وقرروا أن يحلوا خلافاتهم واختلافاتهم بهذه الوسيلة. إذا أردت نموذجًا للديمقراطية الناجحة والأخرى الخائبة فهي أشبه بإشارات المرور وقانون المرور، الذي تفرض قوانين السلامة على الجميع طاعته. انظر لحالة المرور في شوارعنا وحدثني عن مصير الديمقراطية.

هذا هو الخطاب العنصري بامتياز، الخطاب الذي يناسب عقلية المحافظين الجدد. لكن ما يجهله هنتنجتون، أو بالأحرى يتجاهله، أن أمريكا آخر بلد يمكن فيه ادعاء نقاء السلالة والعنصر، وهو أمر لا يمكن ادعاؤه في أي مكان في العالم اليوم. في حالة أمريكا: أين هذا الجنس؟ إنه مشابه للادعاءات الإسرائيلية بقومية يهودية أو إثنية يهودية، إنها الأساطير. لسنا إزاء صدام حضارات ولا صراع أديان، هذا هو الغطاء الأيديولوجي؛ فالصراع صراع إرادات وصراع قوة.

الجزء الثاني والأخير من تفاصيل ما دار خلال الحوار

محمد حربي: كيف تقرأ سيرة الرئيس الأمريكي جورج بوش كنموذج لزعيم، يراه الكثير من الكتاب يشبه زعماء العالم الثالث الذين يعتمدون على أو يوظفون الدين كورقة أساسية في السياسة؟ وهل تحتاج أمريكا إلى تجديد لخطابها الديني، إذا استعرت تعبيرك الشهير في الكتاب الذي يحمل الاسم نفسه؟
نصر أبو زيد: الخطاب الديني في كل مكان يحتاج لتجديد مستمر؛ فعملية التجديد ليست جراحة تجميل، بل هي صيرورة. تحتاج أمريكا أكثر من أي شيء آخر إلى أن تواجهها إرادات قوية أخرى فتهزم نعرتها العنصرية الكاذبة. أمريكا هُزمت في فيتنام، وحزب الله هزمها في لبنان عدة مرات، ونرجو أن تهزم مع إسرائيل هذه المرة أيضًا. نضال الشعوب لا يُقهَر، ولكن السؤال هو: كيف تستعيد الشعوب قدرتها على هزيمة الطغاة. ما سيجدد الخطاب السياسي الأمريكي ويصلحه، ويصالح أمريكا مع العالم، هو قوى المقاومة في العالم، وليس أمريكا نفسها. في هذا السياق لا ننسى هؤلاء المفكرين الأمريكيين الكثيرين الذين ينقدون النظام ويشهرون فضائحه الداخلية والخارجية.
محمد حربي: إذا خيرت مثلًا — وهذا خيار افتراضي — بين بوش وابن لادن فمن تختار؟ ولماذا؟ أم أنك سترفضهما معا؟ ولماذا أيضًا؟
نصر أبو زيد: أرفض كليهما بلا تردد. نحن الآن نعيش في عالم يحدد مجال الاختيارات بطريقة شبه قهرية واضطرارية، ولا يمكن أن يسمى هذا «اختيارًا» بالمعنى الحقيقي للاختيار. ربما الاختيار الحقيقي هو «المقاومة» الفكرية والثقافية والسياسية، وأحيانًا المقاومة المسلحة. اختيار الفلسطينيين واللبنانيين — اختيار المقاومة — هو الاختيار الوحيد الصحيح المتاح ضد بوش وابن لادن. كلاهما شر لا بد من التصدي له ومقاومته.
محمد حربي: كيف تنظر إلى تجربة حزب الله في لبنان وهل نجح حسن نصر الله في تقديم صورة الثوري المسلم «جيفارا إسلامي» إن صح التعبير؟ وهل يمكن أن تمثل تجربته إلى … مصالحة تاريخية بين السنة والشيعة أم أن المشروع الأمريكي الإسرائيلي في المنطقة لن يسمح بمثل هذه المصالحة إذا قرأنا الدرس العراقي جيدًا؟ أنا هنا لا أنطلق من نظرية مؤامرة بل من قراءة لأبجديات المسرح العالمي رغم أنه مسرح في حالة ميوعة.
نصر أبو زيد: قراءتك صحيحة إلى حد كبير، فالمشروع الأمريكي الإسرائيلي يريد تقسيم المنطقة إلى مجتمعات طائفية كما حدث في العراق، يراد مثل ذلك في لبنان. وهذا هو الهدف من الحرب القائمة الآن. أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية بوضوح أن الوقت صار ملائمًا لشرق أوسط جديد. أما تجربة حزب الله فهي تجربة المقاومة بامتياز. منذ نشأته في الثمانينيات لم يقتل مدنيًّا إسرائيليًّا واحدًا، ولم يوجه سلاحه ضد أي عربي، لبناني أو غير لبناني. أن تكون صورة «حسن نصر الله» المرفوعة الآن في كل مكان عاكسة لصورة المناضل جيفارا، فهذا رمزيًّا صحيح. أعتقد أن المقاومة، في فلسطين ولبنان، هي الرد الناجز على تردي الموقف العربي الرسمي. المقاومة تمثل تعرية للتخاذل الرسمي، ومن هنا حرص كل الأطراف — أمريكا وإسرائيل وأوروبا وبعض الأنظمة العربية — على القضاء عليها. ومن هنا واجبنا في حمايتها والدفاع عنها مهما كان الاختلاف مع أيديولوجيتها الفكرية.
محمد حربي: أمريكا تحاول فرض الديمقراطية في الشرق الأوسط بالقوة، هل ترى أن أمريكا تريد الديمقراطية فعلًا في عالمنا العربي؟ ولماذا رفضت نتائج الانتخابات الفلسطينية التي جاءت بحماس إلى السلطة؟ ولماذا سكتت على تجاوزات السلطة في مصر في الانتخابات الأخيرة؟
نصر أبو زيد: للعالم العربي تجربته، أو بالأحرى تجاربه الديمقراطية قبل أن يولد آل بوش جميعًا، هذا ما قاله «حسن نصر الله» في حديثه مع قناة الجزيرة. لمصر تجربة تحديثية وديمقراطية تعثرت. العالم العربي في قلب المخاض، أمريكا تجهض هذا المخاض بتدخلها؛ ذلك أن الديمقراطية المفروضة من أعلى — من الداخل أو الخارج — هي الديمقراطية الإجرائية، ديمقراطية الانتخابات وبيع الأصوات والمتاجرة فيها … إلخ. الديمقراطية أساسها الحريات، وفي القلب منها الحرية الفردية للرجل والمرأة سواء بسواء، حرية التفكير، حرية التعبير، حرية الاختيار، حرية اتخاذ القرار على كل المستويات والأصعدة بعيدًا عن ضغوط الأسرة — الزوج يضغط على الزوجة، الوالدان يضغطان على الأبناء ويحددان مصائرهم — وضغوط القبيلة وضغوط المجتمع. الحرية الفردية هي أساس كل الحريات، ولا ديمقراطية حقيقية في غيابها.
محمد حربي: هل أمريكا دولة ديمقراطية فعلًا إذا عدنا إلى سيطرة النخبة اليمينية على الحزبين الكبيرين وسرقة أصوات الناخبين خاصة السود في فلوريدا كما قال مراسل الإندبندنت في لوس أنجلس أندرو جامبل في كتابه «اسرق هذا الصوت» في انتخابات ٢٠٠٤م كما أن انتخابات ٢٠٠٠م انتهت بقرار المحكمة العليا؟
نصر أبو زيد: نحن نلخص الديمقراطية في الانتخابات ونسلبها بُعدها الأساسي وهو الحريات. إذا نظرنا للديمقراطية من منظور الحريات لا يمكن إنكار وجود الديمقراطية في أمريكا. الانتخابات لعبة سياسية لها قوانينها التي لا تلغي دولة المؤسسات. من الضروري التأكيد أن سياسة الولايات المتحدة العليا — الاستراتيجية — لا يرسمها هذا الرئيس أو ذاك. إن الاختلاف بين الإدارات يكمن في الإجراءات التنفيذية. من هنا خيبة السياسة العربية حين تركز على شخص الرئيس فتبني توقعات وهمية. كون نتيجة الانتخابات حُسمت بقرار المحكمة العليا يعني سيادة دولة القانون.
محمد حربي: في انتخابات ٢٠٠٤م برز صوت الكنيسة بشكل لافت في ترجيح كفة بوش، كيف تقرأ ذلك؟ وهل كان نوعًا من تحجيم الصوت الإسلامي الذي برز في عام ٢٠٠٠م أم أن التفاف التيار المسيحي المتطرف مع المحافظين الجدد كان وراء البروز الكنسي في الانتخابات؟ وهل ترى إمكانية تعايش حقيقي بين الكنيسة والديمقراطية؟
نصر أبو زيد: صوت الكنيسة الكاثوليكية بارز في السياسة الدولية منذ بداية الحرب ضد الشيوعية في بولندا. تحالفت الكنيسة — والأزهر بالمناسبة في عهد كارتر حين زار الشيخ عبد الحليم محمود أمريكا وخطب في الكونجرس عن التحالف ضد الكفر والإلحاد الدوليين — مع النظام الأمريكي لدحر الشيوعية. الكنيسة في أمريكا حاضرة دائمًا في السياسة بشكل ديمقراطي؛ لأن الكنيسة جزء، أو صارت جزءًا، من مؤسسات المجتمع المدني. لا تعارض بين الكنيسة والديمقراطية؛ إذ إن المؤسسة الدينية تدمقرطت منذ ترنحت قوتها تحت ضغوط الحداثة.
محمد حربي: تدعو طوال مسيرتك الفكرية إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني الإسلامي كشرط أساسي للتطور وتطالب الإدارة الأمريكية النظم العربية بالمطلب ذاته، كيف تنظر إلى الدعوة الأمريكية لتجديد الخطاب الإسلامي وما هي برأيك مسئولية أمريكا في انتشار الخطاب الإسلامي المتطرف؟
نصر أبو زيد: مطلب تجديد الخطاب الديني — أو بالأحرى نقد الخطاب الديني (وهو عنوان كتابي) — مطلبٌ ملحٌّ عربيًّا وإسلاميًّا. أن تأتي أمريكا وتتبنى الشعار — دون المضمون — لا ينبغي أن يزعجنا؛ فيركبنا العناد ونتخلى عن مطلب ملح من مطالب نهضتنا. مسئولية أمريكا فادحة، منحت الخطاب المتطرف كل قنوات العولمة حين حولت الحرب ضد الإرهاب إلى حرب ضد المسلمين. لكن علينا أبدًا ألا ننسى أن الخطاب المتطرف هذا ولد في رحم أنظمتنا السياسية والاجتماعية والثقافية المتطرفة. إنه ليس كائنًا فضائيًّا لا جنسية له، إنه في الأصل عربي، عربي ولا فخر. أمريكا مسئولة؟ نعم، ولكنها لم تخلق التطرف والإرهاب من عدم.
محمد حربي: أمريكا هي شيطان أكبر كما يذهب الإيرانيون، أم حلم يراود مخيلة الكثيرين من العرب، أم أنها غلطة كبيرة كما قال فرويد، أم طليعة الانحطاط كما قال جارودي. ما هي أمريكا في رأيك؟ ومن هو الأمريكي؟
نصر أبو زيد: ما أسهل شيطنة الآخر، الأمر الذي يطرح الأنا بوصفها ملاكًا. هل نتحدث عن أمريكا أم عن السياسة الخارجية الأمريكية. الشيطان — دينيًّا ورمزيًّا — هو الوجه الآخر للمقدس، يبقى ببقائه ويفنى بفنائه. لا وجود للمقدس دون قناعة وهو الشيطان، ولا وجود للشيطان إذا لم يوجد المقدس. نحن إزاء ثنائية الخير والشر، وهي ثنائية لا مجال لها — أو لا ينبغي أن يكون لها مجال — في التحليل السياسي. كلام جارودي أوهام أيديولوجية تماثل أيديولوجية الشيطنة. ونفس الأمر ينطبق على الفرويدية. أمريكا قوة سياسية واقتصادية وعسكرية تبغي السيطرة على العالم — الشرق الأوسط وأفريقيا بصفة مبدئية — من خلال خلق تحالفات مع أوروبا وترضيات في آسيا. إسرائيل في الشرق الأوسط هي ذراعها التنفيذية، ومن ثَم الحرص على تسليحها وضمان تفوقها العسكري والاقتصادي في المنطقة. نعود إلى بداية سعى أمريكا لملء الفراغ في الشرق الأوسط، وهو الفراغ الناتج عن ضعف السيطرة الإمبريالية لبريطانيا وفرنسا، والذي لم تولد قوى محلية لملئه. تطور تكتيك ملء الفراغ إلى محاولة خلق تحالفات — حلف بغداد — لم تنل نجاحًا بحكم المقاومة الناصرية. كانت الخطوة التالية سحق هذه المقاومة في حرب الأيام الستة. في السبعينيات سُلِّمت كل أوراق اللعبة لأمريكا — السؤال الأول — وهكذا تدحرجت الأمور حسب تعبير «عزمي بشارة». هل ما يزال هذا الفراغ قائمًا؟ الآن أمريكا تحتل العراق، وإسرائيل تحتل فلسطين وتحاول القضاء على لبنان، ولم يبقَ غير المقاومة. هذه أمريكا بلا رتوش ولا أغطية سيكولوجية أو أيديولوجية ولا شيطنة.
محمد حربي: تذهب منار الشوربجي إلى ضرورة فهم أمريكا الأخرى غير تلك التي غرقنا فيها بسبب أحادية الرؤية، وسطوة الصراع العربي الإسرائيلي كمنظور وحيد للاقتراب من فهم أمريكا. كيف ترى قضية فهم أمريكا؟ وما هي ضرورات هذا الفهم وآلياته من وجهة نظرها؟
نصر أبو زيد: هذا أمر ضروري وحيوي، الفهم والتحليل وسبر الأغوار من أكثر من زاوية. لا بد من اقتحام الداخل الأمريكي الذي يكاد يكون مغلقًا عما يدور في الخارج. صورة أمريكا في ذهن المواطن الأمريكي العادي تكاد تكون صورة مثالية. نسي الأمريكي العادي فيتنام، وعلى العربي أن يعيد تذكيره بالاتصال المباشر وتقوية اللوبي العربي والإسلامي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا بد من التواصل مع أفكار وأطروحات الثقافة النقدية داخل الولايات المتحدة وأوروبا، لا من أجل تأكيد وجهة نظر العرب فقط، بل من أجل نقدها كذلك.
محمد حربي: العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من أكثر العلاقات رسوخًا في التاريخ المعاصر، ويذهب وليام بلوم صاحب كتاب الدولة المارقة إلى أن حل مشكلة الإرهاب الذي يهدد أمريكا يمكن بجعل إسرائيل دولة أجنبية؟ كيف تنظر إلى تلك العلاقة من منظور الباحث في الأديان وهل يمكن أن تتخلص أمريكا من سطوة اللوبي الإسرائيلي؟
نصر أبو زيد: أعتقد أن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة أعقد من أن تكون مجرد علاقة سياسية وعلاقات مصالح متبادلة. إسرائيل هي الحلم الذي أراد المستوطنون الجدد في الأرض المكتشفة إقامته — مدينة الله أو أورشليم الجديدة — ولاحظ التوازي بين ما فعله اليهود في فلسطين والفلسطينيين وما فعله المستوطنون الجدد بالسكان الأصليين. فبعد مذبحة جيمس تاون عام ١٦٢٢م ضد الهنود الحمر أصبح إفناؤهم برنامجًا للمستوطنين في نيوإنجلند. وبرر البروتستانت البيوريتانيون حقهم في الأرض أيديولوجيًّا بصراحة، حيث كانوا يطمحون أساسًا إلى تحقيق تصوراتهم المثالية السياسية–الدينية حول تأسيس «أورشليم الجديدة» في العالم الجديد. فكما كانوا يعتبرون أنفسهم «شعب إسرائيل الجديد»، كانوا ينظرون بعد «الهجرة من مصر» إلى أرض الهنود الحمر باعتبارها «أرض كنعان» التي أهداها الرب إليهم. فالاستيلاء عليها من «الكنعانيين» و«الأدوميين»، أي الهنود الحمر، وإبادتهم بالسيف والنار، كان يتفق وفهمهم للعهد القديم باعتباره إرادة الرب المنزلة وبشرى الخلاص. وتحت تأثير معطيات الاستعمار الاستيطاني السائدة، برزت الأيديولوجية البروتستانتية البيوريتانية السائدة في نيوإنجلند التي اعتبرت الهنود الحمر «أبناء الشيطان» ومن حق المستوطنين الاستيلاء على أرضهم وإبادتهم وضميرهم مستريح. هذا يجعل الحل في أيدينا لا في يد أمريكا. الانتظار حتى تتعقل السياسة الأمريكية سيطول طالما أن درجة المقاومة الرسمية والشعبية «صفر». فَشَل السكانُ الأصليون في مقاومة المحتلين؛ لأنهم قاوموا بالأساطير القوة العسكرية، أخشى أن يكون هذا مصيرنا لو فعلنا نفس الشيء.
محمد حربي: كيف تقرأ أزمة الدراسة التي نشرها ستيفن والت عن اللوبي الإسرائيلي وأثارت ضجة كبيرة؟ هل فقدت أمريكا مناعتها الأكاديمية وهل نحن إزاء مكارثية جديدة يتعرض لها المفكرون المختلفون مع النظام؟
نصر أبو زيد: أي نظام سياسي حين تنكشف فضائحه في مجتمع ديمقراطي يسعى بكل الوسائل (القانونية) لكبت أصوات المعارضة، لكنه لا ينجح في المجتمعات الديمقراطية، أو غالبًا ما يكون نجاحه جزئيًّا ومؤقتًا. المكارثية نجحت في أمريكا لبعض الوقت، لكنها الآن غير قادرة على تحقيق مثل ذلك النجاح. الدليل هو التصدي الداخلي، أي من داخل الأكاديمية ضد هذا التدخل. قارن ذلك بوضع أكاديمياتنا العربية.
محمد حربي: تلقيت منحة دراسية من مؤسسة فورد الأمريكية منتصف عقد السبعينيات للدراسة في الجامعة الأمريكية، هل لك أن تلقي لنا الضوء على هذه المنحة وظروف دراستك في الجامعة الأمريكية آنذاك في عقد السبعينيات الملتهب بأسئلة والارتباط بأمريكا في الخطاب السياسي العربي؟
نصر أبو زيد: كانت مجموعة من المنح قدمتها الجامعة الأمريكية للجامعات المصرية لتمكين المعيدين من دراسة اللغة الإنجليزية لمستوى يمكنهم من كتابة رسائل الماجستير والدكتوراه باللغة الإنجليزية. كانت هذه هي البداية عام ١٩٧٥م، وكنت في مرحلة إنهاء رسالة الماجستير باللغة العربية في قسم اللغة العربية بآداب القاهرة عن «قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة» — نشرت بعد إنجازها بعنوان «الاتجاه العقلي في التفسير» بالمركز الثقافي العربي ببيروت والدار البيضاء — ورشحتني الجامعة ودرست في الجامعة الأمريكية لمدة عامين تعلمت خلالهما الكثير بالإضافة إلى إجادتي للغة الإنجليزية قراءة وكتابة وكلامًا. بعد عام واحد أي في عام ١٩٧٨م تلقت الجامعة منحتين دراسيتين من مؤسسة فورد لدراسة الفولكلور (مناهج الجمع والتصنيف والعمل الميداني) في جامعة بنسلفانيا بالولايات المتحدة. كان من أهم شروط المنحتين أن يكون المرشح حاصلًا على الدكتوراه، وحين عرض الموضوع على مجلس قسم اللغة العربية — وكنت مدرسًا مساعدًا آنذاك، بمعنى أنني حاصل على الماجستير، وما زلت في مرحلة إعداد الدكتوراه، أي إن شروط المنحة لا تنطبق عليَّ — لم يتقدم للترشيح للمنحة سوى الدكتور أحمد علي مرسي، الذي كان أستاذًا مساعدًا للدراسات الشعبية بالقسم. ومعنى ذلك أن القسم كان سيرشح مرشحًا واحدًا ويعتذر عن عدم الترشيح للمنحة الثانية. وهنا طلبت من القسم ترشيحي بدلًا من الاعتذار، على الأقل سيكون الرفض من جانب الجهة المانحة أفضل من اعتذار القسم الذي قد ينتج عنه عدم تكرار المنحة. كان هذا منطقي الذي وافقني عليه الأساتذة. هكذا تم ترشيحي رغم أنني لم أكن حصلت على الدكتوراه بعد. وبفضل جهود الدكتور أحمد مرسي ومساعدة رئيس الجامعة آنذاك تم إقناع المسئولين بعمل امتحان شفوي في شكل «مقابلة شخصية» لي.

نجحت في الامتحان الشفوي، وكان السؤال الملح للمسئول هو ما إذا كنت أنوي اهتبال الفرصة للإقامة في الولايات المتحدة، وحين سألني عن الضمانات أن ذلك لن يحدث كانت إجابتي الحاسمة أنني لا أقبل عن وطني بديلًا. كانت الظروف السياسية الداخلية قمعية، خاصة بعد مظاهرات الخبز في يناير ١٩٧٧م، هذا بالإضافة إلى أن الزيارة الأولى للقدس كانت قد تحققت، وكانت مباحثات السلام في كامب ديفيد قد بدأت. في أمريكا شهدت توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين السادات وبيجن، وعشت لحظات المهانة على الهواء مباشرة. عشت أيضًا مع المبعوثين العرب لحظات الشجار باسم الحكومات، وحضرت لقاءً لرئيس مجلس الشعب آنذاك — وكان رئيسًا لجامعة القاهرة قبل ذلك، الدكتور صوفي أبو طالب — بالطلاب المصريين، واشتبكت معه في جدل عن الديمقراطية والخصوصية … إلخ.

بالإضافة إلى الفوائد العلمية والأكاديمية التي أفدتها خلال المنحة التي امتدت حتى نهاية عام ١٩٧٩م، تعرفت على المجتمع الأمريكي من الداخل. ليس من قبيل التفاخر أن أذكر الآن أن الأستاذ العراقي الأمريكي الشهير بجامعة هارفارد محسن مهدي عرض عليَّ أن أكمل رسالتي عن «تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي» معه في هارفارد، على أن يعينني مساعدًا له بعد ذلك، واعتذرت. حين زرت جامعة هارفارد عام ١٩٩٩م والتقيت بالأستاذ — وهو بالمعاش لكنه ما زال يسكن في هارفارد — سألني ضاحكًا: ألا تحس بالندم أنك لم تقبل عرضي منذ عشر سنوات؟ ضحك قبل أن أجيب وقال: أعرف إجابتك. سافرت بعد ذلك لأمريكا عدة مرات محاضرًا وزائرًا. بعد ١١ سبتمبر قاطعت أمريكا تمامًا واعتذرت عن كل الدعوات مبررًا اعتذاري بالإهانات التي يتعرض لها الزوار من العالم الإسلامي خصوصًا. لمن لا يعرف أنا لا أزال مصريًّا، ولا أحمل أي جواز سوى الجواز المصري. بعد أن استقرت قواعد التعامل مع القادمين سافرت العام الماضي — مارس عام ٢٠٠٥م — وفي كل محاضراتي كان نقد السياسة الأمريكية يلقى ترحيبًا من المستمعين. هذه قصتي بالتفصيل مع أمريكا.

محمد حربي: كيف تقرأ انتشار الجامعات الأمريكية، ومعاهد الدراسات الأمريكية في العالم العربي حاليًّا؟ وهل تراها ظاهرة طبيعية تأخرت بعض الشيء أم أنها جزء من حملة علمية توازي الحملة السياسية، مع أني لست من أنصار نظرية المؤامرة؟
نصر أبو زيد: ما يشغل الإدارة الأمريكية الآن هو تحسين صورة أمريكا في عيون العرب، لكن ذلك يتم بعقلية دعائية ودوجمائية: محطات تليفزيون — الحرة — تعريب بعض المجلات مثل النيوزويك والإكونوميست. قناة الجزيرة بصدد إنشاء قناة باللغة الإنجليزية، معظم العاملين فيها أمريكان. انتشار الجامعات الأمريكية، أو تزايد علاقات التعاون والتآخي بين بعض الجامعات الخاصة وبعض الجامعات الأمريكية، لا يدخل في باب المؤامرة، بقدر ما هو استجابة ضرورية لخلق كوادر وظيفية تقنية للشركات العابرة القارات من جهة، وتحقيق وإشباع احتياجات تعليمية لأبناء الفئات الجديدة في المجتمعات العربية، خاصة أبناء الأغنياء الجدد. ربما يؤدي ذلك تدريجيًّا للقضاء على التعليم الوطني الذي يعاني من نقص بشري وتقني ومكتبي ومبانٍ يزيد منه تخلي الدولة — أو الدول العربية — تدريجيًّا عن دعم التعليم، بنقله من مجال «الخدمات» إلى مجال «الاستثمار». من الصعب التمييز بين المؤامرة والتبعية هنا.
محمد حربي: ما هو جديد الدكتور نصر؟ وما هي أخبار مؤسسة تجديد الفكر العربي التي ترأسها وتنطلق من بيروت؟
نصر أبو زيد: لعلك تعلم أنني أشغل الآن كرسي «ابن رشد» بجامعة الإنسانيات في أوترخت، وإن كنت ما أزال أستاذًا بجامعة لايدن ليوم واحد فقط أسبوعيًّا. الجديد هو الانتقال في تحليل القرآن من «مفهوم النص» إلى «مفهوم الخطاب»، والفارق كبير منهجيًّا من حيث النتائج والاستنباطات التاريخية. كان هذا موضوع محاضرتي للكرسي في مايو عام ٢٠٠٣م، وقد نُشرت بالإنجليزية، ولكني أعد ترجمة عربية موسعة لها تنشر بالعربية. انتهيت من دراسة نشرت بالإنجليزية أيضًا منذ عدة أشهر عن «إصلاح الفكر الديني من منظور تاريخي نقدي»، وهذه الدراسة تم الاستشهاد بها كثيرًا في التقرير الذي تقدم به المجلس الأكاديمي للحكومة الهولندية في أبريل هذا العام عن «العالم الإسلامي والسياسة التي يجب تبنيها إزاءه». ولأن التقرير نُقد بشدة النظر السياسي للإسلام والمسلمين من منظور استاتيكي غير تاريخي، منظور يتجاهل التنوعات التاريخية والثقافية للعالم الإسلامي، كما يتجاهل التطور الحادث في إطار الفكر السياسي الإسلامي، فقد تعرض لهجوم اليمين السياسي العنصري ومفكريه في هولندا. لكن النقاش حول التقرير، والذي ساهمت فيه مساهمة ملموسة، غيَّر إلى حد كبير من قناعات أغلبية السياسيين. وهذه نتيجة توقعتها.

المستقبل عندي مليء بالأعباء. أنتظر بلوغي سن المعاش هنا — بعد عامين بالتمام والكمال — لأعود نهائيًّا لمصر؛ لأتفرغ لأمرين: ترجمة الموسوعة القرآنية (خمسة مجلدات) من الإنجليزية إلى العربية، والعمل في نفس الوقت وبالتوازي على إنجاز تفسير للقرآن. هذا أمر يحتاج لتفرغ كامل، ونسأل الله الصحة وطول العمر.

المؤسسة قمنا بحلها في مارس هذا العام، بسبب عدم تلقينا أي تبرعات بعد المليون دولار الأول، والتي أُنفقت في ترجمة وطبع بعض الكتب المهمة. العجز عن اجتذاب تبرعات ليس عجزنا بقدر ما هو جبن المال العربي الكثير عن مساندة مشروعات حقيقية. كنت صاحب اقتراح الحل؛ لأنني منذ البداية أعلنت أننا لو نجحنا فلن يكون النجاح لنا كأشخاص، ولو فشلنا فلا تحملونا أوزار الفشل. نحن نعمل في سياق ثقافي واجتماعي وسياسي ولسنا نعمل في فراغ. أعلنا قرار الحل لجميع الصحف، وإن كنت قد اقترحت عمل مؤتمر صحفي في بيروت لإعلان الحل، لكن أحوال بيروت — حماها الله وحمتها المقاومة — لم تسمح لنا بذلك.

١  نُشر هذا الجزء في الصفحة الثقافية بجريدة الأهرام الجمعة ٣١ مايو ١٩٩١م.
٢  نشر هذا الجزء في الصفحة الثقافية بجريدة الأهرام الجمعة ٧ يونيو ١٩٩١م.
٣  حوار أجراه معه محمود الورداني في ألمانيا، ونُشر بجريدة الحياة بلندن، ١٦ سبتمبر ١٩٩٦م.
٤  ملحق النهار، ٢٥ يونيو ٢٠٠١م.
٥  جريدة العربي الناصرية المصرية، عدد ١١٢٩ و١١٣٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤