الفصل الثالث

حركة محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية في الجزيرة العربية

أراد محمد علي وابنه إبراهيم أن يسيطرا على البلاد العربية؛ تمهيدًا لإقامة إمبراطورية عربية واسعة، وكان الابن أكثر تفهمًا لهذه الحركة من أبيه محمد علي؛ لأنه كان أكثر إدراكًا للوعي العربي العام؛ ولذلك حبت نفسه إلى الاستيلاء على الجزيرة العربية والقضاء على الحركة الوهابية التي قام بها أحد زعماء الإصلاح الديني في الجزيرة، وهو: محمد بن عبد الوهاب.

ومحمد بن عبد الوهاب بن سليمان هذا هو فقيه مصلِح من بني تمام، ولد سنة ١١١٥ﻫ/١٧٠٣م في «العيينة» من بلاد نجد، وكان ذكيًّا ألمعيًّا، درس مبادئ العلوم الدينية في بلده على شيوخه، ثم رحل إلى الحجاز وسكن المدينة المنورة، فقرأ على شيوخها، ثم انتقل إلى العراق وسكن البصرة فآذاه بعض أهلها، ورجع إلى نجد فسكن في «حريملة» فترة، ثم رجع إلى مسقط رأسه يبشر بدعوة الإصلاح الديني التي ارتآها، ويعمل على تطهير الدين، ويدعو إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ويحرِّض على قراءة كتب المجتهد أحمد بن تيمية. وقد آزره أول الأمر في دعوته هذه أمير «العيينة» عثمان بن حمد بن معمر، ثم خذله فقصد إلى «الدرعية» في سنة ١١٥٧ﻫ، فرحب به أميرها محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن فرحان بن إبراهيم الذهلي الشيباني، وآزره لِمَا كان بينه وبين أمير «عيينة» من التنافس. وفي الدرعية كثر مريدوه. ولما مات محمد بن سعود سنة ١١٧٩ﻫ/١٧٦٥م وخلفه ابنه عبد العزيز، قوي سلطان ابن عبد الوهاب؛ لحب الأمير إياه وإخلاصه في تقبل دعوة الإصلاح التي دعا إليها ابن عبد الوهاب، ولما مات عبد العزيز سنة ١٢١٨ﻫ/١٨٠٣م وخلفه ابنه سعود الثاني المعروف بالكبير؛ اتفق هو والشيخ على نشر الدعوة بالسيف، فاتسع نطاقها وعمَّت جميع شرق الجزيرة العربية واليمن والحجاز، إلى أن مات ابن عبد الوهاب سنة ١٢٠٦ﻫ/١٧٩٢م في الدرعية،١ فخلفه ابنه، وقويت الصلات بين آل عبد الوهاب وآل سعود طوال العصر، وما يزال أبناء عبد الوهاب حتى أيامنا هذه معروفين بآل الشيخ، ولهم لدى الملوك السعوديين أعظم المكانة.

ولما عظمت مكانة السعوديين الوهابيين السياسية وامتد سلطانهم ذلك الامتداد الواسع، خافت الدولة العثمانية منهم، وخصوصًا في أيام سعود الكبير، بعد استيلائهم على الأماكن المقدسة وزحفهم على النجف وبغداد ودمشق، فعهدت إلى أمير مصر محمد علي بمحاربتهم، وصادف ذلك هوًى من نفس محمد علي، فجيَّش جيشًا ضخمًا وبعث به، وعلى رأسه أحد أبنائه: طوسون، فزحف على المدينة المنوَّرة، ولكنَّ السعوديين تمكنوا من الفتك بالجيش، ولم ينجُ طوسون إلا بأعجوبة، فجمع قواته من جديد وزحف على المدينة فاستولى عليها في سنة ١٢٢٨ﻫ/١٨١٢م. ولكن السعوديين ظلوا يناوئونه حتى توفي أميرهم سعود في سنة ١٢٢٩ﻫ/١٨١٤م، فخلفه ابنه عبد الله، وكان مثل أبيه نجدةً وشجاعةً، وقد استمرت الحرب بينه وبين محمد علي فترةً طويلةً، حتى عهد محمد علي إلى ابنه إبراهيم، فهاجم بلاد القصيم وأخرج السعوديين منها، ثم اضطرهم إلى الاحتماء بعاصمتهم الدرعية، وما زال محاصرًا لها حتى استسلم له أميرها عبد الله في أيلول سنة ١٨١٨م، فساقه أسيرًا إلى الآستانة حيث قتله السلطان سنة ١٢٣٤ﻫ/١٨١٨م وهدم مدينة «الدرعية»، وأقام في نجد أميرًا من قِبَله، وأعاد بلاد الحجاز إلى الأشراف الذين كان السعوديون قد أقصوهم عنه، ثم حاول الاستيلاء على بلاد «عسير» فلم يتمكن، واستمرت حروبه في الجزيرة منذ سنة ١٨٢٥م إلى سنة ١٨٣٧م. ولما احتل الإنكليز بلاد عدن في سنة ١٨٣٩م رأى أن يتخلى عن مطامعه في جزيرة العرب، ويسلم المدينتين المقدستين «المدينة ومكة» إلى الباب العالي.

ولما ضعف سلطان محمد علي في الجزيرة، لمع نجم أحد أمراء السعوديين في نجد، وهو: تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود في الرياض، وكان تركي هذا رجلًا قويًّا ذا شكيمة، فاتخذ الرياض عاصمة له، وأعاد للسعوديين عزتهم ووطد احترام دولتهم، فلما قُتل سنة ١٢٤٩ﻫ/١٨٣٢م٢ خلفه ابنه فيصل، وكان فتًى حازمًا كثير المطامع مؤمنًا بقوميته ودينه، عاملًا على تطهير بلاده وسائر الجزيرة من الدخلاء والأجانب، فشمَّر عن ساعده وثار على قاتل أبيه مشاري بن عبد الرحمن فقتله، ثم انصرف إلى محاربة جنود محمد علي المصريين محاربة عنيفة، ولكنهم استطاعوا بمعونة ابن عمه خالد بن سعود أن يفلوا من حده ويأسروه، فجِيء به إلى مصر في سنة ١٢٥٥ﻫ/١٨٣٨م فأقام أسيرًا سجينًا إلى سنة ١٢٥٩ﻫ، ثم فرَّ من سجنه وعاد إلى نجد، ودانت له البلاد إلى أن توفي في الرياض سنة ١٢٨٢ﻫ/١٨٦٥م، فخلفه سعود بن فيصل بن تركي بعد أن تولاها أخوه عبد الله بن فيصل بن تركي فترة قصيرة وخُلع منها في سنة ١٢٨٧ﻫ. وفي أيام سعود تفرقت الديار النجدية إلى إمارات صغيرة، وضعف شأن السعوديين؛ فكان بلد الخرج تحت سيطرة ثنيان بن عبد الله بن ثنيان. وكانت بلاد الأحساء والقطيف وقطر والبحرين وعمان تحت سيطرة عبد الله بن عبد الله بن ثنيان، وكانت بلاد العارض تحت نفوذ سعود بن جلوي بن تركي، وبلاد الفرع وما إليها تحت سلطان فهد بن حنيتان بن ثنيان، ومدينة الرياض تحت نفوذ عبد الرحمن بن فيصل. وقد ظلت هذه الحالة إلى أن كانت سنة ١٢٩٢ﻫ/١٨٧٥م؛ ففيها مات سعود بن فيصل، وتمكَّن الأمير محمد بن الرشيد الشمري أمير حائل في شمالي نجد من الاستيلاء على أكثر ملك آل سعود. وفي سنة ١٣٠٥ﻫ تمكَّن من الاستيلاء على الرياض عاصمتهم، وامتد سلطانه على نجد كله فخضع له، وظلَّ على ذلك إلى أن مات سنة ١٣١٤ﻫ/١٨٩٦م.٣

ولا شك في أن الحركة الوهابية كانت بذرة من بذرات القومية العربية، وعاملًا من عوامل إيقاظ الوعي الوطني الديني الساعي إلى تطهير النفس العربية مما علق بها من أوضار الماضي وجهالات الاستعمار الأجنبيِّ الذي أفسد كلَّ شيء في دنيا العرب، وحاول أن يطمس نور الحقيقة والإيمان، ويقضي على الحيوية العربية، في البلاد العربية عامة وجزيرة العرب خاصة. ولكنَّ ظهور الدعوة الوهابية بما اشتملت عليه من تحريض على الجهاد، وتطهير للنفوس، وإذكاء للوعي بصفة عامة، قد أيقظ العرب من سباتهم، وأثار فيهم الوعي القوميَّ العربيَّ وإن لم تكن هذه الإثارة مقصودة بذاتها.

١  راجع: «أعلام خير الدين الزركلي»، ص٩٣٩.
٢  قتله ابن عمه مشاري بن عبد الرحمن، راجع: كتاب «الأعلام» للزركلي، ص١٦٢.
٣  راجع: «الأعلام» للزركلي، ص٨٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤