المرحلة الإقطاعية

(١) السِّمات العامَّة للمرحلة الإقطاعية

ليس من السهل أن يأتي المرء بمجموعةٍ من الصفات المُميِّزة للمرحلة الإقطاعية في التطوُّر الاقتصادي، إذ إنَّ مُعظَم هذه الصفات تَصدُق على مجتمعات مُعيَّنة ولا تصدُق على مجتمعاتٍ أخرى.

ففي بعض الأحيان يُعرَّف الإقطاع تعريفًا زمنيًّا، فيُقال إنه هو النظام الاقتصادي السائد في العصور الوسطى. ولكن هذا التعريف لا يسري إلا على نظام الإقطاع في أوروبا، أمَّا في كثيرٍ من أماكن العالَم الأخرى، وضِمنها الشرق، فلا زال للإقطاع وجود، بشكلٍ أو بآخر، حتى اليوم. وفي أحيانٍ أخرى يُعرَّف الإقطاع تعريفًا سياسيًّا أو اجتماعيًّا، فيُقال إنه النظام الذي يَستبدُّ فيه المالك الإقطاعي بأقدار كلِّ من يَعملون عنده، وتكون له عليهم سلطة مُطلقة تعلو على سلطة الدولة ذاتها. ومع ذلك فإن هذا التعريف يتجاهل حقيقة عرفَتْها أوروبا في بداية عصر التصنيع، وهي أن الإقطاع كان في بعض الأحيان أرحمَ من العصر الرأسمالي في الفترة الأولى من تاريخه؛ لأنه كان يمنَح الناس قدرًا من الأمن والحِماية على الأقل.

كذلك يُعرَّف الإقطاع أحيانًا على أساس مركز السلطة فيه، فيُقال إنه ذلك النظام الذي تتفكك فيه السلطة المركزية للحكومة أو تختفي نهائيًّا، لتحلَّ محلَّها سلطاتٌ مُتعدِّدة ينفرِد بكلٍّ منها إقطاعي يكون له الأمر والنهي على كلِّ من يعملون في أرضه. ولو صحَّ هذا التعريف لما أمكن القول بوجود مرحلةٍ إقطاعية في البلاد التي ظلَّت السلطة فيها طوال تاريخها في يدِ حكومة مركزية واحدة، ومن بينها مصر.

وربما كان الأصحُّ أن نربِط بين الإقطاع وبين النَّمَط الزراعي في الاقتصاد، فنقول إنه ذلك النظام الذي يقوم في البيئات الزراعية على أساس عَلاقاتٍ مُعيَّنة بين المالك الكبير والفلَّاحين المُشتِغلين في أرضه، تتَّسِم أساسًا بأنها علاقاتٌ تسلُّطية. والواقع أن البيئة الزراعية ضرورية لفَهم الإقطاع؛ إذ إنَّ عناصر النظام الإقطاعي لا تكتمِل بصورَتِها المُطلَقة في الحالات التي يكون فيها مالك الأرض الكبير مُشتغِلًا بمهنةٍ أخرى لا صِلةَ لها بالحياة الريفية، كالعمل في مَيدان المال أو التجارة أو الصناعة. كذلك فإن هذه البيئة هي التي تُضفي على الإقطاع طابعًا خاصًّا، وتنشُر في المجتمع الذي يَسوده الإقطاع قِيَمًا مُعيَّنة، تَظلُّ مُتأصِّلة في النفوس حتى بعد أن يتمَّ التخلُّص — اقتصاديًّا — من العلاقات غير المُتكافئة التي يَستتبِعُها نظام الإقطاع.

ولعلَّ هذه النقطة الأخيرة هي التي تقتضي مِنَّا اهتمامًا خاصًّا بالمرحلة الإقطاعية؛ ذلك لأن أوروبا بدأت تتخلَّص من السيادة المُطلقة لنظام الإقطاع منذ عصر النهضة الأوروبية؛ أي في حوالي القرن السادس عشر، وسدَّدَت الضربة القاضية إلى هذا النظام في عهد الثورة الفرنسية (على المستوى السياسي) وفي عهد الثورة الصناعية (على المستوى الاقتصادي والاجتماعي)، بحيث يُمكِن القول إنها قد تخلَّصت من آخر آثاره في القرن التاسع عشر. أمَّا بالنسبة إلينا فإن الإقطاع ما زال نظامًا يعيش بيننا ويؤثِّر في عقليَّتنا وفي قِيَمنا ونظرتنا إلى العالَم. صحيح أننا استطعْنا تصفِيَته منذ اللحظة التي قُضيَ فيها على نظام المِلكيَّات الزراعية الكبيرة بفضل قوانين الإصلاح الزراعي، ولكن من الواجِب أن نتذكر أن الإقطاع، بأشكاله المُختلفة، ظلَّ هو النظام السائد في بلادنا مئاتٍ بل ألوفًا من السنين، وأن التَّصفية المادية للنظام لا تعني التخلُّص من آثاره المعنوية، التي ستظلُّ تُلازِمنا فترةً غير قصيرة من الزمن، ما لم نبذُل جهدنا من أجل التخلُّص منها بالعمل الواعي والسَّعي الدائب.

وطبيعي أن يكون من الصَّعب الحديث عن الخصائص الفكرية لمرحلةٍ مرَّت بها البشرية زمنًا طويلًا كهذا، وانتشرَت في بيئاتٍ شديدة التَّبايُن. فمن العسير أن نتحدَّث عن «قطاع» واحدٍ في العالَم بأسره؛ لأن الإقطاع كان يَتَّخِذ أشكالًا تَختلِف باختِلاف الظروف المحليَّة التي ينتشِر فيها. وربما كان الأيسر أن نُعالِج الإقطاع — من الناحية الفكرية — على أنه نَوعان: إقطاع غربي، وإقطاع شرقي؛ على أن يكون مفهومًا أن المقصود بالشرق تلك المنطقة التي نعيش فيها من العالَم، لا البلاد الشرقية على إطلاقها.

(٢) الإقطاع في الغرب

من العوامل الأساسية لظهور نظام الإقطاع في أوروبا تلك الحروب الكثيرة التي كان يَخوضها الملوك، إمَّا ضِدَّ بعضهم، وإمَّا ضِدَّ أعداءٍ من الخارج. فلقد أدَّت هذه الحروب إلى ازدياد أهمية فئة العسكريين المُحترِفين، وزيادة عدد أفرادها. ونظرًا إلى أنَّ الملوك لم يكن لدَيهم دائمًا المال الذي يكفي لمُكافأة هؤلاء المُحاربين، ولا سيَّما القادة منهم، على خِدماتهم، فقد كانوا يَمنحونَهم قِطعًا من الأرض جزاءً لهم على حُسن بلائهم في الحروب. ولم تكن هذه المِنَح في البداية على شكل مِلكيَّة دائمة، بل كانت تُعطي المُحارب حقَّ الانتفاع من الأرض، ثم تَحوَّل هذا الحقُّ فيما بعدُ إلى مِلكيةٍ دائمة. وممَّا ساعَد على هذا التحوُّل أن صغار الفلاحين كانوا يَحتمُون بالمالِك الكبير ضِدَّ أخطار الضرائب وعدَم الاستقرار، ورغبةً منهم في الشعور بمزيدٍ من الأمن. وهكذا كان الفُرسان المُحاربون من أهمِّ العناصر التي تكوَّنت منها طبقةُ الإقطاعيين في العصور الوسطى، وكان لهذه الحقيقة أثرها البالِغ في صَبْغ القِيَم الفكرية في عصر الإقطاع الأوروبي بطابعها الخاص.

ومن ناحية أخرى كان كبار رجال الكنيسة والأدْيِرة يُسيطرون على مساحاتٍ شاسعة من الأرض، قُدِّمت إليهم بوصفِها هِباتٍ أو مِنَحًا أو هدايًا، فضلًا عن أن الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الكثيرة التي كانوا يَتمتَّعون بها قد ساعَدَتْهم على استثمار ثرواتهم ومُضاعفتها، حتى أصبحت أملاك الكنيسة تُكوِّن نسبةً كبيرة من الأراضي الخاضعة للإقطاع، كما أصبح رجال الدِّين من أهمِّ عناصر الطبَقة الإقطاعية في العصور الوسطى.

ولقد كان هذا الأصل المُزدوَج لنظام الإقطاع في الغرب، أعني انتِماء الإقطاعيين إلى فئة الفُرسان المُحاربين من جهة، وإلى فئة كبار رجال الدين من جهةٍ أخرى، كان هذا الأصل المُزدَوج هو الذي يُعلِّل مجموعة القِيَم والعادات العقلية التي سادت المجتمع الإقطاعي في العصور الوسطى.

  • (١)

    فقد كانت أهمُّ القِيَم الأخلاقية في العالَم الغربي في العصر الوسيط هي «قِيَم الشجاعة والأرستقراطِيَّة» والترفُّع. وتلك هي قِيَم الفُرسان النُّبلاء من مُلَّاك الأرض، الذين ظلُّوا يحتفظون بالفضائل العسكرية حتى بعد أن تحوَّلوا إلى الحياة المدنية المُستقِرَّة. وفي استطاعة المرء أن يلمِس مدى أهمية هذه القِيَم إذا رجَع إلى أيِّ عملٍ أدبيٍّ تدُور حوادِثه في عالَم فرسان العصور الوسطى. وفي كثيرٍ من الأحيان كان هذا الترفُّع الأرستقراطي يَتَّسِم بنوع من النظرة الأبَوِيَّة إلى عامَّة الشعب. وليس معنى النظرة الأبوية في هذه الحالة وجود نوع من العطف أو المَحبَّة بالضرورة، بل إن المقصود منها هو نظرة المالك الإقطاعي إلى عامَّة الناس على أنهم من رعاياه، وعلى أنه مسئول عنهم بمعنًى ما، أي إنه يتَّخِذ القرارات الحاسِمة بشأن مُستقبلهم، وربما شارك في حلَّ مشكلاتهم إذا كانت طبيعته تسمح له بالاهتمام بهذه المُشكلات.

    وممَّا ساعد على اكتمال سيطرة مالك الأرض على الفلاحين، ضعف السلطة المركزية في العصور الوسطى، وعدم وجود حكومة مُسيطرة وإدارة حكومية قوية لها سُلطة تنفيذية كاملة. وهكذا كان الإقطاع يقوم بمُهمَّة حِماية أرواح الفلاحين ومُمتلكاتهم (إن كانت لهم مُمتلكات)، وهو أمر كانت له أهميته البالِغة في عصرٍ لم يكن فيه من مصدرٍ للثروة سوى الأرض، وكان دَور التجارة والصناعة في الإنتاج محدودًا إلى أبعدِ حد. ولكنه كان يتقاضى ثمن هذه الحماية باهِظًا، إذ كان الفلَّاحون المُشتغِلون بأرضه رَقيقًا لهذه الأرض، وكانت حقوقهم ضئيلة جِدًّا، وواجِباتهم باهِظة فادِحة، ولم تكن أمامهم أية سُلطةٍ يَحتكمون إليها إذا زاد طُغيان المالك الإقطاعي عن الحد، إذ كان هذا الإقطاعي هو الخَصم والحكم في آنٍ واحد.

    ولذلك فإنه إذا كانت قِيَم الشجاعة والترفُّع والأرستقراطية هي السائدة في جانب الإقطاعيين، فإن قِيَم الخضوع والولاء كانت هي السائدة في جانب عامَّة الناس، وكان النموذج المَرغوب فيه لإنسان العصر الوسيط هو نموذج الإنسان الخاضِع، الذي لا يتجاوَز حدودَه ولا يتطلَّع إلى ما هو أعلى منه، والذي تنحصِر أغلى أمانِيه في رِضاء سيِّدِه الإقطاعي عنه.

  • (٢)

    وقد أسهم رجال الدِّين بدَورهم في إكمال صورة العصر الإقطاعي الغربي، فنَشروا بين عامَّة الناس «قِيَم الزُّهد» وصَوَّروا حياة الإنسان على هذه الأرض بأنها مرحلةٌ عابرة، لا ينبَغي أن يُولِيَها اهتمامًا كبيرًا؛ ومِنْ ثَمَّ كانت أفكارهم مُنصرِفةً عن هذا العالَم، زاهِدة فيه، ولم تكن لأوْجُه النشاط المُتعلِّقة بهذه الحياة من قِيمةٍ سوى أنها تُهيئ الإنسان للحياة الأخرى الباقية. على أن هذه القِيَم كانت في واقع الأمر مُوجَّهةً نحوَ عامَّة الشعب؛ أعني نحو أولئك الذين يُريد رجال الدين في ذلك العصر أن يَظلُّوا في حالةٍ من القناعة والاكتِفاء بأقلِّ القليل. أمَّا رجال الدين أنفسهم فكان الكثيرون منهم يعيشون حياةً لا صِلةَ لها على الإطلاق بما يَدعُون الناس إليه؛ إذ إنهم كانوا يستمتعون بكلِّ مَباهِج الحياة، ولم يكن إصرارُهم على تأكيد قِيَم الزُّهد إلَّا تَغطيةً لنَمَط حياتهم الذي كان أبعدَ ما يكون عن الزُّهد. والمُهِمُّ في الأمر أن انتشار أفكار الخضوع والولاء والرِّضا بالقليل كان يرجِع إلى تأثير رجال الدين بقدْر ما كان يرجِع إلى تأثير النُّبلاء الإقطاعيين.

(٣) دَور الإقطاع في حياة الشرق

لا يُمثِّل الإقطاع في الشرق — إذا فُهِم بمعنًى واسع، لا بالمعنى الذي كان سائدًا في الغرب فحسْب — نظامًا تاريخيًّا كان له دَوره خلال مرحلةٍ من مراحل التطوُّر ثم انقضى عهده، وإنما هو نظام ما زالت له — في المنطقة التي نعيش فيها من العالَم — آثار عميقة، بل لا يزال له وجود فِعليٌّ ملموس في كثيرٍ من أرجاء هذه المنطقة.

ولسنا نودُّ أن نتحدَّث عن العوامل المُختلفة التي أدَّت إلى ظهور نظام الإقطاع وتَوطُّده في هذه المنطقة من العالم؛ إذ إنَّ هذا الحديث كفيل بأن يبعُد بنا عن غرَضنا الأصلي، وهو البحث في الاتجاهات الفكرية والمعنوية التي ترتَّبَت على انتشار نظام الإقطاع. وحسبُنا أن نُشير إلى أن الامتدادَ الزمني الهائل لنظام الإقطاع لا يسمح لنا بأن نتحدَّث عنه كما لو كان نظامًا واحدًا مُتجانسًا في كل الأحوال، بل كان من الضروري أن يتغيَّر طابعه من عصرٍ إلى عصر، ومن مجتمع إلى آخر، وأن يتداخَل أحيانًا مع نُظمٍ أخرى سابِقة على الإقطاع، كنظام الرق، وأحيانًا أخرى مع نُظم لاحِقة له، كالنظام الرأسمالي.

ولذلك كان يكفينا، لكي نُحقِّق أغراض بَحثِنا الحالي، أن نُشير إلى نظام الإقطاع بوصفِه ذلك النظام الذي يرتبِط أساسًا بالحياة الزراعية، والذي يتَّسِم بعلاقاتٍ اقتصادية واجتماعية بعيدة كلَّ البُعد عن التكافؤ بين مُلَّاكٍ كبارٍ من ناحية وبين فلاحين مُستعبَدين بدرجاتٍ مُتفاوِتة. وينبغي أن نَتنَبَّه في هذا الصَّدَد إلى أن آثار هذا النظام تظلُّ تَطبَع الحياة الريفية بطابعها الخاص، حتى بعد أن يَطرأ تحوُّل أساسي على نَمَط المِلكيَّة الزراعية، ولا يعود الملَّاك الإقطاعيُّون مُسيطرين على أقدار الفلاحين؛ ذلك لأن التغيُّر في النُّظم التشريعية أيسَرُ وأسرع بكثيرٍ من تغيُّر العقليات والعادات الاجتماعية. ومن هنا كانت العادات القديمة تظلُّ مُستحكِمةً في النفوس بعد فترةٍ طويلة من زَوال النُّظم التي أدَّت إلى ظهورها.

ولنقل، بعبارةٍ أصرَحَ، إنَّنا في الوقت الذي قضينا فيه على الإقطاع من حيثُ هو نظام اقتصادي تتَّسِم العلاقات الاجتماعية فيه بطابعٍ مُعين، لم نَستطِعْ بعدُ أن نقضي على العادات الفكرية والاتجاهات المعنوية التي يُولِّدها نظام الإقطاع. بل إنَّنا حتى في حياتنا الحضرية قد انتقلْنا إلى المُدن حامِلين تُراثًا كاملًا من الأفكار والاتجاهات الريفية المُرتبِطة بعصور إقطاعية عميقة الجذور، فكانت النتيجة أنَّنا أصبحنا في كثيرٍ من الأحيان نحيا حياةً مُزدوَجة بالمعنى الصحيح، فنُمارِس في المُدن أعمالًا ترتبِط في صميمها بالعصر الحديث، كإدارة دفَّة الأداة الحكومية، أو الاشتِغال في مصنعٍ أو شركة تجارية، ولكنَّا نُمارِس هذه الأعمال بعقلياتٍ وقِيَم موروثة من بيئةٍ هي في صميمها ريفية، بل هي في صميمها إقطاعية.

ولا شكَّ أن لهذا الازدِواج أخطارُه وأضراره، إذ إنه يُحدِث انفِصامًا معنويًّا في المجتمع، بين طبيعة الواقع الذي يعيش الناس فيه ونوع العقلية أو النفسية التي يُواجِهون بها هذا الواقع ويُحاوِلون حلَّ مشاكله. ولذلك فإنَّنا حين ندرُس العادات والاتجاهات العقلية التي ترتبِط بالنظام الإقطاعي أو تتولَّد عنه، لا ندرُس مرحلةً غابِرة من التاريخ، بل ندرُس واقعًا لا يزال يحيا بيننا حتى اليوم، وما زال يُمارِس تأثيرَه في سلوكنا على الرغم من اختفاء النظام الاقتصادي والاجتماعي الذي أدَّى إلى ظهوره. فلنُحاولْ إذن أن ندرُس بشيءٍ من التفصيل نوع العادات والقِيَم التي يولِّدها النظام الإقطاعي في المجتمع لكي تَتَّضِح لنا عن طريقها كثير من مظاهر عدم التوازُن في حياتنا الراهنة، وتَستَبين من خلالها وسائلُ التخلُّص من هذا الاختلال.

(٤) السِّمات المعنوية للحياة في ظلِّ الإقطاع

ومن الواجب أن تكون نقطة بدايتنا في دراسة السِّمات العقلية المُتولِّدة عن نظام الإقطاع هي تلك الحقيقة التي أشَرْنا إليها من قبل، وأعني بها أن نظام الإقطاع مُرتبِط أساسًا بالحياة الريفية الزراعية. ولا شكَّ أن طول المُدَّة التي ظلَّ فيها الإقطاع سائدًا في الريف قد أدَّى إلى تداخُلٍ وَثيقٍ بين العلاقات الاجتماعية الإقطاعية وبين نمَط الحياة الريفية بوجهٍ عام، بحيث يُمكن القول إن قدْرًا غير قليلٍ من مَعالِم الحياة في الريف، كما نعرِفها حتى يومنا هذا، قد تحدَّدَ عن طريق نظام الإقطاع، كما يُمكن القول من ناحيةٍ أخرى إن السِّمات الرئيسية المُميِّزة للعقلية التي تعيش في ظلِّ الإقطاع قد تشكَّلَت نتيجةً لظروف البيئة الزراعية التي لا يَسُود هذا النظام إلَّا فيها.

  • (١)

    أولى السِّمات التي تلفِتُ الأنظار في البيئة الريفية التي يَسُودها الإقطاع، والتي تؤثِّر تأثيرًا قويًّا على العقليات في هذه البيئة: هي «بَساطة نمَط الحياة وبِطء إيقاعها» وصحيح أنَّ هذه سِمةٌ مُشترَكة بين كلِّ المجتمعات الزراعية، ولكن نُزوع المجتمع إلى الثَّبات ومُحاربته للتجديد من الصِّفات التي تزداد وضوحًا في المجتمع الإقطاعي على وَجه التخصيص؛ ذلك لأن الإقطاع بطبيعته نظام راكِد، يحرِصُ أصحاب السلطة فيه على الاحتفاظ بنفوذهم وسيطرتهم، ويؤمنون — عن حق — بأن شُيوع الاتجاه إلى التجديد في أي ميدان من ميادين الحياة الاجتماعية يُمكن أن تَنتقل عَدْواه إلى سائر الميادين؛ ومِنْ ثَمَّ فإنه يُهدِّد سُلطتهم ذاتها بالخطر.

    في مثل هذا المجتمع تتَّخِذ أساليب الإنتاج ذاتها طابعًا ثابتًا، ولا تُوجَد أيَّةُ حوافز للتجديد. وينعكس ذلك مُباشرةً على العقول، فتكون النتيجة أن تتَّسِم طرق الفِكر بالثَّبات، وتتَّسِم العادات الاجتماعية والقِيَم الأخلاقية بالجُمود والتَّحجُّر. وإلى هذا العامل يرجِع قدْر كبير من النُّفور من التجديد في مجتمعاتنا الريفية، والاعتقاد بأن الأحوال السائدة في المُجتمع المحليِّ هي أوضاع أزَلِيَّة، كانت ولا تزال موجودة في كل مكانٍ وزمان. ولا جدال في أن ضِيق نطاق التجارب في المجتمع الريفي يقوم بدَور هامٍّ في هذا الصَّدَد؛ إذ إن الانفتاح على العالَم الخارجي، وتبادُل الخِبرات مع الشعوب والمجتمعات الأخرى، ظلَّ حتى عهدٍ قريب أمرًا عسيرًا بالنسبة إلى مُعظم المجتمعات الريفية في العالَم، وزاد تحجُّر نظام الإقطاع من إحكام هذه العُزلة، فكانت النتيجة هي ما نلمِسُه في المجتمعات الريفية من ارتِيابٍ وتَشكُّكٍ في أي نَمَطٍ من أنماط السلوك أو الاعتقاد يُخالِف النمَط الشائع في المجتمع المحلي، والنظر إلى كلِّ تجديد على أنه بِدْعة لا تُشكل انحرافًا فرديًّا فحسب، بل تُمثِّل خروجًا على تقاليد المجتمع ذاته وتحدِّيًا وإهانةً له.

  • (٢)

    ويرتبِط بالسِّمة السابقة مُباشرة تقديس الماضي على حساب الحاضر والمستقبل. ففي المجتمع الذي يَسُوده النُّزوع إلى الثَّبات، والنُّفور من التغيُّر والتجديد، تُعدُّ عبادة الماضي ظاهرةً لا مَفرَّ منها. وهذه بدَورها ظاهرة نلمِسها في كافَّة المجتمعات الريفية عامة، حيث لم تتغيَّر أساليب الإنتاج إلَّا في عشرات السنين الأخيرة، بينما ظلَّت عشرات القرون تكاد تكون ثابتة. ولكن المجتمع الإقطاعي يُضيف إلى هذا التعليل العام سببًا آخر؛ ذلك لأنَّ زمام السيطرة في هذا المجتمع يقَع في قبضة أناس يَتَّجِهون، بحُكم وضعهم الاجتماعي، إلى تكريم الأسلاف والإشادة بماضيهم. فالمالك الإقطاعي الكبير يَدين بثروته ونفوذه — في مُعظم الأحيان — للوِراثة، وكثيرًا ما تكون مُمتلكاته مَوروثةً من أسلافٍ بعيدين، بل إن لقَبَه ذاته قد يكون مَوروثًا من أجدادٍ سبقوه بمئاتٍ من السنين. وهكذا فإن أمجاده كلَّها مُرتبطةً بالماضي، وكل قيمةٍ للحاضر إنما تُستمَدُّ في نظَره من علاقته بهذا الماضي. ولمَّا كان الأعيان الإقطاعيون هم المُسيطرون في مثل هذا المجتمع، فإن طرُق تفكيرهم وقِيَمهم الأخلاقية هي التي تنتشِر وتُطبَع صورتُها على المجتمع ككل، ومن هنا تتعلَّق الأذهان في مثل هذا المجتمع بالماضي، وتنظُر إلى المستقبل — الذي يحمِل في طيَّاته دائمًا احتمالات التغيير — بعين الارتِياب، بل إنها لا تَرضى عن الحاضر ذاته إلا بقدْر ما يكون انعكاسًا للماضي، وترى أن القديم أفضل دائمًا من الجديد، وأن ما انقضى عهدُه لا يُمكن أن يُعوَّض. وحين تُصبِح هذه الطريقة في التفكير ظاهرةً عامَّة، يؤمن بها الإقطاعيُّون والفلَّاحون على حدٍّ سواء، يكون معنى ذلك أن أصحاب المصلحة في التغيير يعملون — على غير وَعيٍ منهم — على مُحارَبة التغيير، وعلى تأكيد حقوق الغاصِبين الذين يُعدُّ التعلُّق بالماضي عاملًا أساسيًّا من عوامل تثبيت سُلطتهم وإحكام قَبضتهم على المجتمع.

    ويُمكن القول إنَّ كلَّ إفراطٍ في التعلُّق بالتراث الماضي، في مجتمع مُعين، إنما هو — في جانبٍ من جوانِبه — أثر من آثار هذه العقلية الإقطاعية التي تُدين بمبدأ عبادة الأسلاف. صحيح أنَّ من حقِّ كل شعب، بل من واجِبه، أن يتذَكَّر أمجادَه الماضية ويَستمدَّ منها قوَّة تُعينه على النهوض بحاضره، ولكن حين يصِل تقديس التراث الماضي إلى حدِّ الإلحاح المريض على هذه الأمجاد مع نِسيان الحاضر نسيانًا تامًّا، وإلى حدِّ الاعتقاد بأن تذكير الناس بماضيهم يكفي وحدَه لتعويض كلِّ نقائص حاضرهم، فعندئذٍ لا تَعود عبادة الماضي عاملًا من عوامل نهضة الأمة، بل تُصبِح عائقًا في وجه تقدُّمها.

    وحسبُنا أن نُشير إلى أن هذا التعلُّق المُفرِط بالماضي يَنطوي ضِمنًا على إنكارٍ لمبدأ التقدُّم، بل على عدم إيمانٍ بإمكان هذا التقدُّم؛ فمِثل هذا المجتمع يرى أنَّ كلَّ علامات التقدُّم المُحيطة به إنما هي مظاهر خادِعة، ويعتقد أن مُضيَّ الزمن لا يؤدي إلَّا إلى زيادة تدهوُر البشرية، أو على أحسن الفروض يترُكها على ما هي عليه، دون أن يَخطوَ بها إلى الأمام خطوةً واحدة. ولا جِدال في أن هذه النظرة التشاؤمية مُرتبِطة أوثقَ الارتباط بالنَّزعة الرَّجعيَّة السائدة في عصور الإقطاع، إذ إنَّ بقاء الأوضاع على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه في الماضي، هو خير ضمانٍ للمُحافظة على مكاسب الإقطاعيِّين واستِمرار سيطرتهم على المجتمع.

    هذه الظاهرة تتمثَّل في بعض المجتمعات التي ظلَّت خاضِعةً أمدًا طويلًا لسيطرة الإقطاع (فضلًا عن أنها تنتشِر أيضًا في المجتمعات التي كان للنِّظام القبَلي فيها دَورٌ هامٌّ في تحديد طبيعة العلاقات الاجتماعية). وهي إن دلَّت على شيءٍ فإنما تدُلُّ على عجزٍ عن التكيُّف مع الواقِع، أو على رغبةٍ لا شعورية في الهروب منه. وحين تتَّخِذ عبادة الماضي طابعًا مُتطرِّفًا فإنها تُصبِح عامِلًا من عوامل تخدير المجتمع وصرْف أنظاره عن مَشاغله الحاضرة وعن واجباته في المستقبل. ولذلك كان لِزامًا على كلِّ مجتمعٍ يتطلَّع إلى إحداث تغيُّرٍ ثَوري في حياته أن يجعل لتأثير ماضيه حدودًا لا يتعدَّاها. وأفضَلُ ما يُمكن عمله في هذا الصَّدَد هو أن يتَّخِذ من ماضيه قوَّةً تُعينه على السير قُدمًا نحوَ مستقبلٍ أفضل، وهذا أمر لا يصعُب إنجازه، إذ إنَّ قُدرة الأمة على اكتشاف نفسها والاهتداء إلى هُويَّتها الأصيلة، تُعدُّ من أهمِّ العوامل التي تُساعدها على النهوض في مُستقبلها، بل إن البعض يرى أن تَعمُّق الأمة في مَعرفة ماضيها وفَهم أبعاد شخصيتها يُعينها حتى في عمليات التنمية ذاتها، سواء كانت تلك تنميةً اقتصادية أم اجتماعية. في هذا الإطار يُعدُّ التعلُّق بالماضي والسَّعي إلى استكشاف أبعادِه أمرًا مشروعًا، أمَّا الوقوف عند حدود هذا الماضي دون نظرٍ إلى مُتطلَّبات الحاضر وأهداف المستقبل فمَظهَرٌ من مظاهر عقليةٍ مُعتلَّة ربما كان من أهم أسباب تكوينها انتشار عادات التفكير التي ترجِع إلى العصور الإقطاعية.

  • (٣)

    ومن الطبيعي أن يؤدي هذا النَّمَط الاجتماعي السُّكوني المُتحجِّر، الذي يَسُود عصور الإقطاع، والذي يربِط العقول بعَجلَةِ الماضي أكثر ممَّا يُوجِّهها نحوَ المُستقبل، إلى شُيوع التَّزمُّت وضِيق الأفُق في مجال الفكر. ففي مثل هذا المجتمع لا يُوجَد للشكِّ مجال، ذلك لأن كلَّ الأسئلة تجِد إجاباتٍ مُعدَّةً سلَفًا، مُتَّفقًا عليها بما يُشبِه العُرف، والمفروض أن تكون هذه الإجابات كافية، وألَّا يُثار من الأسئلة إلَّا ما يُوجَد عنه مثل هذه الإجابات. أمَّا حالة الشكِّ العقلي، أو التردُّد أو عدم الجزْم (وهي المعروفة فلسفيًّا باسم «اللا أدْريَّة») فغَير مقبولةٍ في مجتمع كهذا. ذلك لأن الشكَّ هو أول خُطوات السَّعي إلى التغيير، الذي هو أكبر المُحرَّمات في المجتمع الإقطاعي. وفي مثل هذا المجتمع لا يُسمَح لأحدٍ بأن يَظلَّ مُعلَّقًا بين الشكِّ واليقين؛ لأن كلَّ الحقائق التي يُسمَح بمعرفتها ينبغي أن تكون يَقينيَّةً وأن تُقبَل بلا مُناقشة.

    أمَّا الآراء المُعارِضة فإن التَّسامُح معها يؤدي إلى انهيار أسُسِ المجتمع الإقطاعي، ومن هنا كان مبدأ التَّسامُح ذاته من المبادئ التي لا يعترِف بها مجتمع كهذا. ويَصدُق ذلك على مجال العلم والفكر، مثلما يَصدُق على مجال السياسة. فكما أن الحُرِّيَّات الفردية لا يُسمَح بها في المجال السياسي، فكذلك لا تُبدي السلطات المُسيطِرة على المجتمع تسامُحًا فكريًّا مع الرأي الذي يُخالف العُرف المُتَّفق عليه، وتعمل على كبْتِ رُوح النقد والتحليل العقلي.

    على أنَّنا لسنا بحاجةٍ إلى جُهدٍ كبير لكي نُدرك أن عددًا هائلًا من أعظم الكشوف التي توصَّلَت إليها البشرية لم يظهَر إلَّا لأن هناك عقولًا سيطرَت عليها — في البداية على الأقل — رُوح الشكِّ في المعرفة القائمة، ولم تقتنِع بالإجابات السَّهلة التي يُرَدُّ بها على تساؤلات العقول، بل لم تكتفِ أصلًا بالنسبة التي يَشيع طرحُها، وإنما طرَحَت أسئلةً جديدة، وحاوَلَت أن تهتدي بنفسها إلى الإجابة الصحيحة عنها. وهذا يعني أن التَّزمُّت الفكري الذي يَسُود هذه المجتمعات يُساعد — بدَوره — على بقائها في حالة الجُمود والتحجُّر التي أشَرْنا إليها من قبل، بحيث يكون عدم التسامُح وضِيق الأفُق سببًا ونتيجةً لهذا الجُمود في آنٍ واحد.

    ولعلَّ في هذا ما يكفي لتفسير ظاهرةٍ انعقَد عليها إجماع المؤرخين، وهي أنَّ أيَّ عصرٍ من عصور الإقطاع لم يشهد تقدُّمًا علميًّا أو فكريًّا بالمعنى الصحيح، بل حدَث هذا التقدُّم، جُزئيًّا في بعض العصور السابقة على الإقطاع، ثم تحقَّق مُعظمُه في العصور اللاحِقة له. وكان العامِل الأساسي المُمَهِّد لهذا التقدُّم هو التخلُّص من تزمُّت العقلية الإقطاعية، والاعتراف بمبدأ التَّسامُح الفِكري. فمنذُ اللحظة التي أدرَك فيها المُجتمع أنَّ الشكَّ في المعرفة وفي الآراء السائدة ليس جريمة، وإنما هو دليل على حيوية الفكر، وقد يكون هو الخطوة الأولى نحوَ الوصول إلى كشفٍ جديد — منذ هذه اللحظة أصبح التقدُّم مسألة وقتٍ فحسْب. ولكن لا بدَّ للاعتراف بحقِّ الغَير في إبداء آراءٍ مُخالِفة، ولإدراك قِيمة المُعارَضة الفكرية في النُّهوض بالمعرفة البشرية في كافَّةِ مجالاتها، لا بُدَّ لذلك من التخلُّص من بَقايا العقلية الإقطاعية بما تفترِضُه من مُجتمعٍ نَمَطي مُوحَّد التفكير.

  • (٤)

    وإذا كان إنكار مَبدأ الشكِّ وعدم التَّسامُح هو الوَجه السَّلبي للعقلية السائدة في عصور الإقطاع، فإن الوَجه الإيجابي لهذه الظاهرة نفسها هو الإيمان المُفرِط بالسلطة. ففي جميع مجالات الحياة تُوجَد سلطة نهائية يُرجَع إليها، وتكون لها الكلمة الأخيرة في كلِّ أمرٍ يَختلِف عليه الناس.

    ولا شكَّ أن فكرة السلطة هذه مُستمَدَّة أصلًا من وَضع المالِك الإقطاعي في المجتمع، الذي تكون لدَيه بالفعل سلطة مادية على ساكِني إقطاعِيَّته، كما تكون لدَيه سلطة معنوية عليهم، تتمثَّل في إطاعتهم لأوامره وسعيهم إلى مُحاكاته والرُّجوع إليه من أجل حلِّ مشكلاتهم. هذا النَّمَط من السلطة يَمتدُّ بحيث يَسري على سائر المجالات، ففي الأمور العقلية بدَورها يكون هناك مصدَرٌ مُعيَّن للسلطة يحتكِم إليه المُشتغِلون بالعِلم في كلِّ مسألة يُريدون استِجلاء غوامِضها. وقد يكون هذا المصدر شخصًا حيًّا، ولكنه في مُعظم الأحيان حكيم من الحُكماء السابقين الذين تَطمئنُّ العصور الإقطاعية إلى آرائهم، بعد أن تصبِغَها بصِبغةٍ مُتحجِّرة، كما هي الحال بالنسبة إلى أرسطو في العصور الوسطى.

    على أن نوع الشخص — ماديًّا كان أم معنويًّا — الذي يَتَّخِذ منه المجتمع سُلطة، لا يُهِمُّنا بقدْر ما يُهمُّنا مبدأ السلطة ذاته. فنتيجةً لانتشار هذا المبدأ، يُصبِح منهج التفكير المُعترَف به هو إرجاء الجديد إلى القديم، ويَضيع عنصر الابتكار الفردي في التفكير، بل إن الإبداع الفردي أمر لا يُعترَف به أصلًا في المجتمع الإقطاعي. فكلُّ ما يَتمُّ إنجازه في مثل هذا المجتمع يتحقَّق عن طريق جماعات، لا عن طريق أفراد، أو لِنَقُل بعبارةٍ أدَقَّ إنَّ الفرد لا يُنجِز في هذا المجتمع شيئًا بصِفته الفردية، بل بوصفه عُضوًا في جماعةٍ كبيرة تُمحى فيها شخصيته الفريدة المُميَّزة. فالفرد لا يتميَّز إلَّا من حيثُ هو عضو في طائفةٍ دِينية مُعيَّنة، أو مُشتغِل في إقطاعيةٍ مُعيَّنة، أو ينتمي إلى جماعةٍ حِرَفية مُعيَّنة. وحتى الإبداع الفني، الذي تُعدُّ الفردية — في نظر الإنسان الحديث — شرطًا أساسيًّا لتحقُّقه، حتى هذا الإبداع كانت تُمحى فيه شخصية الفنَّان، الذي لم يكن يقوم بعمله الفنِّيِّ إفصاحًا عن مشاعره الخاصة، أو رغبةً منه في التعبير عن نفسه، وإنما كان يقوم به خِدمةً لأغراض الطائفة الدينية التي ينتمي إليها، أو تخليدًا لاسم الحاكم الذي يُدين له بالولاء، أو غير ذلك من الأغراض التي لم تعُدْ لها مكانة هامَّة — أو لم تعُدْ لها مكانة على الإطلاق — عند الفنَّان ذي النَّزعة الفردية في عصرنا الحديث.

    ومُجمَل القول إنَّ العصور الإقطاعية لم تعترِف بالفرد من حيث هو كِيان مُستقل، بل إنها كانت دائمًا تدمُج الفرد في كِيانٍ أوْسعَ تذوب فيه شخصيته الخاصَّة. وكان على الفرد أن ينظُر إلى المبادئ التي تحكُم عمل هذا الكِيان الأوْسَع — سواء كان إقطاعيةً أم طائفةً دِينيَّة أم جماعةً حِرَفيَّة — على أنها سُلطة لا تُناقَش، وأن يُرجَع إليها كلَّما تشعَّبَت أمامه المسالك والْتَبَسَت الأمور، ليَجِد لديها الكلمة الأخيرة في كلِّ ما يُريد أن يَعرفه أو يَبتَّ فيه.

    وفي مثل هذا الجَوِّ العقلي يَستحيل أن تتقدَّم عملية البحث عن الحقائق؛ إذ إن كلَّ شيءٍ يُرَدُّ إلى أصولٍ مُعترَف بها من قبل، وتتوقَّف قِيمة النتائج التي يتوصَّل إليها المرء لا على قُدرتها على إقناع العقل بل على قوَّة السلطة التي ترتكِز عليها. وهكذا تظلُّ المَلَكات العقلية للإنسان في حالة خُمول وتعطُّل، ويَشيع الاعتِراف بمنهج القِياس، أعني منهج إرجاع كلِّ واقعةٍ جديدة إلى واقِعةٍ أخرى أعم، تكون معروفة سلفًا، وتنحصِر قِيمةُ كلِّ إنسانٍ في مدى قُدرته على الاستِشهاد بآراء الغَير، وبالعبارات المحفوظة عن الأجداد والأسلاف، أو المنقولة حرفيًّا عن أقوال أولي الأمر، لا في قُدرته على استِخدام عقله من أجل تَوسيع مَعارِفه والارتِقاء بحصيلة المُجتمع الإنساني من العلم، ومن فَهم العالَم الطبيعي والاجتماعي المُحيط به.

  • (٥)

    ولقد كانت النَّتيجة المُباشِرة لسيادة أسلوب التفكير القائم على فِكرة السُّلطة، هي شعور الفرد بالاستِسلام والعَجْز عن تغيير أيِّ وضعٍ من الأوضاع التي يجِدها سائدةً في المجتمع. بل لقد كان الفرد يُحسُّ بأن هذه الأوضاع لا تقبَل التغيير أصلًا، فهي أوضاع أزَليَّة لا يملك المرء إلَّا أن يقبَلَها على ما هي عليه.

    ولقد كان البعض يعمَد أحيانًا إلى تفسير المبادئ الدِّينية تفسيرًا باطِلًا يُساعد على تقوية هذا الشعور بالعَجز عن تغيير الواقع، وذلك عن طريق الدَّعوة إلى فَهمٍ مُعيَّن لأفكار مثل القضاء والقَدَر، يزيد من إحساس المرء بأنَّ ما يُحيط به في العالم مُقدَّر له منذ الأزَل أن يكون على ما هو عليه، وأن جهود الإنسان في هذه الحياة لن تُجدي فتيلًا؛ لأن كلَّ شيءٍ يسير في طريق مَرسوم مَحتوم لا يملك الإنسان إزاءه شيئًا. بل إن بعض المُفكرين يرَون أن هذا التفسير المُتطرِّف للقدَرِيَّة إنما هو التعبير المُباشر — في المجال الدِّيني — عن الرغبة في الإبقاء على الأوضاع السائدة في العصر الإقطاعي على ما هي عليه، وصبغِها بصِبغة أزَليَّة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل. فحين يُصبِح كلُّ حادِثٍ أمرًا يَستحيل على الإرادة الإنسانية أن تتدخَّل فيه أو تعمل على تغييره، يكون معنى ذلك أنَّ النُّظُم الاستِبدادية الظالِمة في المُجتمع هي بدَورِها شيءٌ مُقدَّر منذ الأزل، وأن الإنسان لا يملك إلَّا أن يترُكها على ما هي عليه. وبعبارةٍ أخرى، فإن التفاوُتَ الهائل بين الطبقات، والاستِغلال البشِع الذي تُمارِسُه الطبقة المالِكة على الطبقات الدُّنيا في المجتمع، يُنظَر إليه في هذه الحالة على أنه تعبير عن المَشيئة الإلهية، التي يَنبغي أن يَقبلَها الإنسان دُون أدنى اعتِراض. وليس هناك ما هو أبعَدُ من هذا التفسير عن الفَهم السليم لجَوهر العقائد الدينية، التي كانت كلُّها تَستهدِف إقرار العدالة ومُحارَبة كافَّة أشكال الظُّلم. وليس هناك أيضًا ما هو أحبُّ إلى الطبقات العُليا المُسيطِرة، وأقربُ إلى تحقيق أهدافها ومَصالحها، من هذه الدَّعوة التي تؤكد استِحالة تَجاوُز الفَوارِق بين طبَقات المُجتمع، وتُشيع بين الناس الاعتقاد بأن النظام الاجتماعي ينتمي إلى مجال الأمور الأزَليَّة المُقدَّرة سلفًا، وأنه جُزء من النِّظام العام للكون، وأن الإنسان مِثلما يعجز عن أن يجعل الشمس تُشرق من المغرِب لا يُمكنه أن يتدخَّل في تغيير الفَوارِق الاجتماعية التي نُظِّمَت بها حياة الناس منذ الأزَل.

    فهل من المُستغرَب بعد ذلك أن نجِد أصحاب السيطرة في المُجتمعات الإقطاعية يُشجِّعون أمثال هذه التفسيرات الباطِلة للعقائد الدينية؟ لا جِدال في أن الارتِباط واضِح بين مصالحهم الشخصية وبين انتشار الدعوة القائلة بأن الشكل الجائر للنظام الاجتماعي هو جُزء من نظام الكون، ومن هنا فقد أصبحوا على مرِّ التاريخ حُماةً لأصحاب هذه الآراء الباطلة، وكوَّنوا معهم تَحالُفًا وَثِيقًا، بل لقد تداخَلَت الفئتان تداخُلًا وَثيقًا، كما حدَث في أوروبا عندما أصبح رجال الدِّين في العصور الوسطى هم في الوقت ذاته من كبار الإقطاعيين، وصار دفاعهم عن فكرة ثَبات النُّظم الاجتماعية القائمة وأزلِيَّتها دِفاعًا عن مصالحهم الخاصَّة، لا عن مصالح حُلفائهم فحسْب.

  • (٦)

    وأخيرًا فإن تأثير هذه المصالح قد انعكس على التصوُّر الديني لكثيرٍ من المجتمعات الإقطاعية في صورة أخرى، أسهَمَت بدَورها في تشكيل عقول أفراد هذه المجتمعات بصورةٍ مُميَّزة، تلك هي إدخال نوع من التفاوُت أو التَّسلسُل في المَراتِب في المجال الرُّوحي ذاته. فهناك مجتمعات تتصوَّر الألوهية عاليةً مُترفِّعة عن عالَم البشر، وتُقيم نوعًا من تدرُّج المراتب بين هذه الألوهية وبين عامَّة الناس، فبعد الله يأتي الأنبياء والقِدِّيسون، ثم كبار الكهنة أو رجال الدين، ويتدرَّج الترتيب بعد ذلك حتى يصِل آخرَ الأمر إلى الإنسان العادي. ولا بُدَّ للارتقاء إلى كلِّ مرحلةٍ من هذه المراحِل من المُرور بالمراحل السابقة، أي أن الإنسان العادي لا يستطيع مثلًا أن يتقرَّب إلى الله، أو يَحظى بشفاعة أحد القِدِّيسين، إلَّا عن طريق الكاهن الذي يَتوسَّط بينه وبينهم.

    والدليل على أن هذه النظرة إلى الدِّين انعكاس لنِظام اجتماعي يتَّسِم أيضًا بالتدرُّج وتفاوُت المراتِب، هو أنَّ هناك نظرات أخرى إلى الدين تختفي فيها هذه الحواجز، ويَشيع فيها التقارُب بين الله والإنسان، إذ يُعدُّ الله قريبًا من البشر، مُستجيبًا ومُعينًا لهم، بل إن بعض المذاهب الدِّينية تؤكد حُلول الله في العالَم، وإمكان اتِّحاد الإنسان به إذا ارتقى إلى مُستوًى مُعيَّنٍ من الرُّوحانية.

    هذه الفكرة الأخيرة ترتبِط بنظرة أكثر ديمقراطية إلى المُجتمع البشري؛ لأنها لا ترتكِز على تأكيد الفَوارق في المَرتبة بين الموجودات، ولأنها تُعطي الإنسان العاديَّ أملًا في بُلوغ أهداف العقيدة الدينية دُون حاجةٍ إلى واسِطة. وبالفعل سادت هذه النظرة في العصور التي كانت أقرَبَ إلى الرُّوح الديمقراطية، على حين أن فكرة تَسلسُل المراتب من الأعلى إلى الأدنى كانت مُقترِنة بالتفاوُت والفَوارِق التي هي أول خصائص المجتمع الإقطاعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤