الفصل الثاني

في قلعة ضاهر العُمر صاحب عكا

(فناء قليل الضوء مبني من الحجر انتشرت المصاطب في جوانبه، يطل من بعض جهاته على الميناء حيث يرسو الأسطول الروسي، في ناحية من فناء الدار بعض الجند يتحدثون …)

أحد الجند :
سمعْتم الرعد؟
آخر :
سمعنا القعْقعهْ
بربكم هل في السماء مسبعهْ؟
أم في السماء وقعة ومعمعهْ
الأول :
كجبل من الرخام انشَقَّا
أو كالنحاس بالنحاس دُقَّا
الثاني :
والبرقُ لمحةُ القَبَسْ
أو زفرةٌ حَرَّى النَّفَس
أو كالدم القاني انبجس
شقَّ الظلامَ وخَفَقْ
على مُلاءَةِ الأُفُق
كأنه خيْطُ الشَّفَقْ
حبيش :
ضرغام
ضرغام :
ماذا يا حبيش؟
حبيش :
ألعَمَى لك العَمَى
البرد زاد
ضرغام :
صه أما
في طوبة نحن أما
حبيش :
ضرغام إني قد حسدت
القوم في جَهَنَّمَا
ضرغام :
اصعد إليهم إن أردت
حبيش :
كيف؟
ضرغام :
هاك سلما
وانشد حماتي بينهم
وطف بها مُسَلِّمَا
حبيش (لملاط) :
ملَّاط
ملاط :
لَبَّيْكَ حُبَيْشُ
حبيش :
قم أخي لك العَطَبْ
ملاط :
وما الذي أصنع يا
حبيش
حبيش :
جئنا بحطب
ملاط :
من أين؟
حبيش :
قم خذ كلَّ مَا
لاقت يداك من خشب
ملاط :
كيف أجُرُّ السـ
ـاق والبرد بأطرافي ذهب
كأنني مَيْتُ اليهود
نُزِعَتْ منه الرُّكب
حبيش :
يا لك بردًا قارسًا
وزمهريرًا لاذعا
لا الصوف فيه واقيًا
ولا الحرير نافعا
ضرغام :
ما الصوف ما الحريـ
ر لا لا أعطنا برادعا
حبيش :
انظر قَفَا صاحِبنا
كأنه بغل ذُبح
وانظر أهاتيك أنو
فٌ في الوجوه أم بلح؟
كأن كل رجُل
في أذنيه قد جُرح

(تُسمع فرقعة)

آخر :
صوت؟!
ضرغام :
أجل!
الأول :
ما الصوت؟
ضرغام :
تلك فرقعهْ
الأول :
وأين؟
ضرغام :
عند التركِ
هل من موقعهْ؟

(تسمع فرقعة ثانية)

حبيش :
وذاك؟
الأول :
مدفعٌ
وتلك بُندقهْ
اسمع!
ضرغام :
وما ذلك!
الأول :
تلك طقطقهْ
أقدامُ خيل
في الفضاءِ مُطلقهْ
ملاط :
ربِّي متى ينقضي البلاءُ
وتنقضي الحربُ والشتاءُ
حبيش :
ربِّي متى نَنْعم بالسِّلم متى
كم ذا إلى كم نحنُ حربٌ وشتا
آخر :
كم أنا كالفار شقي
من خندق لخندق
أصحو على المدفع أو
على صفير البندق
حبيش :
قل لنا يا خرابُ ما هذه الحالُ؟
متى تنتهي؟ وأينَ المصيرُ؟
قد سئمنا القتال واشتاقت الزوج
إلى زوجها وحنَّ الصغير
وتركنا وراءنا الدور عزَّ القمـ
ـح فيها وقلَّ فيها الشعير
وبنو ضاهرٍ شرابُهُمو العُنـ
ـاب والشَّهد قوتهمْ والفطير
آخر :
كل حين يجيء من مصر جيش
ينزل القدسَ أو يحلُّ الشآما
وأميرٌ يقاتلُ التركَ في مصر
أتى شاهرًا علينا الحُساما
نحنُ ما بينَ مصرَ والتركِ ضِعنا
وَسَئِمْنَا الحياةَ والأياما
غنم نحن بين راعٍ وذئبٍ
أي هذين جاع كنا طعاما
آخر :
وغدًا …
حبيش :
ما غدٌ؟
الأول :
بلاءٌ عظيم
حبيش وآخرون :
كيف! ما ذاك؟
الأول :
اسألوا ضرغاما
ضرغام :
العَمى للرجال ما تُبصرونَ الفُلـ
ـك في البحر تُشبه الأعلاما
آخر :
فلك من؟
فُلْكُ قيصر الروس في البحـ
ـر تَصُبُّ الرَّدى وترمي الحماما
قِطع من جهنم راسياتٌ
قعد الشرُّ حولهنَّ وقاما
وغدًا ينزل الجنود فيحـ
ـتلون هذي القلاع والآجاما
ملاط :
إذن فأهلًا بغدِ
إن غدًا قد اقترب
آخر :
كيف! وماذا في غد؟
ملاط :
فيه كرائم السلَب
غدًا نفوز بالسلاح
والملابس القُشُبْ
آخر :
وما على الصدور من
قلائدٍ ومن صُلُبْ
وعادة الروس ينـ
ـوءون بصلبان الذهب

(يدخل ضاهر العمر ومعه حسين المصري)

ضاهر :
وكيف حال الدار؟
حسين :
غابة الأسَل
أو هي وكر النسر في رأس الجبل
ضاهر :
وسَهَرُ الدار على الضيف الأجل
حسين :
تحفظه حفظ الجفون للمُقَل
ضاهر :
والشام. كيف تجد الشام؟
حسين :
نُزُلْ
يليق في جنة عدن للرُّسُل
أنهارها من لبنٍ ومن عسل
لا شيء إلا في ذرا الشام كمل
إن تخلُ من شيء فمن لحم الحَمَلْ
ضاهر (ويصفق) :
غضبانُ صعبُ يا عبوسُ يا نَكد
صعب وغضبان :
لبَّيك مولاي اقترح أَشِرْ تجدْ
ضاهر :
امضوا اجمعوا الحملان من سوق البلد
وقدموهَا للضُّيوف منذُ غدْ

(ينسحب حسين والخادمان)

(يدخل خادم ويقول):

مولايَ
ضاهر :
ماذا.. زائر آخَرٌ؟
الخادم :
لا سيدي، بل هذه زائرهْ
ضاهر :
امرأةٌ أنثَى؟
الخادم :
أجل سيدي
ضاهر :
وما اسمها؟
الخادم :
لم ترض أن تذكره
ضاهر :
هلْ صَرَّحَتْ مِنْ أيْنَ جاءتْ؟
الخادم :
أَجَلْ مِنْ مصرَ مولايَ مِنَ القاهرهْ
ضاهر :
وما سنها؟
الخادم :
غادةٌ في الصبا
تُشَبِّهُها الزنبق الطيِّبا
وقد لبسَتْ حلَّة للسِّفار
وشالًا كوشي الضحى مُذْهَبا
تريدُ تقابلُ ضيفَ الأمير
ضاهر :
تريد
عليًّا إذن مرحبا

(ثم لنفسه):

إلهيَ أنْثى لداري سَعَتْ
تريدُ عليًّا فما تطلُبُ
تُرى امرأةٌ هيَ أم حيَّةٌ
تُريدُ صديقيَ أم عقربُ

(يخرج ثم يعود بشمس)

شمس :
سلامٌ لكَ مولاي
ضاهر :
سلامٌ جارَةَ الدَّار
فما أنْتِ؟ وما تَبْغِينَ؟
منْ ضَيْفي ومنْ جاري
شمس :
رسولٌ أنا يا مولايَ
قد جئتُ بأخبار
جرى في مصرٍ الدهر
بأحوال وأقدار
ضاهر :
وما ذلك؟
شمس :
لا أعطي
سوى مولاي أسراري
ضاهر :
هيَّ تقدم فتِّش السيدهْ
شمس :
لا سيدي يَحسن أن تبعدهْ
مُرْ لا يمدَّ الوحش نحوي يدهْ
الخادم (ويتقدم نحوها) :
ما ضرَّ لو زحزحت الـ
ـغادة فضلَ البرقع
شمس :
ما لك يا وغد وللـ
ـبرقع دع عنك دع
الخادم :
عمًى لك يا عُمر ما ذي غدا
ئرُ لكنها أفعوان قَبَعْ
وتلك الجفون سلاح مضى
وسهم أصاب وسيف قطع
وفي الصدر غدارةٌ ها هنا
وأخرى إلى جانبيْها تَقَعْ
وهذا القَوام كرمح الأمير
إذا اهتز في كفه أو لمع
أميري أأنزع منها السلاح

(يدخل علي بك)

علي بك (بعد أن يسمع) :
سلاح الملاحة لا ينتزع

(ينسل ضاهر)

(علي بك لشمس)

أهلًا بشمسٍ بالرسولِ ومرحبًا
بنسيمِ مصرَ ونفحة الأحبابِ
كيف الأحبَّةُ (شمسُ) هاتي خبِّري
قد طال بُعدي عنهمو وغيابي
كيف الديارُ وكيف قصري هل تُرى
ترك القواصدُ والصنائعُ بابي
أتراهمو قدْ ردَّهم خدمي وقد
منعوا طعامي عنهمو وشرابي
وموائدي يا شمسُ كيف موائدي
والطاعمون بها وكيف رحابي؟
شمس :
مولايَ طِبْ نفسًا فبِرُّك لم يزل
يَجري وخيرُك في يدِ الطلَّاب
علي بك :
والناسُ شمسُ؟
شمس :
مع الأمير قلوبهم
لكنْ سيوفهمُ مع الكذاب
الغُزُّ والأمراء حول ركابهِ
علي بك :
وكذاك كانوا أمسِ حول ركابي
والأزهر المعمور؟
شمس :
صادَ محمدٌ
فيه الشيوخَ وعاد بالطلَّاب
علي بك :
والشعبُ؟
شمس :
سالٍ يا أميرُ كعهده
قد مالَ عن باب وقام ببابِ
والتركُ قد نصبوه بعدك هرَّةً
يتصيَّدون بظفرها والناب
علي بك :
والقصرُ كيف القصرُ كيف صديقتي
وشريكتي في شدتي ومُصابي؟
أرأيت آمالًا وكيف وجدتها؟
شمس :
لم نفترق مولاي
علي بك :
منذ ذهابي؟
شمس :
عزمت علينا أن نقيمَ بقصرها
وتعطَّفت وحَنَتْ على الأتراب
علي بك :
فوجدتها يا شمس
شمس :
خيرَ عقيلةٍ
وأجلَّ ربة منزل وحجاب
مَلَأتْ مكانكَ عزَّةً ومهابَةً
وكَسَتْ حمَاكَ جلالة المحراب
سَهرت على ذكرى الأمير وعهده
سَهَرَ اللباة على حريمِ الغاب
لو كنتَ أمسِ ترى رأيتَ أَبِيَّةً
غَضْبَى محاميةً عن الأحساب
علي بك :
غَضْبَى؟ وممَّ وما جَرَى ما راعَهَا؟
شمس :
من سافل مُتهافت دبَّاب
علي بك :
ما ذاك شمس من الوقاحُ من الذي
نَقَلَ الخُطَى بمنازل الغيَّاب
شمس (لنفسها) :
ربَّاه ماذا قلتُ لمْ خبَّرتُهُ
علي بك :
قولي أجيبي؟
شمس (لنفسها) :
ربِّ كيفَ جوابي

(شمس لعلي بك)

ذنَبٌ فلا تجعله شغلك سيدي
إن القذارة شيمةُ الأذناب
علي بك :
من ذاك شمسُ؟
شمس :
مراد
علي بك :
ويح له ولي
ويحي من الأتباع والأصحاب
أمرادُ يَصنعُ ذاكَ ماذا غرَّه
بِخزانتي ما غرَّه بثيابي
والزوجُ شمس؟
شمس :
استعصمت في دينها
ورَمَت بزائرِها وراءَ البابِ
علي بك (لنفسه) :
يا نفسُ قد خان مَنْ قلَّدته ثِقَتي
وكان حولي لواءَ الصحبِ والآلِ
هذا أبو الدهب استولى على شِيعَي
وحازَ دونيَ جاهي واحتوى مالي
واليوم هذا مرادٌ نال من شرفي
ما لا يمر لأعدائي على بال

(علي بك لشمس)

تعالَيْ نَجُلْ يا شمسُ في دار ضاهرٍ
تعالَيْ نرى الجيشَ الحليفَ تعالي
فنحنُ اقتسمنا الحصنَ ثَمَّ عيالُهُ
على كثرة اللاجي وثَمَّ عيالي

(يدخل حسين من باب ويدخل سعيد من باب آخر)

سعيد :
حسين هنا؟
حسين :
من أرى مَنْ سعيد؟
سعيد :
سلامٌ حُسَيْنُ
حسين :
سَلامٌ سَعِيدْ
سعيد :
أَأَنت هنا لم تزلْ يا أخي
تراقبُ في الشام حالَ الطريد؟
حسين :
وكيف اقتحمت فِناءَ العرين
وجاوزت هذا الحصارَ الشديد؟
سعيد :
بمالٍ بذلت هنا وهناك
وبالمالِ يُعطى الفتى ما يريد
حسين :
متى جئْتَ مِنْ مِصْرَ؟
سعيد :
هذا الصباح
حسين :
ومن كان معك؟
سعيد :
بغالُ البريد
حسين :
وماذَا بمصْرَ مِن الحادثات؟
وهل جدَّ في أرضِ مصرٍ جديد؟
سعيد :
حوادثُ مِصْرَ على حالِها
وأمس القريب كأمسِ البعيد
حسين :
وكيفَ محمد؟
سعيد :
خلَّفته
كما يشتهي وعلى ما نريد
قبولٌ يحرِّقُ قلبَ الحسود
ودنيا تفيض وشأنٌ يزيد
لقد نزلَ الريفُ في راحتيه
وحج إلى قدميه الصعيد
تَرَى الأمراءَ على بابهِ
يقومون فيه قيامَ العبيد
وللفقهاءِ على دارِهِ
صباحَ مساءَ زحامٌ شديد
حسين :
إذن قُضِيَ الأمرُ مصرٌ لنا
سعيد :
أجل ملكُنا اليومَ فيها وطيد
حسين :
وكُتبي سعيد؟ تجيء الأمير؟
سعيد :
أجل
وهي موضعُ إعجابه
يشيرُ بها في أحاديثه
وينشُرُها بينَ أصحابه
ونحنُ كلانا على بالِه
غدًا نتلاقى على بابه
ونَطعم أطيَب إحسانه
ونلبَس أسبغَ أثوابه
حسين :
وما أتيتَ يا أخي
تصنعُ في هذا البلدْ
سعيد :
ذلك سرِّي يا حُسَيْن
لا يقالُ لأحدْ
حسين :
حَذارِ أن تقول أو
تفعلَ شيئًا يُنتقَدْ
نحن بدارِ ضاهرٍ
دارِ العديد والعُدَدْ
الجمع يقظانُ بها
وإن ظننته رقَدْ
وكلُّ جاسوس هنا
عليه عينٌ ورصَدْ
وقد تظُنُّ ضاهرًا
مبتعدًا وما بَعُدْ
وضاهرٌ ليلَ نهار
في السلاح والزرَدْ
قد جعلَ الشام هي
الغاب وطاف كالأسد

(ثم بعد فترة سكون)

سعيد :
حسين!
حسين :
ماذا يا سعيد قل سلِ
سعيد :
أينَ تُرَى أصادفُ الآن علي؟

(يقبل علي بك)

حسين :
سعيدُ انظر التفت
هذا الأميرُ مقبلا
يمشي الهويْنا ويُخـ
ـالُ الأسدَ المستمهلا
سعيد :
حُسَيْنُ ما له انحنى
ما باله ترهَّلا
لأمشيَنَّ نَحْوَهُ
حسين :
لا يا أخي بـل ابْـقَ
سعيد :
لا
حسين :
إياك أن تقولَ ما
يغضبه أو تفعلا
فهو مهيبٌ ها هنا
كالليث في جوزِ الفلا
سعيد :
لا تخشَ لا أكون
إلا محسنًا ومجملا
ألم يكن أمس أمـ
ـير البلد المبجَّلا
علي بك (لسعيد) :
من المرء من أينَ من أرض مصر؟
فهذا اللباسُ لباسُ الوطن
سعيد :
أجل ملِكِي من رعاياكمو
علي بك :
ومن مصرَ هذا اللسانُ الحسن
وما اسمُك؟
سعيد (لنفسه) :
ما همُّه اسمي؟!

(سعيد لعلي بك)

سعيد
علي بك :
سعيد تذكرتَ مَنْ أنْتَ مَنْ
سعيد (لنفسه) :
تذكَّرني عجبٌ كيفَ ذاكَ!
ولم نجتمع مرة في الزمَنْ
تُراهُ بيَ ارتابَ ظنَّ الظنونَ
تراه لِما كلَّفوني فَطِنْ
علي بك :
وكيف تركت بمصر الأمور؟
سعيد :
عواصفُ حولَ مراسي السُّفُنْ
وجوُّ الأمور من الحادثات
كثيرُ الغُيوم كثيرُ الدُّجَنْ
علي بك :
وكيف تركت الأمير الجديد؟
سعيد :
سقيمُ الولاية نكدُ الزَّمَنْ
علي بك :
ولِمْ يا فتى هل تولَّى الوليُّ
وخانَ منَ الشيعة المؤتمَنْ
سعيد :
أجل يا أميرُ ودبَّ الخلافُ
وثارَتْ هنا وهناك الفِتَنْ
علي بك :
حديثَك يا صاحبي لا يُساغُ
ولا تطمئن إليهِ الأذن
عساك تبالغُ فيما تقول
لعلَّكَ تخلُقُ ما لم يَكُنْ
إذن لم يَخُنْ عهديَ الأمراءُ
ولم يقلب التركُ ظهر المجنْ
ولم ينس أصحابيَ الفقهاءُ
أياديَّ عندهمو والمنَنْ
ولا الشعب ملَّ الأمير القديم
ولا بالأمير الجديد افتتَنْ
بلغت المدى أيُّهذا الفتى
رُوَيْدَ تأنَّ رُوَيْدَ تأن
فما نحن في فلوات الحجاز
ولا نحن في ربوات اليمن
ولكن على الشام فوق الطريق
تمرُّ الركابُ بنا والسُّفن
وأخبارُ مصرَ وأحوالُها
هنا سمرٌ للقُرى والمُدنْ
سعيد :
وكتب الثقات إلى سيدي
علي بك :
وما هي من أرسل الكتب مَنْ؟
سعيد :
كتابان من عمر الچركسي ومن حسنٍ
علي بك :
مَنْ؟ صديقي حَسَنْ؟
كتابان من مصر من صاحبيَّ؟
سعيد :
أجل سيدي
علي بك :
سوف أُغلي الثمن
وأين الكتابان؟
سعيد :
خذ سيدي
خذ النعش خذ من يديَّ الكفَنْ

(وينقض عليه بخنجره فيقبض علي بك على ساعده)

حسين (لنفسه) :
أسفاه على سعيدٍ فما أدري
إلى أين ينتهي؟ أين يُمسي؟
نحن سيَّانِ في البلاء وأيدٍ
طلبَتْ رأسه ستطلب رأسي
هو في قبضة الأميريْنِ لِمْ لا
أتوارى أنسلُّ أنجو بنفسي

(ثم يَنْسَلُّ هاربًا)

علي بك :
كيف تَرَى يا معتدي
لقد وقعتَ في يدي

(يدخل ضاهر ويقول):

اتركه لي يا سيدي
اتركه لي فإنه في داري
سطا بضيفي وسطا بجاري
علي بك :
مَن؟ ضاهرٌ؟ بالنفسِ أفدي ضاهرا
أكنتَ معنا يا أمير حاضرا
ضاهر :
كنت عليك يا صديقي ساهرا
والآن أذهب يا أمير بصاحبي
علي بك :
أتريدُ تذهبُ بالأثيم العادي
ضاهر :
لِمْ لا وفي دَاري وبين عَشِيرَتي
شَهَرَ السلاحَ على أمير الوادي
دعني أُحلُّ به العقابَ وخلِّني
أمنع حمَى شرفي وحوضَ ودادي
سعيد (في ضراعة) :
مولاي!
علي بك :
ما بكَ قُلْ؟
سعيد :
بمصرَ وحقِّها
لا تُلق رأسِي في يد الجلَّادِ
مولايَ سيفُكَ بي أبرُّ فسُلَّهُ
إن شئت فاقتلني بسيف بلادي
ضاهر :
حَسَنٌ قم انهض يا بنيَّ قم انطلق
فلقد طلبت الخير عند جواد
أنا قد وهبتُكَ للأمير وقد عفَا
إن الأميرَ بكلِّ فضل بادي
علي بك :
ألانَ سعيد
سعيد :
أميريَ قُلْ
علي بك :
تكلَّم أبِنْ نبِّني مَنْ أمَرْ
ومن بَذَلَ المالَ بي مُغريًا
وكيفَ أتاكَ جوازُ السَّفَرْ
تكلم أبنْ
سعيد :
سيدي أعفني
فلا خير في أن يَذِيعَ الخَبَرْ
علي بك :
قل السِّرَّ لا تُخفِهِ لا تَخَفْ
فسرُّك عند صديق العُمُرْ
أليسَ محمدٌ المجترِي؟
قل الصدق تأمن به كل شرْ
سعيد :
مرادٌ أشار بقتلِ الأميرِ
وغيرُ مرادٍ به لم يُشرْ
علي بك :
مرادٌ؟
سعيد :
أجل إنه المعتدي
وما أنا إلا سلاحٌ شُهِرْ
علي بك (ملتفتًا بضاهر العمر) :
سمعتَ أخي ما يقول الغلام
عدوٌّ من الأهل ثانٍ ظَهَرْ
إذا ما بغى الأهل والأقربونَ
فكيفَ مِن العالَمين الحذر

(يخرج الضاهر فيتغيب لحظة ثم يعود فيقول)

ضاهر :
أميريَ
علي بك :
مَنْ صاحبي ضاهرٌ
ضاهر :
هنالك مولايَ ضيْفٌ حَضَرْ
علي بك :
ومَنْ؟
ضاهر :
قائد الروس في عكَّةٍ
أيدخل مولايَ أم ينتظر؟
علي بك :
أميرٌ على البحر ماذا يقود؟
ضاهر :
بوارجَ للروسِ مثلَ الجُزرْ
علي بك :
وماذا ترى أنت مرني أشِرْ
ضاهر :
تلاقيه فهو جليل الخَطَر
علي بك :
ألاقيه؟
ضاهر :
لِم لا وما في اللقاءِ
إذا ما سمحتَ به من ضَرَر

(يصفق الشيخ ضاهر فيدخل القائد الروسي محاطًا برجال الشيخ … ويخرج ضاهر وسعيد ورجال الشيخ)

القائد :
التحياتُ للأمير
علي بك :
تحياتٌ
وأهلًا بسيدي الربَّان
أُدنُ خذْ مجلسًا بجنبي تفضَّل
القائد :
عِشت مولاي مُولِيَ الإحسان
نحن جاران يا أمير ولكن
نحنُ في منزلين يختلفان
أنتَ كالليث رابضًا في الصحاري
وأنا الحوت في العباب مكاني
علي بك :
غيرَ أنِّي مُقيَّد بخطوب
حَبَستْ همتي وردَّت عناني
القائد :
لا تضيق يا أمير ذلك أسطولي
خلال البحار نور المواني
سُفُن القيْصر العظيم قصورٌ
لك إن شئتَ زُيِّنت ومغان
علي بك :
أشكر القائد النبيل وإن لم
يخفِ ما في خطابه من معان

(مستمرًّا):

أنا في دار ضاهر وهي داري
مع أعوانه وهم أعواني
أنا في دار مسلم عربيٍّ
مانع الدار مُكرم الضيفان
أنا في الدار أولُ منذ هاجرت
إليها وصاحبُ الدار ثان
القائد :
سيِّدي ألق ضاهرًا وتقلَّد
نجدةَ القيْصَرِ العظيم الشَّان
لا ترومَنَّ بالعصَا مُلْكَ مِصْر
واطْلب المُلْكَ بالحسام اليماني
كيفَ نبغي سريرَ مِصْرَ بشيخٍ
بدوي بصارمٍ وحصَان
علي بك :
بكريم من الرجال أبيٍّ
عبقريِّ الوفاء والإحسان
فَزِنِ القولَ يا نبيلُ وأمسكْ
لا تَنَلْ ذكْرَ صاحبي بهوان
القائد :
ما أهنتُ الصديق مولايَ لكن
قلتُ أحسِنْ تخيُّر الأعوان
علي بك :
ليست النجدةُ البوارجَ كالأعلام
تطوِي اللِّجاج كالطوفان
لَيْسَتِ النجدةُ الحديدَ ولا النار
بأيدي المُشاة والفرسان
لَيْسَتِ النجدةُ اصطفافَ العوالي
والتفافَ العُروش والتيجان

•••

ما النجدة الحق إلا صاحبٌ دمه
عند البلاءِ دمي أو ماله مالي
أخٌ قديمٌ كعرق التِّبر خُلَّتُهُ
لم أُسْقَ من وُدِّه إلا بسَلسال
وعِرضُه عنديَ الغالي وإن بَعُدَت
به الديارُ وعِرضِي عنده الغالي
القائد :
كصاحب الدار؟
علي بك :
لم لا ضاهرٌ رجلٌ
من المروءَةِ لا عُطْلٌ ولا خالِ

(تقبل شمس)

القائد :
والملك مولاي ملك الضفتين
علي بك :
أجل
الملك يا قائد الأسطول آمالي
القائد :
إذن فتلك سفينُ القيصر اضطجعت
على فراسِخَ من عكا وأميال
فاركب أميريَ فيها وائت مصر غدًا
في الدار عين وفي الفولاذ والمال
لعلنا ندخل الوادي معًا وعسى
على أولئك يغزو التركَ أبطالي
علي بك :
نمضي فنفتح مصرًا ثم ندخلها
أمنيَّة الدهر تأتي لي وتسعى لي
غدًا أحلُّ بأعدائي العقاب على
ما استمرءوا أمس من قهري وإذلالي

(يدخل ضاهر)

(علي بك لنفسه)

رباه ماذا يقول المسلمون غدًا
إن خنت قومي وأعمامي وأخوالي
يُقالُ في مشرق الدنيا ومغربها
فعلتُ فعْلَة نذل وابن أنذال

(علي بك للقائد)

أجل سَمَوْتُ لمُلك النيل أطلبه
بهمتي وبإقدامي وأفعالي
لا أستعين على الأهل الغريب ولا
أرمي الذئابَ على غابي وأشبالي
القائد :
مولاي تلك معانٍ تحتها كرمٌ
ليْسَتْ لمن طلب الدنيا بأشغالٍ
علي بك :
بُعْدًا وسُحقًا لعلياءِ الأمور إذا
لم ألتمْسها بخُلق فاضل عالِ
الموتُ في ثمَر ترقَى لتجنيَهُ
في سُلَّم من ثعابينٍ وأصلال
القائد :
إذن أميريَ فالأسطول منتظري
والبحر يسأل عن شأنِ الأميرَالِ
علي بك (بصوت منخفض) :
اذهب فما أنتَ دارٍ ما غدٌ فعسى
يُغيِّرُ الله من حال إلى حال

(ينصرف القائد ويشيعه ضاهر وأتباعه)

(علي بك لنفسه)

رباه ما بالي أبعدَ محمد
وعقوقه أشقَى بكيدِ مرادِ
أنا صخرةُ الوادي يُراوحُ عاصفٌ
ركني ويبكُرُ عاصفٌ فيغادي
حَمَلتْ كواهليَ الخطوبَ كما حَوَتْ
هوجَ الرياح مناكبُ الأطوادِ
ولقد تركتُ ورائيَ الوادي وما
بالضَّفتَيْنِ فتًى يحوطُ الوادي
لم يبقَ في مصرٍ ومصرُ عزيزةٌ
من قائلٍ هذي البلادُ بلادي
الذئبُ يرتَعُ في الديار ويرتعي
والشعبُ يسرحُ كالقطيع الهادي
نقَلَ الزمانُ زمامَهُ ورمى به
من فاتحٍ باغٍ لآخَرَ عادي
ويحي فما وقف الرجالُ كموقفي
من ظلم أحبابٍ وكيد أعادي
فهناكَ في فسطاط مصرَ محمدٌ
جَشِعُ العداوة لا يَمَلُّ طِرادي
حتى حوى بيدٍ مواكبَ دولتي
وحوى بأخرى طارفي وتِلادي
ما لي محمدٌ الأثيمُ يكيدُ لي
ومرادٌ الباغي يدوس وسادي
عجبُ العجائب مصرُ صارت ضيعةً
لمحمدٍ ورفاقِهِ الأوغادِ
ذئبٌ أتى الأتراكُ في الوادي به
خلعوا عليه إمارةَ الآسادِ
وبقيتُ في أرضِ الشآم مُشَرَّدًا
حيرانَ ليس لحيرتي من هاد
قد نمتُ عن حقي وتاركُ حقِّه
لاقي الخسارِ على الندامةِ غادِ
ما لي قعدتُ وتركيا مقهورةٌ
والروس حولي يخطبون ودادي
أسطولهم بيدي وقائدهم معي
سأصيبُ جُندي عنده وَعتادي
لا يا عليُّ رُوَيْدَ في الغضبِ اتئد
ما تلك خُطَّةُ حكمةٍ ورشاد
ماذا جنَتْ مصْرٌ عليَّ وأهلُها
إن الجناةَ عليَّ هُمْ أولادي
ما ضَرَّ مصرَ وضرَّني إن لم تكُن
مهدي وكان بغيرها ميلادي
بلدٌ رعاني في الصبا وأحلَّني
بعد الشباب مراتب القُواد
ودخلتُه عبدًا كيوسُفَ مُشترًى
فاعتضتُ تيجانًا عن الأصفاد
لا يا عليُّ اسمع نُهَاكَ ولا تُصِخْ
لوساوس الشهواتِ والأحقاد
لا ترمِ بالروس الشداد جماعة
ضعفاء مهزولينَ غير شدادِ
لا تنس موضع مصر واذكر ما لها
من أنعمٍ سلَفَتْ وبيضِ أياد
لا تنسَ ماذا ألَّفتْ من سامر
لك في الشبابِ وهيأت من ناد
شمس :
أميريَ
علي بك :
شمسُ سمعتِ النجيَّ؟
شمس :
أجل سيدي وعلمتُ الخَبَرْ
علي بك :
فماذا تريْنَ؟
شمس :
أرى الخطبَ جلَّ
وأنتَ عليه جليلُ الصَّبرْ
وما زدتُ علمًا بحلم الأمير
ولا خُلقه الأريحي العطِرْ
دع الروسَ لا تنتصرْ بالغريب
وبالله بالأقربينَ انتصِرْ
علي بك :
وأينَ همو شمس؟
شمس :
هم في يديْك
وتحتَ لوائِكَ مُر قل أشِر
أصِخ لساجاياكَ فالخير فيكَ
علي بك :
وليسَ يُقابَلُ إلا بشَرْ
أبو الدهب الغِرُّ التركِ لاذَ
وفي مصر في غدِها ما افتكَرْ
وكم قد غزاها على رايتي
وكم من سلاحٍ عليهم شَهَرْ
وكنا خَطَطْنَا انتشال البلاد
وإنقاذها من عُتُوِّ التَّتَر
وأن نستقل بسلطانها
ونُنهضها في النواحي الأخَرْ
شمس :
تركت ورائي ما تبتغِي
من العون والمدد المنتظَر
علي بك :
جموعٌ؟
شمس :
هناك على الصالحية
جمعٌ كسرْبِ الجراد انتشَرْ
وينتظرون ركاب الأمير
كمثلِ انتظارِ النباتِ المَطَر

(يعود ضاهر)

ضاهر :
ضاهرٌ عند ظن مولاي فيه
علي بك :
مَنْ؟ صديقي أخي حليفيَ ضاهر؟
ضاهر :
قد سمعت الذي جرى ولمست
الفضل والنبل والسجايا الطواهر
عِزوتي سيدي ونفسي ومالي
في الذي شئتَ ما الذي أنتَ آمر
نحنُ إلفانِ يا أميري على الأرض
وإلفان في مُتُون الضوامرْ
ومعي مدفعانِ من سلَب الترك
وتلٌّ من السيوف البواتر
والمواشي كثيرةٌ في ضِياعي
والطريقُ الطويلُ بالخير عامر
كلُّ شيءٍ كما تُحبُّ مُهيَّا
فمتى الظَّعنُ سيدي مُرْ نسافر
علي بك :
غدًا الظعنُ يا أخي قُم تأهِّبْ
إنما الغُنمُ للخفيف المبادر
ضاهرُ اسمع هناك في مصرَ
ضاهر :
ماذا؟
علي بك :
أُهبةٌ يا أخي وجيشٌ مناصر
من صحابي المُشردينَ وأتباعي
ومن كل حافظ العهد ذاكر
إن جمعنا إليه جيشَكَ سرْنا
وأخذنا محمدًا أخذَ قادر
وانتزعنا البلادَ من قبضةِ
الترك ومن كل فاسق الحكم سادر
آن أن نُنقذ البلادَ فماذا أنت راءٍ
ضاهر :
هلمَّ والجيشُ حاضر
علي بك :
حاضرٌ؟ فلنَسِرْ إذن
ضاهر :
بعيون الله في حفظه بأيمن طائرْ

(ثم يصيح):

عَرَبَ الشام تلكَ مصرُ دعتكم
جماعة من عرب الشام :
ألفَ لبَّيْكِ مِصرُ لبَّيْكَ ضاهر

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤