الفصل الأول

لمحة عامة عن شبه الجزيرة الأيبيرية

من الأمثال المضروبة في أوروبا أن جبال البرانس – كما يقول العرب١ — أو البيرانة Pyrénees كما يقول الأفرنج — هي الحد الفاصل بين أوروبا وأفريقية. ويقولون: إذا تجاوزت معابر البيرانة فاعلم أنك قد دخلت في أفريقية. وربما يستغرب القارئ هذا القول بعد علمه أن في غرب البرانس (أو البيرانة) بلادًا طويلة عريضة هي من أكبر أقسام أوروبا، تتألف منها مملكتان أوربيتان هما أسبانية والبرتغال فكيف يمكن أن تكون هذه البلاد من أفريقية؟ وما الموجب، يا ليت شعري! لضرب هذا المثل الذي قد يكون من باب المبالغة في تشبيه أسبانية والبرتغال الضاربتين في مناطق الجنوب بجاراتها سواحل أفريقية الشمالية؟ والحقيقة أنه ليس في هذا المثل شيء من المبالغة. أما من جهة الشجر والحجر والتراب والماء فإن الجزيرة الأيبيرية المنفصلة عن أوروبا بجبال البرانس أشبه بشمالي أفريقية وبغربي آسيا. ولقد جرّبت هذا الشعور بنفسي فور دخولي إلى أسبانية، إذ كان ذهابي إليها من طريق فرنسا أي من الشمال، فما عبرت الحدود الواقعة بين فرنسا وإسبانية حتى خلت نفسي سائرًا في سواحل الشام بلادي. فكيفما نظرت وقع نظري على التين والزيتون والخروب والصنوبر والصبير وجميع الأشجار والنباتات الحرجية التي أعرفها في بلادي، مع وجوه الشبه الكثيرة في منظر الأرضين ولون التراب وتحدر الغدران يحف بها القصب والحلفاء، ومع حنين النواعير في البقاع التي لا يصح لها الشرب من الغدران، وغير ذلك مما يخيل لك أنك فعلًا في سواحل سورية. ولا شك في أن هذا التشابه بين البلادين هو الذي حدا عرب سورية على انتجاع الأندلس أكثر من أي بلاد سواها، لأن الإنسان يحب إذا تغرّب أن يقع في أرض تشبه مسقط رأسه.

وكان الجغرافيون القدماء يقسمون الكرة الأرضية إلى مناطق سبع، وبحسب هذه المناطق تكون أسبانية وجزائر البحر المتوسط مثل سردانية وصقلية وكريت وقبرص، وكذلك البلاد الشامية والعراقية، منطقة واحدة. وقد شاهدت شمالي المغرب فرأيته لا يفترق عن جنوبي أسبانية. وكيف يختلف عنه وكل الفاصل بينهما مضيق لا يتجاوز في بعض الأماكن أكثر من مسافة ١٥ كيلو مترًا؛ وهذا الفاصل قد جرى الماء فيه حديثًا بالنسبة إلى الأدوار الجيولوجية. وأنت إذا نظرت إلى شكل الأرض في الجزيرة الخضراء وجبل طارق، من جهة، وإلى شكلها في طنجة وجبل موسى وسبتة تجده واحدًا، فهي بقعة خرقها الماء من الأوقيانوس الأطلانطيقي إلى البحر المتوسط فجعلها شطرين، ولكن لم ينزع من كل من الشطرين وحدته الطبيعية مع الآخر. وقد قيل لي: إن في برية جبل طارق نوعًا من القردة قديم الوجود فيها، وهذا النوع نفسه يسكن في جبل موسى المقابل لجبل طارق وذلك من جهة أفريقية.

هذا من جهة الجغرافية الطبيعية. أما من جهة الجغرافية السياسية التي تتعلق بالسكان والممالك، أو من الجهة الأتنوغرافية كما يقال، فلا شك أن الأسبانيين والبرتغاليين وإن كانوا أوربيين في سلالتهم فإنهم لاختلاطهم بالعرب والبربر والأمم السامية مدة قرون متطاولة أصبحوا أمة وسطًا بين الغرب والشرق.٢ وإذا صح الافتراض الذي يذهب إليه بعضهم من أن السلالة البيضاء هي التي انتقلت من على عنق الدهر من المغرب إلى أوروبا لم يكن العرب هم أول من أجاز من إفريقية إلى الأندلس.

إن شبه الجزيرة الأيبيرية لا يتصل بأوروبا إلا ببرزخ، هو جبال البرانس، وهي جبال شهيرة متوسط ارتفاعها سبعمائة متر عن سطح البحر تتكسر على أذيالها أمواج البحر المتوسط من الشرق والأطلانطيقي من الغرب، وقد حفرت المياه على منحدريها سواء من جهة الشرق أو من جهة الغرب مسلانًا لا تحصى وأنهارًا تتدفق وجرّدت صخورها من التراب الذي لا يزال يجحف به السيل من عشرات الآلاف من السنين.

والجيولوجيون يقولون: إنه لو حصل خلل في توازن قشرة الأرض الصلبة أدى إلى اضطراب أعماق البحار لما أمكن أن تكون الجزيرة الأيبيرية بمنجاة من هجوم البحر من جهة الوادي الكبير في الجنوب وجون نهر إبره Ebre في الشرق حيث أن طرطوشة ليست إلا على إرتفاعمترين فقط من مصب نهر «إبره» كما أن إشبيلية لا تعلو إلا عشرة أمتار عن الوادي الكبير. ولو قدّر أن البحر ارتفع مائة متر عما هو الآن لضربت أمواجه حيطان قرطبة. ولو أن البحر انبسط على سهل أشبيلية لغمر أكثر سهول الأندلس، ولم يقف إلا في سفوح جبال مورينة Sierra-morena بحيث يعود إلى التشكل ذلك البوغاز القديم الذي يسميه العلماء بالبوغاز البيتي D’élroit Bétique الذي كان يصل البحر المتوسط بالأوقيانوس فاصلًا بين جبال إسبانية الوسطى وبين جبال شلير الثلج Sierra Nevada٣ التي يعدها العلماء من جبال أفريقية والتي ذروتها المسماة بقمة مولاي الحسن تعلو عن البحر ٣٤٨١ مترًا. وهذا قبل أن حصلت الهزات الجيولوجية الكبرى التي نشأ عنها الخرق البحري المسمى ببوغاز جبل طارق.
كذلك ضفاف نهر «إبره» كضفاف الوادي الكبير الذي كان القدماء يقولون له نهر «بتيس» هي تحت تهديد البحر الدائم، وذلك بحسب درجة ما يمكن أن يرتفع. فإذا ارتفع بضع مئات من الأمتار فإن بنبلونة من نبارة Panpelune٤ لا تعلو أكثر من أربعمائة متر، ووشقة Huesca لا تعلو أكثر من ٤٦٦ مترًا. وكذلك لاردة هي من هذه الأماكن التي قد تغمرها المياه، وأهم من الجميع سرقسطة التي لا تعلو أكثر من مائتي متر وتطيلة التي علوها ٢٥٧ مترًا.
ولقد ثبت وجود مواد مالحة في أعماق هذه الأودية تدل على أن البحر لم يتقلص عنها إلا من عهد قريب بالنسبة للأعمار الجيولوجية. فقلعة الجزيرة الأيبيرية في وجه البحار هي في الجنوب جبال مورينه وجبال البشرات وفي الشرق جبال البرانس. وأما في الشمال فهناك جبال قنطبرية Cantabrique٥ التي تعلو نحوًا من ألفين وخمسمائة متر ثم تنقطع دفعة واحدة فوق سواحل الأطلانطيك، حيث تصادم البحر سلسلة صخور لا تنتهي إلا عند الوادي الكبير في الجنوب. وإلى الأطلانتيك تنحدر الأنهر الأربع «مينو Minho» و«دورو Duero»٦ و«تاجه Tage» و«وادي يانه Guadiana» ومنها «دورو» و«تاجه» قد حفرا أخاديد ضيقة في الأرض هي من العمق بحيث صارت فواصل طبيعية أبدية. ولا شك أنها لم تخل من تأثير في السياسة وأن لها يدًا في فصل البرتغال عن أسبانية، على حين أنه لا يوجد من جهة السكان فاصل بين الفريقين.
ثم أن القسم الأعلى من جبال أسبانية يقسم البلاد إلى قسمين: قشتالة القديمة، وقشتالة الجديدة؛ ويقال لهما ولبلاد ليون Leon والاشتراما دور Estramadure و«الميزيتا» meseta وهي أعالي أسبانية التي لولاها لدخل البحر على الجزيرة الأيبيرية من جهات متعددة بارتفاع قليل، ولجعل عاليها سافلها.
ثم إن الفاصل بين القشتالتين Les deux Castilles سلسلة أهاضيب يقال لها شارات وادي الرمل، لكثرة رملها، والأسبانيول حرفوا «الرمل» فجعلوها «الرامه» فهم يقولون «وادي الرامه» وهو التوجيه الأرجح Guadarrama وسلسلة أخرى يقال لها هضاب «غريدوس» Sierra de Gredos وهي متصلة بسلسلة مثلها من جهة الغرب يقال لها شارات «غاتا» والشارات البرتغالية التي يقال لها «استريلا» Estrella كما أنها متصلة من جهة الشرق بنشوذ «شوريه» Seoria ومرتفعات «ديمنده»  Demanda على نهر «إبره»
ولما كانت هضاب وادي الرمل عارية من الشجر الذي من طبيعته أنه يمسك الأرضين، فقد تفككت أجزاؤها بحرارة شمس القيظ وبرودة جلد الشتاء، وتكون منها كتل كثيرة لا سيما في الجنوب حيث هي البلاد التي يعبر عنها بقشتالة الجديدة. وأن هذه الشارات التي في وسط أسبانية هي التي تنحدر منها مياه وادي «الدوره» Duero الذي يجري في قشتالة القديمة ومياه النهرين الشقيقين «تاجه» Tage ووادي «يانه» Guadiana٧ اللذين يتحيفان في جريهما جبال طليطلة Tolede وهضاب «وادي لب» Guadainpe ويخترقان البلاد إلى البرتغال، إلا أن أحدهما «تاجه» ينصب في خليج «لشبونة» Lisbonne والآخر يتلوى عن مجراه المستقيم قاصدًا إلى الجنوب، بدلًا من الغرب، فينصب بحذاء «بطليوس» Badajoz بقرب خليج قادس Cadix.
وغير بعيد عن مصب وادي يانه، ينصب الوادي الكبير Guadilquivir الذي ينبع من الجبال الوسطى في أسبانية، ولكن انصباب الأنهار من جهة البحر المتوسط في القسم الجنوبي من أسبانية هو قليل، نظرًا لإشراف شلير الثلج على البحر يتدلى إليه بدون فاصل، فلا تكاد تجد الجداول مجالًا للجري. وذلك مثل وادي مالقة Guadalhorce ونهر المرية ونهر شنقورينه المشتق من نهر شقر Seegur والنهر المسمى بوادي الأبيار وادي بلنسية Guadaiaviar وغيرها.
ويندر في الدنيا وجود ساحل مضرس مشقق تشقق هذا الساحل الذي هو شاطئ البحر المتوسط من أسبانية وهو معهد زلازل وموقد حركات بركانية لم تنطفئ وآثار ذلك بارزة في الشقوق الهائلة التي تتخلله من جبل طارق جنوبًا، إلى كتلونية شمالًا، وأعظمها الشق الذي ينحدر منه نهر «إبره» إلى البحر. ويرجح العلماء أن الهزاهز البركانية هي التي فصلت جزيرة ميورقة عن راس «ناو» nao وأن ميورقة نفسها. إن هي وأخواتها ميورقة ويابسة إلا حلقات من سلسلة كان من جملتها قورسيكا وسردانية.
ويظهر أن الزلازل البركانية التي شقت بوغاز جبل طارق، وفصلت هذا الجبل عن أمه أفريقية، وجعلته من أوروبا، وأقامت وأقعدت أركان شلير الثلج، وفتحت في ساحل أسبانية الشرقي فجاجًا، وأحدثت فوق كثير من أقسام ذلك الساحل لججًا وأمواجًا، لم تنقطع حركتها بالمرة ولا سكن توهجها؛ فإنه لا يزال هذا الشاطئ في قلق إلى يومنا هذا. وكل يعلم أنه في ٢ ديسمبر سنة ١٨٨٤ وقعت زلزلة عظيمة كان معظم شدتها في مالقة وغرناطة ونواحيها، وذهبت طائفة من العلماء حينئذ إلى هناك وحققوا منطقة الزلزال فوجدوا أنها لم تتجاوز أسبانية السفلى، وأنها وقفت في حذاء شارات مورنيا فكان الحاجز الذي صد الزلازل عن شمول أسبانية العليا هو شفير «الميزيتا»  meseta الأيبيرية. وهكذا رجعت من أمام هذا الحاجز إلى الوراء تصديقًا لقوله تعالى وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ.
ولا تشتد الزلازل في أشبيلية وقرطبة شدتها في هذا الساحل من جبل طارق إلى برشلونة، بل إلى شارات الثلج أو الجبال التي يقول لها العرب جبال شلير Solair بالرغم من غلظ أعناقها وثبوت أركانها، ليست بمنجاة تمامًا من تأثير هذه الهزات الأرضية، يظهر لك ذلك من أودية غرناطة ووادي آش ولورقة والوادي المسمى شانغورينة عند مرسية. وتستمر آثار عمل الزلازل إلى بلنسية فبرشلونة. فجيرونده من كتلونية.

وكثيرًا ما تتجاور الشقوة مع السعادة ويسكن الخير مع الشر في بيت واحد، فإن هذه المنطقة هي مع زلازلها أخصب بقاع أسبانية، ناهيك بمرج غرناطة وبساتين مالقة وجنان مرسية ولورقة وغيضة نخيل ألش وحقول القنت، وأخيرًا غوطة بلنسية التي تضارع غوطة دمشق. وبالاختصار هذا الخط البديع الذي فوقه الماء وتحته النار والذي هو بين الشمس والأمطار قد بسقت فيه عظام الأشجار وتهدلت فوقها أصناف الثمار، وهو لجيد الجزيرة الأيبيرية كالعقد لجيد الحسناء بلا إنكار.

(١) اسم الجزيرة الأيبيرية

توخينا أن نطلق على أسبانية والبرتغال اسم «الجزيرة الأيبيرية» لا لأنها فعلًا جزيرة؛ قد جزر البحر عنها من الجهات الأربع، بل فرارًا من تكرار جملة «شبه الجزيرة الأيبيرية» ولقد كان العرب يسمون هذه البلاد بالجزيرة الأندلسية مع معرفتهم أيضًا بأنها شبه جزيرة وأنها متصلة بالأرض الكبيرة من ناحية جبال «البرتات» أو البرانس. وقد قالوا كذلك «جزيرة العرب» مع أنها محاطة بالبحر من جهات ثلاث لا غير مثل جزيرة الأندلس. هذا ولو ارتفع البحر المتوسط قليلًا من جهة «أربونة» Narbone لغمر تلك البسائط إلى خليج «برديل» Bordeaux وصارت أسبانية والبرتغال جزيرة حقيقية.
أما هذه النسبة وهي الأيبيرية فهي نسبة إلى أمة قديمة يقال لها «الأيبير» Ibere كانت أقدم أمة عمرت تلك البلاد، ولم يعرف قبلها هناك أمة أخرى. وجميع الذين أوطنوا هذه الجزيرة إنما جاءوا بعد أمة الأيبير هذه.

(٢) اسم الجزيرة الأندلسية

أما الجزيرة الأندلسية التي كان العرب يسمون بها هذه البلاد فهي منسوبة إلى «الأندلس» وقد كثر الكلام في أصل هذه اللفظة، ولكن أرجح الأقوال أنها مشتقة من اسم «الفاندالس» وهم جيل من الناس كانوا يسكنون بين نهر «الأودر» Oder ونهر «الفيستول» Vistule في شرقي ألمانية. ويقال إنهم من أصل جرماني، ويقال إن بعضهم من أصل سلافي أو صقلبي كما تقول العرب. وهؤلاء الفاندالس زحفوا من الشمال إلى الجنوب حتى بلغوا بوغاز جبل طارق، وذلك سنة ٤١١ قبل المسيح. ومن هناك أجازوا إلى إفريقية. فلما عرفهم أهل إفريقية أطلقوا اسمهم على البلاد التي جاءوا منها وسموا هذه البلاد بالأندلس. وقالوا أن عبورهم إلى المغرب كان من جهة «طريف» Tarifa وقالوا بل من الجزيرة الخضراء.
وجاء في الإنسيكلوبيديا الإسلامية في الجزء الأول صفحة ٣٥٤ بقلم سيبولد Scybold أن الفاندالس لم يقيموا في جنوبي أسبانية إلا ثماني عشرة سنة لا غير، وأن بلاد جنوبي أسبانية كما يقال لها إلى ذلك الوقت «باتيكه» Betique فصار يقال لها «فانداليسيا» ومنها جاءت لفظة الأندلس، ولما جاء العرب وفتحوا أسبانية أطلقوا عليها هذا الاسم وصاروا يقولون أندلس، لا للبقعة الجنوبية المقابلة للمغرب فحسب، بل لجميع الجزيرة الأيبيرية ولجميع ما فتحوه من البلدان بعد أن عبروا بوغاز جبل طارق. فالأندلس عند العرب هي من بحر الزقاق أو بوغاز جبل طارق إلى جبال البرانس. وربما أطلقوا لفظة الأندلس على ما وراء البرانس من أرض الأفرنجة فأما الأسبان أنفسهم فكانوا لا يعرفون هذا الاسم قبل العرب وكانوا يسمون البقاع الجنوبية من الجزيرة الأيبيرية بأسبانية القديمة، كما كانوا يسمون شمالي أسبانية بأسمائها المختلفة مثل أستورية التي كان العرب يقولون لها أشتورية أو أشتورياس ومثل ليون وقشتالة وأراغون إلخ. ولكن بعد أن غلب العرب على تلك الأقطار واشتهر اسم الأندلس عند الأسبانيول أنفسهم صاروا يطلقونه على جنوبي أسبانية، لا سيما بعد أن بدأ العرب يتراجعون إلى الجنوب، إلى أن انحصر هذا الاسم في مملكة غرناطة الصغيرة. انتهى كلام الأنسيكلوبيدية الإسلامية ملخصًا وقد نقل ذلك عنها المستشرق ليفي أو لاوي بروفنسال E.Levi-Provençal في كتابه (أسبانية المسلمة في القرن العاشر٨ المطبوع في باريز سنة ١٩٣٢).

قلنا أن هذا الاسم لا يزال يطلق إلى الآن على ولايات أسبانية الجنوبية، مثل قرطبة وأشبيلية وغرناطة ورندة ومالقة وما جاورها. ولننظر الآن إلى ما قاله مؤرخو العرب في أصل اشتقاق لفظة الأندلس:

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:

الأندلس يقال بضم الدال وفتحها وضم الدال ليس إلا، وهي كلمة عجمية لم يستعملها العرب في القديم وإنما عرفتها العرب في الإسلام وقد جرى على الألسن أن تلزم الألف واللام. وقد استعمل حذفها في شعر ينسب إلى بعض العرب فقال عند ذلك:

سألت القوم عن أنس فقالوا
بأندلس وأندلس بعيد

ثم أخذ ياقوت يبحث في بناء اللفظة ومكانها من الأوزان العربية وكيف أنه لا يوجد لها وزن في هذه اللغة، بحثًا ليس له طائل، لأن هذه لفظة أندلس هي أعجمية من أصلها كما قال هو فلا حاجة لعرضها على وزن عربي. ولم يقل ياقوت مصدر هذه اللفظة كما ذكر غيره، ولكن نقل المقري في نفح الطيب عن ابن سعيد أنها إنما سميت بالأندلس لأن هذا الاسم هو اسم ابن طوبال بن يافث بن نوح الذي نزلها كما أن أخاه سبت بن يافث نزل العدوة المقابلة لها وإليها تنسب مدينة سبتة (؟) قال: وقال ابن غالب: إنه أندلس بن يافث والله تعالى أعلم.

وقال القلقشندي في صبح الأعشى الجزء الخامس: وقد اختلف في سبب تسمية الأندلس بهذا الاسم، فقيل ملكته أمة بعد الطوفان يقال لها الأندلش بالشين المعجمة فسمي بهم، ثم عرب بالسين المهملة. وقيل خرج من رومة ثلاثة طوالع في زمن الروم يقال لأحدهم القندلش بالقاف في أوله وبالشين المعجمة في آخره، فنزل القندلش هذه الأرض فعرفت به ثم عربت بإبدال القاف همزة والشين المعجمة سينًا مهملة. ويقال أن اسمها في القديم «آفارية»٩ ثم سميت «باطقه» ثم أشبانية١٠ ثم الأندلس باسم الأمة المذكورة. قال في تقويم البلدان: وسميت جزيرة لإحاطة البحر بها من الشرق والغرب والجنوب وإن كان جانبه الشمالي متصلًا بالبر.

(٣) ما قاله دوزي عن اشتقاق اسم الأندلس

لم يأت دوزي في هذه المسألة بشيء جديد، ففي كتابه المسمى «بمباحث عن تاريخ أسبانية وآدابها في القرون الوسطى» المحرر بالأفرنسية، يقول: إن هذا الاسم كان يطلق على مقاطعة بتيكه وقد جعله العرب عامًا لجميع أسبانية، فترجح أن لفظة أندلس مشتقة من الفندالس الذين قبل أن أجازوا إلى أفريقية احتلوا جنوبي أسبانية. وهذا الرأي في هذا الاشتقاق هو قديم، لأنه قد رواه الرازي ورد عليه بأن مقام الفندالس في جنوب أسبانية كان قصيرًا جدًا، ولكن الذي لا شك فيه هو أن أول من أطلق لفظ أندلس على مقاطعة بتيكة وعلى أسبانية كلها هم المسلمون، فإن مؤرخي شمالي أسبانية لا يعرفون هذا الاسم بل يسمون بأسبانية Spania جميع البلاد التي كانت في حوزة العرب. فأما مؤلفو العرب فيسمون البلاد بالأندلس ويذكرون وجه التسمية. وفي «أخبار مجموعة» يقول إن أندلس كان اسم الجزيرة التي نزل بها طريف، ويقال لها جزيرة طريف من ذلك الوقت، وقال المؤرخ عريب: أن طريفًا نزل قبالة طنجة في الأندلس التي يقال لها اليوم جزيرة طريف. إذًا أصل الاسم كان لذلك المحل لا للبلاد كلها، وقد ذكر غريغوار التوري Grégore de tours ما يدل على أن اسم المكان الذي نزل فيه طريف كان طرادوكته Traducta وهو المكان الذي أجاز منه الفاندالس إلى أفريقية فلما جاء البربر ونزلوا في هذا المكان سموا بأندلس كل البلاد وجاء طارق من بعده فكان هذا الاسم أصبح مستعملًا.

(٤) تخطيط الجزيرة الأندلسية

قال سيبولد في الإنسيكلوبيدية الإسلامية: إن العرب لم يكونوا ليتخلصوا من المصور الجغرافي المعكوس المنحرف الذي وضعه بطليوس من قديم الزمان، فكانوا يصورون أسبانية بشكل مثلث غير منتظم، أطرافه هي: من الجنوب طريف ورأس مراكش، ومن الشمال الشرقي رأس كريوس Créus ومرسى فاندر Fort-Vendres وفي الشمال الغربي بلاد فينستير Finistére وكذلك كانوا يصورون جميع الشواطئ الممتدة من طريف إلى كريوس أو بالأقل إلى طركونة وبرشلونة كأنها ثغور جنوبية كما تعلم ذلك من كتاب المراكشي. فأما جبال البرانس فهي في تصورهم ثغور شرقية للأندلس! ثم إنهم فيما بعد فهموا أن شرق الأندلس إنما هو سواحل بلنسية ومرسية وفهموا أن الحد الغربي هو الأقيانوس الأطلانتيكي الذي كانوا يقولون له بحر الظلمات أو البحر المظلم أو البحر المحيط الأعظم أو الأقيانوس أو القاموس أو البحر الغربي في مقابلة الشرقي الذي كانوا يقولون له البحر الرومي أو البحر الشامي أو المتوسط. وكان الحد الغربي للأندلس عندهم ممتدًا من طريف إلى رأس «سان فنسان» Cap Saint-Vincent أو رأس «روكه» Roca عند أشبونة Sisbonne ومن هناك يصير عندهم الحد الشمالي الذي يمتد وراء غاليسية Galice إلى جبال البرانس في بلاد «فونترابية» Fontarabie. وكانوا يقولون لجبال البرانس جبل البرتات أو الجبل الحاجز أو الفاصل، ويسمون جبال قشتالة بجبل الشارات وجبال نيفاده Nèvada بجبل الثلج أو جبل شلير Chulair (وأصل هذه اللفظة هو سولوريوس Solorius).
ولهذا جميع الأطالس الجغرافية المتعلقة بأسبانية العربية المنشورة إلى اليوم هي غير صحيحة، سواء أطالس «سبرونر» و«منكه» Spruner et menka المطبوعة سنة ١٨٨٠ وأطالس دوريزين Draysen المطبوعة سنة ١٨٩٤ في كتاب أوغست مولر المسمى «بالإسلام في الشرق والغرب» أو أطالس ستانلي لانبول Sane-poole في كتابه «العرب في أسبانية» وكلها قد تناقلت الأغلاط الجغرافية من أيام «كازيري» و«كوندي» و«سوزة» «جوبرت» «غاينغوس» و«هامر» «وملرن» وغيرهم حتى أن دوزي Dozy نفسه برغم مجهوداته الكثيرة لم يترك أثرًا يذكر في تصحيح جغرافية أسبانية، وهو في ترجمته لكتاب الإدريسي عن الأندلس والمغرب وتعليقه عليه لم يأت أيضًا بشيء من تصحيح الأغلاط التي وردت في نفس الأصل١١ نعم أنه في تضاعيف كتبه عن الأندلس حقق بعض أماكن لا سيما في مبحثه المسمى «بملاحظات جغرافية عن بعض مقاطعات الأندلس القديمة» ذلك في كتابه المسمى «بالتنقيبات عن تاريخ أسبانية وآدابها». Rechereches sur l’histoire et la Litterature de l’Espagne.
ولم تتقدم جغرافية أسبانية العلمية في كتابات «سافيدرا» Soavedra ولا «سيمونه» Simoner ولا «أغيلاز» Egilaz ولا «قديره» Codera ولا «باسه» Basser.
وقد كان يجب جمع جميع ما تقدم من المعلومات المتعلقة بهذا الموضوع، ونخلها نخلًا دقيقًا، مع طرح جميع المجازفات والأخطاء التي تراكمت من أيام كزيري Caisri وكوندي Conde إلى أيام هامر Hamner وميرن Mehren فكما أن دوزي الكبير عندما كتب التاريخ المسمى بتاريخ مسلمي أسبانية ترك جميع ما تقدم عنها من الكتابات، وعدها لغوًا، ورجع إلى المنابع العربية نفسها؛ كذلك يجب العمل نفسه في جغرافية هذه البلاد. وهذا العمل يحتاج إلى مراجعة الكتب اللاتينية والأسبانية والعربية نفسها. وذلك أنه وإن كان التعصب الأعمى، بعد سقوط مملكة غرناطة، قد أخنى على كنوز أدبية هي فوق كل تقدير، ومحا كتبًا ذهبت وأصبح لا يمكن إحياؤها، فإنه لا بد أن يكون في الشرق وفي شمالي أفريقية كتب عربية متعلقة بالأندلس يمكن الاستفادة — جد الاستفادة منها — بل يجب جمع التآليف الجغرافية والتاريخية التي كتبها العرب، من زمن ابن خورداذبه، إلى اليعقوبي، إلى المسعودي، إلى ياقوت، إلى المقري الذي أخذ عن مائة مصنف، هذا مع مراجعة كتب التراجم التي فيها نسبة العلماء الأندلسيين إلى بلدانهم مما تؤخذ منه معلومات جغرافية كثيرة أيضًا، ومما يدل على انتشار العلم في أسبانية العربية بصورة مدهشة. ومما لا شك فيه أنه قبل كل شيء تلزم مراجعة المكتبة العربية الأسبانية Beblioteca Arabico-Hispana لقديرة١٢ التي هي عشرة مجلدات وفيها تراجم علماء الأندلس، وإن كان مع الأسف فيها تحريف أسماء كثيرة من أسماء البلاد التي ينسب إليها أولئك العلماء. انتهى ملخصًا.

وقال لاوي بروفنسال في كتابه «أسبانية الإسلامية في القرن العاشر»: إن جغرافيات العرب لم ترد فيها تفاصيل كافية شافية عن الأندلس، ونحن مضطرون أن نقتنع بالموجود بين أيدينا منها، مثل كتاب الهمذاني الذي كتب في حوالي سنة ٩١٠ مسيحية، وكتاب الأصطخري الذي تاريخه ٩٢١ مسيحية، أي أوائل عهد عبد الرحمن الناصر، وابن حوقل الذي أكمل جغرافيته سنة ٩٧٦ والمقدسي الذي كتب كتابه في أحسن التقاسيم. بعد ابن حوقل، فالأصطخري ذكر أن أهم مدن الأندلس في أيامه كانت شنترين، وجبل طارق، وطليطلة، ووادي الحجارة، ورية، وفحص البلوط، وقورية، وماردة. وقال: إن أهم الثغور لذلك العهد كانت ماردة ونقزة ووادي الحجارة وطليطلة. وأما المقدسي فأحصى ثماني عشرة كورة للأندلس (سيأتي كلام المقدسي بحروفه نقلًا عن الأصل).

أما محمد بن أحمد الرازي الأندلسي فله تاريخ وجغرافية للأندلس، لا يوجد لهما سوى ترجمة باللغة الأسبانية القشتالية، عن ترجمة برتغالية، عن الأصل العربي الذي كتب في أوائل القرن الرابع عشر، وقد أمر بهذه الترجمة إلى البرتغالية دنيس ملك البرتغال. وكتاب الرازي هذا كان عمدة ياقوت الحموي عن الأندلس. وبحسب كلام الرازي كانت الأندلس إحدى وأربعين كورة: قرطبة، وقبرة، والبيرة، وجيان، وتدمير، وبلنسية، وطرطوشة، وطراكونة، ولاردة، وبرباطانية، ووشقة، وتطيلة، وسرقسطة، وباروشة، ومدينة سالم، وشنتبرية، وراقوبيل، وزوربته، ووادي الحجارة، وطليطلة، وأوبيط، وفحص البلوط، وفريش، وماردة، وبطليوس، وبيجه، وأقشنوبه، وشنترين، وقويمره، وأكشيتانية، ولشبونة، وأشبيلية، وقرمونة، ومورون، وشذونة، والجزيرة، ورية، وأسجه، وناكرونه. وأما الإدريسي الذي كتب جغرافيته في القرن الثاني عشر فالأندلس عنده ستة وعشرون إقليمًا — وهو تقسيم جغرافي ليس بسياسي ولا إداري — وهذه الأقاليم هي: البحيرة، وشذونة، وجرف، وقنبانية، وأشونه، ورية، والبشرات، وبجانه، والبيرة، وقريرة، وتدمير، وقونسه، وأرجيرة، ومربيطر، والقواطم، والفلجه، والبلالطة، والفخر، وقصر أبي دنيس، والبلاط، وبلاطة، والشارات، وأرنيده، والزيتون، والبرتات، ومرمرية. قال: وقد رأينا أن الشاميين نزلوا في البيرة، وأن أهل الأردن نزلوا مالقة، وأن أهل فلسطين نزلوا في شذونة، وأن أهل حمص نزلوا في أشبيلية، وأن أهل قنسرين سكونوا جيَّان، وأن أهل مصر كانوا في بيجة ومرسية، فكانت هذه المدن في زمن الخلافة الأموية أمصارًا. وأما سائر الكور فتشكلت فيما بعد، مثل كور الجنوب العربي، وهي: مورون، ولبلة، وماردة، وشنترين، وناكرونه، ورية، وبجانه، أي رندة، ومالقة، وأطرية. وسنة ٣٥٠ عندما تولى الحكم المستنصر كانت الثغور خطًا منحنيًا مارًا بالقسم الشمالي من الأندلس من شرقيه إلى الغرب، يبتدئ من جنوبي برشلونة ويمتد شمالًا بغرب، وذلك من عند بربشتر ووشقة، ثم يتصل بوادي إبره شمالي تطيلة، ثم يصعد من هذا الوادي إلى هارو، ثم يعود فينحني صوب الجنوب تابعًا مجرى الوادي الجوفي أي دويره، إلى المحيط الأطلانتيكي بعد أن يمر بالمدن التالية: أشمه، وسيمنكاس، ورموره، ولاميغو، وبورته. وأما المسعودي فيقول في مروج الذهب الذي تاريخه سنة ٣٢٧ للهجرة: إن الثغر الشمالي يمتد من طرطوشة إلى أفراغة إلى لاردة.

انتهى وسيأتي كلام المسعودي بحروفه.

(٥) عدد سكان أسبانية

لاشك أن العصر الذي بلغت فيه أسبانية ذروة نموها هو العصر الروماني، فقد قيل أنه كان فيها أيام الرومان من ثلاثين إلى أربعين مليون نسمة. ولكن لم يوجد وثائق تاريخية تؤيد بلوغ أهالي الجزيرة الأيبيرية هذا العدد. ثم أنها كانت في نمو عظيم أيام العرب، يستدل على ذلك بكثرة مدنها الحافلة لعهد العرب، فقد كان فيها نحو من أربعين مدينة عربية، ومنها قرطبة التي أحزر عدد سكانها بنحو من مليوني نسمة، كما سيأتي الكلام في هذا المبحث. إلا أنه مع الأسف لا يوجد عندنا وثائق يعرف منها بالضبط عدد المسلمين الذين كانوا في أسبانية لعهد الناصر مثلًا ولا عدد مجموع السكان من مسلمين ومسيحيين في ذلك العصر.

ومن باب الحزر والتخمين أقول إنه يمكن أن يكون عدد مسلمي الأندلس لعهد الناصر والمستنصر أقل من خمسة عشر مليونًا. ولما أجلى الأسبانيول المسلمين واليهود هبط عدد سكان أسبانيا، لهذا السبب ولسبب آخر هو كشف أميركة التي هاجروا إليها، هبوطًا عظيمًا. ففي سنة ١٥٩٤ كان عدد سكان أسبانية نيفًا وثمانية ملايين، ومضى على ذلك قرنان ولم يزدد عدد الأهالي أكثر من مليون واحد، ففي سنة ١٧٦٨ كان في أسبانية تسعة ملايين ومائة وستون ألفًا من السكان، ثم ازداد هذا العدد في زمن آل بربون إلى عشرة ملايين، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر. وسنة ١٨٣٢ كانوا أحد عشر مليونًا، وسنة ١٨٤٩ كانوا ١٤ مليونًا، وفي أوائل هذا القرن العشرين صاروا ٢١ مليونًا، والآن هم ٢٢ مليونًا و٣٣٨ ألفًا.

ومعدل كثافة السكان بالنسبة إلى مساحة الأرض هو ٤٠ نسمة في الكيلومتر الواحد، هذا بالتعديل المتوسط. وأسباب عدم تزايد السكان كما في الممالك الأخرى، لا تنحصر في المهاجرة، بل هناك أسباب أخرى، مثل عدم التناسب في توزيع الأراضي، ومثل فدح الضرائب، ومثل التعامل بالربا، ومن جملة هذه الأسباب ندور الحراج والغابات، فالناس يرحلون إلى أميركة من الفقر ولا سيما من بلاد البشكونس ولاردة ووشقة وجيرونة. وأكثر الذين يرحلون من الجنوب هم أهالي المرية والقنت، ففي السنة يرحل زهاء مائتي ألف، وهم يرحلون إلى المكسيك والأرجنتين وسائر أمريكا. ومنهم من يرحل إلى المغرب وإلى الجزائر. وفي عمالة وهران ١٧٥ ألف أسبانيولي.

هوامش

(١) وقد يقول لها العرب جبال البرتات.
(٢) يذهب كثير من المؤرخين إلى أن الأيبيريين الذين هم سكان أسبانية الأولون هم والبربر من أصل واحد. ويستدلون على ذلك بالتشابه بين عادات الفريقين. من ذلك ما رواه سترابون من أن المرأة كان لها المقام الأول عندهم إلى زمن الرومانيين وهذه العادة معروفة الآن عند الطوارق في صحراء إفريقية. ثم إن السلتين جاءوا من أوروبا الوسطى فاختلطوا بالأيبيريين، كما أن قرطاجنة أرسلت إلى أسبانية مهاجرين كثيرين من إفريقية، وقبل قرطاجنة كان الفينيقيون قد عمروها. فأنت ترى أن أسبانية ملتقى للعناصر الشرقية والغربية، فمنها العناصر الغربية التي تأتيها من شمالي البرانس ومنها العناصر الشرقية التي تأتيها من جنوبي بحر الزقاق.
ثم إنه طرأ على أسبانية جاليات يونانية نزلت في أقسامها الشرقية، وتلاها جاليات رومانية غلبت على جميعها، وفي أثناء ذلك دخلها العنصر السامي أيضًا بمجيء عدد كبير من اليهود.
وبعد أن تلاقى فيها الأيبيريون والسليتون واللاتينيون واليونانيون من السلائل الأوربية، والقرطاجنيون والفينيقيون واليهود من السلائل الآسيوية، طرأت على أسبانية أمم جرمانية مثل السويف، والألانيين والفندالس والقوط الذين ملكوها وكانوا الطبقة السائدة فيها عندما فتحها العرب.
ولما جاء العرب دخلها ملايين منهم ومن البربر، فاختلطت آسيا وأفريقية بأوروبا اختلاطًا شديدًا، وصار الغالب على أسبانية هو المدنية الشرقية، ولا عبرة بما جرى من إجلاء العرب والبربر فيما بعد، فإن هؤلاء قد بقي منهم في الجزيرة عدد كبير اندمجوا في الأهالي في جميع المقاطعات ودانوا بالنصرانية ولا يوجد في أسبانية مكان يخلو منهم حتى أن القشتاليين الذين هم أقل أهل أسبانية اختلاطًا بالعناصر الشرقية والذين يمثلون السلالة الأيبيرية القديمة لا يخلون من عنصر دخيل من العرب والبربر.
وعلى وجه الإجمال السلالة الآرية هي الغالبة على القسم الشمالي الغربي من أسبانية ولذلك أجسامهم أقوى وعضلاتهم أصلب. ومنهم القشتاليون الذين يعدون أنفسهم محرري البلاد، ففي أنوفهم نعرة شديدة. ومثل القشتاليين في حمية الأنوف أهل أراغون وأهل مقاطعة مرسية. أما الكتكلونيون فهم أهل صناعة وعمل، ولا يفترقون كثيرًا عن أهل اللفدوق في جنوبي فرنسا لأنهم جيرانهم. وأما سكان الأندلس أي المقاطعات الجنوبية فيغلب على أهلها الذكاء والجمال والسرور وحب الترف، وذلك لأنهم من بقايا العرب وممن كان اندمج في العرب.ا.ﻫ. تلخيصًا عن جوسه صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال.
(٣) Nevada معناها بالأسبانيولي المثلجة فالأسبانيون يعنون بقولهم Sierra Nevada سلسلة جبال الثلج وأما العرب فكانوا يسمون سلسلة هذه الجبال شلير الثلج وكانوا يطلقون على مجموعها اسم الشارات أو الشرارا وهي تعريب للفظة Sierra مع الجمع.
(٤) Navarre.
(٥) الغالب على مؤلفي العرب أنهم كانوا يسمون هذه الجبال في شمالي أسبانية بجبال استورياس Asturias أو جبال جليقيه. وأما قنطبرية الأصلية فهي تمتد إلى الشمال الغربي حتى تلتقي بالبرانس. والطرف الشمالي الممتد من بلدة الفارو Le Ferrol إلى بيونة Bayonne على الساحل يقال له جبال «شبية».
(٦) يسميه العرب «بالوادي الجوفي».
(٧) في أسبانية نهران بهذا الاسم أحدهما يسير في شلير الثلج Nevada ويمر ببلدة وادي آش Guadis في الجنوب والثاني الذي نذكره الآن يمر ببلاد البرتغال ويتصبب في البحر المحيط.
(٨) L’espagne musulmane au xéme siécle.
(٩) لا نعرف ماذا أراد القلقشندي بهذه اللفظة «آفاريه» وإن لم تكن محرفة أو مصحفة فيكون الأشبه بها أن تكون «آفاريه» والحال أن بلاد الآفاريين هي في شمال القوقاس. ثم إن الشعب الآفاري هو من أصل تركي زحف من الشرق إلى الغرب في القرون الوسطى لكنه لم يتجاوز بوهيميا غربًا ووقع بين السلاف من جهة والفرنج من جهة أخرى ثم اندمج في الشعوب الأخرى لا سيما في المجر.
(١٠) الأيبيريون السليون هم أقدم أمة في غربي أوروبا انتجعت شبه الجزيرة الأيبيرية أي أسبانية والبرتغال الحاضرتين وقسمًا من بلاد الغال أي جنوبي فرنسا وبعض شمالي إيطالية. وقيل لأسبانية الحالية «أيبرية» نسبة إليهم ثم تحولت هذه اللفظة إلى «هيسبرية» بقلب الألف هاء Hesperie وهو اسم كان اليونانيون يسمون به شبه جزيرة إيطالية كما كان الرومانيون يسمون به شبه جزيرة إيبرية وبعد ذلك تحولت «هيسبرية» إلى «هيسبانية» Hispanie ومنها صارت «إسبانية» Espagne والعرب كانوا يعرفون هذا الاسم إلا أنهم كانوا يجعلون السين شينًا.
وهناك توجيه آخر لاسم أسبانية، وهو أن أشبيلية كانت في القدم مستعمرة أيبرية، وكان يقال لها «هيسباليس» Hispalis ولم تلبث أن صارت عاصمة «باتيكا» أي أسبانية الجنوبية، فلا عجب أن اشتق اسم أسبانية من هيسباليس لأن اللام والنون كثيرًا ما يحصل التبادل بينهما ولا تنس أن أصل البلاد التي يقال لها إسبانية هو الجنوب من إسبانية الحالية وأن اسم أسبانية لم يشمل شمالي الجزيرة الأيبرية إلا حديثًا فلا يبعد أن يكون اسم أشبيلية القديم شمل البلاد التابعة لها، وكثيرًا ما تسمت المملكة باسم العاصمة.
وهذا التوجيه هو الذي ظهر لمحرر هذه السطور ولم أجده في كتاب وقد كاشفت الأستاذ المدقق السيد محمد علال الفاسي من آل الجد وهو من ثقوب الذهن وأصالة الرأي وسعة الاطلاع بالمكان الذي يعرفه له كل من عرفه فأجابني بما يلي: إن المحدثين تكلموا عن مصدر اشتقاق هذا الاسم «أسبانية» فذهب بعضهم إلى أنه مأخوذ من لفظة «شافان» السامية ومعناها الأرنب وهو الحيوان المعروف قيل لأن الفينيقيين وجدوه بكثرة هناك. ويظن الآخرون أنها سميت «أسبانية» من لفظة «أزبانيا» وهي لفظة باسكية معناها «شاطئ» ونفسي تطمئن لهذا التعليل لأنه منطبق تمامًا على حال الجزيرة وليس فيه ثغر كبير. أما كونها سميت أسبانية باسم أشبيلية التي كانت تدعى «هيسباليس» فغير متعين لأني أظن أن هذه اللفظة كانت من قبل، أي بعد سقوط مملكة القرطاجنيين، علمًا على شبه الجزيرة كلها وأن أشبيلية كانت معروفة عند الفينقيين باسم «سيفيلا» والرومان هم الذين أبقوا اسم المملكة على خصوص هذه المدينة اﻫ فرأي السيد علال هو إذًا اشتقاقها من أزبانيا بمعنى شاطئ والله أعلم.
(١١) علق دوزي بعض ملاحظات على الإدريسي، إلا أن جل همه كان تحقيق الأعلام التي ذكرها الإدريسي وذكر ما يقال لها بالأسبانيولية، وقد رمى فقرطس في جميع ما قاله إلا في مواضع معدودة توقف فيها أو كان في قوله نظر. وعلى كل حال فترجمته لكتاب الإدريسي هي أحسن ترجمة، وكفاها حسنًا تصحيحه للأغلاط الفظيعة التي وقعت في ترجمة «جوبر» Joubert وذهبت بالمعاني إلى أبعد ما يصل إليه التصور. ومن أمثلة هذه الأغلاط أن الإدريسي ذكر الروس فقال: إنهم يحلقون لحاهم ومنهم من يجمعها ويضفرها كأعراف الدواب. فوقع تصحيف في «أعراف» جعلها «أعراب» فترجم جوبر ذلك بما يلي:
La rénniment et la tressent à la maniére des Arabes de Douab. أي يجمعونها ويضفرونها على نسق أعراب بلاد دواب!
وجاء في كلام الإدريسي عن أحد الظالمين أنه «مسخ» وهو فعل مبني للمجهول فلم يفهم جوبر لفظة «مسخ» وظنها اسم علم وترجمها هكذا On dit que cest masth بدلًا من أن يقول il fut métamorphosé ووقع جوبر في أغلاط كثيرة من هذا النمط، أتينا بأمثلة منها استدلالًا على خبط بعض المستشرقين، ولكن بعض هؤلاء تعقبوا جوبر هذا في ترجمته السقيمة هذه، ومن هؤلاء «كاترمار» Quatremére ومنهم دوزي. إلا أن كاترمار وإن أصاب في أكثر ما تعقب به جوبر فقد أخطأ في بعضه مثل أن أكثر خشب مسجد قرطبة هو من الصنوبر الطرطوشي، فذهب كاترمار إلى أن الطرطوشي هنا لا محل له وأنه قد يكون محرفًا عن لفظة «مرصوص» والحال أنه هو الصنوبر الطرطوشي المنسوب إلى طرطوشة Tortose الموصوفة بجودة الصنوبر والتي فيها دار صنعة للسفن بسبب متانة خشبة صنوبرها.
وقد كانت ترجمة دوزي «لنزهة المشتاق في اختراق الآفق» عن نسخة مخطوطة في مكتبة باريز، وأخرى في مكتبة أكسفورد، وفي كلتيهما أغلاط نسخ تحير دوزي وغير دوزي في ردها إلى الأصل. وأما على وجه الإجمال فقد كان اجتهاد دوزي برغم بعض آراء تعسف فيها مما أزاح الستار عن أكثر حقائق العلم بالأندلس سواء من جهة تاريخها أم من جهة جغرافيتها، وذلك في نظر الأوربيين الذين لم يكونوا يعلمون عنها من قبله إلا معلومات ناقصة وأخبارًا مشوهة ولم تكن لهم عنها إلا آراء مشوبة بأهواء رجال الكنيسة.
(١٢) Franciscus codera هو مستشرق أسباني يقال إنه من سلالة عربية واسمه قديرة دليل على ذلك. وقد علمنا من الأستاذ القسيس آسين بالاسيوس Acin Palacius المستشرق الأسبانيولي المعاصر الذي أثبت أن دانتي في المهزلة الإلهية سرق رسالة الغفران للمعري أن قديره هو أستاذه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤