الفصل الثالث

الحكم على نتائج الثورة العربية

كان من نتائج الثورة العربية الميمونة أن استقلت الجزيرة العربية استقلالًا كاملًا، فاستراح الحجاز واليمن ونجد من الظلم التركي نهائيًّا، وعاش أبناء هاتيك البلاد في سكينة وهناء ينعمون بنعمة الاستقلال، وقد اعترف لهم الحلفاء بهذا الاستقلال التام.

أما بلاد الشام والعراق، فإنها وإن لم تتخلص من رجال الاستعمار الغربيين نهائيًّا، فإنهم اعترفوا لها بكيانها القوميِّ ولغتها العربية؛ يقول الأمير مصطفى الشهابي: «إن الثورة العربية كانت في اليقظة الحديثة أول عمل عظيم نهض به العرب لاسترداد حريتهم السليبة، وقد أدت هي وعوامل أخرى إلى استقلال الحجاز ونجد واليمن استقلالًا تامًّا، وإلى اعتراف الحلفاء للعرب بكيانهم القومي وبلغتهم العربية في الشام والعراق، والذي يُقدَّر له أن يُبتلَى بحكم الأتراك، وأن يعيش معهم بلا قومية ولا لغة؛ يدرك ما لمثل هذا الاعتراف من شأن في حياة الأمم، فالثورة المذكورة لم تبلغنا كلَّ ما كنا نبتغيه منها، ولكنها حققت جانبًا من أهدافنا القومية، وعلمتنا كيف نسعى في تحقيق الجانب الآخر، وجعلت خصمنا في الشام والعراق دولتين استعماريتين كان لهما مطامع سياسية في ذينك القطرين، ولكن لم يكن لهما مطامع قومية كالمطامع التي كانت للحكومة التركية؛ فقد كنا مع الأتراك فاقدين للسيادة الداخلية والخارجية، وكنا فوق ذلك غير معترف لنا بلغتنا وبقوميتنا، وكنا مساقين إلى التترُّك، فأصبحنا مع الدولتين المذكورتين معرضين لفقد السيادة فحسب، وكلا الوضعين كان شرًّا، ولكنَّ بعض الشر أهون من بعض. ولما كان من غير الجائز لأمة حية أن تقبل بفقد سيادتها، أي بتسلط دولة أجنبية على شئون الحكومة في بلادها، سرعان ما بدأ القتال المرير بيننا وبين إنكلترة وفرنسة على السيادة في العراق وفي الشام.»١

وهذا قول حق؛ فإن الحركة الثورية التي قام بها الحسين وأحرار العرب كانت واجبًا قوميًّا؛ لأن الذين عاشوا تحت الحكم التركي وذاقوا مرارته ورأوا فلذات أكبادهم تموت في العراء، ولغتهم تُمتهن، وكرامتهم تداس، آمنوا بضرورة القيام بتلك الحركة، ولو لم تكن الضمانات التي أخذها الحسين من الحلفاء ضماناتٍ قاطعةً تعترف بالاستقلال العربي التام في دنيا العروبة كلها.

نحن نؤمن بأنَّ الموقف الذي وقفته الدول الغربية — وبخاصة بريطانية وفرنسة — من الحركة العربية، قد كان موقفًا شائنًا لئيمًا، ولكن!

إذا لم تكن إلَّا الأسنَّةُ مركبًا
فما حيلة المضطرِّ إلَّا ركوبها

إن الحلفاء كانوا قد ملئوا الدنيا ضجيجًا بأنهم قوم منصفون، وأنهم سيضمنون للدول التي تناضل معهم ضد الأتراك والألمان الظالمين، الحريةَ والاستقلالَ والسعادةَ والكرامةَ.

قال أرستيد بريان رئيس الوزارة الفرنسية في خطاب تاريخي ألقاه في مجلس النواب الفرنسي يوم ٣ تشرين الثاني سنة ١٩١٥: «إن فرنسة تقوم والسيف في يدها للدفاع عن المدنية واستقلال الشعوب، وعندما تعيد السيف إلى قرابه تكون قد ضمنت للعالم سلامًا موطدًا بعيد المدى، وليس وراء هذا السلام فكرة ما للتسلط الغاشم، بل وراءه فكرة تمتع الشعوب بحريتها، واستقلالها في شئونها الداخلية، وتقدمها في مضمار المدنية؛ هذا هو السلام الذي يسير إليه جنود فرنسة.»

وقال لورد غراي رئيس الوزارة البريطانية في خطاب له ألقاه في حفلة تكريم أقامتها له الجمعية الصحافية الأجنبية يوم ١٨ تشرين الأول سنة ١٩١٦: «سنناضل حتى يتغلب الحق على القوة، وحتى نضمن حرية دول العالم كله كبيرة كانت أو صغيرة، كما نضمن تساويها وتقدمها على حسب استعدادها.»

إذا كان هذان الوزيران المسئولان ينطقان بمثل هذه الأقوال ويمنِّيان الأمم المغلوبة بالحرية والسيادة، وهناك أقوال وتصريحات كثيرة لمسئولين بريطانيين وفرنسيين كلها تنطق بالعدل والحرية والمساواة، فما ذنب أحرار الأمم المغلوبة إن وثقوا بهذه الأقوال الصادرة عن رجال مسئولين، وظنوا أنهم قوم شرفاء يحرصون على سمعة بلادهم ويضنون بكرامتها أن تمتهن وتلطخ سمعتها بالعار وسمة الكذب والافتراء والتضليل.

يقول المرحوم الشيخ فؤاد الخطيب شاعر الثورة العربية من قصيدة له:

حيِّ الشريفَ وحيِّ البيت والحرما
وانهض فمثلك يرعى العهد والذمما
يا صاحب الهمة الشمَّاء أنت لها
إن كان غيرك يرضى الأين والسأما
واسمع قصائد ثارت من مكامنها
إن شئتها شُهُبًا أو شئتها رُجُما
من شاعر عربيٍّ غير ذي عوج
قد بارك الله منه النفس والكلما

•••

يا آل جنكيز إن تثقل مظالمكم
على الشعوب فقد كانت لهم نعما
فالظلم أيقظ منهم كلَّ ذي سِنَةٍ
ما كان ينهض لولا أنه ظُلما
أرهقتم الشعب ضربًا في مفاصله
حتى استفاق وسلَّ السيف منتقما
فالشنق عن حنق منكم وموجدة
قد أرهف العزماتِ الشُّمِّ والهمما
هيهات يصفح عنكم أو يصافحكم
حرٌّ ولو عبد الطاغوت والصنما
يا ابن النبيِّ وأنت اليوم وارثه
قد عاد متصلًا ما كان منفصما
والتفَّ حولك أبطال غطارفة
شُمُّ الأنوف يرون الموت مغتنما
فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقًا
سدًّا من الترك إنْ تعرض له انهدما

•••

يا من ألحَّ علينا في ملامته
بعضَ الملام وجرِّب مثلنا الأمما
لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها
مُضنًى لما ضجَّ بالزعم الذي زعما

•••

إيهٍ بني العرب الأحرار إنَّ لكم
فجرًا أطلَّ على الأكوان مبتسما
يستقبل الناس من أنفاسه أرجٌ
ما هبَّ في الشرق حتى أنشر الرمما
تلك الحياة التي كانت محجبة
في الغيب لا سأمًا تخشى ولا سقمًا
سارت مع الدهر من بدو ومن حضر
حتى استتبت فكانت نهضة عمما
من ذلك البيت من تلك البطاح على
تلك الطريق، مشت أجدادنا قدما
لستم بَنِيهمْ ولستم من سلالتهم
إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما
إلى الشآم، إلى أرض العراق، إلى
أقصى الجزيرة، سيروا واحملوا العلما

إن هذه القصيدة تنطق بالحالة التي كان عليها أحرار العرب ومثقفوهم والجيل الصاعد آنئذٍ، فلا يلومنَّهم لائم لأنهم وثقوا بأقوال الغربيين وأعلنوها ثورة على دولة الخلافة، دون الاستيثاق منهم، فإنه:

لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها
مُضنًى لما ضجَّ بالزعم الذي زعما
١  «محاضرات في الاستعمار» طبع القاهرة، ٢: ٨٣-٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤