الفصل الخامس

الذات بين التراث والآخر والواقع

الدكتور نصر حامد أبو زيد١ من المفكرين العرب البارزين، بحث في التراث والفكر العربي والإسلامي بعمق برؤية فلسفية ومنهج عقلاني متوازن، ويتمتع إنتاجه الفكري الغزير بقيمة معرفية وعلمية كبيرة، على الصعيدين العربي والعالمي، وبغية التعرف على مشروعه الفكري عن قرب توجهت مجلة الثقافة الجديدة لمحاورته، حيث ذهب الزميلان ياسين النصير وهاشم نعمة إلى بيته في مدينة لايدن الهولندية واستقبلهما بحفاوة بالغة وكان هذا الحوار.
ياسين النصير: نرحب بك ترحيبًا حارًّا يا دكتور نصر، وتقدير لك ولجهودك العلمية والفلسفية والفكرية من أعضاء هيئة تحرير مجلة الثقافة الجديدة ومن قيادة الحزب الشيوعي العراقي، ويبلغونك سلامهم.
نصر أبو زيد: الله يسلمك ويسلمهم.
ياسين النصير: هم لا يتابعون ما تكتب فقط، بل مكتبات الحزب خزينة تحفظ اسمك وآراءك وأفكارك، وهذه حقيقة معرفية كبيرة. هذا هو أنت في الثقافة العربية والثقافة العراقية بوجه خاص.
نصر: من زمان وأنا مقروء في العراق، وأعرف هذا جيدًا وفخور به.
ياسين النصير: نحن فخورون بك، وهذا شيء مفرح في الحقيقة. نبدأ بالعراق: وهنالك فعلًا شوق حقيقي لأن تزور العراق. طبعًا العراق ليس بلدًا، وإنما هو أيضًا حركة، ووضع، وتاريخ وتكوين، وما يحدث الآن في العراق يحدث في جزء مهم من الوطن العربي. هل تعتقدون أن الذي حدث في العراق اليوم سيكون له في المستقبل تأثير على المنطقة؛ يعني أن تتغير المنطقة أو تتبدل، وهنالك توجهات حداثية في ترسيخ الليبرالية سياسيًّا واقتصاديًّا وفكريًّا وفلسفيًّا، لأننا نعيش عربيًّا في مرحلة «جدب» تام، لا على مستوى السياسة، ولا على مستوى الاقتصاد، ولا على مستوى الفلسفة فقط، بل كل شيء يعود بنا للخلف. هل من الممكن أن هذه الحركة الموجودة في العراق، وبمثل هذا الوضع الحالي، تؤدي بنا إلى فتح كوة ما في المستقبل؟
نصر: أنا لا أملك غير أن أتمنى أن يحصل هذا؛ لأن معلوماتي عما يحدث في العراق غير كافية لأقول إن ما تتوقعه جائز الحدوث أو غير جائز. العراق طول عمره، هو ومصر وبينهما سوريا ولبنان، مركز الخصوبة الفكرية في المنطقة. الذي حدث منذ العام ٢٠٠٤م لم يؤثر فقط على العراق فقط، وإنما أثَّر أيضًا على مصر، وأثَّر على سوريا، وأثَّر على لبنان. فنحن نشهد حالة مخيفة بالنسبة لنا، بالنسبة لجيلي وجيلك، إنها حالة اندحار هائل، خاصة هذه الإسلاموية المتطرفة جدًّا التي أدت إلى الصراع الشيعي السني، ليس فقط في العراق وإنما خارج العراق أيضًا. كل هذا مخيف، ويتطلب منا جهدًا غير عادي: يعني يتطلب جهدًا نقديًّا، ويستلزم إنتاج خطاب حذرٍ جدًّا جدًّا، أي خطاب يدخل في الحساسيات محللًا ناقدًا، دون أن يؤدي النقد إلى التجريح. النقد عمومًا من المفترض ألا يخلق الحساسيات، كيف تنتج خطابًا نقديًّا لهذا الذي يحدث، وتتجنب الحساسيات؟ يعني خطابًا نقديًّا لا يهدف إلى الهدم، وإنما يهدف إلى إعادة ترميم البنية المنهارة في كل مكان. الحقيقة هذا همٌّ ثقيلٌ جدًّا جدًّا، وأنتم أدرى به على مستويات عديدة، طبعًا همٌّ ثقيل جدًّا جدًّا.
ياسين النصير: بالنسبة للميدان الذي تشتغل فيه، ميدان النقد الفلسفي للنص القرآني، أو للنص القديم، هذا هو أحد الميادين المهمة. هنالك نقد من داخل النص، كما تفعل أنت، وهناك نقد من خارج النص. ترى أي الاتجاهين أكثر فائدة لتطوير الدرس الفلسفي؟
نصر: لكن هذا الميدان المهم جدًّا، جدًّا — ميدان نقد النصوص — أصبح الآن ميدانًا خطرًا وزلقًا، أحيانًا يجد الإنسان نفسه يتخذ مواقف تبدو للآخرين متناقضة.

أنا مثلًا أتخذ موقف الدفاع عن المقاومة وتأييدها، وهي نفس المقاومة التي ترفع شعارًا إسلامويًّا، أتخذ منه موقفًا نقديًّا. أقف مع المقاومة باعتبارها مقاومة، لكني لا أملك إلا أن أكون ناقدًا للشعارات الأيديولوجية التي ترفعها هذه المقاومة. في هذه الحالة، لا قيادات المقاومة راضية عنك، ولا المثقف العلماني يرضى عنك، أقصد بالمثقف العلماني هنا المثقف الذي يتبنى العلمانية التي تستبعد الدين من أفقها. وهذا يجعل مهمتك صعبة جدًّا، لكن علينا أن نستمر.

ياسين: طبيعة هذه المقاومة، يعني هل هنالك وصفة واحدة بالمفهوم الفلسفي للمقاومة؛ لأن المقاومة التي تحدث بالعراق الآن ليست هي صيغة المقاومة الفكرية والفلسفية التي نحن نعرفها.
نصر: طبعًا المقاومة الآن في العالم العربي مقاومة ذات طبيعة مختلفة. حماس وحزب الله، والمقاومة في العراق، كلها مقاومة للاحتلال، وليست مقاومات فكرية أو فلسفية. الدين بالنسبة لهذه المقاومات أيديولوجية للحشد والتجييش، أي أداة تستخدم. ومن حيث هذا الاستخدام النفعي يتم الإضرار بالقيم الدينية الخاصة بالحياة والسعادة والفرح. يتم اختصار الدين في أيديولوجيا الموت والاستشهاد، الذي يتحول إلى انتحار فاقد للمعنى، السؤال: لماذا أصبحت المقاومة محصورة في هذه الأيديولوجيا؟
ياسين النصير: ولكن الصيغة العلنية لمقاومة الاحتلال، والتي تنتمي لها هذه المقاومة، خاصة في العراق، هي صيغة مرفوضة؛ لأن التنفيذ لأجندتها يسير بشكل آخر.
نصر أبو زيد: إذا كانت هذه المقاومة تتصدى للاحتلال، فلا سبيل أمامك إلا أن تمدحها. مقاومة الاحتلال، في أي مكان في العالم، واجب وطني وقومي لا يستطيع المثقف الوطني إلا أن يسانده. الاحتلال، سواء كان احتلالًا استيطانيًّا، أو احتلالًا مؤقتًا للأرض، هو امتهان لحق الإنسان؛ لأنه يسلب الإنسان حقه في أرضه ووطنه. نحن لا نملك إلا أن نقف مع هذه المقاومة. لكن علينا، في نفس الوقت، أن نتصدى تصديًا نقديًّا للممارسات الحياتية والممارسات الاجتماعية والممارسات الفكرية لهذا الفصيل. مقاومة الاحتلال بالسلاح نعم، أما الممارسات الأخرى فهي ممارسات لا تملك إلا أن تقف ضدها.
ياسين: نسيت طبعًا أن آخذ مثلًا الأنظمة الديكتاتورية السابقة، كانت أيضًا بجانب الكثير من الفاشية والقمع، ونشأت مقابل لها مقاومة، وكانت الأحزاب التقدمية جزءًا من هذه المقاومة، ولكن هذه المقاومة لم تلجأ إلى أساليب المقاومة الحالية بالتدمير والتفجيرات وقتل الأبرياء.
نصر: طبعًا؛ لأنها كانت مقاومة بالمعنى الشامل العميق. مقاومة الديكتاتورية تعني الدفاع عن الحرية، وتعني الدفاع عن قيم إنسانية كلية ترتبط بالعدل والحق. استخدام العنف في هذه المقاومة الواعية مبررٌ ومعقلنٌ. أما في المقاومات المؤدلجة دينيًّا فالعنف لا يوجه فقط للاحتلال، بل يمكن توجيهه للخصوم الفكريين، باسم العقيدة. هذا هو الخطر الحقيقي.
ياسين النصير: سيدي الكريم، بجانب نقدك للنص التراثي، أنت مشهور بطبيعة هي من أصعب الأنواع حقيقة، أن تنقد النص من داخل النص، بالانتماء إليه، وليس بالخروج عليه، وهذا الميدان يمكن أن يكون من أصعب الميادين في فهمك من قبل القارئ. كيف يكون نصر حامد أبو زيد مؤمنًا حقيقة بهذا النص ويوجَّه له النقد؟ هل هناك فرق بين النقد من خارج النص والنقد من داخل النص؟
نصر أبو زيد: دعنا لا نقول من داخل النص أو من خارج النص، بل النقد من داخل الانتماء لهذا الفضاء الثقافي الحضاري، الفضاء الذي نحن نسميه الحضارة العربية والثقافة العربية والإسلامية. أنت وأنا ننتمي لهذا الفضاء بصرف النظر عن أنك تنتمي لهذا الدين أو لهذه العقيدة أو لا تنتمي. نحن ننتمي لهذا الفضاء العربي الإسلامي، الذي هو مكون تاريخي وثقافي وأدبي، ناهيك عن أن تمارس النقد من داخل هذا الفضاء. من حقنا جميعًا، ونحن ننتمي إلى هذا الفضاء، أن نقوم بعمل قراءة نقدية لكل النصوص التراثية. إنها ثقافتنا ومن حقنا، بل من واجبنا أن نقف ضد هذا التجمد الذي أصيبت به، وهذا الاختصار والانحصار الذي وصلت إليه.

النقد من الداخل يعني النقد وأنت تنتمي إلى هذا الفضاء. مسألة أن يكون الإنسان مؤمنًا أو غير مؤمن مسألة لا علاقة لها بالانتماء والحق في النقد من الداخل بحكم هذا الانتماء. تبقى قضية الحكم بالإيمان أو عدمه قضية يجب أن نقف ضدها جميعًا، يجب أن نرفض منطق أن الشخص المؤمن وحده هو الذي من حقه أن يتكلم، وأن غير المؤمن يلزم الصمت.

ثمة شواهد كثيرة جدًّا تكشف حيوية الثقافة العربية الإسلامية في العصور القديمة، حتى في القضايا التي أوجه لها الآن نقدًا شديدًا. المفاهيم المتعلقة ﺑ «الشريعة» مثلًا، كانت في التراث الكلاسيكي أكثر حيوية إذا قورنت بالشريعة كما تُطرح الآن. إذا قارنت فقه «أبو إسحاق الشاطبي» مثلًا بفقه هذه الأيام تصاب بحالة من الحزن الشديد جدًّا؛ لأن معرفة فقيه اليوم بالفقه القديم معرفة هامشية جدًّا ومشوهة إلى حد كبير.

محاولة ربط الجذور المستنيرة في تاريخك الثقافي، وتطويرها من خلال المعرفة الإنسانية المعاصرة، هي مشاركة في صنع التاريخ، بديلًا عن تجميد التاريخ.

مشروعية النقد من الداخل لا تنفي حق النقد من الخارج. من حق من لا ينتمي إلى هذا التراث، الباحث الأوروبي، أو الأمريكي، أو الياباني، من حقه أن ينقد التراث العربي، أي من حقه أن يدرسه دراسة نقدية. وعلينا أن نحترم هذا النقد من الخارج ونقدره.

ياسين النصير: هل هناك نتائج ملموسة لهذا النقد من الداخل أو النقد الانتمائي؟ يعني نتائج على المستوى المعرفي، على مستوى الجامعة، على مستوى الوعي الثقافي العام، على مستوى فهم الريادة للحركة الحديثة؟
نصر أبو زيد: أعتقد أن هذا النقد الانتمائي حقق بعض النتائج الإيجابية. مثلًا مسألة «تاريخية» المعنى القرآني، التي سببت كارثة شخصية، أصبحت هذه «التاريخية» مقبولة قبولًا ضمنيًّا، وإن لم تستخدم كلمة «تاريخية» استخدامًا صريحًا. أعني أن مفهوم «التاريخية»، الذي اعتُبر هرطقة وردة عام ١٩٩٥م، تسرب في الوعي الديني التقليدي واخترقه. مثلًا رد شيخ الأزهر الحالي — الشيخ سيد الطنطاوي — على مسألة ضرورة أن يدفع أقباط مصر الجزية لإعفائهم من الخدمة العسكرية في حال وصل الإخوان المسلمون للحكم في مصر وأقاموا دولة الشريعة، رد بأن مسألة «الجزية» كانت ممارسة «تاريخية». جاء ذلك في سياق الرد على مرشد الإخوان المسلمين، عندما قال — في حوار مطول — إن الأقباط إخوتنا، ولكن لا يجب أن يخدموا في الجيش، حتى لا نُعرضهم للحرج في حال قيام حرب مع دولة مسيحية. لهذا يجب أن يدفعوا ضريبة الإعفاء من الخدمة العسكرية، أي الجزية.

هذا الرأي أغضب المصريين كلهم، فقد ألغيت «الجزية» في مصر أواخر القرن التاسع عشر. شيخ الأزهر في رده على هذا قال: «إن الجزية كانت ممارسة تاريخية». نعم كانت ممارسة تاريخية، ولكنه يعرف جيدًا أنها منصوص عليها في القرآن: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. لا يجرؤ شيخ الأزهر أن يقول إن كلامه معناه أن القرآن نصٌّ تاريخيٌّ. لكن تسربت فكرة التاريخية لوعيه لتحل له هذه المشكلة. لا يستطيع شيخ الأزهر، ولا أي واحد ينتمي إلى أي من المؤسسات الدينية، أن يقول إن هذا النص، هذا الجزء من النص، أصبح تاريخيًّا، يعني أنه أصبح غير قابل للتطبيق.

نفس الأمر ينطبق على النصوص والأحكام الخاصة بالعبودية: أصبحت نصوصًا تاريخية. بمعنى آخر، التاريخ يؤدي إلى عملية من الممكن أن نسميها «نسخًا»: أي نسخ الحكم مع وجود النص. الفقهاء التقليديون لهم حيلٌ، يجب على العقل النقدي أن يتصدى لها. هذه الحيل يمكن أن تقول: لا، هذا ليس نسخًا، إنه لا يجوز أن يُنسخ شيء من القرآن إلا بالقرآن، هذا نسيء. ماذا يعني نسيء؟ يعني تأجيل تطبيق حكم النصوص الخاصة بالعبودية تأجيلًا مؤقتًا؛ لأنه من الجائز أن تعود العبودية ثانية فتبقى هذه النصوص فاعلة. هذا معناه أن هذا الفقيه لا يحيا في العالم، لا علاقة له بالتاريخ، ولا ينتمي للتاريخ، ولا يفهم التاريخ.

النموذج الثاني لهذا الفقه الغائب عنه التاريخ: مقالة قرأتها قريبًا في إحدى المجلات السعودية، القرآن يتكلم عن حكم عدة النساء اللاتي لم يحِضْن بعد موت الزوج، هذا معناه أن القرآن يتعامل مع واقع تاريخي، كان زواج الصغيرات فيه مشروعًا بحكم التقاليد والعادات والأعراف. الشيخ الفقيه السعودي يستنبط من هذا النص جواز الزواج من الفتاة التي لم تحِض، أي لم تبلغ سن الحيض. هنا تؤخذ الشواهد النصية التاريخية من أجل أن يقال إن الزواج من الصغيرة شرعي، بغض النظر عن أن القرآن يتعامل مع حالات موجودة في الواقع ولا يؤسسها. القرآن لا يقول تزوجوا المرأة التي لم تحض. كون القرآن يضع حكمًا لعدة المرأة التي مات عنها زوجها ليس معناه أن القرآن يؤسس قاعدة للزواج بالصغيرة. هذا العالِم الفقيه السعودي يعيش في القرن السابع، ويريد أن يقف ضد التطور الذي حصل في المجتمعات العربية، ضد الحقوق التي أُعطيت للمرأة. إنه يقول للمسلم: من الممكن أن تتزوج من بنت عمرها عشر سنوات؛ لأنه كان في العصر الفلاني يتزوجون البنات قبل ما يبلغن سن الحيض. هنا ينبغي أن نتصدى لمثل هذا العبث، الذي يسيء إلى الدين وإلى التاريخ، وإلى الواقع.

هذا يعيدني إلى قضية الوحي، الوحي كان معطًى أساسيًّا في الثقافة العربية الإسلامية، الوحي معطًى أوليٌّ، أي لا يوجد شيء قبله. كان قبله الشعر وأقوال الكهَّان. أنت طبعًا تعرف وأدرى مني أن الشعر كان ديوان العرب، لم يكن لديهم علم غيره، وجاء القرآن على نمط الشعر في البداية، ولكنه أزاح الشعر من موقعه، وأصبح هو النص المؤسس، هل هذا النص، التنزيل، لا علاقة له بالتاريخ؟

إن التاريخ عنصر أساسي لفهم انبثاق الإسلام في القرن السابع، ولماذا في القرن السابع؟ كما هو عنصر أهم لفهم القرآن: لماذا نزل القرآن منجَّمًا، أي مجزَّأً على مدى زمني يمتد من سنة ٦١٠م لغاية سنة ٦٣٢م. يعني من أول ما قال محمد عليه السلام: أتاني الوحي، إنما أنا النذير، لغاية ما انتقل إلى الرفيق الأعلى. هذا النص تكوَّن خلال هذه الفترة، لم يكن نصًّا واحدًا منذ البداية. والتاريخ فاعل في تطوره وفي خلفيته، ولا يمكن لأحد أن يقرأ القرآن إلا ويرى بصمات التاريخ والحركة الاجتماعية في بنيته. إذن نحن بحاجة لمعرفة السياق التاريخي العام (القرن السابع عشر وما قبله) والخاص (تاريخ الحجاز وتاريخ فترة النبوة) من أجل أن نفهم ومن أجل أن ندرك الحيوية التي يتعامل بها الوحي مع الواقع.

ياسين النصير: ألم يحل محيي الدين بن العربي هذه المشكلة في قدم القرآن أو حدوثه وفي أيضًا كونه مُحدَثًا، ابن عربي لم يلغِ التاريخ، ولم يلغِ القدم؟
نصر أبو زيد: طبعًا مشكلة الحدوث والقدم بدأها المعتزلة، وهذه القضية شائكة؛ لأن ابن عربي يقدم حلولًا مغايرة، ليس إما هذا «القدم» وإما ذاك «الحدوث»، بل حلَّ ابن عربي هو هذا وذاك في نفس الوقت. أكد المعتزلة حدوث القرآن، إنه مخلوق ووجد في الزمان، بينما قال الحنابلة: نحن لا نقول إن القرآن مخلوق. ابن عربي يقدم حلولًا وسطى لكل المشكلات الفلسفية والكلامية التي كانت موجودة في عصره، فهو أشعري لكن أشعريته غير دوجماطيقية. كان للأشعرية خصوم وأعداء هم المعتزلة، رغم أن الأشعري كان معتزليًّا، وبعد ذلك خرج عن المعتزلة.

ابن عربي، والمتصوفة عمومًا، ليس لديهم أعداء. حاولوا النظر إلى النص الديني في تعقيده، فقالوا: إذا قلت إن القرآن قديم فأنت صادق، وإذا قلت إنه محدث فأنت صادق أيضًا. حتى فيما يعرف باسم «قضية حدوث العالم وقدمه»، وهي واحدة من القضايا الفلسفية التي كفَّر الغزالي الفلاسفة بسببها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وردَّ عليه ابن رشد بكتاب «تهافت التهافت». أي ابن عربي يرى أنك إذا نظرت إلى العالم في عقل الله فهو قديم، وإذا نظرت إلى العالم في تجسده وتشخصه فهو محدث، لكن الحقيقة لا هو محدث ولا هو قديم. كذلك القرآن قديم محدث، وليس قديمًا وليس محدثًا في نفس الوقت.

الحلول هذه كلها حلول تاريخية، وحلول تتعاطى مع مشكلات كانت حية في ذلك الوقت، ومشكلات مرتبطة بشكل أساسي بالصدام الذي حصل بين علم الكلام الإسلامي وعلم اللاهوت المسيحي، كانت ثمة مشكلات وكانت ثمة مواجهات بين علم الكلام الإسلامي الوليد وبين علم اللاهوت المسيحي، ومن هنا ففكرة حدوث القرآن التي أنشأها قبل المعتزلة الآباء المؤسسون، كانت ردًّا على مسألة ألوهية المسيح.

القرآن يقدم عن المسيح صورة مربكة بالنسبة للاهوت المسيحي: في القرآن المسيح «كلمة الله وروح منه»، وهذا بالنسبة للاهوت المسيحي طبيعي. القرآن يؤكد ميلاد المسيح من غير أب، ويؤكد عذرية «مريم»، كما يؤكد معجزات شفائه المرضى وإحيائه للموتى، كل هذا القرآن يسلم به، وكل هذا اللاهوت المسيحي يسلِّم به. ولكن القرآن يؤكد في نفس الوقت أن معجزة الميلاد وغيرها من المعجزات لا ترشحه أن يكون إلهًا، ولا أن يكون ابنًا لله، إنه عبد نبي.

هذا تناقض بالنسبة للاهوت المسيحي، وكان هذا التناقض موضوع نقاش مع الرسول في المدينة مقبل وفد الرهبان من نصارى نجران إلى المدينة. وأنا حلَّلت ما جاء في القرآن من جدل مع اليهود والنصارى، وأعتقد أن الآية ٧ من سورة آل عمران موجهة لهذا الجدل أساسًا: هذا القرآن فيه نصوص متشابهة، ونصوص محكمة. أنتم لم تفهموا المتشابه؛ لأن في قلوبكم مرضًا، فاتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء التأويل وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ.

ياسين النصير: هؤلاء المفسرون والمحللون لهذه المظاهر، هل توجد بهذه التفسيرات ارتباطات طبقية واجتماعية أو خلفيات سياسية وعشائرية ودينية، يعني هل توجد تأثيرات خارجية؟
نصر أبو زيد: نعم، فأغلبية المعتزلة الأوائل كانوا من «الموالي». وإذا رجعنا إلى السياق الأول للحروب الأهلية، عندما نأخذ مثلًا ما حدث في معركة «صفين» بين عليٍّ ومعاوية وأنصارهما، من خلال كتاب نصر بن مزاحم «موقعة صفين» — وهو من الكتابات التاريخية المبكرة، مات نصر بن مزاحم عام ١٥٠ هجرية، فهو يسبق الطبري، ويسبق ابن إسحاق — يطرح ما حصل في معركة صفين. كانت صرخة أنصار التحكيم «حتى لا يحكمنا مُضريٌّ إلى قيام الساعة»، أي إنهم أرادوا من التحكيم أن يخرجهم من سيطرة «مُضَر»، أي الخروج بمرشح جديد.

هؤلاء المُحكِّمة — أنصار التحكيم الذين صاروا يعرفون بعد ذلك باسم «الخوارج»، وهو لقب يراد به وصفهم بالعصيان — ينتمون إلى القبائل التي كانت مهشمة، قبائل البادية التي كانت تشكل القوة العسكرية الضاربة في الفتوحات. حين انتهى التحكيم إلى مهزلة خلع عليٍّ وتثبيت معاوية ثار المحكمة على نتيجة التحقيق. هكذا نشأ الفكر الديني في إطار الصراع السياسي، الذي أدى إلى تبلور مدارس واتجاهات لاهوتية فيما بعد. لكن الجذور اجتماعية/اقتصادية/سياسية لا شك في ذلك.

لم يكن المعتزلة الأوائل عربًا أقحاحًا، بل كلهم كانوا موالي، ينتمون إلى فئة «المستضعفين في الأرض»، التي من شأنها دائمًا أن تتبنى هذا الفكر الذي يتمحور حول مفهوم «العدل» على الأرض وفي السماء. ما هي فكرة المعتزلة أساسًا؟ فكرة المعتزلة أن العقل هبة إلهية لكل البشر على السواء، عبارتهم «العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس». لا نستطيع أن ندرس تاريخ الفكر العربي والإسلامي من غير هذا التحليل.

ياسين النصير: هذا الخلاف أو الاختلاف له قضية متصلة بالتكوين العقائدي.
نصر أبو زيد: لا شك في ذلك، في كتابي الأول «الاتجاه العقلي في التفسير»، عملت تمهيدًا مطولًا عن الأساس الاجتماعي والسياسي لنشأة الفكر. وفي كتابي الثاني «فلسفة التأويل» حلَّلت فلسفة ابن عربي من نفس المنظور. ابن عربي ينتمي إلى الأندلس، ماذا كانت مشكلة الأندلس؟ البيئة متعددة الأعراق والأديان والثقافات واللغات، التي تحتاج للتعايش السلمي بين كل هؤلاء. هذا يفسر مفهوم الدين المفتوح «دين الحب» والتأويل المفتوح عند ابن عربي. لكن هذه البيئة شهدت — من ناحية أخرى — حروب الاسترداد بين الحكام المسلمين والملوك المسيحيين، حروبًا دفع ثمنها وعانى آثارها المُرة الجميع.
ياسين النصير: هل قضية الصراع، قضية فكر مجرد أم قضية واقع معاش؟
نصر: الفكر يا أستاذ ياسين هو محاولة للإجابة على الأسئلة في الأرض، في الواقع، حتى لو كان المفكر منعزلًا عن الواقع ومتعاليًا عليه. الواقع هو الذي يطرح الأسئلة. عندما تسأل مثلًا نصر أبو زيد، مثلًا: إيه اللي خبل دماغه؟ وقاعد يقولك: القرآن والتاريخ، ليه؟ يعني الخبل في دماغه ده أساسه؟ الخبل اللي في دماغ نصر حامد أبو زيد أنه في الواقع الذي نشأ فيه، وحبَا واشتد عوده، صار المعنى الديني مجالًا للصراع. الصراع ليس على الدين في الحقيقة، بل يدور الصراع على أمور حياتية، والدين يستخدم لتحقيق مكاسب على هذه الأرض.
ياسين النصير: يا سيدي الكريم نحن في موضوع معقد ويمتد تاريخيًّا، دائمًا هناك مركز وهامش وهو من أكثر المواضيع بحاجة إلى تفسير، وأنت جدير به وأعرف منا بمكوناته، أعني موضوع تأثيرات دول الهوامش على المركز العربي الإسلامي في هذا الجانب الفكري أو ذاك، قضية الحضارة والبداوة، ما مدى تأثير مثل هذه الصراعات علينا في الوقت الحالي؟
نصر أبو زيد: أنا سأقول لك حاجة جائز صعبة عليك كعراقي، لكن أعرف بأنك لا تزعل، لأني لا أقصد تأييد نظام صدام ولا تبرير غزو الكويت، إنما هو تحليل اجتماعي. هنا ألبس جبَّة ابن خلدون، الصراع بين الحضارة والبداوة. الآن في العالم العربي، البداوة تسيطر وتخنق الحضارة تمامًا. الوهابية تحتل مصر، وتحتل جزءًا من العراق إلى جانب الراديكالية الإيرانية، التي تحتل الجزء الثاني. لاحظ أنني تحاشيت عامدًا ذكر مصطلحات كالسنة والشيعة؛ فذكرها يزيِّف الواقع. ما هي المشكلة هنا؟ أعتقد، وأرجوك أن تصحح، أن الصراع الذي أخذ شكل احتلال الكويت، والذي أدنَّاه ووقفنا ضده سياسيًّا طبعًا، هو صراع بين نسقين من القيم: قيم الحضارة، وقيم البداوة. لكن ما هو المعنى التاريخي وراء هذا؟ من المؤكد العراق تاريخيًّا بلد له امتداد حضاري عميق. هذه الحضارة كيف يتم توظيفها من قبل حكَّام ديكتاتوريين؟ هذا سؤال أول. من جهة أخرى، فإن عائدات البترول — الثروة السهلة التي بلا عمل يقيم حضارة — أعطى قوة لهذه المجتمعات البدوية. أصبح الوضع مأساويًّا، حيث يوجد المال لا يوجد العقل، وحيث يوجد العقل يوجد الفقر. اضطر العقل أن يهاجر من أجل المال، هذا حصل في مصر، وحصل في كل مكان. ماذا تعني هجرة العقول كي تجد فرصًا أحسن للعمل خارج بلدها؟ ماذا يعني عودة هذه العقول بشكل أو بآخر مغسولة؟ ماذا يعني البترول، الثروة التي تهبط عليك بدون عمل في الطبيعة؟ الإنسان في تعامله مع الطبيعة، في محاولته أن يتفاعل مع الطبيعة، هذا العمل يتطلب عملًا عقليًّا أيضًا، بمعنى أن النشاط اليدوي والنشاط الجسدي لا بد أن يصاحبهما نشاط عقلي. البترول ثروة في الأرض لا تحتاج لأي جهد غير أن تحفر الأرض، وتخرج الثروة، وإذا أنت غير قادر على حفرها، تؤجر واحدًا يحفرها لك، وهذا الذي حصل حيث أُوكل استخراج البترول ونقله وتصنيعه للأجانب. هذه البنية الاقتصادية — اقتصاد الريع لا العمل — توفر المناخ لبنية ذهنية مماثلة. المعنى الثقافي الذي تخلقه هذه البنية هي عدم الحاجة للتفكير، يوجد مخزون فكري اسمه «التراث». تتحدد وظيفة العقل ووظيفة الفكر في التفتيش عن حلول في التراث لكل المشكلات التي تواجهها، كما أنك لا تحتاج إلا أن تحفر الأرض من أجل إخراج المال.

البنية الاقتصادية هنا خلقت بنية عقلية. هذا الصراع والتوتر بين الحضارة والبداوة جعل حاكمًا ديكتاتورًا يتبنى نفس المفاهيم البدوية — مفاهيم الغزو والسطو والثأر — يذهب ليحتل الكويت، نوع من الانتقام، نوع من الترويض. أحست الحضارة أن البداوة تروِّضها وتوشك أن تغتالها. لكن يجب ألا ننسى أن البداوة — أعني قيم البداوة — أصبحت مهيمنة في عالمنا العربي.

ياسين النصير: مهيمنة بتخلفها يعني تدعي أنها تريد أن تحدِّث مجتمعاتها، تدفع المال وتستورد الآلات بدون أن تنمِّي العقل.
نصر: بالضبط، انظر معظم الجامعات التي تنشأ في هذه البلدان العربية عمومًا، كلها جامعات مرتبطة بدراسة وتدريس التكنولوجيا، لا توجد جامعات تدرس الفكر الإنساني، الذي هو أساس الفكر العلمي، الذي بدونه لا تصنيع ولا تكنولوجيا. المال يسمح لك بمزيد من استهلاك ما ينتجه الآخرون من ثمار علمهم ومعرفتهم وتقدمهم.
ياسين النصير: إذن يا سيدي إن الفكر العربي الحديث والفكر الفلسفي منه بوجه خاص في محنة، في محنة منهجية، في محنة معرفية، في محنة الخلط بين الدين وتطور المجتمع، هل توجد حلول في تصورك لهذه المحنة بحيث يمكن حلها بشكل تدريجي، يعني أن نبدأ في الجامعات، أو نبدأ مع فئة المثقفين، أو نبدأ مع السياسيين أو نبدأ بوضع برامج فكرية حديثة؟
نصر أبو زيد: طبعًا دور المثقف هنا، والمفكر، دور أساسي. ويبقى السؤال: من أين نبدأ؟ أعتقد هناك الآن أهمية قصوى لفصل الدين عن الدولة، إذا نظرت حولك فستجد النتائج المأساوية لهذا الزواج الكاثوليكي المحرم بين الدولة والدين في عالمنا العربي. الدين لا تستخدمه الجماعات الراديكالية أو الإسلاميون فقط، إنما تستخدمه الدولة، وهذا أمر يعود تاريخه إلى النصف الثاني من القرن العشرين، في العالم العربي كله والعالم الإسلامي كله.

فصل الدين عن الدولة غير فصل الدين عن المجتمع، لا يستطيع أحد أن يفصل الدين عن المجتمع، الدين تاريخيًّا مكون اجتماعي، وليس مجرد مكون شخصي أو فردي. قد يبدأ الدين كذلك، أي يبدأ تجربة شخصية فردية، وقد يظل كذلك في بعض التجارب. لكن بعض التجارب الدينية الشخصية الفردية يتم تحويلها إلى تجربة مشتركة تخلق جماعة، تصبح مجتمعًا ثم تتطور إلى «أمة». في هذه الحالة الأخيرة يصبح الدين قوة وشيئًا لا يمكن انتزاعه من المجتمع.

الدولة ليست المجتمع، بل هي الجهاز الإداري والسياسي والقانوني الذي ينظم الحياة داخل المجتمع. وإذا كان الدين قوة اجتماعية، فهو أيضًا ليس المجتمع؛ إذن المجتمع جماعات وأديان. ومن حق هذه المجتمعات على الدولة أن تحمي بعض الجماعات من الافتئات على حق الجماعات الأخرى. من هنا فدور الدولة كجهاز منظم لسير الحياة في المجتمع — المتعدد الأديان بطبيعته — يجب أن يكون محايدًا، بأن لا يكون للدولة دين تتبناه وتدافع عنه وتحميه. إن دورها حماية الناس لا حماية العقائد.

لم يحدث في التاريخ كله — رغم كل الادعاءات والأوهام — مثل هذا الفصل بين الدين والمجتمعات. الدولة ليس لها دين، ولا يصح أن يكون لها دين. «دين الدولة الإسلام»، عبارة يجب أن تكون مضحكة؛ فالدولة لا تذهب إلى الجامع ولا تصلي، والدولة لا تذهب إلى الحج، ولا تصوم، ولا تدفع الزكاة. الدولة ممثلة للنظام السياسي مسئولة عن المجتمع بكل أطيافه بما فيها الأديان. كل الدول العربية والإسلامية — والعراق بصفة خاصة — موزاييك من الأديان. وهذا يعني أن الدولة الإسلامية في العراق ستلغي ثلاثة أرباع سكانه، تلغي هذا الغنى الذي يمثله العراق، وتبعد جزءًا كبيرًا من العراقيين من الانتماء لهذه الدولة. نفس الأمر في مصر وفي غيرها من الدول.

الحاجة الثانية: هي الدساتير، من العبث القول: إن المواطنة هي أساس الانتماء، ويقال في نفس الدستور «الشريعة — أو مبادئ الشريعة — هي المصدر الرئيسي للتشريع»، هذا تناقض حدِّي جدًّا بين مادتين في الدستور تلغي إحداهما الأخرى. يزداد الأمر تناقضًا حين يحرِّم نفس الدستور في مادة أخرى قيام أحزاب على أساس ديني، لا إله إلا الله!

الحزب الديني يقول نفس الكلام (الدستوري)، يقول: «الإسلام دين الدولة والشريعة هي مصدر التشريع»، كيف تحرِّم قيام حزب يتبنى نفس القيم الدستورية التي يتبناها، ويدافع عنها بضراوة، الحزب الوطني الحاكم في مصر. إما أن الدستور «لعب عيال» أو أن الحزب الوطني حزب غير شرعي مثل الجماعة غير الشرعية إياها.

ماذا يعني أن يكون للدولة دين؟ وماذا يعني أن يتنازع المتنازعان — الحزب الوطني والجماعة «غير الشرعية» — على أحقية الحكم على أساس مرجعية «الشريعة»؟ هذا يعني ببساطة تهميش غير المسلمين في المجتمع، وانظر حولك وتأمل حال الأقباط والبهائيين في مصر، وما حدث لغالبية الأقباط من اعتبار «الكنيسة» وطنهم. حدث أيضًا باسم الشريعة تهميش دور المرأة في المؤسسات السياسية والتعليمية والإعلامية. لا يصرخنَّ أحد في وجهي بأن ذلك غير صحيح، فأنا أعلم أن ثمة ديكورات للتجمل في عالم تضغط فيه المنظمات العالمية لحقوق الإنسان وحقوق المرأة على الأنظمة والأحزاب السياسية. الذي يعانيه المواطن المسلم غير المتفق مع الدولة في تفسيرها وتفسير مؤسساتها للدين أنكى وأمر؛ فهناك الاتهامات الجاهزة بالردة والخروج على الثوابت، وهناك المطاردات البوليسية بالاعتقال، بل وصل الأمر مع من يسمون أنفسهم «القرآنيين» أو «أهل القرآن» باضطهاد أهلهم وذويهم. كل هذا يجعل من ادعاء «عدم وجود كنيسة في الإسلام» محض بلاغة لفظية فارغة من المعنى؛ فالكنيسة لم تفعل بمخالفيها في العصور الوسطى أكثر من ذلك.

في العقد الحالي — العقد الأول من القرن الواحد العشرين والذي يوشك على النهاية — صارت الدولة أكثر راديكالية في تحديد دينها وفي ملاحقة خصومها، وإن لم تنص على ذلك في دساتير أو قوانين. صارت الدولة ذات الأغلبية السنية تضطهد الشيعة، والعكس صحيح، وتزايد الاحتقان بفعل الخطابات الإعلامية غير المسئولة، فتم تصنيف البشر داخل الدين الواحد إلى طوائف تكفر كلٌّ منها الأخرى. العراق حالة محزنة بحكم تاريخه الطويل في العيش المشترك والتزاوج والمشاركة الكاملة في الوطن. في لبنان — هايد بارك العرب — صار التأزُّم الطائفي بينًا في الواجهة السياسية. كل هذا يرشح حلًّا وحيدًا: أن تتخلى الدولة عن امتلاك الدين. الدولة لا دين لها. تحكي قصة لجنة إعداد دستور ١٩٢٣م في مصر أن أعضاء اللجنة ترددوا في مسألة هذه المادة التي تنص أن «دين الدولة الإسلام»، هل هي ضرورية أم يمكن الاستغناء عنها. والغريب في القصة أن أعضاء اللجنة الأقباط عبروا بوضوح عن رأيهم بأنه «لا ضرر» من النص على ذلك في الدستور. وقد كان، علَّق طه حسين فيما بعد: «وقد وجدنا فيها الضرر كل الضرر». المعنى هنا أن التجربة كشفت عن ضررها. وفي تقديري أن أعضاء اللجنة الأقباط مغمورون بمناخ شعارات ثورة ١٩١٩م «الدين لله والوطن للجميع» أرادوا أن يعبروا لإخوانهم المسلمين عن ثقتهم وفخرهم بالانتماء للفضاء الثقافي العربي الإسلامي. أما وقد ظهر الضرر، فعلى المسلمين أن يردوا الدين ويسترجعوا ثقة إخوانهم الأقباط بإلغاء هذه المادة من الدستور، فهل هم فاعلون؟!

التعليم هو المشكلة الملحة الثانية، التعليم يحتاج إلى حرث من جديد؛ لأنه في هذا الوقت تمددت عملية الأسلمة في شرايين المجتمعات واستفحلت، رغم فشلها السياسي، ورغم ما يمكن أن نسميه فشل الإرهاب. لكن هذا التمدد في وعي الناس خطر، والخطر هنا يمثل انتصارًا للأسلمة. كل شيء تأسلم، من الأزياء لعبارات التحية، للاعتراضات التي تجدها على أشياء كانت عادية منذ سنوات قليلة مضت. وانظر في كتب التعليم — تعليم اللغة العربية وتعليم الدين الإسلامي — في المراحل المختلفة لترى أن عدسة الدين صارت تلون كل شيء. في الجامعات ليس الحال أفضل. كل قيادات الجماعات الإسلامية خريجو جامعات، كليات علمية مثل الطب والهندسة والصيدلة، هل هذه مصادفات؟ في كليات الإنسانيات لا تجد سوى التلقين، رسائل جامعية لا تبحث شيئًا، خاصة إذا اتصل الأمر بشأن ديني. صارت أقسام الفلسفة الإسلامية في أغلبها أقسامًا لتدريس العقائد الصحيحة، وصارت الفلسفات الغربية الكلاسيكية والحديثة تدرس من منظور العقائد القويمة. لماذا يحتاج الإخوان المسلمون أو غيرهم الوصول إلى الحكم بتبني الإجراءات الديمقراطية — القابلة للتزييف بالترهيب والترغيب — ما داموا يحكمون بالفعل؟ صارت الدولة المتدينة تتبنى أفكارهم كاملة. هذا يعيدنا — من جديد — لفصل الدين عن الدولة، أو بالأحرى تحرير الدين من قبضة الدولة.

ياسين النصير: في العراق هناك كارثة حقيقية على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي خلال هذه الأعوام، أصبح كله متخلفًا، ومترديًا جدًّا، ويمكن تلمُّس ذلك بوضوح في كل المجالات، الكثير منا يقارن بين التعليم في السبعينيات والستينيات والتعليم اليوم، يجد الفرق في المعرفة بين الزمنين كبيرًا جدًّا.
نصر: أصبح الوضع كله تعيسًا. في مجتمعاتنا لا توجد دراسة جدية للدين، حتى في الجامعات: إنهم يعلِّمون الدين ولا يدْرسونه. الحوزة مثلًا، سواء في قُم أو في النجف، كانت دائمًا مجالًا لدراسة الدين، كانت تجمع بين «التعليم» و«الدراسة» فيتخرج منها الواعظ (الملا) والباحث. كان الأمر كذلك في الأزهر حتى أواخر الستينيات. من داخل الحوزة خرج مفكرون نقديون للدين، وهذا من غير المتوقع أن يخرج من الإسلام السني الآن. الأزهر كان مرشحًا لذلك في الأربعينبات والخمسينيات، كان يوجد فيه شيوخ نقديون مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ لأن الأزهر كان مفتوحًا على العالم من خلال حركة الترجمة والتعرُّف على ما يدور في العالم. نحتاج إلى تعليم منفتح، نحتاج للعودة مرة أخرى إلى صيغة التعليم المنفتح من هذا النوع. كل هذا يتطلب جهودًا متواصلة على كل المستويات السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية.
ياسين النصير: يا سيدي أنت أقمت أساس فلسفتك على ابن العربي بداية. أليس كذلك؟
نصر: لا.
ياسين النصير: ألم يكن تأويل النص هو الأطروحة الحقيقية لمشروعك النقدي الفلسفي.
نصر أبو زيد: لا، لو قرأت كتابي عن المعتزلة، وهو أول دراسة قمت بها، ونشرت كتابًا بعنوان «الاتجاه العقلي في التفسير»، من الممكن أن تقول: إنني بنيت مشروعي على عقلانية المعتزلة. ولو قرأت كتابي عن ابن عربي «فلسفة التأويل» من الممكن أن تقول: إنني بنيت مشروعي على ابن عربي. هذه طبيعة البحث العلمي في مراحل البداية، في كل بحث تتشرب الموضوع، ويؤثر فيك المنهج، حتى تستقل تدريجيًّا وتتطور أدواتك النقدية.
ياسين النصير: طيب منهجك العقلي توضح في كتابك عن ابن عربي؟
نصر: هذا صحيح بلا شك، قلت وأقول دائمًا: إنني أحد المفكرين العرب العقلانيين، لكن العقلانيين الذين لا يزدرون الدين.
ياسين النصير: هذا واضح، تحدثت في كل كتبك أنك بدأت النقد من داخل النص الديني لو لم تنتمِ إليه لما عرفت حقيقته، إنك أحد العقلانيين العرب الكبار.
نصر: العقلانية التي تعطي للدين وللخيال مساحة داخلها، وليس خارجها. ومن هنا فإن حبي للشعر، حبي للمسرح، حبي للموسيقى والفنون، إلى آخره، يُستمد من إيماني بأن التجربة الفنية في عمقها تجربة إنسانية روحية. أعتقد أن عملي البحثي يعد بمثابة محاولة للمصالحة بين العقلانية والصوفية.
ياسين النصير: صحيح وهذا واضح.
نصر أبو زيد: طبعًا من منظور معاصر، ليس من منظور أنك تجمع الفكر الكلاسيكي مع بعضه.
ياسين النصير: أيضًا لديك ميل للفكر الشيعي لمنجزات الفكر الشيعي؛ لأنه فعل اجتهادي عقلي وجزء من التراث التنويري.
نصر: طبعًا هذا جزء من تراثي؛ لأني لا أتعامل مع التراث باعتباري سنيًّا. أعتبر التراث كله بما فيه الخوارج، والمرجئة والمشبهة، أي التراث الذي تم تهميشه، تراثي الذي أنتمي إليه. عندما كنت صغيرًا في السن، كنت أقسم التراث إلى «تقدمي» و«رجعي» متأثرًا بالتقسيمات الأيديولوجية، ومركزًا أسلحتي النقدية على ما كنت أظنه التراث الرجعي. الآن لا أستبعد من سلاح النقد التراث «التقدمي»، كالمعتزلة والفلاسفة عمومًا و«ابن رشد» على وجه الخصوص. النقد ليس هدمًا، بل هو فهم وبناء للماضي كله. أحيانًا تجد بعض الباحثين يعيشون صراعات الماضي، فينحازون ويتحزبون، بل وأحيانًا يتعصبون. إنهم يخوضون معارك الحاضر على أرض الماضي والتراث، وهذا نمط من السلفية، أرجو أن أكون منه شُفيت.
ياسين النصير: هل هناك تأثير من الثقافة اليونانية، من الحضارة اليونانية، من الفلسفة اليونانية في هذا الجزء من تفكيرك، باعتبارها الفلسفة التي كانت الأكثر حضورًا في الميدان العقلي؟
نصر أبو زيد: في التراث العربي لا يوجد شك في تأثير حركة الترجمة المعروفة، لكن التأثير ليس فقط من الثقافة اليونانية، لأن الثقافة اليونانية كانت هي تقريبًا ما يسمى بالهيللينية، يعني الثقافة اليونانية المختلطة بالمسيحية وباليهودية، اليونانية الشرقية إذا صحت العبارة. إنها «مدرسة الإسكندرية»، ولاحظ علاقة اسم المدينة باسم بانيها «الإسكندر الأكبر». ولذلك في الفكر العربي خلط ما بين أرسطو وأفلاطون. إلى جانب هذه الثقافة الهيللينية لا يمكن استبعاد الفكر الإيراني والفكر الهندي. إذا كان عالم القرآن يتجاوز آفاق التراث التوراتي إلى آفاق ثقافية لا توجد في التوراة، فمن الطبيعي أن نظلم الفكر الإسلامي إذا تصورنا أن مصادره محدودة. فكر ابن عربي يقدم نموذجًا لصرح فكري لم يستطع الباحثون حصر مصادره ولا أصوله.
ياسين النصير: هل لا يزال الفارابي مثلًا إلى الآن هو صاحب الإرهاصات المادية في الفكر، أم أن في الفلسفة العربية الإسلامية آراء أخرى قد بشرت بالرؤية المادية؟
نصر أبو زيد: في الفلسفة العربية ستجد ما سميته إرهاصات، وأنا أوافق على التسمية، ستجد إرهاصات في فكر المعتزلة نفسه وعند ابن طفيل، وستجد الجاحظ يتكلم عن أصحاب الطبائع، أصحاب الطبائع يمكن أن نسميهم اﻟ Naturalist الذين أدركوا بالملاحظة أن التفاعلات الطبيعية — أي طبقًا لقوانين الطبيعة — يمكن أن تخلق حياة بدائية. والدليل على ذلك حين يتلف بعض الطعام تتكون فيه الديدان، من أين أتت هذه الديدان؟ أتت من تفاعل طبيعي، تفاعل المواد الطبيعية في الطعام مع الجو. في رائعة ابن طفيل «حي بن يقظان» يطرح روايتين لولادة الطفل حيًّا: الرواية العادية، كونه ثمرة علاقة بين رجل وامرأة (علاقة زواج طبعًا)، والرواية الثانية التي تؤكد إمكانية وجود كائن حي عن طريق تفاعل عناصر الطبيعة مع التربة والمناخ في جزيرة ما على سطح الأرض. نعم توجد جذور وإرهاصات مادية في الفكر الفلسفي وفي بعض التيارات الكلامية المبكرة.

القرآن نفسه — وهذا من الممكن أن يكون مزعجًا للمؤمنين — لا يؤيد نظرية «الخلق من عدم»، توجد مادة باستمرار، الطين، الماء، النار … إلخ. سياق القول القرآني وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا خطاب للإنسان المتعين المتكبر الذي يواجهه الخطاب القرآني. الخلق دائمًا من مادة وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُل حَيٍّ، السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا. هناك الإشارة دائمًا إلى وجود مادة أولية. وهذا الذي بنى عليه ابن رشد تأييده لأرسطو، ورده على الغزالي؛ لأنه كفَّر القائلين بقدم العالم، إن عقيدة «الإيجاد من عدم» عقيدة صاغها اللاهوت الإسلامي، ولا أساس لها في القرآن.

وردت قصة خلق آدم وإبليس والمعصية والخروج من الجنة والهبوط إلى الأرض في سبع سور من القرآن، تتفاوت في الطول والقصر، وتختلف في البدايات والنهايات، وفي ترتيب الوقائع، إنها سبع سرديات في سبع سور من القرآن. التحليل السردي يكشف أن القصة ليست قصة خلق آدم بقدر ما هي قصة إبليس، إبليس هو البطل البارز في جميع السرديات. صديق باحث سوداني عمل تحليلًا أدبيًّا لهذه السرديات السبع من خلال مقارنة الوحدات السردية الصغرى «الموتيف»، ووجد أن موتيف «إبليس» هو المسيطر حضورًا في كل السرديات.

نحن إزاء دين لا يعادي المادية، ولا ينظر إلى المادية باعتبارها نَجَس. تطور الفكر الإسلامي في اتجاهات شتى، وهذا شيء طبيعي.

ياسين النصير: هل هناك أمل بأن مجتمعاتنا الحديثة يمكنها أن تستفيد من تطورات الفكر الإسلامي الفلسفي حتى في أشكاله العادية، أم أننا أغلقنا الدرس على ما يقوله النص الديني وكفى؟
نصر: للأسف الشديد، لا يدرس الفكر العلمي عند العرب والمسلمين في جامعاتنا، وهو معروف، مترجم ويدرس في الأكاديميات الغربية. الفكر الطبيعي عند العرب، فكر الطب عند العرب لا يدرس في الجامعات هنا، ويدرس في أوروبا، وهناك أستاذ مصري خبير في علم الرياضيات عند العرب اسمه «رشدي راشد»، لكنه يدرِّس في السوربون ويعيش في باريس، أحد العقول المهاجرة، وما أكثرهم!

حوار مع المفكر الأستاذ الدكتور نصر حامد أبو زيد

الجزء الثاني
ياسين النصير: طيب يا سيدي كان عندك كتاب مهمٌّ جدًّا عن المرأة، كيف تنظر حقيقة للمرأة؟ وهل ثمة مشروع جديد عنها؟
نصر أبو زيد: المجتمع الذي يضطهد المرأة هو نفسه المجتمع الذي يضطهد غير المسلم، أي هو المجتمع الذي تتسع مساحة «الآخر» فيه لتضمَّ كل الأقليات بالمعنى الاجتماعي لا بالمعنى العددي. قضيتي هي المساواة والعدل في المجتمع. محاربة التمييز ضد البشر عمومًا هي قضيتي الأساسية. المرأة تبدو قضيتي أنا الشخصية.
ياسين النصير: قضيتك الشخصية من قسمين: الأم والزوجة.
نصر: نعم، هذا بحكم نشأتي التي جعلتني أدرك أن المرأة كائن كامل الأهلية. نحن مجتمعات ذكورية حيث فرص الذكر في العمل، في الاحتكاك، في الخروج، أوسع من فرص المرأة. المرأة التي تجلس في البيت من أين تكتسب الخبرة؟ هذا ليس مبررًا أن نسميها «ناقصة عقل ودين». الست والدتي — رحمة الله عليها — لغاية موت والدي، لم تكن تعرف حتى الخروج من البيت لزيارة أمها. ولو رغبت بزيارتها، يجب أن تأخذ الإذن من والدي، وكنت أنا الذي آخذها وأصحبها؛ لأنها لا تعرف الذهاب إلى بيتهم لوحدها، مع العلم كانت قريتنا قرية صغيرة ولم تكن مدينة كبيرة. الست والدتي خرجت من بيت والدها إلى بيت زوجها، نُقلت من هذا البيت، إلى هذا البيت. مات والدي عام ١٩٥٧م، وترك لهذه السيدة، التي كان عمرها في ذلك الوقت ٣٥ أو ٣٨ سنة، عدة أطفال أكبر الذكور كنت أنا، وكان عمري ١٤ سنة. كان لي أخت أكبر مني كانت متزوجة. هذه السيدة، كُتب عليها أن تخرج وأن تواجه الحياة، وتختلط بالناس. حصلت على الشهادة «دبلوم فني متوسط» وبدأت العمل ومشاركتها في تحمل المسئولية، فكانت تخرج وتشتري وتختلط بالآخرين. إذا قارنت بين شخصية والدتي سنة ١٩٥٧م وشخصيتها سنة ١٩٨٠م، تجد أنها أصبحت كيانًا آخر، شخصية أخرى، شخصية تستطيع أن تجلس مع أساتذتي وزملائي وأن تجادلهم وأن تختلف معهم. من أين أتت بهذه القوة؟ كانت تختلف معي أحيانًا، وتقول أنت أستاذ في الجامعة وتفهم في قضايا الفلسفة، ولكن فيه قضايا أخرى أنت لا تفهمها. هذه المرأة أخذت الفرصة لتخرج وتختبر الحياة وتعيش الحياة، ومن هنا جاءت قناعاتي بأن المرأة ليست كائنًا أقل بالطبيعة وبالفطرة من الرجل، كما قال ابن رشد. لكن النقص في التعليم، والنقص في الخبرة، وحصرها في البيت فقط هو السبب.

وكان هذا مطلب الرواد الأوائل مثل قاسم أمين الذي قال: علموا المرأة، ودعوها تشتغل، وأخرجوها من السجن الذي وضعتموها فيه. وهكذا بدأت حركة المطالبة بحقوق المرأة، سواء في مصر أو في العراق، ومنها حق المشاركة في العمل السياسي والانتخابات والتعليم والمساواة. وتحققت هذه القيم، وقد عشناها في شبابنا في الخمسينيات والستينيات عصر المساواة.

أختي كانت مأساة حياتها أنها لم تكمل تعليمها؛ لأن والدي حرمها من مواصلة الدراسة بعد الابتدائية. ولكنها كانت تأخذ كتبي وتقرؤها بنهم، وكنت أعلم أن بداخلها ألمًا كبيرًا. وهذا كله أعطاني خبرة بالنسبة للمرأة وقضاياها.

الهجوم على المرأة والتقليل من شأنها تزايد وازداد بشاعة منذ خمسة عشر عامًا مضت، ولكن أن يأتي أحد ويقرأ قرآن القرن السابع، ويقول هذا هو وضع المرأة، فهذا غير مقبول. عندما كنت في القاهرة وفي معرض دفاعي عن المرأة، صدر بحقي حكم، وكان لا بد أن أقرأ الحكم وأكتب ردًّا فكريًّا حتى يضيفه المحامون للرد القانوني، وجدت أن القاضي جاهل، جاهل باللغة العربية، مثلًا أنا كأستاذ جامعة لا أقبل تلميذًا عندي يكتب بهذا الشكل، فكيف أن يكون قاضيًا ويصدر حكمًا. جلست في غرفتي أقرأ الحكم، وأصابني جهل القاضي بغضب لا يحتمل، فمزقت الأوراق وخرجت من حجرة المكتب، وقررت في نفسي في هذه اللحظة أن أغادر مصر، حتى إشعار آخر.

ملامح وجهي الغاضب، واحمرار العينين الذي يدل على ارتفاع ضغط الدم، أزعج زوجتي: ما الذي حدث؟ قلت لها هناك كارثة، كل جريمتي عند القاضي هي الدفاع عن الأقباط، ضد دفع الجزية، والدفاع عن حقوق المرأة المضطهدة من زوجها، هل هذه جريمة؟ هل هذا كفر؟ لم أنكر وجود الله. كنت غاضبًا جدًّا وقلت لها: لماذا أدافع عن المرأة؟ لماذا أدافع عن الأقباط؟ لماذا لا أعيش حياتي؟ أستاذ جامعة، مسلمًا ذكرًا، وأتمتع بحقوق لا نهائية. ابتهال زوجتي قالت لي: إذا كنت تعتقد أنك تدافع عن أحد، فالأفضل لك أن تتوقف، أنت لا تدافع عن أحد، أنت تدافع عن نفسك. كانت على صواب، أنك عندما تدافع عن المرأة تدافع عن نفسك.

هاشم نعمة: ذكرت في كتابك القيِّم «مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن» الذي صدر عام ١٩٩٠م، أن البحث عن مفهوم النص ليس مجرد رحلة فكرية في التراث، ولكنه فوق ذلك بحث عن «البعد» المفقود في التراث، وهو البعد الذي يمكن أن يساعدنا على الاقتراب من صياغة «الوعي العلمي» بهذا التراث. بعد صدور الكتاب، هل ساهمت الأبحاث في هذا المجال بالتحديد في الاقتراب من هذا البعد المفقود بهذا القدر أو ذاك، أقصد أبحاث الآخرين وأبحاثك؟
نصر أبو زيد: بدون شك، لا أستطيع أن أنكر ظهور باحثين مثل محمد شحرور، وقد دخل محمد عابد الجابري مؤخرًا الميدان، فأصدر ثلاثة مجلدات عن القرآن، والمجلدان الثاني والثالث في تفسير القرآن طبقًا للتقسيم المعروف: فتعامل مع الوحي المكي في المجلد الثاني، ومع الوحي المدني في المجلد الثالث. هذا المدخل التاريخي، للتمييز بين القرآن في مكة والقرآن في المدينة، مدخل على درجة عالية من الأهمية. قد يختلف الباحثون، وهذا أمر طبيعي لا يجب أن يقلقنا، والجابري يختلف معي في مسائل بعينها، خاصة مسألة التاريخية؛ إذ يكتفي بأسباب النزول على ما في مروياتها من مشكلات. التاريخية عندي أشمل من مسألة «المكي والمدني» أو «أسباب النزول» فهذه شواهد على تاريخية النص القرآني، وليست هي التاريخية. التاريخية التي أعنيها تتصل بطبيعة الوحي ذاتها من حيث البنية ومن حيث المضمون، وهي التاريخية التي تحيل إلى البعد الإنساني في الوحي.

هناك محاولات واجتهادات من كثير من الشباب، ولكن إلى أي حد اقتربنا من الفكر العلمي؟ ما تزال المسافة طويلة بيننا وبين التفكير العلمي فيما يتصل بالقرآن. التفكير العلمي في القرآن، وتحليل ظاهرة الوحي … إلخ، لا تؤدي بالضرورة إلى إلغاء البعد الإلهي من القرآن. لكن المشكلة أن هذا البعد الإلهي في القرآن غطى على البعد الإنساني وحجبه تمامًا في الفكر الإسلامي الوسيط، الذي ما زال هو الفكر المسيطر حتى الآن.

تعامل الفكر الإسلامي مع «القرآن» لا يختلف كثيرًا عن تعامل الكنيسة مع حقيقة (أو طبيعة) المسيح بتأكيد أنه هو الله، أو ابن الله. هكذا اختفى البعد الإنساني بفعل تحويل «الإيمان» إلى دوجما، أي إلى عقائد جامدة ثابتة. لكي نستعيد البعد الإنساني، الذي قتلته الدوجماطيقية، فقتلت معه «الإيمان» كاختيار إنساني وحولته إلى أمر يُفرض بالقوة، لا بد من بيان أن كشف البعد الإنساني في الوحي لا يهدد الإيمان، بل هو أساس الإيمان.

الأمر ببساطة شديدة أن الإيمان علاقة، الإيمان هو هذه العلاقة التي تربط المؤمن بهذه بدين بعينه، الإيمان هو أساس العقيدة، وليس العكس، أي ليست العقيدة هي موضوع الإيمان. الإيمان علاقة اختيار وليست علاقة إذعان. أي هو — الإيمان — علاقة إنسانية. وهذا عكس العلاقات الطبيعية الضرورية، التي منها مثلًا أن النار تحرق … ليس المهم من أنا وإلى أي جنسية أنتمي، لأنه لو وضعت يدي على النار تحترق. أي إن العلاقة بين النار والحرق علاقة طبيعية ضرورية: من طبيعة النار أن تحرق، ومن اللازم الضروري أن تحرق إن لامست مادة قابلة للاحتراق. هذه حقائق لا تتبدل ولا علاقة لها بالوضع الإنساني الذي أساسه «الاختيار الواعي».

الإيمان هو الذي يضفي على الأشياء والأحداث والأشخاص والنصوص قيمة يسميها «القداسة». كون هذا الكتاب مقدَّسًا ليس أمرًا طبيعيًّا اضطراريًّا مثل حقيقة حرق النار. ولو كان كتاب ما مقدسًا بالحقيقة الطبيعية، لكان من شأنه أن يرغم كل الناس على التسليم بقداسته اضطرارًا، كما ترغمنا النار حين نلامسها على التسليم بقوتها الإحراقية.

وهذا الفهم للطبيعة الاختيارية الواعية (الإنسانية) للإيمان من شأنه تقوية إحساس الإنسان الفرد بفعاليته، بكونه طرفًا قويًّا في صنع القداسة، القداسة ليست شيئًا مفروضًا على الإنسان من الخارج، وحين تفرض عليه لا تكون إيمانًا بل إذعانًا. تتحقق هذه القداسة عندما يقول الإنسان: أنا مؤمن بهذا الشيء، أو هذا الشخص، أو بهذا الكتاب.

لو فهمنا هذا فسنصل إلى فهم البعد الإنساني، وسنصل إلى ترسيخ مفهوم الإيمان المعتمد على القناعة، وليس المعتمد على التراث، ولا المعتمد على الطمع في الجزاء، أو الخوف من العقاب. هنا يمكن أن نقترب مما يسمى بالفهم العلمي، الذي هو بالضرورة ليس ضد الدين أو ضد العقيدة، وإنما هو تأسيس فهم مختلف للعقيدة وتصور مختلف للدين، وهذا ما حققته المجتمعات المتقدمة.

هذا الفهم حين يحول «الإيمان» إلى فعل إنساني اختياري، تصبح فيه «القداسة» مفهومًا علائقيًّا، لا صفة خارجية في الأشياء والأشخاص، من شأنه أن يجعل كل مؤمن يحترم إيمان الآخرين احترامًا لحقهم في الاختيار، وهو الحق الذي مارسه بفعل «الإيمان» الخاص به.

إن المسيحية لم تمت في الغرب كما يتوهم المسلمون، رغم أن الناس لم تعد تذهب إلى الكنيسة. الناس قاطعت الكنائس ولم تهجر المسيحية، التي لها وجود في الحياة الثقافية، وفي الحياة الاجتماعية، كما أنها توجد في التنظيمات والمؤسسات السياسية. الخطاب الديني يُرهب الناس من الفكر النقدي بتزييف وعيهم بأن إيمانهم في خطر. ومن أجل إثبات ذلك يُشار إلى خلو الكنائس في المجتمعات الغربية كدليل على ضياع الإيمان. هذه الأكاذيب التي يروِّجها الخطاب الديني يدحضها انتشار الظاهرة العكسية في المجتمعات العربية: أعني ظاهرة ازدحام المساجد والمبالغة في الشعائر من ناحية، وخراب الذمم والفساد الذي يعني خواء «الإيمان» من جهة أخرى. العبارة الشهيرة التي تنسب إلى كثير من مفكري عصر النهضة العربي «في أوروبا مسلمون بلا إسلام، وفي بلادنا إسلام بلا مسلمين» تصدق هنا أيضًا مع بعض التعديل: «يوجد إيمان بلا شعائر في الغرب وعندنا شعائر ولا إيمان»؛ إذ معنى الإيمان هو الاختيار الإنساني الواعي، الذي يستمد قوته من حقيقة كونه اختيارًا إنسانيًّا واعيًا، ولا يستمدها من الإذعان الشعائري ممثلًا في وعظ الكنائس. يقول البعض إن مهمة الشعائر أنها تقوي الروابط الإيمانية بين أفراد الجماعة المؤمنة، ويتناسى هؤلاء أن المجتمعات الحديثة تتمتع بوجود مؤسسات مدنية تنمي الروابط الوطنية والإنسانية بين الأفراد والجماعات بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية، كما أن هناك مؤسسات تنمي هذه الروابط الإيمانية. ليس معنى ذلك الدعوة إلى «إيمان بلا شعائر»، بل دحض القول بأن «الشعائر» مهمتها تقوية الإيمان، وهو قول يصدق في حالة الإيمان المريض. الشعائر بنص القرآن تهدف إلى تنمية الأخلاق وتحقيق السمو الروحي؛ فإذا لم تحقق هذه الأهداف فهي حركات للرياضة الجسدية (الصلاة التي تجب أن تنهى عن الفحشاء والمنكر) أو طريقة لفقدان الوزن (الصيام الذي فُرض وصولًا إلى تحقيق التقوى لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أو رحلة سياحية (الحج وغايته تحقيق التقوى كذلك لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ). والتقوى مفهوم يتجاوز الصلاح الديني إلى الصلاح الاجتماعي والإنساني. وهذا موضوع عميق، بل من أعمق موضوعات «الإيمان» في القرآن الكريم.

إن العمل الفعلي الذي أحاول أن أقوم به كشف هذا البعد الإنساني، «الإيمان» هو قرارك أنت. واقع الأمر أن الذي حصل في القرن السابع أن فوجئ الناس بإنسان — مثلهم ومثلنا — يقول لهم: أنا نبي من الله ونزل عليَّ الوحي، بعض الناس صدقوه وآخرون كذبوه، الناس الذين صدقوه تكاثروا وأصبحوا مسلمين، والناس الآخرون تكاثروا وأصبحوا شيئًا آخر، هذا هو العالم. ما بين أيدينا هو تقرير إنساني عن وحي إلهي، ما الذي جعل هذا التقرير الإنساني مقدَّسًا؟ الإيمان؛ لأن هذا التقرير ذاته بالنسبة للآخرين، غير مقدس خاصة لمن لا يؤمن به. أنا أقرأ التوراة والإنجيل ولكنهما بالنسبة لي غير مقدَّسين. المسألة بهذه البساطة، ولكن النتيجة الهامة هي أني أؤمن أنه مقدَّس لأنني أنا أقدسه. لذلك أحس بضرورة واحترم المقدَّس الذي يقدِّسه. إذا كنت أعتز بقيمة إيماني، الذي به صنعت القداسة، فلا بد أن أحترم قيمة إيمان الآخر في صنع قداسته.

نحتاج نحن دومًا إلى الرجوع إلى المكون الإنساني. ومكوني الإنساني يقول مثلًا أنا مصري عربي مسلم، بل قبل ذلك كله أنا إنسان أنتمي للإنسانية. بحكم الانتماء هذا — لا بحكم التقسيم الأيديولوجي المذهبي — أنا سنيٌّ ولست شيعيًّا، وإن كان المصريون معروفين بأنهم شيعة بالهوى، وليسوا شيعة بالتاريخ. السنية والشيعية صناعة إنسانية تاريخية ناشئة عن صراعات سياسية داخل مجتمعات «الإيمان». تتحول هذه الصراعات إلى «عقائد» يتقاتل حولها الناس، وهم في الحقيقة يتقاتلون حول أشياء أخرى تم اختصارها في «عقائد». الوهابية بالمثل هي صناعة الجزيرة العربية، محمد بن عبد الوهاب كان مصلحًا في إطار الظروف الاجتماعية والتاريخية للجزيرة العربية، ولم تتطور الوهابية بعد ذلك؛ لأنها تحمل في جذورها عدم التطور. مثلها مثل الوهابية يمكن القول إن العلمانية الفرنسية التي لم تتطور منذ أيام المعركة ضد الكنيسة. إن الجمهورية الفرنسية تخاف من بنت محجبة، إنها علمانية مسكينة تعاني من فقر، مثل الوهابية المسكينة التي تعاني من الفقر. من يقارن العلمانية الفرنسية بالوهابية لا يرضى عنها الفرنسيون ولا يرضى عنها السعوديون، ولكن هذه هي الحقيقة: ما الذي يجعل من الحجاب أو من الرموز الدينية خطرًا على الجمهورية؟

الحجاب في مصر أصبح غير قابل للنقاش، النقاش كله الآن حول النقاب، مثلًا إعلامي تلفزيوني مرموق — زوجته غير محجبة — ويتحدث عن الحجاب بأنه فريضة دينية. حدث إجماع على أن الحجاب فريضة، والمشكلة الآن في النقاب، وربما بعد خمس سنوات سيكون النقاب فريضة وهكذا.

هاشم نعمة: لم يكن في ذهني أن أطرح هذا السؤال عن كتابات محمد عابد الجابري الذي ورد في سياق إجابتك. فيما يخص التراث، يقول الجابري في كتابه العقل السياسي العربي: «التجديد في الفكر الإسلامي أو التجديد بشكل عام يجب أن ينطلق من التراث.» ما تعليقك على ذلك؟
نصر أبو زيد: الانطلاق من التراث أمر مفهوم، طالما أن التراث مرجعية من المرجعيات، وليس هو المرجعية الوحيدة. ما أخشاه في مثل هذه المقولات التي تتردد كثيرًا أنها ترسخ مسألة «التراث» مرجعية وحيدة، لا مرجعية سواها. أعتقد أن الجابري ليس من هؤلاء، لذلك لا بد من بعض التوضيح. التراث ليس واحدًا، بل هو متعدد، ولذلك يتطلب الأمر النظر للتراث من أفق يدرك المسافة التاريخية التي تفصل بين «الآن» وبين «التراث/الماضي».

هذا التوضيح يتضمن تحذيرًا فحواه التمييز بين الدراسة النقدية التاريخية للتراث — وهو المطلوب — وبين تبني هذا الاتجاه أو ذاك من التراث بزعم أنه الأفضل، أو الأحسن. ليست السلفية إلا تبني هذه الوجهة في التراث دون وجهة أخرى في التراث. إذا كان الإخوان المسلمون أو الوهابية يتبنون ابن تيمية، ونحن نقول إن هؤلاء تراثيون وتقليديون، فإن من يتبنى تراث ابن رشد هو أيضًا تقليدي وتراثي.

بالنسبة إليَّ ابن رشد تراث، وابن تيمية تراث. مهمتي أن أتعامل مع التراث من منظور معرفتي المعاصرة، فالتراث لا يقدم لنا حلولًا.

إذا كان الجابري يقصد أن التراث يقدم لنا حلولًا، وهو يميل إلى هذا مؤخرًا، فرأيي أن التراث شيء موروث، هو ثروة ورثناها: من الممكن أن ننميها — وهذا هو المطلوب — ومن الممكن أن نستهلكها، فنكون كالوارث المضيع لما ورث. هناك أيضًا من يحمل التراث على كتفه طوال الوقت، ونحن هكذا حاملو التراث على كتفنا ونمشي بهذا الثقل في هذا العالم، كالحمار يحمل أسفارًا: أي يحمل أثقالًا بسبب عجزه عن قراءة ما في هذه الأسفار.

إنه في فعل «القراءة» هذا، ومن خلال القراءة التاريخية النقدية للتراث، ينمو وعينا، فنكون قد حققنا تنمية التراث. هكذا تتم تنمية التراث، فيتحقق نمو الوعي بنفس المنهج الاستثماري لتنمية أي ثروة مادية. من يعش في العالم المعاصر، فلا بد أن يدرك ما يدور حوله، ولا بد أن يتفاعل مع تقدم المعرفة الإنسانية في كل المجالات. بدون هذا الامتلاك للوعي بالعالم المعاصر وبالتراث الإنساني لا يمكن تنمية التراث. علينا أن نتعلم هذا الدرس، مثلنا مثل أسلافنا الذين استفادوا من الفلسفة اليونانية والهندية والإيرانية، فصنعوا في الإسلام حضارة. إذا افترضنا أن الإسلام لم يخرج من الجزيرة العربية، فإن الصيغة التي كان يمكن أن يكونها لم تكن لتختلف كثيرًا عن الصيغة «الوهابية». إن الإسلام عندما خرج من الجزيرة العربية، وأقصد هنا حَمَلة الإسلام أو حَمَلة البذور الإسلامية؛ لأن الإسلام — بالشكل الذي نعرفه الآن — لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، حملوا هذه البذور. هذه البذور تحولت إلى أشجار وثمار في مجتمعات أخرى، في بغداد، القاهرة، قيروان، في الأندلس. إننا محتاجون أن نعيش مع العالم ولا نقدر أن ننفصل عن واقعنا، والتراث ليس مخزنًا.

هاشم نعمة: التفسير والتأويل، أخذا حيِّزًا مهمًّا في كتاباتك، ماذا عن تأثيرات التفسير والتأويل في الفكر الإسلامي المعاصر، والصراع بين الفرق الإسلامية الذي وصل كما تعلم حد التكفير، وهذه قضية خطيرة، خاصة في الساحة العراقية خصوصًا والساحة العربية والإسلامية عمومًا؟
نصر أبو زيد: ما هي المشكلة؟ المشكلة أنه حدث في التاريخ نوع من الإدانة لمصطلح التأويل، مصطلح التأويل في الفكر الشيعي لم يفقد بريقه أبدًا، ولكن الدولة العباسية في صراعها مع الشيعية اضطرت أن تدين التأويل باعتباره نوعًا من الاعتداء على النص، وجذب النص إلى أفق الهوى والغرض. كانت هذه المعركة على أرض المفاهيم موجهة أساسًا ضد التشيع والتصوف.
ياسين النصير: هل التفسير والتأويل لهما علاقة بالمركزية الإسلامية؟
نصر أبو زيد: نعم له علاقة بالمركزية، وبالتالي احتفل المركز — الخلافة العباسية في بغداد — بمصطلح التفسير وأدان مصطلح التأويل. في الخطاب الديني المعاصر، عندما يقال «تأويل» يتبادر إلى أذهان الناس — بحكم تسلط العقلية الأرثوذكسية — أنه نوع من التلاعب بالنص. والحقيقة التاريخية تدحض هذا الانحياز للمصطلحات: إن أهم كتاب في تاريخ التفسير، كتبه الطبري، يتخذ في العنوان مصطلح التأويل «جامع البيان في تأويل آي القرآن»، وفيه يبدأ الطبري دائمًا عند تفسير آية ما بالقول «تأويل قوله تعالى». الآن يتم تجاهل عنوان الكتاب الأصلي فيطلق عليه اسم «تفسير الطبري». هكذا وصل التزييف في الطبعات الحديثة للكتاب. الطبري توفي عام٣١٠ هجرية، وهذا معناه أن مصطلح «التأويل» لم يكن ناله ما ناله من إدانة مقابل مصطلح «التفسير». الحقيقة أن التفسير يعني التوضيح سواء اشتق من «الفسر»، أو «السفر»، وهو نشاط جزئي يتعلق بشرح المفردات اللغوية الغامضة بإيراد مرادفها بأن تقول: الكلمة هذه معناها كذا. لكن أن تحلل البنية اللغوية المركبة على مستوى الخطاب تصل إلى الدلالة فهذا هو التأويل. إنه الكشف عن فحوى الخطاب من خلال تحليل منطوق الخطاب، والكشف عن الدلالة من خلال تحليل التركيب اللغوي. بالمناسبة، هذا كلام من التراث، من علمي اللغة والبلاغة اللذين اعتمد عليهما علماء «أصول الفقه» في صياغة نظرياتهم في استنباط الأحكام من النصوص. هذا ليس كلامًا من عندي، ولكن طبعًا يسعدني أن أزعم أنني قادر على اكتشاف هذا التراث.
هاشم نعمة: بعض الباحثين العراقيين لا يتفقون مع قول محمد عابد الجابري إن الشيعة يستخدمون التأويل.
نصر: محمد عابد الجابري يقولها على سبيل الاتهام بالمعنى الذي شرحته، ولا يقولها على سبيل الوصف. إن تاريخ علم التفسير وقراءة كتب المفسرين يشهد بأن الفكر الإسلامي، وأي فكر ديني أو غير ديني، قائم على التأويل، التأويل بالمعنى الفعلي الإيجابي الذي ذكرت. في نظرية التأويل المعاصرة (الهرمنيوطيقا) تأكيد للعلاقة الجدلية التفاعلية بين النص وقارئه. القارئ كائن اجتماعي، فاعل اجتماعي، بكل ما يعنيه هذا الوصف من «موقف» و«أيديولوجيا» و«انحياز». القراءة لا تبدأ من «فراغ». هذه حقيقة أولى. الحقيقة الثانية أن «النص» أيضًا «تاريخ» و«لغة» وحدود لإنتاج المعنى: القراءة لا تحدث في فراغ. بين النص والقارئ — أو يحيط بهما — مجتمع له أيضًا تاريخ وثقافة ومكون من شرائح اجتماعية داخل المجتمع لها ثقافات فرعية داخل ثقافة المجتمع، وهذا هو «سياق القراءة»، الحقيقة الثالثة.

بلغة الهرمنيوطيقا — التأويلية المعاصرة — هذه الحقائق الثلاث بمثابة ثلاثة آفاق تتفاعل في عملية القراءة: أفق القارئ، أفق الثقافة/المجتمع، وأفق النص. السؤال: أين يكمن «المعنى»؟ في عقل «القارئ»، أم في أفق الثقافي/المجتمع، أم في عالم النص؟ إن المعنى ليس في النص، والمعنى ليس خارج النص، بل وثمرة التفاعل/التفاعلات، وهذا معناه تعدد المعنى في المكان والزمان.

ولهذا كنت في كتاب مفهوم النص — وما أزال — مشغولًا بسؤال: ما هي حدود المعنى الذي من الممكن أن يعطيه النص؟ لا يوجد أحد يهتم بحدود المعنى الذي يمكن أن ينتجه النص في أفق تاريخه — أي سياقه التاريخي الخاص — من جهة، وما يمكن لهذا المعنى أن ينتجه من «مغزًى» في سياقات تاريخية تالية. هذه أسئلة غير موجودة عندنا، لهذا يستطيع القارئ/المفكر أن يشد النص يسارًا أو يمينًا. هذا حدث في كتب ومقالات تحمل عنوان «اشتراكية الإسلام»، ويحدث الآن من قبل المتحمسين لإيجاد أصول قرآنية وإسلامية لحقوق الإنسان، ولحقوق المرأة. الأنكى من هذا مسألة «الإعجاز العلمي في القرآن».

هذه الفوضى هي ما تعلمنا الهرمنيوطيقا الحذر منه:

كن واعيًا بموقفك الفكري.

كن واعيًا بالأيديولوجيا التي تنطلق منها. الأيديولوجيا حقيقة اجتماعية وثقافية، هي المحيط الثقافي الذي نعيش فيه، هي بمثابة البحر أو النهر بالنسبة للسمك، لا حياة لنا نحن البشر بدونها. الحذر هنا يكمن — أولًا — في الاعتراف بها لا في إخفائها. إخفاؤها يعني أنها ستتسرب من لا وعيك إلى وعيك تسرب الحرباء. الاعتراف بحقيقتها هو اعتراف بحقيقة وضعنا الاجتماعي التاريخي، وضعنا الإنساني. هذا الاعتراف يؤدي إلى إمكانية مراقبتها والسيطرة عليها بالتقليل من خطرها. الحذر الثاني، ألا تزعم أن معناك هو المعنى الوحيد والصائب. لا تزعم امتلاك الحقيقة.

ما الذي يجعل الناس في مجتمعاتنا لا تتقبل فكرة تعدد المعاني، بينما هذا هو الشيء الطبيعي في الحياة الإنسانية، سواء نتكلم عن المعنى السياسي، أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو المعنى الديني. يجب العمل على تأسيس قواعد لتقبل هذه التعددية، ولا يتم ذلك إلا بأن تكون التعددية ماثلة في أفق — أو آفاق — الحياة الاجتماعية. هذا هو سبيل قبول مبدأ التعددية في المعنى.

مجتمعاتنا — بسبب غياب حقيقة التعددية من آفاق الحياة — تؤمن في معنى واحد أنه الصحيح، وأن كل المعاني الأخرى خاطئة، كفر. هذا مصدر «التكفير»، الذي يفضي إلى تقنين «القتل» واستحلاله. قبول تعدد المعنى يسمح لكل المعاني أن تتحاور بشكل متكافئ، يمكن أن يؤدي إلى نوع من الاتفاق في الشئون العملية. هذا يحتاج إلى توفر الحرية كشرط أولي. المجتمع يستطيع أن يصل إلى اتفاق في أي من شئونه العملية، إذا وجدت حرية الرأي، وتبادل الأفكار، وحرية التعبير، ونحن نفتقد إلى هذه الحريات.

ياسين النصير: بدأت شاعرًا وناقدًا وأديبًا ومن ثَم دارسًا للفلسفة، وأستاذًا لها، الآن، هل هذه الأوليات ساعدتك في تعميق وتحليل النص القرآني؟ هل فتحت المجال أمامك للاجتهادات؟ فالشعرية في النقد الأدبي وفي الدراسة الفلسفية يمكنها أن تغني التأويل.
نصر أبو زيد: طبعًا، وأعتقد أيضًا أن انتسابي إلى قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، ومعرفتي بالشيخ أمين الخولي وهو مؤسس لما يسمى المدرسة الأدبية في فهم القرآن، والشيخ أمين الخولي هو التواصل الخلاق بعد محمد عبده، وطه حسين، والاثنان نظرا إلى القرآن باعتباره كتاب هداية، وليس كتابًا تاريخيًّا، واعتبرا — كلٌّ على طريقته وبأسلوبه — أن القصص القرآني لا يحكي التاريخ، فلا يجب البحث عن المطابقة بين قصص القرآن وبين وقائع التاريخ؛ لأن قصص القرآن مهمتها العِظة والعِبرة والاعتبار، وهي مهمة أخلاقية. بل إن محمد عبده وصل إلى أن قصة آدم والملائكة وخلق آدم واعتراض الملائكة، كلها تمثلات لا وقائع خارجية.

كان محمد عبده هو من اكتشف عبد القاهر الجرجاني، وقام بتدريس كتابيه في مدرسة «دار العلوم» آنذاك. من يقرأ «تفسير المنار» يلحظ هذا التأثير لأفكار عبد القاهر البلاغية في تحليلات محمد عبده، مثل استخدامه لمصطلحات «المثل» و«الأسلوب». طه حسين طوَّر منظور التحليل الأدبي، والفصل بين القصص القرآني والتاريخ، وكان من الجرأة بحيث سبب لنفسه مشاكل معروفة في كتاب «في الشعر الجاهلي»، حين … للقرآن أن يتحدث عن إبراهيم وإسماعيل، وهذا ليس معناه أنهما شخصيات تاريخية …

أمين الخولي رأيه أن القرآن بالأساس هو نص أدبي، وأن القرآن مارس تأثيره على العرب من كونه نصًّا أدبيًّا، وأن الإيمان هو عقد قائم على أدبية القرآن، بسبب التأثير النفسي الذي أحدثه في نفوس المستمعين. من هنا جاء انتسابي إلى قسم اللغة العربية في جامعة القاهرة انتسابًا إلى هذه المدرسة. يجب أن يذكر باستمرار أن الخولي، الذي ربط الدراسات القرآنية بالدراسات الأدبية، متواصلًا مع التراث، وإن من منظور معاصر، تعرض لضغوط بسبب ما حدث لتلميذه «محمد أحمد خلف الله»، الذي رُفضت رسالته بعنوان «الفن القصصي في القرآن الكريم»، وأُحيل بسببها خلف الله إلى عمل إداري بعد أن كان معيدًا. وانتهت هذه المضايقات بقرار يحظر على الأستاذ — الشيخ الخولي نفسه — تعليم دروس «القرآن» أو الإشراف على رسائل عن القرآن. هذا أحدث خوفًا في القسم، فصار تدريس دروس القرآن والإشراف على رسائل عن القرآن رهنًا بمن يريد؛ فاختفى التخصص. تعلم أن قسم اللغة العربية كان يقدم دائمًا الرواد الذين يتعرضون للاضطهاد.

عندما عينت معيدًا في قسم اللغة العربية كان بودي أن أدرس القرآن من منظور أدبي، لا متأثرًا بالشيخ الخولي فقط، بل كنت أيضًا متأثرًا بسيد قطب، كنت متأثرًا بكتابَيه «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن». سيد قطب كان ناقدًا أدبيًّا متأثرًا بالرومانسية الانطباعية، في حين كان أمين الخولي متأثرًا أكثر بالمدرسة الفرنسية، التي تركز على أثر البيئة. كنت متأثرًا بهذا الاتجاه الأدبي، إلى جانب كوني كنت أحب الشعر والأدب، وما أزال. كتبت الشعر فترة، ولكني لا أكتب الشعر الآن. القرآن بالنسبة لي شعر، شاعرية القرآن — على الأقل الفترة المكية — شاعرية عالية جدًّا جدًّا، وما لم يؤخذ هذا بالحسبان لا يفهم النص القرآني.

أنا أنتمي إلى هذا التراث الأدبي الحديث، كما أنتمي إلى التراث الأدبي البلاغي والنقدي الكلاسيكيين، تراث «عبد القاهر الجرجاني». هذا التراث البلاغي والنقدي الكلاسيكي تطور ومن خلال النقاشات حول نظرية «إعجاز القرآن» التي تبلورت في الإعجاز الأدبي. أنا ابن هذا التراث، وأتواصل مع التراث تواصلًا نقديًّا خلَّاقًا من منظور النظرية الأدبية المعاصرة.

ياسين النصير: هل استفدت من رحلتك إلى أوروبا واطلاعك على المناهج الحديثة فيها في تعميق تلك الأرضية التي تحدثت عنها في جامعة القاهرة؟ إنك بدأت الآن بمزاولة هذا الإرث على الطلبة خاصة وأن معظم طلبتك إندونيسيون.
نصر أبو زيد: نعم استفادتي من الفكر الغربي عمومًا بدأت من رحلتي إلى أمريكا خلال فترة دراسة الدكتوراه. طبعًا كنت أجيد القراءة باللغة الإنجليزية قبل السفر، وكنت — وأنا في مصر — قارئًا للدراسات الأدبية باللغات الأجنبية. وفي أمريكا تعرفت عام ١٩٧٨م على فلاسفة الهرمنيوطيقا (فلسفة التأويل) مثل «هانز جادامير» الألماني، و«بول ريكور» الفرنسي، وقرأتهما بالإنجليزية مترجمين عن الألمانية والفرنسية، وهذا أفادني من غير شك، سواء في دراسة ابن عربي، أو في دراسة القرآن. إن القرآن كنص يتميز إلى جانب شعريته العالية التي أشرت إليها بأنه نص قصصي سردي بامتياز. من هنا ضرورة أن يقرأ ويحلل من منظور «السردية»، بتطبيق مبادئ «علم السرد». حتى آيات الأحكام، بما تتضمنه من أبعاد للمعنى القانوني والمعنى التشريعي، مصاغة صياغة سردية. إذا قُرئت باعتبارها نصوصًا قانونية فقط، أي دون اعتبار لطبيعتها السردية، فإنها تتحول ببساطة إلى نصوص قانونية جافة، والأخطر أنها تصبح من خلال هذه القراءة نصوصًا إلزامية، وهذا مكمن الخطر في إهمال البنية السردية. إذا قُرئت نصوصًا سردية تتضمن أبعادًا تشريعية، سيفضي هذا إلى فهم أرقى للأبعاد التشريعية بوصفها في الجوهر توجيهات أخلاقية.
ياسين النصير: يعني أن الاستفادة من الثقافة الغربية أتت بمحلها كما يقولون، هذا يعني أن تعميق أية رؤية نقدية للتراث تحتاج دائمًا إلى تيارات الحداثة.
نصر أبو زيد: بدون شك، استفدت كثيرًا من كل هذه العلوم: الهرمنيوطيقا، التحليل الأدبي، خصائص الشعرية، علم السرد … إلخ. كما أن الفترة التي عشتها — وما أزال — في هولندا أكثر عمقًا في تأثيرها؛ لأنني صرت على صلة مباشرة بالمفكرين، حيث ألتقيهم بالمؤتمرات، وفي الجامعات التي درست فيها والتي دعيت إليها في هولندا وخارج هولندا، وهذا احتكاك مباشر. والأهم في هذه الرحلة ليس فقط التعرف على الفكر الغربي، وإنما التعرف على الفكر الإسلامي خارج العالم العربي، مثلًا الفكر الإسلامي في إندونيسيا، الهند، إيران، أو الفضاء الشيعي في الهند. هناك فكر متقدم، وفكر نقدي أعلى، أعلى بكثير جدًّا من الفكر في العالم السني، وفي المؤسسات الشيعية يوجد مفكرون نقديون، ومفكرون تقليديون، وهذا يسمح بالتواصل الفكري. وفي هذا الوقت يضطهد المحافظون في إيران هؤلاء المفكرين بمضايقات لا حصر لها، لم تصل لحد القتل، ولكن الحصار قد يكون أحيانًا أشبه بالاغتيال المعنوي.
ياسين النصير: عندك كتب كثيرة عن الفكر الشيعي والاجتهادات، وتُرجمت بعض كتبك من قبل العلماء، والبعض ترجم في السجن، هل أنت محبط من الوضع الإيراني الحالي؟
نصر أبو زيد: هذا صحيح كل كتبي تُرجمت إلى الفارسية كما ترجمت إلى التركية، والإندونيسية، أي إلى كل لغات العالم الإسلامي. نعم أنا محبط من الوضع في إيران؛ لأن المفكرين الأحرار يتعرضون إلى ضغوط، لم يتعرضوا لها قبل حكومة أحمدي نجاد، وهم مفكرون من أبناء الثورة الإيرانية ومؤيدون للثورة، ثم تحولوا إلى ناقدين، بعد أن ظهرت في الأفق تغيرات في أهداف الثورة، أدت إلى تحولها إلى دولة دينية بوليسية قمعية، لدرجة لا يتحملها أي مفكر نقدي. وعدد من هؤلاء العلماء من الشباب والشيوخ خلعوا الزي الديني، وخلْع الزي معناه أنك تتنازل عن موقعك في المؤسسة الذي يوفر لك نوعًا من الغطاء والحماية ضد الاضطهاد. من أبرزهم العلامة «محمد مجتهد شبستري»، الذي شارك معنا عام ١٩٩٨م في ليدن في مؤتمر أشرفت على تنظيمه عن «الدراسات القرآنية على أبواب القرن الواحد والعشرين». حين استقبلته في المطار، كان بدون الزي فلم أتعرف عليه حتى بدأني بالسلام بالعربية. استغربت وسألته لماذا قدمت من غير زي؟ فقال لي «هذا مؤتمر علمي يا دكتور نصر، حيث العلماء متساوون، وليس المفروض أن أقدم بزي الداعي». هذا المفكر قرر أن يخلع الزِّي، وفي مكالمتي التليفونية معه قلت له: «لا تترك الزِّي؛ لأنه يعطيك الحماية.» وكان رده طبعًا: «أحب أن أكون طائرًا حرًّا مثلك يا دكتور نصر.» كانت مجاملة رقيقة من شيخ أجلُّه وأحترمه وأقدر علمه وهناك كثير من الشباب يسمونهم «ملالي» الذين قابلتهم وأشرفت على بعضهم وساعدت في سفر بعضهم، وعندما رجعوا إلى إيران خلعوا الزِّي؛ لأنهم يريدون أن يكونوا مفكرين أحرارًا. هؤلاء الآن يتعرضون لنوع من المضايقة تحت حكم المحافظين. أحمدي نجاد ليس مفكرًا مثل خاتمي، وهذا إحباط لهم. ولكن هؤلاء الناس لم يكفوا عن مواصلة عملهم، أنا استلمت ترجمة بالعربي لآخر كتابات العلامة «شبستري» منها بحث بعنوان «القراءة النبوية للعالم»، ويعني بالقراءة النبوية القرآن الذي يعتبره كلام محمد بوحي الله، لا كلام الله بالمعنى اللاهوتي الشائع. هذا دليل على مدى الشجاعة التي يتسم بها هذا العالم الجليل. نفس القدر من الشجاعة يوجد عند المفكرين الإندونيسيين، الذين يرفض بعضهم قبول تأثير الإسلام العربي، خاصة في الوقت الحاضر بعد انتشار التطرف السلفي القادم من المركز العربي. يوجد تجديد حقيقي للفكر الإسلامي خارج العالم العربي.
ياسين النصير: هؤلاء هم الطليعة، والواقع أن التجديد ليس على مستوى الدين فقط وإنما على مستوى الفكر والحضارة والحداثة التي تأتي من بلدان غير المركز العربي وغير المركز الأوروبي، مثلًا، الهند والصين وأمريكا اللاتينية والشرق. وإدوارد سعيد مثلًا، وأنت أيضًا وكذلك في أوروبا من خارج منطقة المركز، هل تعتقد أنه توجد الآن حركة حقيقية في هذا الاتجاه، تتجاوز المركزية الأوروبية، هل تستخدم هذه الثقافة في حياتك الإعلامية مثلًا؟
نصر أبو زيد: نعم توجد حركة حقيقية، ولكن أين المشكلة؟ المشكلة تحتاج إلى تأمل، إن المسلمين الذين يعيشون في الغرب، أيًّا كانت جنسياتهم سواء إندونيسيين، مغاربة، أتراكًا، وغيرهم، ينظرون إلى العالم العربي باعتباره مصدر الإلهام، وفي داخل عقل المسلم الذي يعيش في أوروبا، أن العرب يعرفون الإسلام أفضل، لا لشيء إلا لأنهم عرب. من هنا يجد أغلبية المسلمين في العالم — باستثناء الانتلجنسيا — في الفضائيات العربية مصدرًا للمعرفة.

المشكلة أن هذه الفضائيات تقدم نوعين من المتعة للمشاهد العربي على وجه الخصوص: الدين والجنس، الجنس على شكل أغانٍ وكليبات وغيرهما، بينما يقدم الدين بأشكال مغرية شتى، ابتداءً بقراءة الكف والطب النبوي والطب القرآني إلى آخره. بشكل عام يقدم إعلام الفضائيات هذين النوعين من الترفيه. ويبدو أن هذين النوعين متعارضان، لكنهما في الحقيقة متكاملان ترفيهيًّا. عندما تتأمل حركات وإيماءات الشيخ الذي يقدم فتاوى — الشيخ الشعراوي رحمه الله نموذجًا — تراه يوظف كل إمكانيات المؤدي، ولكن مضمون الفتاوى التي تبث، مضمون خطير جدًّا. شاهدت برنامجًا تليفزيونيًّا، يريد أن يثبت بالشكل العلمي وبالتحليل العلمي أن مخ المرأة أقل حجمًا من مخ الرجل، وهذا كله لكي يثبت إعجاز القرآن وإعجاز الإسلام، إذن لا بد أن المرأة تحتاج إلى رعاية، وقوامة، أي إن الرجل يكون قيِّمًا أو قوَّامًا عليها.

ياسين النصير: أين نحن سائرون؟
نصر أبو زيد: إذا أخذنا الخطاب بمعناه العام الإعلامي، معنى ذلك أننا ذاهبون إلى الجحيم، ولكن لا بد أن ننظر لما هو خارج الإعلام، حركة الواقع، نرى أن ما هو خارج الإعلام فيه حيوية أكثر، الذي في الإعلام هو خطاب، وهو خطاب يدل على وجود واقع أفضل من الخطاب الذي يقدمه. مثلًا السخط على المرأة ما هو سببه؟ إن المرأة موجودة في الفضاء العام حتى لو كانت محجبة وحتى لو كانت منتقبة لكنها موجودة، إذن ما سر هذه الهجمة على الأخلاق، وانعدام الأخلاق، وعلى الفساد والجنس وغيره؟ هذا كله نابع من الفزع الناتج عن إدراك أن المجتمع قد تجاوز أي قيم من القرون الوسطى، وسار شوطًا طويلًا في سكة الحداثة، وإن على مستوى المظهر حتى الآن. أعتقد أن مهمتنا هي أن نهتم أولًا بتفكيك هذا الخطاب الإعلامي. هذا مهمٌّ جدًّا جدًّا، وعلينا أن نسعى لاستخدام نفس الجهاز — الإعلام — في تفكيك الخطاب الإعلامي. هذا ضروري جدًّا، ولا يجب أن نقول إطلاقًا إن هذا ليس ضروريًّا. أنا مثلًا أصبحت الآن لا أفوت فرصة دعوة لبرامج الفضائيات، بشرط أن تكون برامج مما تبث بثًّا مباشرًا، وألا يكون فيها تدخل مباشر من الجمهور. دُعيت في مصر مرتين في برنامج البيت بيتك وكانت المقابلة على الهواء. أعتقد أن خطابي وصل للناس بطريقة فعالة بلغة سهلة دون أن تكون سطحية.

علينا، عندما نقرر أن نكون جزءًا من الخطاب العام، ألا نتعالى على استخدام الإعلام الذي من خلاله نتدرب على كيفيةٍ نخاطب الناس. الكتابة تحتاج من القارئ أن يبذل جهدًا، بينما المشاهد يبذل أقل جهد. وفي المرات التي استضافني التليفزيون، سواء القنوات العربية أو المصرية، نسبة لا بأس بها من الجمهور الذي شاهدني غيَّر رأيه الذي كونه بالسماع من آخرين في نفس الجهاز الإعلامي عني وعن أفكاري. علمًا أنني قلت في التليفزيون نفس الكلام الذي كتبته في الكتب، ولكن قلته بطريقة تكشف أنني لست ضد الإسلام وأنني لا أكره النبي ولا الصحابة، وهذا ما يروجه الخصوم مستغلين حقيقة أن المشاهد لا يقرأ، بالإعلام يمكن تفكيك الخطاب الإعلامي الرث.

الأمل الآن في الشباب المتعطش لإجابات أخرى، الشباب تعبَ من الإجابات التي يسمعها، وربما هذا جزء من ثورته على الأب، والأسرة، والتقاليد بأسرها. كل المحاضرات العامة التي ألقيتها — بما فيها محاضراتي في مصر التي أثارت لغطًا كبيرًا — كانت نسبة الحضور من الشباب تقريبًا ٨٠٪ رجالًا ونساءً، وكنت سعيدًا جدًّا بهذه المفاجأة. وكان مستوى النقاش معقولًا جدًّا.

المسألة تحتاج إلى نوع من الجرأة، ألا ينتابك الخوف وأنت تخاطب الجمهور، بمعنى ألا يكون خطابك مزدوجًا؛ لأن هذا في النهاية يقلل من مصداقيتك عند الشباب، كما أن القارئ لكتبك ممكن أن يقول «إنه يكتب شيئًا وها هو يتحدث بشيء آخر». بعض الموضوعات والأسئلة تكون محرجة وتتطلب منك جسارة في الإجابة على السؤال، وعليك أن تتجنب المراوغة، الناس تقدِّر الصدق.

ياسين النصير: هذا شيء مفرح جدًّا، حوار جميل في خطابك إلى الشباب، في خطابك إلى التجديد الفلسفي، وخطابك إلى تجديد الوعي بمشكلاتنا وبواقعنا.

وباسم هيئة تحرير الثقافة الجديدة نشكرك جدًّا سيدي الكريم على هذا اللقاء المثمر.

نصر أبو زيد: أنا الذي أشكركم جدًّا على أنكم تجشمتم عناء الحضور وشرفتموني في بيتي، وطبعًا احنا علاقتنا خارج هذا اللقاء مستمرة.
ياسين النصير: نتمنى أن تهدأ الأمور أكثر في بغداد، وأنت لحد الآن لم تزر بغداد، ولكن نتمنى أن تزورها.
نصر أبو زيد: نفسي أن أزور بغداد ونفسي أشوف القدس.
ياسين النصير: وأنا معك أيضًا.
نصر: قبل أن نموت، أنت تعرف أنني دعيت إلى المربد كثيرًا ولكني رفضت، حديثًا دعيت إلى أربيل، ولكني اعتذرت؛ لأنني لا أتحمل أن تكون أول مرة أزور فيها العراق، يكون مروري على بغداد عابرًا من فوق سمائها، هذا غير ممكن. قلت لإخواننا أرجوكم لا تزعلوا مني، أنا لست ضد كردستان إطلاقًا، ولكن أول زيارة لي للعراق يجب أن تكون لبغداد.
١  هذا النص مأخوذٌ من تسجيل اللقاء وليس مما نشر من الحوار بمجلة الثقافة الجديدة بهولندا، عدد أكتوبر ٢٠٠٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤