توطئة

إن كتابة هذا الجزء من تاريخ الأمة العربية كانت أشد أجزائه صعوبة؛ لا لقلة المواد الأولية، ولا لتعقُّد موضوعاته وحسب، بل لأنها تتصل بحاضرنا الذي نعيش فيه، وما يزال بعض الذين قاموا بأدواره أو سطَّروا بعض وقائعه وأخباره أحياء بيننا. وما أحب أن أزجَّ بنفسي في خضم المناقشات والمباحث الجدلية؛ ولذلك اعتزمت على أن أبتعد ما أستطيع عن مواطن النقاش والجدل والأمور المختلف فيها، والمباحث التي كثر الرد والاختلاف بسببها. ولست في هذا الجزء مؤرخًا، ولكني سارِدٌ ومعلِّقٌ، وموضح؛ لأن التاريخ النهائي لهذه الحقبة لم تتوفر بعدُ مواده، ولم تنضج النضج الكافي. وما أعمله في الحقيقة ليس إلَّا محاولة من المحاولات العديدة المفيدة التي قام بها بعض المؤرخين والكتَّاب المعاصرين.

وكل ما أرجوه في عملي هذا، هو أن أضع أمام الكتَّاب والمؤرخين الذين سيحاولون بعدي أن يَلِجوا هذا الخضم، بعضَ المواد الأولية المدروسة المهيأة، يستعينون بها على أداء رسالتهم القومية، أو يقدمونها إلى المؤرخين الأجانب الذين يريدون درس تاريخنا دراسة صادقة مخلصة، نقية من التعصب والغرض.

لقد قلتُ في توطئة الجزء الخاص بتاريخ «عصر الانحدار»: «إن في النهضة العربية التي نراها اليوم بين صفوف الشعوب العربية من مراكش إلى العراق، لَبِشارة طيبة تؤكد أن الله سبحانه قد آذن لهذه الأمة الكريمة أن تستعيد مجدها.» وفي هذا الجزء يجد القارئ العزيز بذور تلك النهضة، وأسبابها، ودوافعها، وبواكيرها، منذ فجر القرن الثالث عشر الهجريِّ، حتى العصر الأخير الذي تكونت فيه الدول العربية في مراكش وتونس والجزائر، وليبيا ومصر والسودان، والعربية السعودية وسورية ولبنان والأردن، والعراق والكويت.

ولن أتعرَّض في هذا الجزء إلى أوضاع هذه الدول وأحوالها، ولا إلى جامعة الدول العربية وتاريخها وأعمالها؛ فإن الوقت لم يحن لذلك بعد، وأرجو أن يتاح لي بعد فترة من الزمن دراسة أحوال البلاد العربية منذ حركة الحسين بن علي ملك الجزيرة العربية إلى الوقت الحاضر، دراسة مفصلة مستوعبة، والله المسئول أن يعين على إتمام هذا العمل القوميِّ، ويوفق إلى أداء الرسالة الوطنية التي هدفنا إليها طَوال حياتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤