الفصل الرابع

حركات الإصلاح في الآستانة وآثارها في العراق والشام

لقد أحسَّ حكام الآستانة بعد توقيع مندوبهم على معاهدة «كوتاهية» يوم ١٨ نيسان سنة ١٨٣٣م في مقر إبراهيم باشا ابن محمد علي، أن إمبراطوريتهم العظمى آخذة في الانحلال فالاندثار، إن لم تتخذ خطة جديدة في سيرها وتعمل على الإصلاح والأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛ ولذلك أصدر السلطان محمود الثاني سنة ١٢٥٥ﻫ/١٨٣٩م فرماناتٍ بتنظيم الجيش تنظيمًا صحيحًا، وبإصلاح شئون البلاد، وبعقد المعاهدات مع الدول العظمى، وبالأخذ بأسباب الحضارة الجديدة؛١ فإنه بعد أن نظَّم الجيش تنظيمًا صحيحًا بوساطة المدربين الأوروبيين، عمد إلى الإصلاح الإداري؛ ففي سنة ١٢٥٣ﻫ/١٨٣٧م ألغى لقب «الصدر الأعظم» وأحدث لقب «الباش وكيل»؛ أي رئيس الوزراء، وأحدث منصب وزارة الداخلية والوزارات الأخرى، وبعد سنة نظَّم أمر رواتب الموظفين، فصاروا يأخذونها آخر كل شهر من خزينة الدولة بعد أن كانوا قبل ذلك يأخذون منحًا أو تعويضاتٍ من الأهلين.

ولم يمت السلطان محمود في ١٩ ربيع الثاني سنة ١٢٥٥ﻫ ١ تموز سنة ١٨٣٩م إلا بعد أن وضع أسس الإصلاح، حتى عدَّه المؤرخون بمثابة الملك بطرس الأكبر الذي نظَّم شئون القيصرية الروسية.

ولما مات محمود خلفه ابنه السلطان عبد المجيد خان وله من العمر نحو ١٨ سنة، وفي عهده تولى وزارة الخارجية رشيد باشا، وكان رجلًا مصلحًا تقلَّب في عدة من وظائف الدولة الكبرى، ومن بينها سفارة بلاده في لندن، فأعجب أشد الإعجاب بالنظام البرلماني والأسلوب الدستوري، فلما تولى منصبه السياسي ببلده عزم على أن يطبق تلك الأنظمة ويجعل لبلاده دستورًا عصريًّا، ويسمو ببلاده في نظر الأوروبيين الذين أخذوا ينظرون إلى محمد علي صاحب مصر نظرة إكبار على عكس نظرتهم إلى دولة الخلافة العثمانية، وقد حبَّذ العمل كلٌّ من بريطانية وفرنسة. ونورد فيما يلي خلاصة ذلك الدستور المعروف باسم: «فرمان كل خانه»، الذي تلي علنًا على جمهور كبير من الوزراء والأعيان يوم ٢٦ شعبان سنة ١٢٥٥ﻫ ٣ تشرين الثاني سنة ١٨٣٩م:

غير خافٍ أن دولتنا العلية جرت منذ مبدأ ظهورها على هدى أحكام القرآن الكريم وضوء القواعد والقوانين الشرعية، فبلغت بذلك مكانة سامية ورفاهية. ولكنها ما عتمت منذ قرن ونصف أن أخذت تنحرف عن ذلك السبيل، فتبدلت أحوالها وانقلبت قوتها إلى ضعف، وغناها إلى فقر.

وبما أن الممالك التي لا تسير إدارتها على القوانين الشرعية لا يمكن أن تخلو أو تثبت؛ لذلك انصرفت أنظارنا الملكية إلى دراسة أحوال أمتنا وتعمير ممالكنا، والعمل على رفاهية شعوبنا، والتنقيب عن الأسباب التي تهيئ ذلك، والسعي في ذلك السبيل، لما تتمتع به مواقع ممالكنا الجغرافية، وخصوبة أراضيها، ومواهب أهاليها. وإننا لنرجو أن نصل إلى أهدافنا المرجوة خلال خمس سنوات أو عشر.

وبعد الاعتماد على العلي القدير، نعلن وضع قوانين وأنظمة جديدة تتحسن بها إدارة ممالك دولتنا، تشتمل على النقاط العامة التالية:
  • صيانة الأرواح والأعراض والأموال.

  • تحديد الضرائب والخراج.

  • تنظيم شئون التجنيد ومدته؛ لما في ذلك من صيانة البلاد والعباد والأعراض والأموال. أما صيانة الأرواح والأعراض والأموال فلِمَا في ذلك من حماية الدولة؛ لأن الدولة التي لا تصون أرواح أهاليها وأعراضهم وأموالهم ليست جديرة بأنْ تسمَّى دولة، والشخص الذي لا يأمن على روحه وعرضه وماله لا يمكنه أن يرتبط بهذه الدولة، وعلى العكس إذا كان آمنًا على ماله وروحه وعرضه فإنه يغار على دولته وتزداد محبته لها.

وأما تحديد الضرائب والخراج، فإنه لا بد لكل دولة من مصارف الجند ورجال الإدارة، ولا بد للناس من وضع قوانين عادلة في تحديد الضرائب وأخذ الخراج، والبعد عن نظام الإقطاع الكيفي «والالتزامات المضرة» التي لا تتقيد بقانون، ولا ترحم أصحاب الأرض، ولا تحد من سلطات المسئولين.

وأما مسألة تنظيم الجندية، فإنه لا بد للبلاد من جند يصونون أراضيها ويحمون حدودها، ولكن يجب ألَّا يقسر الناس على التجنيد إلا ضمن حدود القانون، ولا يُطلب من بلدة أو عشيرة زيادة عن تحملها؛ لما في ذلك من الظلم والإخلال بموارد البلاد من زراعة وتجارة. كما أنه لا بد من تحديد مدة التجنيد لكل فرد من أفراد الممالك بأربع أو خمس سنوات بطريق المناوبة. وهناك أمور أخرى تتعلق بتنظيم العدالة، وهي:
  • لا يجوز إعدام أرباب الجنح، ولا يجوز تسميمهم جهارًا أو خفية، ولا يعدم أحد إلا بعد ثبوت إجرامه بمقتضى القوانين الشرعية.

  • ولا يجوز تسلط أحد على عرض أحد.

  • ولا يجوز التعدي على أموال الآخرين وأملاكهم، ولكل امرئ حق التصرف التام بأملاكه الخاصة، ولا يحق لأحد أن يعتدي على أحد أو يتدخل في أموره الخاصة. ومن مات وهو متَّهم، فورثته أبرياء لهم حقوقهم ما لم يحكم على المورِّث، ويبقى لهم مال مورِّثهم بعد أخذ حقوق المحكوم لهم.

  • يتمتع جميع أفراد شعوبنا من مسلمين وغيرهم بحماية الدولة لهم ومساعدتهم بدون استثناء.

  • يزداد عدد أعضاء مجلس الأحكام العدلية على قدر اللزوم، وسيجتمع الأعضاء ورجال الدولة في المواعد المضروبة، ويتناقشون في أحوال الدولة بحرية تامة، ويقررون القوانين المختصة بالأمن والأموال والخراج، ثم تقدم إلى «السرعسكرية» القيادة العامة، ثم يرفع إلى مقامنا لتوشح بتوقيعنا وتصبح نافذة إلى ما شاء الله، وسنحلف بالله العظيم في غرفة الخرقة النبوية بحضور جميع العلماء والوكلاء الأعضاء، وسيحلفون بالله على أن من خالف هذه القوانين الشرعية من الوكلاء والعلماء والناس، فسيقع عليه العقاب مهما كانت مرتبته، وسيُقرَّر قانون للعقوبات.

  • سيزاد راتب الموظفين بحيث يصبح الفرد منهم مكفي المئونة، وسيعاقب المرتشون ويوضع قانون خاص شديد لعقوبة الرشوة؛ لأنها أعظم سبب لخراب الممالك، ولأنها محرمة شرعًا. سينفذ هذا الدستور في كافة أنحاء الممالك العثمانية وفي العاصمة.

يبلَّغ هذا الدستور إلى كافة سفراء الدول الصديقة الممثلة في العاصمة؛ ليكونوا شهودًا على دوام هذه الإصلاحات إلى الأبد. ونسأل الله أن يلهمنا التوفيق، وأن يصب سوط عذابه على كل من خالف هذه القوانين، وأن لا يُنجح له أعمالًا مدى الدهر، آمين.

حُرر في يوم الأحد ٢٦ شعبان سنة ١٢٥٥ﻫ.٢

ويظهر أن هذه القوانين الدستورية لم تطبق تمامًا؛ لانشغال الدولة العثمانية بحروبها مع روسية، وهي المعروفة بحروب القرم، فما إن انتهت هذه الحروب في سنة ١٢٧٢ﻫ/١٨٥٦م حتى أصدر السلطان قانونًا جديدًا عُرف ﺑ «الإصلاحات الخيرية»، التي نورد فيما يلي موجزًا عنها: إن من أهم أفكارنا السامية العمل على إسعاد رعايانا التي ما فتئنا نعمل على الترفيه عنهم منذ تبوأنا العرش، فازدادت ثروة البلاد. ورغبة منا في رفع دولتنا إلى مصافِّ الدول العظيمة وبلوغها درجة الكمال بالتعاون مع كافة الدول الصديقة، أصدرنا الإرادة الملكية بإجراء الأمور الآتية: اتخاذ كافة التدابير لحماية جميع رعايانا على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وحفظ أموالهم وأعراضهم، ضمن الأحكام الشرعية والقوانين النظامية السابقة الواردة في «فرمان كُل خانه»، وإخراجها من حيز الكتابة إلى حيِّز العمل، وغيرها من القوانين النافعة الصادرة عن أجدادنا السلاطين العظام، والممنوحة للطوائف المسيحية وغيرهم من أرباب الطوائف المقيمة في ديارنا، والسماح لهم بإقامة مجلس في «البطريق خانات» تحت رعاية بابنا العالي، تعمل على الإصلاح الذي يقتضيه الوقت وتستدعيه المدنية الحديثة، بموجب الوثيقة المرخص بها لأساقفة الطوائف المسيحية من السلطان أبي الفتح محمد خان الثاني وخلفائه … وتُمحى وتُزال إلى الأبد — من المحررات الرسمية الديوانية — كافة التعبيرات والألفاظ المتضمنة تحقير جنس لجنس آخر في اللسان أو الجنسية أو المذهب. ويُمنع قانونًا استعمال كل وصف أو تعريف يُخِلُّ بالشرف أو يستوجب العار بين الناس أو الموظفين. لا يُمنع أحد من رعايانا من إجراء رسوم الدين وشعائره، ولا يُجبَر أحد على تبديل دينه.

يتمتع كل أحد من رعايانا بوظائف الدولة إذا استوفى الشروط القانونية المطلوبة، وجاز الامتحانات المرعية، وتخرَّج من المدارس المؤهلة. ولا يُمنَع أحد من رعايانا من الدخول في المدارس الملكية والعسكرية، بلا فرق ولا تمييز بين المسلمين وغيرهم. ويُسمح لكل طائفة من رعايانا بفتح مدارسَ خاصةٍ بها لتعليم المعارف والحرف والصنائع تحت إشراف الحكومة وتطبيق برامجها، ويكون انتخاب معلميها وطرق تدريسها تحت ملاحظة مجلس المعارف المختلط الذي نسمِّي أعضاءه.

تحال كافة الدعاوى التجارية والجنائية التي تقع بين المسلمين والنصارى وغيرهم من الرعايا والأجانب، على الدواوين والمحاكم الخاصة المختلطة، وتكون محاكماتهم علنية. ويجوز للمسيحيين أن يتحاكموا في محاكمهم البطريكية أو الروحية، إذا كانت الدعوى متعلقة بشئون الميراث، وتصدق شهادة الشاهد بمجرد تحليفه اليمين حسب قواعد دينه.

تحال كافة الدعاوى الحقوقية إلى المحاكم الحقوقية في الولايات والمديريات، بحضور كلٍّ من الوالي والقاضي، وتكون المحاكمة فيها علنية. وإذا رغب أحد المتحاكمين في الدعاوى الحقوقية من المسيحيين إحالة دعواه إلى المحاكم البطريكية أو الروحية جاز ذلك.

يجب أن تكون لغات المرافعة في المحاكم التجارية والجنائية مفهومة، وبلغات أهل البلاد المعروفة في ممالكنا المحروسة.

يجب أن تنظم أحوال السجون لحبس مستحقي السجن أو المتهمين، ولا يؤذى سجين ولا يعذب تعذيبًا جسديًّا، ولا يعامل سجين إلا بما تنص عليه القوانين النظامية الخاصة بالسجون.

يجب أن يتساوى رعايانا في دفع الضرائب، كما يستوون في التمتع بوظائف الدولة، لا يتميز مسلم على مسيحي أو غيره، ويقبل منهم بدل الخدمة العسكرية النقدي أو الشخصي.

تُطبق أنظمة انتخابات أعضاء المحاكم والمجالس العامة على سائر رعايانا من مسلمين أو غيرهم، وستتخذ الإجراءات لتكون الانتخابات حرة طليقة من كل قيد من قيود الضغط.

تُهيأ قوانين وأنظمة لحفظ الحقوق والبيوع والتصرف في العقارات والأملاك، تحافظ فيها على روح الشرائع السماوية.

يُمنح الأجانب المقيمون في ممالكنا جميعَ الحقوق التي يُمنحها رعايانا في بلادهم الأجنبية، وتصحح كافة الأخطاء السابقة التي حدثت قبلًا، وخاصة فيما يتعلق بالضرائب والعشور.

تُنظم شئون الالتزام والمناقصات والمزادات العلنية في الدولة، وتطبق العقوبات الشديدة على من يخالفونها ويستغلونها لمنافعهم الخاصة.

تُنظم شئون الأشغال العامة والضرائب المفروضة من أجلها في المديريات والولايات، مما يتعلق بالطرق والمسالك البرية والبحرية.

بما أنه قد وضعت مؤخَّرًا جداول خاصة بموازنة كل مديرية أو ولاية سنويًّا، فيجب على المسئولين ترتيب هذه الجداول وتقديم الحسابات المضبوطة، وتسوية شئون المعاشات، تحت إشراف الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء)، ويجتمع كبار موظفي الدولة المختصون لمناقشة هذه الموازنات العامة، كما يشترك معهم النواب الممثلون لكافة المديريات والولايات بعد أن يحلفوا الأيمان، ويُبدون آراءهم بكل حرية وصراحة في الدورات العادية أو الاستثنائية.

تطبق كافة القوانين الصادرة عنَّا على جميع رعايانا وسكان ممالكنا من كافة الرعايا مهما كانت جنسياتهم ومأمورياتهم.

يسمح بفتح البنوك والدوائر المالية، وتُهيأ كافة الأسباب لصيانة أموال الدولة ومواردها وزيادة الثروة العامة.

تفتح الطرق، وتشق الشبكات، وتنظم شئون الملاحة اللازمة لنقل محصولات ممالكنا، وتمنع الأسباب التي تحول دون تقدم التجارة والزراعة.

يُعمل على تعميم العلوم والمعارف الأجنبية بطرق تدريجية مفيدة. على رئيس الوزراء نشر هذا الفرمان الجليل في العاصمة وكافة أنحاء ممالكنا، والعمل على تحقيق ما تضمنه، والأسباب اللازمة والوسائل الكافلة لتحقيق أهدافه النبيلة، وأن يبذل جهده لتعميمه واستمراره.

حُرر في دار الخلافة أوائل جمادى الآخرة سنة ١٢٧٢ﻫ.

هذه بعض خطوات الإصلاح التي أراد رشيد باشا أن يسير عليها، وقد استطاع أن يضمن لها النجاح بموافقة السلطان الشاب عليها والدعوة إليها، وبالعمل على إيجاد برلمان يظهر للعالم أجمع تطور الحياة الاجتماعية والسياسية في الإمبراطورية العثمانية. وعلى الرغم من أن انتخاب نواب ذلك البرلمان لم يكن مثاليًّا؛ فإن هذه الحركة الإصلاحية قد آتت أُكلها ونبهت الأذهان، سواء في أجزاء المملكة العثمانية العربية أو في غيرها من الأجزاء، والذي يهمنا في هذا الصدد هو أن الجزء العربي من المملكة العثمانية أصبح يشعر بحقه في الحياة الحرة الديمقراطية.

ولما مات السلطان عبد المجيد وخلفه أخوه السلطان عبد العزيز في ٢٥ حزيران سنة ١٨٦١م، انكفأت حركات الإصلاح لِما كان عليه من عقلية رجعية وفساد نفسيٍّ وتبذيرٍ أرهق كاهل المملكة وجعلها تخضع للنفوذ الأجنبي، حتى اضطرت أن تعلن إفلاسها سنة ١٨٧٥م. وتدخَّل الأجانب بشكل سافر في إدارة شئون المملكة، وقد حاول السلطان عبد العزيز أن يعقد قرضًا جديدًا مع البنك الفرنسي، على أن يُعوض هذا المصرف بوضع يده على موارد البلاد جابيًا وخازنًا، ولكن الحكومة الفرنسية رفضت.

وهكذا اضطر السلطان أن يعلن إفلاس الدولة عن تأدية فوائد وحصص قروضها العشرة السابقة التي كانت قد عقدتها مع بعض الدول الأوروبية، وقد حاول بعض زعماء الإصلاح في المملكة إنقاذ هذا الموقف، وفي طليعتهم الوزير المصلح مدحت باشا، فخلعوا السلطان في سنة ١٨٧٦م، ورفعوا إلى العرش السلطان مراد الخامس؛ كان فتًى حسن الثقافة مستنير الفكر، تثقَّف بالثقافة الحديثة، وكان يرجى للبلاد في عهده كلُّ خير لولا إدمانه على الخمر الذي آل به إلى اختلال عقله وخلعه من السلطنة في ٣١ آب سنة ١٨٧٦م، فتولى الأمر من بعده السلطان عبد الحميد الثاني، وتولى الصدارة العظمى (رئاسة الوزراء) المصلح مدحت باشا، فسار بالبلاد سيرة حسنة، وألَّف لجنة من ستة عشر موظفًا كبيرًا وعشرة من العلماء واثنين من قادة الجيش لوضع نواة الدستور، فاستقت موادَّه من الدستور البلجيكي ونشرته بعنوان «قانون أساسي» في ٢٣ كانون الأول سنة ١٨٧٦م، وألغت امتيازات العاصمة إستانبول التي كان أهلها متمتعين بعدة مزايا وإعفاءات عسكرية ومدنية، وأطلقت حرية الصحافة، وأُقيم تمثيلٌ شعبيٌّ في مجلسين: أحدهما للنواب، والآخر للأعيان. أما النواب فيُنتخبون من كافة أرجاء المملكة بمعدل نائب واحد لكل خمسين ألف إنسان كلَّ أربع سنوات، وأما الأعيان فيسميهم السلطان نفسه، ويضع مجلس النواب ميزانية المملكة، ويسمي محكمة عليا من عشرة أعضاء، وعشرة مستشاري دولة، وعشرة مستشاري استئناف لمحاكمة الوزراء وكبار القضاة والمتهمين بالخيانة العظمى، وأن يكون التعليم الابتدائيُّ إجباريًّا في كافة أرجاء المملكة.

وحاول الوزير المصلح مدحت باشا أن ينفذ موادَّ الدستور وقوانين الإصلاح بكل ما أوتي من قوة، ولكن السلطان عبد الحميد الثاني شلَّ حركته فأقاله في ٥ شباط سنة ١٨٧٧م، ثم نفاه بتهمة الخيانة العظمى واتصاله بالدول الغربية، ثم انصرف السلطان إلى الاستعانة على تنفيذ خطته الرجعية بأفراد الجيش الذين استمالهم وأغدق عليهم المناصب والمراتب، واستعان بنفر من الضباط الألمان لتدريبهم، واستطاع أن يقضيَ على كل حركة إصلاحية أو نشاط وطنيٍّ، واضطر زعماء الإصلاح المعروفين باسم رجال «تركية الحديثة» إلى الهرب لباريس وجنيف.

وقد استعان السلطان عبد الحميد الثاني على حركته هذه بنفر من الرجال، وفي طليعتهم مستشاره وفقيه بلاطه الشيخ محمد أبو الهدى الصيادي الحلبي الذكي الداهية، واستطاع أن يستوليَ على نفر كبير من المثقفين ورجال الدين وأرباب الطرق الصوفية، ويتخذَ منهم بطانة تقف أمام تيار الإصلاح، فأخذت هذه البطانة الحميدية تنشر آراءها في كافة أرجاء المملكة، ومن بينها البلاد العربية، مبينة للناس أن الوعي القوميَّ الممثل في هؤلاء أو غيرها من الجماعات التي تدعو إلى القوميات في سائر بلاد المملكة، إنما هو وعي كاذب، وأن أوروبة إنما بَعثت به لإفساد أحوال المسلمين.

واستطاع السلطان عبد الحميد وبطانته أن يستمروا في الهيمنة على أجزاء المملكة فترة طويلة، كما استطاعوا أن يؤخروا بعث الوعي القومي — وبخاصة الوعي العربي — فترة ما، فتفسخت المملكة ودب الفساد إلى كافة أجزائها، وتداعى العقلاء من أهلها الأتراك وغير الأتراك للعمل على إنقاذها والقضاء على روح الجاسوسية، والاستخذاء والدسائس التي سيطرت عليها طوال العهد الحميدي. وكان في طليعة هؤلاء المتداعين ثلاثة من الشبان الأتراك، وهم: أنور، ونيازي، وطلعت؛ فأسسوا «جمعية الاتحاد والترقي»، وعملوا على تنفيذ الدستور في سنة ١٩٠٨م، وسيطروا على العاصمة، فخلعوا السلطان عبد الحميد الثاني، وولوا أخاه السلطان محمد رشاد الخامس، وأوجدوا برلمانًا يمثل كافة بلاد الإمبراطورية، ويعمل على تنظيم كيان الإمبراطورية المتفكك، ولكن هذا كان شبه مستحيل؛ لأن الإمبراطورية كانت مؤلفة من عناصر متباينة في الأجناس والأديان والأفكار، ولأنها كانت محاطة بعدد كبير من الخصوم الأقوياء، ومليئة بعدد ضخم من المشاكل. ولقد حاولت «جمعية الاتحاد والترقي» خَلْقَ ما أسمته «الجامعة العثمانية» ولكنها لم تستطع، وكان شبان العرب الأحرار في طليعة من حاولوا الانفصال عن تلك الجامعة الغريبة، وأخذوا يفكرون في العمل للتخلص من ربقة الاحتلال العثماني والعهد الحميدي المتستر بستار الدين، البعيد عن روح الدين ومبادئه القويمة وأهدافه السامية على ما سنفصله فيما بعد.

١  راجع: «تاريخ الدولة العلية العثمانية»، لمحمد فريد بك، طبع القاهرة سنة ١٨٩٦م. ص١٩٧ و٢٣٧.
٢  راجع: تاريخ أحمد مدحت المسمَّى: «أسُّ الانقلاب»، و«تاريخ الدولة العلية العثمانية» لمحمد فريد، ص٢٥٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤