الفصل الثاني

جيش الثورة العربية، وأشهر معاركه، وقضاؤه على الحكم التركي

تأسيس الحكم العربي الهاشمي في الشام والعراق

كان القائد التركي فخري باشا في المدينة ومعه عدد ضخم من الجنود، وكان جبارًا عسوفًا، له في الفتك بالأرمن أخبار مخيفة. أرسله الباب العالي سنة ١٩١٦م للفتك بعرب الحجاز ومعاملتهم بما عامل به الأرمن في بلاد «أورفه» و«السويدية» و«كلمس» و«عينتاب»، حينما كان في تلك الديار سنة ١٩١٥م.

وما إن استقر به المقام في الحجاز حتى أخذ يجمع جموعه للفتك بالقبائل العربية، وكانت قبيلة «بني علي» أولى القبائل التي لقيت منه ويلاتٍ شدادًا، فقد أمر السفاح فخري جنوده أن يبيدوا أفراد القبيلة نساء ورجالًا وأطفالًا، وأن يحرقوا قراهم، ويبيدوا حرثهم ونسلهم. وقد انتشرت أخبار حملته على بني علي في الحجاز كله، فحلف أحرار الجزيرة كلها على الاستماتة في سبيل محاربة الأتراك، وتأييد الجيش العربي في حملته على الطغاة الطورانيين، ثم تمكنوا من الاستيلاء على ميناء جدة في حزيران من تلك السنة واستولوا على ما في ثكناتها من الأسلحة والذخيرة، وأسروا من فيها من الجنود، وأخذت الثورة العربية منذ ذلك الحين تسير من نصر إلى نصر؛ فدحروا حامية مكة التركية واستولوا على أسلحتها، وتوجهت قواهم نحو الطائف — حيث كان يقيم الوالي التركي — وحاصروه من حزيران إلى أيلول فاستسلم لهم، وكان قائد الحملة العربية الشريف عبد الله بن الحسين.

وكان الجيش العربي وقتئذٍ مقسَّمًا إلى ثلاثة أقسام:
  • (١)

    قسم يقوده الشريف فيصل بن الحسين، وهو مكون من نحو عشرة آلاف مقاتل أكثرهم من قبائل المدينة المنورة، مثل: بني جهينة، وعتيبة، وعجيل، وبليس، وفيهم نحو ألف خيال والباقون مشاة، وكان مقرهم في البادية بين المدينة المنورة وينبع.

  • (٢)

    قسم يقوده الشريف علي بن الحسين، وهو مؤلف من ثلاثة عشر ألف مقاتل، فيهم ألف هجَّان، وعشرة آلاف جنديٍّ نظاميٍّ من عرب الشام والعراق الذين انفصلوا عن الجيش التركي والتحقوا بالقوى العربية، والباقون من عرب البادية وكان مقرهم في «رابغ».

  • (٣)

    قسم يقوده الشريف عبد الله بن الحسين، وكان مؤلفًا من أربعة آلاف مقاتل من البدو، وفيهم بعض العرب الذين كانوا في الطائف وانضموا بعد استسلام الوالي التركي فيها، وكان مقرهم في الطائف إلى جهات شرقي المدينة المنورة.

وكانت هذه الأقسام الثلاثة تتساند في حملاتها على الجند العثماني. ولما رأى فخري باشا أن الوضع قد أصبح خطيرًا؛ رأى أن يوجه قوته الباقية كلها نحو مكة ليقضي على الشريف حسين، فبعث إليه من المدينة بخمسة آلاف جنديٍّ نظاميٍّ مدربين، ولكنَّ الجند العربيَّ استطاع أن يفتك بهذه الحملة، وكانت المعركة من أشد المعارك الحربية التي جرت في الحجاز.

وكانت المعركة الثانية في المدينة؛ فإن الجيش العربي بعد أن فتك بحملة فخري باشا واستولى على مدينتي ينبع ورابغ، قرر أن يتوجه نحو المدينة، مركز الجيش التركي وحصنه الحصين، وكان قائد الحملة الشريف فيصل، وقد هدف من وراء خطته هذه إلى أمرين:
  • أولهما: الاستيلاء على المدينة المنورة، وهي ثاني مدن الحجاز.
  • وثانيهما: عرقلة سير انسحاب الجيش التركي من المدينة المنورة إذا ما عزم على ترك البلاد والالتحاق بالفرق التركية المرابطة في فلسطين وسورية عن طريق الخط الحديدي.

وهكذا سار الشريف فيصل نحو شمالي الحجاز لينازل الجيش التركي، وقسم جيشه إلى قسمين: قسم صغير مؤلف من خمسمائة مقاتل، امتطى سفينة بريطانية متجهًا في البحر نحو «الوجه»، وقسم كبير مؤلف من نحو عشرة آلاف مقاتل سار إلى «الوجه» عن طريق البر، وتمَّ الاتفاق بين القسمين على أن تصل الحملة البرية في ٢٣ كانون الثاني سنة ١٩١٧م إلى «الوجه»، وتصل إليها الحملة البحرية في التاريخ نفسه. ولكن الحملة البرية تأخرت لأسباب قاهرة، ووصلت الحملة البحرية في موعدها. ولما رأى قائدها أنه لا يستطيع البقاء في الماء طويلًا، اضطر أن يطلق المدافع على ميناء «الوجه» ويحتلها ويجلي الحامية التركية فيها، ثم وصلت الحملة البرية بقيادة الشريف فيصل، فطهَّر المنطقة من فلول الأتراك، وسيطر على شمالي البلاد الحجازية.

ولم يبق في يد الأتراك إلا «المدينة» نفسها، ففكروا أن ينسحبوا منها ويركِّزوا قواهم في المنطقة الواقعة بين «معان» و«بئر السبع» على الخط الحجازي الحديدي الواقع بين المدينة ودمشق. فأخذت القوات العربية تعمل في الخط الحجازي ومحطاته وجسوره تخريبًا؛ لتعوق القوى والمؤن من الوصول إلى الجيش التركي في المدينة، وسار قسم من هذه القوات بقيادة الشريف ناصر، وكان فيها الشيخ عودة أبو تايه زعيم عرب الحويطات، والمستر لورنس، ووجهتها «العقبة» لاحتلالها، فوصلتها في تموز سنة ١٩١٧م بعد أن خرَّبت المحطات والجسور والسكك الحديدية، وشتت شمل الحامية التركية المرابطة هناك.

وكان استيلاء القوى العربية على العقبة نهاية معارك الثورة العربية في الحجاز وابتداؤها في الشام؛ فإن الشريف فيصل سار بقواه في الجزيرة نحو فلسطين، وتوحدت قواه مع قوى الحلفاء تحت قيادة الجنرال أللنبي.

وأخذت القيادة المشتركة تعمل في تطهير أراضي فلسطين من فلول الجيش التركي بقية عام ١٩١٧م ومطلع عام ١٩١٨م، ولمع نجم الشريف زيد بن الحسين أصغر أنجال الشريف حسين في هذه الفترة، واستولى الجنرال أللنبي على «القدس» و«الصلت» و«عمان»، ثم جرت معارك عنيفة بين الجانبين حول «معان»، وخرج منها الأتراك بعد أن فقدوا عددًا كبيرًا من الضباط والجنود، وتوجهت القوى العربية والحليفة إلى حوران، فدخلتها في أيلول سنة ١٩١٨م بعد أن مزَّقت الجيش التركي الرابع شرَّ تمزيق الذي كان السفاح جمال باشا يفخر به، ويقول: إنه جيش لا يقهر، فتشتت شمله، وأخذت القوى العربية تنظم وحداتها وتطهر البقاع المجاورة من الفلول التركية حتى كان شهر تشرين الأول من تلك السنة، فزحفت نحو دمشق بقيادة الشريف ناصر، ورحب الناس بها أعظم ترحيب، وألف أول حكومة عربية برئاسة السيد شكري الأيوبي، ثم ما عتم الأمير فيصل أن قدم إلى دمشق فاستقبلته استقبالًا لم تستقبل به أحدًا منذ قرون عديدة؛ لشدة تعلقها بالحرية، ولأنه كان رمز النضال القومي ضد المستعمرين الظالمين الأتراك.

وشرع الأمير فيصل بتنظيم أحوال البلد وترتيباتها الإدارية وتعريب دواوينها، وألَّف حكومة جديدة برئاسة القائد علي رضا الركابي، وأرسل شكري الأيوبي حاكمًا عسكريًّا في حلب لينظم له الأمور؛ لأنها أكبر مدينة في بلاد الشام، فنظم أمورها وأخذ يعدُّ العدة لاستقبال الشريف فيصل، فلما قدمها احتفلت به احتفالًا جِدَّ عظيم، وخطب في حفل كبير ضمَّ وجهاء البلد خطابًا نورد بعض مقاطعه لخطورته، ولأنه يبين لنا كثيرًا من آراء القيادة العربية في الحركة القومية، والأوضاع العامة للبلاد، قال:

لا شك في أنكم أيها السادة ترون منا أعمالًا مهمة؛ إن حلب هي من أقاصي بلاد العرب، ولم يتصل بأهلها ما وقع بيننا وبين الأتراك، وما هو سبب قيامنا ضدهم، إن الأتراك كانوا يشيعون أن الأشراف اتفقوا مع الدول الغربية على بيع البلاد لقاء دريهمات أخذوها منهم، وأخرجوا ضدنا فتاوى ربما اغترَّ بها بعض البسطاء وصدقها، فنقول في ردِّ وبطلان ما زعمه الأتراك وفيما شيعوه: إن الدين الإسلامي نشأ بقدرة الله تعالى، وانتشر بواسطة محمد النبيِّ العظيم الذي تنسب إليه أسرتنا، فهل يتصور أحد أن أناسًا يرضون بهدم ما بناه لهم جدُّهم من المجد والشرف، نحن لم نقم إلا لنصرة الحق وإغاثة المظلوم.

لقد ساد الأتراك ستمائة سنة هدموا خلالها صرح المجد الذي أقامه أجدادنا، وأرادوا أن يطفئوا نار العرب، ولكنها لم تطفأ؛ لأن العرب عاشت قرونًا وأجيالًا لم يتسنَّ لغيرها من الأمم أن تعيش مثلها، وكانت العرب تنتظر الفرص لتنتهزها حين سنوحها.

نحن العرب نمنا ستمائة سنة، ولكننا لم نمت، ولما أعلن الأتراك النفير العام أتوا بأعمال تتبرأ منها الإنسانية، لا نرى لزومًا لعدِّها، وكانت العرب تطالب الأتراك بحقوقها، فاغتنموا الفرصة التي مكنتهم من الانتقام من العرب.

ولقد رأى والدي أن دولة الترك لا تعمل لأجل دين أو عمل عام ينفع البلاد، وأنها أعلنت جهادها مع ألمانية لمجرد الانتقام من العناصر الخاضعة لها مثل العرب، وتبين له أن مبادئ الحكومات الغربية المدنية هي مبادئ إنسانية، مبادئ خير، مبادئ نصرة الحق، فاتفق معهم بعد الاتكال على قوة الله تعالى لعلمه أنهم ينصرون الضعيف ويساعدون على إعادة حقوق الأمم المحكومة، وتعاهد معهم على إزاحة حكومة الأتراك واستخلاص ما اغتصبوه منا نحن العرب. وباسم العرب حالف والدي الحكومات الغربية، وقام معهم ضد تركية وألمانية كتفًا إلى كتف، لا كما زعم الأتراك من أن قيامنا كان نتيجة مطامع شخصية.

إن الأمم الغربية قد ساعدتنا مادةً وستساعدنا معنًى، وإني لأتلو عليكم برقية وردت إليَّ منذ ثلاثة أيام تبين لكم إحساسات الدول الغربية نحونا؛ ليفهم أهل الوطن أننا لم نبع البلاد، ولن نبيعها أبدًا.

ثم طلب إلى أمين سره أن يتلو نص البرقية، فقرأ النص الآتي:

إن الهدف الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في الشرق تلك الحربَ التي أثارها الطمع الألماني، هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تبني سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارًا لا جبرًا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم، وتنفيذًا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما، وفي البلاد التي يواصلون العمل على تحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلًا.

والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات قبول نظام معين من النظامات، وإنما همهم أن يحققوا معاونتهم ومساعدتهم النافعة … وأن يقيموا لهم قضاءً عادلًا واحدًا للجميع، وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد وتقدمها اقتصاديًّا، وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجعيها، وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية.

وعلق الشريف على هذه البرقية بقوله: لا شك في أن هذه البرقية هي من النبذ التاريخية العظيمة، وأنها تنم عن شواعر عالية، وحسيَّات عالية، لا يقوم العرب بأداء واجب الشكر عليها إلا بتحقيق أماني هذه الدول، وهي تشكيل حكومة عادلة قوية تحفظ حقوق جميع أهل هذه البلاد.

أيها الإخوان: إننا اليوم في موقف حرج، فالأمم المتمدنة وحلفاؤنا ينظرون إلينا بنظر الإعجاب والتقدير، وأعداؤنا يرمقوننا بعين الانتقاد، ولقد خرج الأتراك من بلادنا ونحن الآن كالطفل الصغير، لا حكومة ولا جند، ولا معارف، والسواد الأعظم من الشعب لا يفقهون من الوطنية والحرية، ولا ما هو الاستقلال، حتى ولا ذرةً من كل هذه الأمور؛ وذلك نتيجة ضغط الأتراك على عقول وأفكار العامة، فلذا يجب أن نفهِّم هؤلاء الناس قدر نعمة الاستقلال، ونسعى إن كنا أبناء أجدادنا لنشر لواء العلم؛ لأن الأمم لا تعيش إلا بالعلم والنظام والمساواة، وبذلك نحقق آمال حلفائنا.

وأحضُّ إخواني العرب على اختلاف مذاهبهم بالتمسك بأهداب الوحدة والاتفاق، ونشر العلوم، وتشكيل حكومة نبيِّض بها وجوهنا؛ لأننا إذا فعلنا كما فعل الأتراك نخرج من البلاد كما خرجوا، لا سمح الله، وإن فعلنا ما يقضي به الواجب يسجل التاريخ أعمالنا بمداد الفخر.

إنني أقلُّ الناس قدرًا وأدناهم علمًا، لا مزيَّة لي إلا الإخلاص. وإنني أكرر هنا ما قلته في جميع مواقفي بأن العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد، وأن الديانات تأمر كلها باتباع الحق والأخوَّة، فمن يسعى لإيقاع شقاق بين المسلم والمسيحي والموسوي فما هو بعربي.

أيها الإخوان: أقسم لكم بشرفي وشرف عائلتي، وبكل مقدس ومحترم عندي، بأنه لا تأخذني في الحق لومة لائم، ولا أحجم عن مجازاة من يتجرأ على ذلك، فلا أعتبر الرجل رجلًا إلا إذا كان خادمًا لهذه التربة.

وعندنا — والحمد لله — رجال أكْفَاء كثيرون، ولكنهم مقيمون خارج الديار وفي بلاد الأتراك، وسيأتون قريبًا — إن شاء الله — فيصلحون الخلل الموجود هنا، ولا يجدر بنا أن نتقاعس عن العمل ريثما يأتون، فما لا يدرك كله لا يترك جله، وعلينا أن نبتدئ بدون أن ننظر للمرء من حيث شرف عائلته وخصوصيته، بل ننظر إلى الرجل الكفء، شريفًا كان أو وضيعًا؛ إذ لا شرف إلا بالعلم، والإنسان يخطئ فإذا ما أخطأت فسامحوني وبينوا لي مواطن خطئي.

وبما أن أغلب الأفراد يجهلون قدر نعمة الاستقلال — كما بينت لكم — فلا يبعد أن يحصل في بعض المحلات ما يخل بالأمن، فالحكومة مجبورة على تطبيق معاملاتها على القانون العسكري العرفي مدة الحرب، ريثما يتم تشكيل حكومة منتظمة.

وأرجو إخواني أهل البلاد أن ينظروا إلى الحكومة نظر الولد البار للوالد الشفيق، ويساعدوها جهد طاقتهم، ويعلموا أن الحكومة مشارفة على أعمال الأفراد والموظفين، وإن الحكومة في طورها الجديد بحاجة لإيجاد قوة تحفظ كيانها، فكل من يريد أن يعبث بأوامرها ويخل بمقرراتها يستهدف ليدها القوية.

الدرك والشرطة هما قوام البلاد، وبدونهما لا تنتظم أحوال الحكومات؛ لذلك أطلب من الجميع — وخصوصًا الشبان — أن ينتظموا بهما، وألَّا يتأخر أحدهم عن خدمة وطنه وبلاده بدون النظر لموقعه العائلي.

أيها الإخوان: إن العرب أمم وشعوب مختلفة باختلاف الأقاليم، فالحلبيُّ ليس كالحجازيِّ، والشاميُّ ليس كاليماني؛ ولذا قد قرر والدي أن يجعل البلاد مناطق يطبق عليها قوانين خاصة بنسبة أطوار وأحوال أهلها، فالبلاد الداخلية يكون لها قوانين ملائمة لموقعها، والبلاد الساحلية أيضًا يكون لها قوانين طبق رغائب أهلها.

وسأنظر، بأعجل وقت، في شئون الأوقاف والكنائس ورد حقوقها المغصوبة من قبل الأتراك، ونعطي كل ذي حق حقه.

أيها الإخوان: إنكم أعطيتموني البيعة بمنتهى الإخلاص والرضا، فأقابلها بالقسم العظيم؛ إِني لا أفتأ عن نصرة الحق ورد الظلم وكل ما يرفع شأن البلاد، وأرغب إلى الأهالي أن يؤازروني بالعمل في خدمة الجامعة، إلى أن يلتئم مجلس الأمة، فأقول حينئذٍ: هذه بضاعتكم ردت إليكم.

إن حلب خالية الآن من المدارس، فأتمنى لها مستقبلًا علميًّا باهرًا كما كانت عليه في التاريخ.

وأرجوا أخيرًا صرف الهمة والفعالية إلى أمرين مهمين:
  • أولهما: حفظ الأمن العام.
  • وثانيهما: ترقية المعارف، فوالله لا يمتاز أحد عندي إلا بفضله وعرفانه.
وأعلمكم أنني عند مروري من حماه أثرت همة الأهالي بكلمات وجيزة للعناية بالعلم وافتتاح المدارس، وبجلسة واحدة تبرع بضعة أشخاص بأربعة آلاف جنيه، ووعد آخرون بإبلاغه إلى اثني عشر ألف جنيه. وسأستدعي حضرات الأهالي بحفلات خاصة للعناية بهذا المشروع الهام، ومشروع العلم روح البلاد، ونفع العباد، ويمتع الأمة بالحياة الرغيدة.١

هذا خطاب ممتع يعيد إلى ذاكرتنا خطب القادة العرب الكبار أمثال الإمام علي، وأبي جعفر المنصور، ومعاوية، والهادي، والرشيد؛ لما انتظم عليه من أساليب الإدارة الصالحة، والحكم الرشيد، والتواضع، والحزم، والأخذ بأساليب السياسة، والسير في مدارج الحضارة والرقي، والدعوة إلى التعلم والتآخي، ونبذ روح التعصب والفرقة بين أجزاء الأمة الواحدة، وهو وإن اشتمل على بعض مقاطع تدل على وثوق بالدول الغربية، وميل إلى سياستها؛ فإنها أمور اقتضتها الظروف آنئذٍ، وإلَّا فإن المعروف عن فيصل — رحمه الله — أنه كان من أشد بني هاشم شكيمة، وأصلبهم عودًا في القضايا القومية، وعدم التفريط بحقوق قومه، ولكنها السياسة تضطر المرء كثيرًا إلى المداورة والمداراة والمجاراة.

١  انظر نص هذا الخطاب التاريخي في «نهر الذهب من تاريخ حلب» ٣: ٦٦٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤