الفصل الأول

الثورة العربية وآثارها في العالم العربي

كان من نتائج المعاملات الظالمة التي عامل بها رجال الدولة التركية سكان الولايات العربية، من تتريكهم وتقتيل أبنائهم١ وتهجيرهم إلى بلاد الأناضول، وتجويعهم وإفقارهم؛ أن عزم الأحرار الاستقلاليون على إعلان الثورة العربية على الدولة التركية، وكان لنفر منهم اتصال وثيق بفيصل بن الحسين بن علي الهاشمي، فقد عرفوه زميلًا وفيًّا ومواطنًا صالحًا، وعضوًا فعَّالًا في «جمعية العربية الفتاة»، فشاوروه في الأمر، وتم الاتفاق على إعلان الثورة بعد أن طلبوا إليه أن يتصل بوالده الحسين بن علي شريف مكة وأمير الحجاز.

اتصل الشريف حسين ببعض قادة الأحرار الاستقلاليين وتعرف إلى حقيقة نواياهم، فقال لولديه عبد الله وفيصل أن لا مانع من أن يتصلا بالمستر ستورس السكرتير العام لشئون الشرق الأوسط لدى الحكومة البريطانية في القاهرة الذي كان قد كتب إلى أحدهما، وهو عبد الله، يخبره أن الحكومة البريطانية مستعدة لمساعدة الشريف حسين، على أن يثور على الدولة العثمانية.

وأخذ الحسين وأولاده يفكرون في الوضع الدقيق الذي أصبحت البلاد العربية فيه، بعد أن انحازت تركية إلى جانب ألمانيا في محاربة الحلفاء، فمن جهة رأوا حكومة تركية مشبعة بعداء العرب، ومصممة على البطش بهم، وعلى تتريك الشام والعراق، وعلى استرداد نفوذها في الحجاز واليمن، وقد تعاقدت مع أقوى دولة برية في العالم، ومن جهة ثانية رأوا دولًا متحالفات مسيطرات على البحار وقادرات على تجويع الحجاز وعلى منع الحجاج من دخول الديار المقدسة، دع مطامع إحداها في العراق، ومطامع الثانية في الشام. هال هذا الوضع الحرج الحسين، ولبث بضعة أشهر يقلب الرأي فيه ويتتبع حوادث الحرب وفظائع جمال باشا في الشام، ويقاوم خطط والي الحجاز التركي المسمى وهيب باشا، وكان من شرار الاتحاديين المتعصبين على العرب. ثم في أيلول سنة ١٩١٥م وجه ابنه فيصلًا إلى الشام وفروق «أسطنبول» في مهمتين:
  • الأولى: مشاورة رجالات العرب في الشام في الخطة الواجب اتباعها.
  • والثانية: مذاكرة حكومة العاصمة في عزل وهيب باشا أو نقله من الحجاز.
وقد تم له ما أراد من عزل هذا الوالي، أما مشاورة رجالات العرب فقد كان فيصل يجتمع في السر إلى رجال «الفتاة» خاصة، وقد تناولت مذاكراتهم القضية العربية من أساسها، وكان جميعهم قبل الحرب يتمنون اتفاق العرب والأتراك على صيغ تحفظ كيان العرب ولغتهم وحقوقهم المشروعة، ولكن بعد أن أعلن الترك الحرب على الحلفاء، وفتكوا بقافلة الشهداء الأولى، وصرحوا جهارًا بسياستهم المؤدية إلى القضاء على القومية العربية؛ أصبح العيش معهم ضربًا من المحال.٢
والحق أن البلاد العربية لم تعد تطيق المعاملات الشاذة التي كان جمال السفاح وأعوانه يعاملون بها العرب، فهبُّوا يطلبون إلى الملك حسين وأولاده أن يعلنوها حربًا مقدسة على الظالمين الأتراك، ولكن الحسين كان يحب التريث في الأمر، والتعمق لمعرفة نوايا الإنكليز الحقيقية؛ لئلا يورط البلاد في مشاكل جديدة.٣

وابتدأت المراسلات الرسمية بين الشريف حسين وبين ممثل بريطاني؛ السير ماكماهون المقيم العام البريطاني في القاهرة، فكتب الشريف بتاريخ ١٤ تموز سنة ١٩١٥م إلى ماكماهون رسالة يطلب إليه فيها اعتراف الحكومة الملكية البريطانية باستقلال البلاد العربية الواقعة ما بين مرسين فآذنة، فحدود فارس، فخليج البصرة، فالبحر المحيط الهندي، فالبحر الأحمر، فحدود مصر، فالبحر الأبيض المتوسط، ويدخل فيها ولايات الشام والعراق.

وأجابه ماكماهون بكتاب مؤرخ بيوم ٣٠ آب سنة ١٩١٥م يقول له فيه: «إن حكومة جلالة الملك تؤيد الشريف حسين والشعب العربي بمطالبه في استقلال بلادهم العربية، وفي جعل الخليفة عربيًّا. أما موضوع الحدود التي أوردها في رسالته، فهو أمر سابق لأوانه؛ لأن الحرب ما تزال قائمة بين الحلفاء والدولة العثمانية، ولأن تركية ما تزال تحتل قسمًا كبيرًا من البلاد التي ذكرها الشريف حسين في رسالته.»

ولما بلغت هذه الرسالة إلى الشريف، اجتمع هو ونفر من أحرار العرب وتناقشوا في محتوياتها، وانتهى أمرهم إلى عدم الرضى عنها، وكتب الشريف رسالة إلى ماكماهون بتاريخ تاسع أيلول سنة ١٩١٥م يقول له فيها: «إن موضوع تحديد البلاد العربية الآن أمر ضروريٌّ جدًّا؛ لأن الأمة العربية بأسرها تطالب به، لأنها تعتقد أن لا حياة لها إلا في تلك الحدود.» فأجابه مكماهون بتاريخ ٢٤ تشرين الأول من تلك السنة بكتاب يقول له فيه: «إن مقاطعتي مرسين وإسكندرونة وبعض أجزاء من سورية، وهي الواقعة غربي مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب، لا يمكن اعتبارها أراضي عربية محضة، ولهذا يجب إخراجها من الحدود المبحوث عنها، فإذا أخرجت هذه الأجزاء من الحدود وافقت بريطانية على الحدود المعدَّلة، بشريطة عدم مسِّ المعاهدات المعقودة بينها وبين زعماء العرب.٤

أما الأراضي الداخلة ضمن هذه الحدود المعدلة، وهي التي تستطيع إنكلترة أن تعمل فيها بملء الحرية دون الإضرار بحليفتها فرنسة، فإنكلترة مستعدة أن تعترف باستقلال العرب فيها، وتقديم المساعدة لهم. وأما ما يتعلق بولايتي البصرة وبغداد، فإن مركز إنكلترة ومصالحها فيهما يتطلب شكلًا إداريًّا خاصًّا، وتعترف إنكلترة بوحدة الأراضي المقدسة، وتتعهد بحمايتها من كل اعتداء خارجي.»

وتقدم بريطانية للعرب كل مساعدة أو نصيحة لازمة، ويوافق العرب على الاقتصار على استشارة ومعونة وإدارة بريطانية العظمى وحدها، ويرضون بأن يكون جميع الموظفين الذين يحتاجون إليهم لتنظيم دوائر مملكتهم من التبعة البريطانية.

فلما تلقى الشريف هذه الرسالة أجاب عليها بتاريخ ٥ تشرين الثاني سنة ١٩١٥ برسالة يقول له فيها: «إنه لا يصرُّ على أن تكون مرسين وآذنة ضمن حدود البلاد التي يطلب الاعتراف باستقلالها. أما ولايتي حلب وبيروت وسواحلهما، فكلها عربية، ولا فرق بين المسلم العربي والمسيحي العربي. وأما العراق فهو كذلك عربي بحت، وهو مهد حضارة العرب ومدنيتهم، ولا يمكن للعرب أن يقنعوا بالتنازل عنه، وكل ما يمكن التساهل فيه هو أن الأراضي التي تحتلها الجيوش الإنكليزية الآن تترك لمدة قصيرة تحت إدارة إنكليزية لقاء تعويض عن مدة احتلال تلك المنطقة. ومن بداهة الأمور أن الموظفين الإنكليز الذين يحتاج إليهم العرب، لا يكون لهم إلا صفة استشارية، ويجب أن يتأكد العرب من أن إنكلترة لا تهملهم عند انتهاء الحرب، وعقد معاهدة الصلح، بل تمد يدها إليهم وتدافع عن استقلالهم.»

فأجابه ماكماهون برسالة تاريخها ١٣ كانون الأول سنة ١٩١٥ قال فيها: إنه مسرور لتنازله عن مرسين وآذنة، وإن قضية ولايتي حلب وبيروت تحتاج إلى تدقيق نظر لما لفرنسة فيهما من مصالح، وإنه سيعود إلى المفاوضة بهذا الصدد في الوقت المناسب، وإن مصالح إنكلترة في ولاية بغداد تتطلب إدارة وديَّة ثابتة، وأن إنكلترة لا تنوي إبرام أي صلح كان ما لم يكن في جملة شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الأتراك والألمان.

وفي ١ كانون الثاني سنة ١٩١٦م كتب الحسين إلى ماكماهون رسالة، قال له فيها: «إنه يكف أثناء الحرب عن المطالبة بلبنان؛ حبًّا لاجتناب ما يكدر صفو التحالف بين إنكلترة وفرنسة، ولكنه سيعود بعد الحرب إلى المطالبة به.»

فأجابه مكماهون في ٣٠ كانون الثاني من تلك السنة برسالة، قال له فيها: «إن صداقة فرنسة وإنكلترة ستقوى وتشتد بعد الحرب.»

وهكذا انتهت المراسلات بين الشريف وماكماهون بعد أن كان العرب قد تورَّطوا في مدِّ يد المساعدة إلى الحلفاء، فلما ظهرت منهم هذه النوايا السيئة، والأطماع في العراق، وبعض أجزاء سورية ولبنان؛ هالهم الأمر، وعلموا أن نوايا بريطانية وصديقتها فرنسة هي نوايا استعمارية. وقد اجتمع بعض أحرار العرب، أمثال: عزيز علي المصري ومحمد رشيد رضا، وطالبوا الحسين بأن يكفَّ عن مناصرة البريطانيين بعد أن تبينت نواياهم العدوانية ضد العرب، على أن يفاوضوا الدولة العثمانية بتعديل موقفها من العرب وقضاياهم، وتطلق سراح من في سجونها من شبان العرب. فأبرق الشريف حسين برقية إلى أنور باشا وزير الحربية العثمانية في آذار سنة ١٩١٦م يطلب إليه الإفراج عن المسجونين، ومنح بلاد الشام نظامًا لامركزيًّا، وإعلان استقلال الحجاز، وجعلها وراثية في أعقابه. فاعتذر أنور باشا عن تلبية هذه المطاليب وأن الأحكام الصادرة بحق المسجونين لا بد من تنفيذها. فأبرق الشريف إلى جمال باشا يعرض عليه ما عرض على وزير الحربية، فأجابه جوابًا فيه كثير من ألفاظ الوعيد والتهديد، فأدرك الحسين وأولاده أن الأتراك مصممون على سياسة العنف وعلى التنكيل بالحسين وأنجاله وبأحرار العرب، وأحسَّ الشريف فيصل أن جمال باشا سيفتك به، فاحتال عليه ليأذن له بالسفر من دمشق إلى الحجاز، وتظاهر بأنه مسافر إلى المدينة لكي يحضر المتطوعين العرب الذين استدعاهم جمال باشا.

وغادر دمشق في السادس عشر من أيار سنة ١٩١٦م بعد أن رأى إخوانه من أحرار العرب ورجال جمعيتي «العربية الفتاة» و«العهد» معلقين على الأعواد في بيروت ودمشق وحلب. ولما وصل إلى المدينة رأى أن الأتراك ينظمون خططهم للفتك بأبيه وبعرب الحجاز، فاجتمع إلى أخيه الأكبر الشريف علي ونظما خطتهما، وجمعا بضعة آلاف مقاتل استطاعا بها أن يهاجما أطراف المدينة في ٨ حزيران سنة ١٩١٦م، وأعلن الشريف حسين في ١٠ حزيران سنة ١٩١٦م الموافق ليوم ٩ شعبان سنة ١٣٣٤ﻫ إعلان الثورة العربية من مكة المكرمة.

ولما بلغ خبر الإعلان إلى ديار الشام والعراق فرح الناس بذلك فرحًا عظيمًا، وزحفت جيوش الحلفاء نحو العراق فاحتلت ميناء البصرة، ثم سارت نحو كوت الإمارة «العمارة» في اتجاه بغداد، كما اشتبك الإنكليز مع قوى الأتراك في حملة السويس بقيادة جمال باشا الذي أراد الاستيلاء على قناة السويس وطرد الإنكليز من القطر المصري.

ولكن قواه قد تشتت وحملته قد تبعثرت، فأخذ يهيئ حملة ثانية استعد لها استعدادًا كبيرًا، ثم التقت قوى الجيش العربي-الإنكليزي بجيش الحملة التركية، فشتته، ودخلت مدينة غزة، وكانت هذه المعركة أولى المعارك التي اشترك فيها العرب مع أحلافهم الإنكليز في محاربة الجيش العثماني.

قال جمال باشا في مذكراته يصف حالة جيشه في تلك الحملة:

يقصر اللسان عن أن يوفي القوات العثمانية — لا فرق بين ضباطها وجنودها اللائي اشتركن في حملة القناة الأولى — حقهن من الثناء على ما بذلنه من الجهود وأظهرنه من ضروب الوطنية العالية، وأرى من واجبي تقديم إعجابي لأولئك الجنود البواسل الذين قاموا بذلك الزحف غير مبالين بما لاقوه من ضروب الضنك وتحملوه من المشاق في سحب المدافع، فضلًا عن الجسور المتحركة، وهي كل ما كان لدينا من المعدات لعبور القناة وسط بحر من الرمال.

هذا وقد ساد بين رجال الحملة — لا فرق بين الأتراك والعرب — شعور العطف الأخوي، ولم يكن بينهم من يضنُّ بحياته دفاعًا عن إخوانه، والواقع أن الحملة الأولى كانت برهانًا ساطعًا على أن غالبية العرب الساحقة انضموا إلى الخلافة العثمانية بقلوبهم وجوارحهم.٥
١  كان السفاح أحمد جمال باشا المنفذ لأعمال التقتيل؛ فهو الذي شكل ديوانًا حربيًّا في عاليه بجبل لبنان حاكم فيه بعض الشبان والرجال الأحرار محاكمة صورية وأمر بإعدامهم في دمشق وبيروت، فاستشهد رجال القافلة الأولى منهم في ٢١ آب سنة ١٩١٥م، وهم المغفور لهم: عبد الكريم قاسم الخليل، وصالح حيدر، ومحمد ومحمود المحمصاني، ومسلم عابدين، ونايف تللو، وعبد القادر الخرسا، وعلي الأرمنازي، ومحمود العجم، وسليم عبد الهادي، ونور الدين القاضي.
واستشهد رجال القافلة الثانية منهم في أيار سنة ١٩١٦م، وهم المغفور لهم: شكري العسلي، وعبد الوهاب الإنكليزي، وعارف الشهابي، وعبد الغني العريسي، وعمر حمد، وتوفيق البساط، وسليم الجزائري، وأمين لطفي حافظ، وشفيق العظم، وعمر الجزائري، ورفيق سلوم، ومحمد الشنطي، وسيف الدين الخطيب، وأحمد طباره، ورشدي الشمعة، وجرجي حداد، وسعيد عقل، وعبد الحميد الزهراوي، وجلال البخاري، وعلي الحاج عمر، وعبد الوهاب الزويتيني، وبيتر باولي.
٢  «محاضرات في الاستعمار» للأمير مصطفى الشهابي، طبع القاهرة ٢: ٥٤-٥٥.
٣  الأمة العربية في مجموعة «اخترنا لك» رقم ١٩، ص١٠٠، للدكتور عبد الحميد البطريق.
٤  يريد بذلك المعاهدات التي عقدتها بريطانية مع أمراء بعض الإمارات العربية فضمنت لنفسها فيها بعض الحقوق أو الحماية كالكويت والبحرين ومحميات عدن.
٥  ترجم هذه المقاطع من مذكرات جمال باشا، أستاذنا المؤرخ كامل الغزي في كتابه: «نهر الذهب في تباريح حلب»، ٣: ٦٠٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤