الفصل السادس

العرب في أواخر عهد السلطان عبد الحميد وبداية عهد السلطان محمد رشاد

ظهور الحركة الصهيونية

تولى السلطان محمد رشاد السلطنة بعد أخيه عبد الحميد سنة ١٣٣٣ﻫ/١٩١٥م، وكان ملكًا ضعيف الإرادة، سيئ الإدارة، محدود التفكير، قليل الثقافة، ما عدا شيئًا من الآداب الفارسية. وقد عظم سلطان «الاتحاديين» عليه فاستسلم لهم، وأخذوا يفتكون بالناس من خصومهم وبخاصة الحزب المناوئ لهم، وهو حزب «الائتلافيين»، فاغتالوا منهم نفرًا في الولايات التركية والعربية، واصطرعت الإمبراطورية، وتنافس الحزبان للسيطرة على الحكم.

وفي هذه الفترة انتهز الأحرار العرب اليمانيون الفرصة، وأعلنوها حربًا على دولة الخلافة العثمانية سنة ١٣٢٩ﻫ، فجهز السلطان جيشًا من العرب أكثره من الشاميين، وبعث به إلى اليمن للفتك بإخوانهم هناك، وكانت مجازر بين الفريقين ذهب فيها ألوف من الجند الشامي، حتى اضطرت دولة الخلافة إلى الاعتراف بكيان الدولة العربية في اليمن وعقدت معاهدة صلح بينها وبين الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وبذلك غدت دولة اليمن أول دولة عربية نالت استقلالها الذاتي وتخلصت من نير السلطة العثمانية.

وآلى أحرار العرب في الشام والعراق والجزيرة على التخلص من نير العبودية العثمانية، وكانت حركة أحرار اليمن حافزًا لهم، وخصوصًا حين رأى العرب ضعف الدولة، وتقلُّص ظلها عن الولايات التي كانت خاضعة لها في أوروبا كولاية «قوصوه» و«أشقودره» و«يانيه» و«مناستر» و«سلانيك».

وكان لبنان أكثر البلاد وعيًا وأعمقها ثقافة، فتداعى أحراره مع نفر من السوريين إلى العمل وتخليص البلاد من الفوضى والفساد؛ ففي سنة ١٨٧٧م اجتمع نفر من المثقفين العرب في بيروت، وألفوا من بينهم جماعة تسعى بإصلاح الأحوال العامة في البلاد، وكان ممثل الدولة في بيروت وقتئذٍ رجلًا عاقلًا، فكتب إلى الصدر الأعظم في الآستانة تقريرًا يقول له فيه: «إن البلاد السورية تتجاذبها تيارات مختلفة، فقد اتجه نفر من شبيبة هذه البلاد ورجالاتها بأنظارهم نحو دول الغرب، وبخاصة نحو إنكلترة وفرنسة، يحاولون التشبه بهم، واقتباس حضارتهم، والاستعانة بهم لإصلاح حالة بلادهم، فإذا لم تأخذ الدولة العلية العثمانية بأسباب الإصلاح الحقيقي خرجت هذه البلاد عن الطوق.»

ولما قرأ الصدر الأعظم هذا التقرير اهتم بالأمر، فعرضه على السلطان، ولكنَّ هذا كان لا يأبه لحركات الأحرار، فاستهان بأمرهم وأرسل إلى جواسيسه في الديار الشامية أن يضيِّقوا الخناق عليهم. ولكنهم لم يأبهوا له وزاد نشاطهم، فاتصلوا ببعض الأحرار العرب في حلب ودمشق وطرابلس وصيدا، واقتبسوا من الماسونية السرية نظمها في الدعاية، كما استعانوا بمحافلها لبث حركتهم، وأخذوا يكتبون نشرات يعلقونها ليلًا في الشوارع والساحات يدعون الناس فيها إلى الثورة على الظلم، وطلب الاستقلال الذاتي، حتى قلقت الآستانة لهذا الأمر، وبعث السلطان عيونه إلى سورية يتحسسون الأخبار ليضعوا أيديهم على زعماء الحركة، فلقيت البلاد منهم عنتًا شديدًا، واعتقل عدد كبير من الأبرياء، وانتشرت شائعة تقول: إن حاكم الشام آنئذٍ — وهو الوزير مدحت باشا الصدر الأعظم السابق ومنشئ الدستور — هو على اتصال برجال هذه الحركة، وأنه يحميهم؛ طمعًا في الاستيلاء على البلاد والاستقلال بها لنفسه وأولاده من بعده، كما فعل محمد علي في مصر. ومهما يكن من أمرٍ فإن العيون قد باءوا بالفشل ولم يستطيعوا معرفة القادة الحقيقيين للحركة، فرجعوا إلى السلطان في الآستانة وجعبتهم خاوية إلَّا من بعض التكهُّنات الخيالية، والتهم الباطلة والتقارير الكاذبة، فلما رأى السلطان هذا الأمر رأى أن يتلافى الأمر بحكمته، فكتب إلى الوالي أن يجمع رجالات البلد ويتفهم مطاليبهم، فجمع نحو مائة رجل من أعيان المسلمين والنصارى في لبنان، وعقد عدة جلسات في كانون الثاني سنة ١٩١٣م أقروا فيها مطاليبهم الإصلاحية، ثم اختاروا من بينهم لجنة خماسية لرفع تلك المطاليب إلى السدة السلطانية والعمل على تنفيذها، وتنحصر تلك المطاليب في النقاط الآتية:

أن تهتم الدولة بشئون البلاد المالية، وتعنى بتوسيع سلطة المجالس العمومية، وتعيِّن مستشارين أجانب في دوائر الدولة يعملون على السير بالبلاد في سبيل الحضارة الأوروبية.

ولكن الدولة لم تهتم بهذه المطالب، فاضطر نفر من الأحرار أن يغادروا لبنان إلى مصر أو فرنسة، ثم عقدوا مؤتمرًا بباريس في ٢١ حزيران سنة ١٩١٣م، وانتهوا فيه إلى مطالبة الدولة بالقيام بالإصلاح، وبمنح العرب حقوقهم السياسية، وأن يشتركوا في المساهمة بإدارة بلادهم، اشتراكًا حقيقيًّا يضمن لأرباب الكفايات مناصب رفيعة بلا تفريق بين الأديان والمذاهب، وأن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة مركزية تهتم بشئونها، وأن تنفذ مقررات مؤتمر بيروت، وأن تعتبر الدولة العثمانية اللغة العربية لغة رسمية في مجلس المبعوثان العثماني «النواب»، وأن تكون هي اللغة الرسمية للولايات العربية، وأن تكون الخدمة العسكرية محلية، ولا يُقذف بالشبان العرب في أقاصي البلاد، وأن تهتم الدولة بشئون التعليم اهتمامًا جديًّا.

ولما رأى الاتحاديون أن العرب جادُّون في مطالبهم اتصلوا ببعض رجالات مؤتمر باريس، وأعلنوا أنهم سيلبُّون مطاليبهم فيجعلونهم يشاركون في الأعمال العامة ببلادهم وإدارتها، ويجعلون التعليم الثانوي والابتدائي بالعربية، ويبيحون استعمال العربية في المعاملات الحكومية ويعيِّنون نفرًا منهم في مناصب رفيعة في مجلسي الأعيان وشورى الدولة، وفي محكمة التمييز، ودائرتي: المشيخة الإسلامية، والفتوى. وشرع الاتحاديون بتنفيذ بعض هذه المطاليب فعلًا.

ومما هو جدير بالذكر أن فكرة تهويد فلسطين العربية والدعاية للصهيونية العالمية١ قد أخذت تظهر وتنتشر في ذلك الحين، حتى إن بعض النواب العرب في مجلس النواب العثماني قد أعلنوا ذلك للملأ، وبينوا أضراره وخطره، وحالوا دون تمكين اليهود من شراء أراضي فلسطين، وفي طليعة هؤلاء النواب السيد شكري العسلي نائب دمشق؛ فإنه حين رأى أن بعض الاتحاديين من اليهود الدونمة، وهم قوم خبثاء يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ويعتنقون الصهيونية، وفي طليعتهم جاويد بك ناظر المالية العثمانية آنئذٍ، شرعوا ينفذون خطتهم بامتلاك فلسطين وشراء الأراضي من أهلها بأبخس الأثمان لإقامة دولة صهيونية يهودية فيها، وأنهم قاموا يؤلفون الجمعيات الهادفة إلى هذا الغرض «كجمعية أصدقاء فلسطين» و«جمعية تعاون فلاحي اليهود وصناعهم في فلسطين وسورية» و«الجمعية الصهيونية اليهودية» وغيرها من الجمعيات الصهيونية.

رأى هذا النائب القومي العربي ما يكمن وراء هذه الفكرة الخطرة من شرور على البلاد وقوميتها، فأعلن في الصحف وفي البرلمان العثمانيِّ أن الصهيونية خطر وبيل، وأن الجمعيات التي ألفت لهذا الغرض كالجمعية «الصهيونية اليهودية» وجمعيات «إيكا» و«فاعوليم» و«الأليانس» وغيرها ساعيات في استرجاع فلسطين التي وعدهم بها ربُّهم في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر أرمياء من الكتاب المقدس الباحث في أَسْرِ بابل لليهود، والذاكر وعد الرب برجوعهم إلى فلسطين بقوله في آخره: «يشترون الحقول بفضة، ويكتبون ذلك في صكوك، ويختمون ويشهدون شهودًا في أرض بنيامين وحوالي أورشليم، وفي مدن يهودا، ومدن الجبل، ومدن السهل، ومدن الجنوب، لأني أردُّ سبيهم بقول الرب»، وذلك بعدما سبتهم حكومة الكلدان على أنهم لم يستطيعوا البقاء بعد ذلك؛ لأنهم أصبحوا محل التنازع بين حكومة الرومان في مصر، وحكومة الرومان في أنطاكية، ثم انقرضوا ولم يبقَ لهم ملك ولا دولة.

والآن عملًا بهذه الآية يشترون الأراضي في فلسطين على حساب الفضة، ويشرطون البيع على أن يكون الثمن فضة، ويكتبون الصكوك ويشهدون، وهكذا تراهم لا يفترون طرفة عين، يتجسسون أخبار من تأخرت حالتهم المالية من أهل هذه البلاد، وهي عبارة عن لواء عكا بأجمعه، ولواء القدس، ولواء نابلس، وقسم من لواء الكرك، وبعض من قضاء عجلون، ويطمعون البائع بالثمن الفاحش، ويكتبون الصكوك ويشهدون عليها ويسجلونها عند محرِّر المقاولات، وعند بعض القنصليات. وكانت الحكومة قبلًا منعت استعمارهم.٢ ولكن بما بذلوه من الدنانير التي تسحر ألباب الخائنين من الحكام والمستخدمين استطاعوا أن يستولوا على ثلاثة أرباع قضاء طبرية ونصف قضاء صفد، وأكثر من نصف قضاء يافا والقدس، والقسم المهم من نفس حيفا وبعض قراها، واليوم يسعون للدخول إلى قضاء الناصرة ليستولوا على سهل شارون ويزرعيل المذكور بالتوراة والمعروف اليوم بمرج ابن عامر الذي يشقه الخط الحجازي من الغرب إلى الشرق.

وهكذا اشتروا الكثير من القرى واستولوا عليها، وهم لا يخالطون العثمانيين ولا يشترون منهم شيئًا، ولهم «بنك أنكلو فلسطين» يقرضهم بفائدة لا تتجاوز الواحد في المئة في السنة.

وقد جعلوا لكل قرية إدارة فيها مدرسة، وكل قضاء مديرية، ولكل جهة مدير عام، ولهم راية لونها أزرق وفي وسطها خاتم سليمان وتحته كلمة عبرانية معناها «صهيون»؛ لأنه جاء في التوراة أن «أورشليم» ابنة صهيون، ويرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم، ويترنمون بالنشيد الصهيوني، وقد احتالوا على الحكومة فقيَّدوا أنفسهم عثمانيين في سجل النفوس كذبًا وبهتانًا، وهم لا يزالون حاملين الجوازات الأجنبية التي تحميهم، وعندما يصيرون إلى المحاكم العثمانية يظهرون جوازاتهم ويدَّعون الحماية الأجنبية، ويحلُّون دعاويهم واختلافاتهم فيما بينهم بمعرفة المدير، ولا يراجعون الحكومة، ويعلمون أبناءهم الرياضة البدنية واستعمال السلاح، وترى بيوتهم طافحة بالأسلحة، وفيها كثير من البنادق (المارتين)، ولهم بريد خاص وطوابع خاصة وغير ذلك مما يبرهن على أنهم بدءوا بتأسيس مقاصدهم السياسية.

والحق أن هذا النائب وإخوانه من النواب العرب في مجلس «المبعوثان» التركي قد استطاعوا وقف النفوذ اليهودي بعد مشادة قوية في دورة الربيع البرلمانية سنة ١٩١٢م، فاستكان اليهود إلى أن أعلنت الحرب العالمية الأولى، ورأوا علاقات ألمانيا بالباب العالي، فصبوا جهودهم على برلين؛ آملين أن يتوصلوا عن طريقها إلى دخول الباب العالي والسيطرة على رجالاته وتأمين أغراضهم الصهيونية في فلسطين.

أما صهيونيو بريطانية، فقد استطاعوا أن يجتذبوا عطف بعض الزعماء البريطانيين إلى قضيتهم، وفي طليعتهم «سكوت» رئيس تحرير جريدة «المانشستر غارديان» و«بلفور» وزير الخارجية و«لويد جورج» رئيس الوزارة و«هربرت صموئيل» الزعيم البريطاني اليهودي، الذين اشترتهم الصهيونية العالمية واليهودية البريطانية وعلى رأسها «حاييم وايزمن»، فاندفعوا إلى تأييدها إلى أن أعلن «بلفور» وعده لليهود بتأسيس وطنهم القومي في فلسطين، وكان ذلك في الثاني من تشرين الثاني سنة ١٩١٧م.٣
١  تهدف الصهيونية العالمية، وهي حركة سياسية عدوانية، إلى إسكان اليهود في فلسطين وما حولها من بلاد العرب وإقامة دولة إسرائيلية لهم، وهي منسوبة إلى «صهيون» أحد التلال التي تقوم عليها مدينة القدس، ويعتبر اليهودي النمسوي الصحفي تيودور هرتسيل مؤسسها الأول في كتابه «الدولة اليهودية» الذي أصدره في سنة ١٨٩٥م، ثم اتصل بالسلطان عبد الحميد في سنة ١٩٠١م طالبًا إليه منح اليهود امتيازًا بإنشاء المستعمرات اليهودية في فلسطين مقابل دفع إتاوة سنوية لخزينة الدولة ودفع قرض كبير للباب العالي، فرفض السلطان طلبه، ولكن اليهود استطاعوا تملك بعض الأرض في مرج ابن عامر، فاحتج النواب العرب في مجلس المبعوثان سنة ١٩١٢م.
٢  يشير المرحوم العسلي بذلك إلى أنهم كانوا قد سعوا إلى شيء من ذلك في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، ولكنَّ نزعته الدينية جعلته يثور عليهم ويمنعهم منعًا باتًّا من شراء الأراضي في فلسطين والسماح بتسجيلها باسمهم.
٣  نورد فيما يلي نص الوعد الذي أصدره وزير خارجية بريطانية وبعثه إلى زعيم اليهود البريطانيين بتاريخ ٢ تشرين الثاني سنة ١٩١٧:

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جدًّا أن أبعث إليكم باسم حكومة جلالة الملك بالتصريح التالي؛ تصريح العطف على الأماني اليهودية الذي رفع إلى الوزارة ووافقت عليه، وهو: «إن حكومة جلالة الملك لتنظر بعين الارتياح إلى قيام وطن قوميٍّ في فلسطين للشعب اليهوديِّ، وستبذل حكومة جلالته أقوى مساعيها لتسهيل البلوغ إلى هذه الغاية. وليكن واضحًا للجميع أنه لن يُعمل شيءٌ ما من شأنه أن يُلحق الضررَ بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر، والمكانة السياسية التي حصلوا عليها فيه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤