مفتاح شخصيته

سيرة غاندي في معيشته من أبسط السير التي عرفناها لعظيم من عظماء العالم قديمه وحديثه، ولكن هذه السيرة على بساطتها قد اشتملت على جملة من النقائض، قلما عرفت عن حياة عظيم.

إن الرجل «عصري» بزمنه وتعليمه، تعلم في أحدث الجامعات، وعاش في أحدث البيئات الإنجليزية، وتثقف في بلاده وفي أوروبة على النمط الحديث، ولكنك تحسبه من عجائز القرون الوسطى إذ سمعت مثلًا برأيه في الطب والعلاج.

فكان يأبى أن يدخل لقاح الجدري في جسمه؛ لأنه مأخوذ من جسم البقر، ويقول لمن حوله: إنهم في حل من التوقي بهذا اللقاح، أما هو فلا يستحله لنفسه وإن كان لا ينكر فعله في الوقاية.

ولم يقبل أن يعالج بالجراحة في السجن إلا حين رأى مدير السجن يضطرب بين يديه ويخشى العاقبة إذا مات وهو سجين عنده، لما يحدثه موته في السجن من سوء الأثر في سمعة الدولة البريطانية.

ومرض ابنه الثاني بذات الصدر فأصابه الهزال، واحتاج إلى غذاء أقوى من الأغذية النباتية والأغذية المباحة في الشريعة الجينية، وأشار الأطباء بإطعامه البيض وحساء الفراريج وغيرها من الأطعمة الحيوانية، فأبى غاندي أن يغذي جسمًا حيًّا بجسم حي، وإن كانت حياة ولده في خطر، وكانت هذه التغذية منقذة له في رأي الأطباء، وأبرأ ذمته بعرض الأمر على ولده، وقال له: إنه يرجو خيرًا من استخدام العلاج المائي Hydropathetic Treatment لمداواة علته، فكان الولد سر أبيه حقًّا، وأبى الصبي أن يأكل البيض والفراريج، مكتفيًا بعصير البرتقال وبعض الأغذية المباحة، معتمدًا على وصفة الأطباء المائيين، فشاءت المقادير أن يتم له الشفاء.

ومن رأي غاندي في الأدوية عامة أن ضررها أكبر من نفعها؛ لأن البنية كفيلة بإصلاح نقصها، وغاية ما يستفيده المريض إذا أتخم معدته أو جار على قواه فاستشفى بالدواء، أن يغريه هذا الشفاء بالعودة إلى الخطأ والتمادي فيه، ولولا ذلك لقوم معيشته فاستقام.

على أن المهاتما يستعين بالنظارات وبالأسنان الصناعية، ولا يرى في استخدامها خروجًا على سنة التقشف وترك الفضول.

إلا أن هذا الرجل الذي يتحرج هذا التحرج من المساس بحياة مخلوق لم يتحرج من قتل عجل ولا من الإشارة باستخدام المقلاع في طرد القردة التي تغير على الحقول، وهي أكثر من أن تطاق حيث كان يقيم في «أحمد أباد». ولكنه لم يقبل قتل العجل إلا بعد أن برحت به آلام المرض تبريحًا لا يرجى شفاؤه منه، ولم يقبل تعريض القردة للموت برمية حجر هنا أو هناك؛ إلا لأنها كانت تعرض للموت والجوع حياة الآدميين.

•••

وكان غاندي يعيش في عصر «الصور المتحركة» الذي غلبت فيه شهرة الممثلين والممثلات على شهرة الساسة والعلماء، وتسامع فيه الأميون بين القرى السحيقة بأسماء أبطالها وبطلاتها حيث لا يسمعون بما وراء قريتهم في سائر الشئون.

ولكنه مع هذا لم يعرف من هو «شارلي شابلن» حين زاره في العاصمة الإنجليزية وحمل إليه حاجبه بطاقة الممثل الكبير فسأل الحاجب: من يكون السيد صاحب البطاقة؟ وأغرب من هذا أنهما لما التقيا رأى الحاضرون في ذلك المجلس الطريف ما لم يخطر لهم على بال: رأوا أمير الجد والنسك هو الذي ناوش أمير الفكاهة واللهو ضاحكًا مستغربًا طوال فترة الحديث.

وكان غاندي يؤمن بأن «الموكشا» أو اعتزال العلاقات الجنسية هو سبيل الخلاص الأعظم ومعراج الروح إلى عالم الصفاء والخلود.

وكان يؤثر المذهب الكاثوليكي على المذهب البروتستانتي في الديانة المسيحية، ويقول: إن الرهبانية هي التي صانت للكنيسة الكاثوليكية نضرتها وحفظت عليها قداستها.

وقد أقسم وهو في نحو السابعة والثلاثين قسم التبتل المعروف عندهم بالبرهماشاريا Brahmacharya فاعتزل زوجته منذ ذلك الحين.

ولكنه لما عرضت له مشكلة الأيامى الصغيرات جرد نفسه للعناية بتزويجهن، وأوصى الشباب أن يقبلوا على التزوج من هؤلاء الفتيات المهجورات خلافًا للعرف الذي قضى في الهند بتحريم الزواج عليهن مدى الحياة؛ لأنهن منذورات لأزواجهن في عالم الجسد وفي عالم الروح.

ولما سئل رأيه في المعقمات أنحى عليها أشد الإنحاء؛ لأنها تجعل العلاقة الجنسية بين الزوجين محض شهوة، وتسلبها المسوغ الوحيد لقيامها، وهو إنجاب الأبناء.

•••

وكان غاندي صحفيًّا يصدر صحيفة دورية ويكتبها ويواظب على إصدارها وكتابتها.

ولكنه حذر من الصحافة وأسف لتهافت الناس عليها، فقال غير مرة بمختلف العبارات: «أقول لكم: إن الصحافة لن تعطيكم شيئًا فيه لكم مصلحة دائمة، وإنها لن تعطيكم شيئًا يساعدكم في تكوين أخلاقكم، ولا أجهل مع هذا ولع الناس بها في هذا الزمان فهو محزن ومخيف.»

•••

نقائض كثيرة من هذا القبيل في أعماله وفي وصاياه.

فهل يقال من أجل ذلك: إنه لغز من الألغاز النفسانية التي تحيرنا في نقائض بعض العظماء.

لا نحسب أنه لغز غير مفهوم، وإن بلغت نقائضه أضعاف ما أشرنا إليه؛ لأن الشخصية الملغزة هي الشخصية التي تعمل ما لا تنتظره منها، أو الشخصية التي تفاجئك في كل تصرف من تصرفاتها بمصدر جديد تصدر عنه في أعمالها وأقوالها.

وليس غاندي كذلك على التحقيق.

لأننا إذا عرفناه لم ننتظر منه غير ما فعل وغير ما قال في جميع هذه الأحوال.

•••

إننا لا نحاسب غاندي محاسبة الفيلسوف ولا محاسبة الحاكم، ولا محاسبة الفنان.

وإنما يوزن غاندي بميزانه الذي ليس له ميزان غيره، وهو ميزان الناسك المصلح الجاد في نسكه وإصلاحه: مطلبه الأول هو خلاص الروح قبل كل شيء وبعد كل شيء، وليس في الكون كله ما يعدل عنده هذا الخلاص؛ لأنه اتصال بالإله مصدر الخير والسعادة، وكل ما عداه فهو اتصال بما دون الإله.

قال في ترجمة حياته: «إن أعمالي في ميدان السياسة معروفة الآن في الهند، بل معروفة على نحو ما في العالم المتحضر بأسره، وهذا كله ليس بذي شأن كبير عندي، فإن ما أردت أن أبلغه في هذه السنين الثلاثين هو تحقيق روحي وتصحيحها؛ أو هو لقاء الله وجهًا لوجه، والوصول إلى — الموكشا — أو الخلاص.»

فالرجل كما أسلفنا ناسك جاد في نسكه قبل كل شيء وبعد كل شيء؛ عنايته الكبرى منصرفة إلى المسائل الأبدية التي تحسب بأعمار الأكوان ولا تحسب بأعمال الآحاد، ولكنه زعيم الهند وقائد أبنائها في طريق الحياة القومية، فلا مناص له من العناية بمسائل الحاضر وشواغل الساعة، ومن هنا يأتي التناقض لا محالة، كما لا بد أن يأتي في كل توفيق بين مسائل الأبد الباقي ومسائل الساعة العابرة.

قد يقال: وما للناسك الجاد في نسكه وللسياسة؟ إنه غريب عنها وهي غريبة عنه … عليه أن يعتزلها مع الدنيا، وأن يدع للناس أمر دنياهم يدبرونه على هواهم، وينجو بروحه وضميره من هذا الزحام، إلى صومعة من صوامع الوحدة والقنوت.

وهذه حقيقة تقال وتسمع في سيرة غاندي وأمثاله.

ولكنها حقيقة ناقصة؛ لأنها حقيقة من جانب واحد، وهو الجانب الذي يملكه غاندي ويختاره، دون الجانب الذي يساق إليه على الرغم منه، وهو قيادة الهند بأجمعها في طريق الخلاص.

إن الهند لا تنفعها إلا زعامة واحدة: وهي الزعامة التي تخاطب روحها وتنفذ إلى صميم وجدانها.

إن زعامة الساسة الذين ينغمسون في الدنيا تضلها وتؤذيها وتثير فيها الريبة وسوء المظنة.

فلم تخلق لها زعامة أصلح من زعامة الرجل الذي لا يستراب في مقاصده ونياته، وهو الرجل الناسك المقبل على عالم الروح.

فالهند لا تترك غاندي إذا تركها.

وهو إذا تركها كان أقل من غاندي وأصغر؛ لأنه يؤثر خلاصه على خلاصها، وينظر فيما يريحه ولا ينظر فيما يريحها.

وإنما يكون ترك الزعامة «تضحية» عندما تكون الزعامة كسبًا وجاهًا لصاحبها، فيقال: إنه ضحَّى بالكسب والجاه في سبيل العزلة الروحانية.

أما الرجل الذي يغنم من العزلة ولا يغنم من الزعامة، فالتضحية عنده أن يعيش بين الناس ويعمل مع الناس؛ لأنه يعطيهم كل ما يستطيع إعطاءه، ولا يأخذ منهم شيئًا من الأشياء، في عالم الجسد ولا في عالم الروح.

ومثل هذا الرجل لن يعمل غير ما عمل غاندي، ولن يقول غير ما قال، فليس في وصايا زعيم الهند على هذا الاعتبار لغز مستغرب، بل هي وصاياه التي تجري في مجراها ونفهم معناها، وكل ما عداها فهو الغريب الذي يحتاج إلى تفسير.

•••

وقر في يقين «المهاتما» أن آفة العالم كله، وآفة الهند خاصة، هي الحضارة الآلية؛ لأنها تحجب عن الإنسان مطالبه العليا وتشغله بمطالب لا يحتاج إليها.

فهذه الحضارة الآلية لا تغني الإنسان، بل تخلق له الحاجات التي هو غني عنها، وتسخره في سبيل هذه الحاجات المصطنعة، فيتهالك عليها ويتنازع فيها، ويضري على العدوان من جراء هذا التهالك وهذا النزاع.

وليس لهذه الآفة دواء في عقيدة غاندي غير البساطة الطبيعية، وهي الاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه، ووضع الآلة والصناعة في وضعهما الأصيل، وهو خدمة الإنسان في ضروراته، وسد نقص الطبيعة في خدمة هذه الضرورات.

وهو لا ينكر العلاج بالطب الحديث لذاته، ولا ينكره على طريقة الخرافيين الذين يستبدلون به طبًّا آخر ينوب فيه علاج الجهل عن علاج المعرفة والتجربة العلمية، ولكنه يرى أن العلاج الطبي ضروري في حالة الحضارة الآلية ولا ضرورة له ولا فائدة في حالة البساطة الطبيعية، ولعله لا يخلو من الضرر إذا شفي به المريض، فاعتمد عليه وانحرف عن سواء الطبيعة لاطمئنانه إلى إمكان الشفاء عن طريق العلاج.

فالبنية التي يلتزم صاحبها معيشة البساطة لا يختل مزاجها ولا يصعب — عند اختلاله عرضًا — أن يعود بتدبير البنية السليمة إلى سوائه، ولكنه إذا تناول الدواء فشفاه تعود مخالفة البساطة ولم يحذر عواقب المخالفة، فأضعف بنيته عن قدرة التعويض والتصحيح، واستمرأ العبث بطعامه وشرابه وأسلوب معيشته؛ لأنه لا يحذر عقباه.

أما علاج المرض بتغذية الجسم بالأغذية المحرمة في شريعة الهند فذلك شيء آخر؛ لأن الأمر فيه يرجع إلى التعارض بين واجبين والموازنة بين أي الواجبين أولى بالترجيح على حسب اعتقاد المريض أو على حسب مشيئته واختياره.

فغاندي الذي يسوم أهل الهند أن يعرضوا عن فتنة الحضارة الآلية بعلم أنهم لا يقدرون على ذلك إلا بقوة تعصمهم من تلك الفتنة، وهي قوة الإيمان.

فهذا الإيمان هو الحصن المنيع الذي ينبغي ألا تنفتح فيه ثغرة، ولا يتزلزل له أساس.

فإذا وقفت الحياة الفردية أمام هذا الإيمان فهذه هي الحيرة أو هذا هو مجال الحسم والإيثار.

وغاندي إذن لا يهمل العلاج بالطب إهمالًا للحياة، بل صيانة لكل حياة.

وإذا رجعنا إلى المبدأ لم نجد خلافًا بين غاندي وبين المصلحين من جميع النحل والعقائد؛ لأنهم يؤمنون جميعًا بصيانة الحياة الإنسانية، ويؤمنون مع ذلك بمبدأ آخر لا اختلاف بينهم عليه، وهو: أن هذه الحياة لا تصان بكل ثمن، وعلى الرغم من كل فريضة توجبها العقيدة أو توجبها الأخلاق.

والفرق بين غاندي وغيره من المصلحين هو اختلاف العقيدة، لا اختلاف الرأي في هذا المبدأ المتفق عليه.

فهناك أشياء تهون فيها الحياة في سبيل هذا المبدأ كلما تعارضت الحياة وسلامة الضمير والوجدان.

ولا معارضة للضمير عند المسلمين والمسيحيين مثلًا في تغذية المريض أو الصحيح بلحوم الحيوان، ولكن هذه المعارضة قائمة في عقيدة الهنديين، واحترام هذه العقيدة أمر لا يترخص فيه رجل يقيم دعوته كلها على الإيمان، ويعلم أن الإيمان هو العصمة الوحيدة التي يغلب بها فتنة الحضارة وفتن السياسة والسطوة والثراء.

ولك أن تقول: إنه غير مصيب ولكنك لا تستطيع أن تقول: إن في هذه الحالة لغز غير مفهوم.

ولك أن تقول أيضًا: إنه يكلف الناس ما لا يستطاع، ويحملهم على محمل لا يقوى عليه كل إنسان من أتباعه ومريديه.

ولكنك إذا قلت هذا وجب أن تذكر أن غاندي في هذه الخصلة وسائر الدعاة والمصلحين سواء؛ لأنهم جميعًا يفرضون ما يجمل اتباعه، ثم لا يتبعه إلا القليل من القادرين عليه، ويبقى الأكثرون وهم يحاولون فيفلحون تارة ويخفقون تارات.

•••

ولا تناقض بين اشتغال غاندي بالصحافة واستهجانه لتهافت الناس عليها والاشتغال بأحاديثها وأخبارها، فإنما الصحافة عنده صلة روحية بينه وبين قرائه، وليست للقارئ صلة روحية بصحافة تشغله باللغط والثرثرة وتضيع عليه الوقت في التطلع والمحال.

فالجد في النسك هو تفسير كل لبس في حياة هذا الناسك العظيم، ولولا هذه القوة الخلقية الهائلة لما تأتَّى له أن يكبح شهواته وهي ميسرة كل التيسير إن شاء، ومنها شهوات يستعصي كبحها على أقدر الرجال كشهوة الحكم، وشهوة الترف، وشهوة المال.

ولولا هذه القوة الخلقية الهائلة لما استنهض الهند كلها في صراع يحتاج منها إلى كل قوة مدخرة فيها، وهي فقيرة في قوة العلم وقوة السلاح.

ولو أن الهند تلقته زعيمًا يلبس أحدث الأزياء، ويغشى أظرف الأندية، ويأخذ بكل بهجة من مباهج العيش الحديث لما زاد على الهند ولا على العالم شيء، ولكنها كانت تخسر كل ما استفادته من تلك البساطة الهائلة، بالغًا ما بلغ فيها التناقض والإغراب.

•••

على أن الجد في النسك لا يدل في غاندي خاصةً على خلق من خلائق التجهم والصرامة، وهما أول ما يبادر الذهن من كلمة النسك وكلمة الجد مقترنتين.

فلم يكن في الرجل تجهم ولا صرامة، بل كانت له سماحة تفيض بالمرح والفكاهة في كثير من المواقف، وكانت له فطنة لمواقف الضحك الطبيعية، لا تخطئها نكتة بريئة من الإساءة والتكدير.

وتعبيراته عن أخطر الأمور تدل على هذه الخليقة السمحة وهذه السليقة الفكاهية التي يلطِّف بها جهامة العظائم والخطوب.

سألوه مرة: كيف تغيب عنه معائب عقيدته التي يدين بها نفسه ويدين بها أتباعه ومريديه، فحل المشكلة أظرف حل وأصدقه في كلمات قليلة، وقال: إن عقيدة المرء كزوجته، وهو لا يحب زوجته لأنها أجمل النساء وأسلمهن من العيوب ولكنه يحبها ويلازمها لأنها أقرب النساء إليه.

ودعاه نائب الملك مرة في جمع من كبار الموظفين ورجال الدولة، فجاءوه ببعض الشراب الحلو فاعتذر ودعا بكوب من الماء، فلما جاءوه به أخرج من حزامه صرة صغيرة، فأذاب ما فيها وهو يضحك، وشربها «في صحة نائب الملك» وإذا هو ملح ممنوع، يشربه في المكان الذي يصدر منه المنع والتحريم.

ودعاه نائب الملك مرة أخرى فسأله حفيده الصغير: إلى أين تذهب يا جداه؟ قال الجد الوقور متبسطًا: إلى نائب الملك.

قال الطفل دهشًا: ولكنك تذهب دائمًا دائمًا إلى نائب الملك، فلماذا لا يحضر نائب الملك مرة إليك؟

فلم يزل غاندي يضحك حتى فارق الدار.

إن الفكاهة فكاهتان: فكاهة النقمة وهي سلاح عدوان ودفاع، وفكاهة السماحة، وهي عاطفة تغتفر صغائر الناس كما يغتفر الآباء صغائر الأبناء.

وقد كان نصيب غاندي من هذه الفكاهة أوفى نصيب.

إلا أنها فكاهة من قبيل السليقة النفسية وليست من قبيل الملكة الفكرية، فهي تسري إلى الشعور، وقلما تروى بالكلام.

•••

وقد تناقض النسك والحصافة في رأي أكثر الناس، بل قرنوا — قديمًا وحديثًا — بين الإعراض عن الدنيا وانخلاع العقل والشعور، كأنهم — لإكبارهم متاع الدنيا — لا يصدقون أن أحدًا ينصرف عنها وله حظ من العقل الحصيف.

ولكن غاندي على التخصيص كان نقضًا بارزًا لهذا التناقض المزعوم، فقد كانت له حصافة وكان له دهاء، وكان من الأذكياء المعدودين، وإن لم يكن من المعدودين بين أعاظم المفكرين.

فقد يأتي بين أعاظم المفكرين في الصف الثاني أو الثالث.

وقد يأتي في الصف الثاني أو الثالث أيضًا بين أعاظم الساسة وخطباء الجماهير.

ولكنه بين جبابرة الروح في الرعيل الأول لا مراء.

وبهذه القوة الهائلة فيه قد استطاع ما لم يستطعه أحد في الصف الأول من صفوف المفكرين، أو صفوف الساسة والخطباء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤