الفصل الرابع

الشام والعراق والجزيرة بعد الثورة العربية

ما إن استقر الشريف فيصل في سورية حتى ألَّف الحكومة العربية على الشكل الذي أشرنا إليه سابقًا، وأراد أن يسير بالبلاد سيرًا استقلاليًّا، فأرسل حاكمًا من قِبَله إلى الشمال جعل مقرَّه في حلب، وأرسل حاكمًا ثانيًا إلى الغرب جعل مقرَّه في بيروت في سنة ١٩١٨م، ولكنَّ الحلفاء الغربيين لم يَرُقْهم هذا التصرف، وسفروا عن نواياهم الاستعمارية، وأظهروا اتفاقًا كانوا عقدوه فيما بينهم في ٩ أيار سنة ١٩١٦م عُرف باتفاق سايكس-بيكو، قسموا بموجبه البلاد العربية إلى مناطق نفوذ، فاستقلت إنكلترة بفلسطين وما إليها من بلاد الأردن، واستقلت فرنسة بالساحل السوري من حدود صور في لبنان إلى حدود جبال اللكام وميناء الإسكندرونة.

ولما رأى الأمير فيصل وإخوانه في دمشق هذا التعدي السافر أعلنوا غضبهم على الحلفاء، وأخذوا يعدُّون العدَّة للدفاع عن حقوقهم في مؤتمر الصلح الذي عُقد في باريس عقب إعلان الهدنة في ١١ تشرين الثاني سنة ١٩١٨م، وسافر الأمير فيصل إلى باريس مفوَّضًا من قِبَلِ والده الملك حسين وأحرار العرب، كما سافر معه نفر من زعماء الحركة مثل السيد محمد رستم حيدر وبعض المستشارين، ولما وصلوا باريس عارضت الحكومة الفرنسية بقبول الأمير فيصل والسيد حيدر عضوين في المؤتمر، ولكنَّ الحلفاء وجدوا أنفسهم مضطرين إلى قبولهما عضوين رسميين؛ لأنهما كانا يمثلان مملكة الحجاز التي غدت إحدى الدول الحليفة والمؤسسة لعصبة الأمم، والسبب في موقف فرنسة هذا الموقف أنها كانت تبيِّت الاستيلاء على سورية كلها، وعدم الاكتفاء بما أعطته إياها معاهدة سايكس-بيكو، من جعل القسم الداخلي لسورية دولة عربية يتولى أمرها الأمير فيصل ويكون تحت انتدابها. ولكنَّ فيصلًا أبى إلَّا أن يكون مستقلًّا بالبلاد كلها، فأسس مملكته على أسس الاستقلال الصحيح الكامل، ولما وقف في مؤتمر الصلح بباريس يوم ١ كانون الثاني سنة ١٩١٩م، وقدَّم مذكرته إلى المؤتمرين، طالب باستقلال البلاد العربية كلها من أقصاها إلى أقصاها، على أن تشكل ولايات متحدة عربية، ولكنَّ الفرنسيين والبريطانيين دفعوا بعض أذنابهم من خونة العرب، يطالبون ببقاء الدول الغربية في البلاد، مثل شكري غانم رئيس ما أسماه «الجمعية السورية بباريس»، ومثل بعض اللبنانيين الذين طالبوا بإشراف فرنسة على بلادهم.

وكان جوُّ المؤتمر مكفهرًّا بالنسبة لمطالب العرب القومية، فاجتمعت لجنة الأربعة، وهي تضم: ولسن رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ولويد جورج رئيس وزارة بريطانية، وكليمنصو رئيس وزراء فرنسة، وأرلندو رئيس وزراء إيطالية، فقررت بأكثرية آرائها — وباستثناء رأي الرئيس ولسن — وجوبَ إبقاء البلاد العربية تحت الحماية الفرنسية والبريطانية. وقرَّر المؤتمر في ٣٠ كانون الثاني سنة ١٩١٩ قرارًا يقضي بأن تفصل سورية، ولبنان، والعراق، وفلسطين، وأرمينية، عن الحكومة التركية، وبأن تشرف على هذه الولايات دولة وصاية تديرها باسم عصبة الأمم.

وقد عارض الرئيس ولسن ذلك، ورفض الاعتراف بالمعاهدات السرية بين الحلفاء القاضية بتقسيم تركية بين إنكلترة وفرنسة وإيطالية، وطالب الرئيس ولسن بإرسال «لجنة استفتاء» تستطلع رأي الأهلين في العراق والشام، كما نصت المادة ٢٢ من ميثاق عصبة الأمم، فرفضت إنكلترة وفرنسة ذلك، كما رفضتا الاشتراك في عضوية هذه اللجنة لنواياهما السيئة، وهكذا تألفت لجنة الاستفتاء من المستر كرين والمستر كينغ وبعض المستشارين والملحقين الفنيين، وقدمت إلى سورية في حزيران سنة ١٩١٩، وخرجت من الاستفتاء الذي قامت به بنتيجة لم تشذ عن قرار المؤتمر السوري، وهو: الاستقلال التام لسورية بحدودها الطبيعية، على أن تكون ملكية نيابية لا مركزية. وإذا كان لا بد من وصاية على الرغم من أهلها، فلتكن تلك الوصاية أميركية، وإلا فبريطانية. ورفضوا فرنسة رفضًا باتًّا، كما رفضوا مطاليب الصهيونيين بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.

ولم تسمح الحكومة البريطانية للجنة بالدخول إلى العراق، كما رفضت هي والحكومة الفرنسية قبول قرار لجنة الاستفتاء، ورجع الأمير فيصل إلى سورية وأعلن للناس نوايا الغربيين، وأن بريطانية ترفض الانتداب على سورية، وأنها قررت سحب جنودها من سورية وإحلال الجنود الفرنسيين محلهم.

ثم اجتمع مجلس الصلح الأعلى في مدينة «سان ريمو» ما بين ١٩ و٢٦ نيسان سنة ١٩٢٠، فأبرم اتفاقًا بين فرنسة وبريطانية بتقسيم الانتدابات في دول الشرق الأدنى، فكانت سورية ولبنان وقليقية من نصيب فرنسة، وكانت فلسطين والأردن والعراق من نصيب بريطانية؛ وأن تتنازل فرنسة لإنكلترة عن ولاية الموصل.

ولما أبرمت هذه الاتفاقات رأى الأمير فيصل أن الدول الغربية قد خانت العهود، وأن أميركا لا يمكنها أن تقوم بنصرة العرب، فاتصل مجددًا بالبريطانيين فأفهموه بوجوب اتصاله بالفرنسيين، ومهدوا له سبيل المفاوضة مع الرئيس كليمنصو، فسافر إلى باريس واجتمع إلى كليمنصو، وبعد جلسات عديدة ومحاولات كثيرة تم التفاهم بينهما على مشروع اتفاق علق فيصل إبرامه على قبول الشعب السوري له، ولما عرضه على أعضاء المؤتمر السوري الذين يمثلون البلاد السورية واللبنانية والفلسطينية أصدق تمثيل، رفضوه بالإجماع في كانون الثاني سنة ١٩١٩م؛ لأنه كان مشروعًا استعماريًّا لم يعترف لسورية باستقلالها المطلق، ولا لسكانها بالسيادة التامة، بل اعترف «للأهلين الناطقين بالعربية والقاطنين في أرضها من جميع المذاهب، أن يتَّحدوا ويحكموا أنفسهم بأنفسهم على أنهم أمة مستقلة!» كما ينصُّ على أن السلطات الفرنسية تشرف على إدارة البلاد فعليًّا بتسمية مستشارين في كافة دوائر الدولة يصرِّفون أمورها، ولا يعترف المشروع لسورية بالتمثيل السياسي، ولا يحق لها بموجبه قبول الممثلين السياسيين، ولا أن تكون حرة في برامج التعليم، بل تطبق البرامج التي تسميها السلطات الفرنسية، ويكون تدريس اللغة الفرنسية إجباريًّا.

ولم يرد في المشروع شيء عن الساحل السوري؛ لأن فرنسة كانت تنوي فصله عن الداخل، كما لم يرد فيه شيء عن حدود لبنان؛ لأن فرنسة كانت تنوي اقتطاع أجزاء من سورية وضمها إليه.١
وصفوة القول أن هذا المشروع كان صكَّ انتدابٍ، بل استعمار لو قبل به فيصل أو الساسة السوريون لطوقوا بلادهم بطوق من الحديد والعار، ولما رأى الفرنسيون أن فيصلًا وأحرار سورية يأبون الخضوع لهم، أتموا مؤامرتهم مع بريطانية، فسحبت هذه قواها من سورية، وسمت فرنسة الجنرال غورو حاكمًا عسكريًّا لدول الشرق، وأمدَّته بالمال والسلاح والجند، ورجع فيصل إلى سورية واجتمع إلى أعضاء المؤتمر السوري، وتذاكروا في الأمر فأقروا الأمور الآتية:
  • (١)

    استقلال البلاد السورية بحدودها الطبيعية، ومنها فلسطين، استقلالًا تامًّا.

  • (٢)

    تكون الحكومة مدنية نيابية، لا مركزية ضامنة لحقوق الأقليات.

  • (٣)

    ينادى بسمو الأمير فيصل ابن جلالة الملك حسين ملكًا دستوريًّا على سورية، ويلقب بصاحب الجلالة الملك فيصل الأول.

  • (٤)

    تراعى أماني اللبنانيين الوطنية في إدارة شئون لبنان ضمن حدوده المعروفة قبل الحرب العامة، على أن يكون في معزل عن كل تأثير أجنبي فيه.

  • (٥)

    ترفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود أو محل هجرة لهم.

  • (٦)

    بالنظر إلى ما بين الشام والعراق من الصلات والروابط اللغوية والتاريخية والاقتصادية والجنسية والطبيعية، مما يجعل أحد القطرين لا يستغني عن الآخر، فالمؤتمر يطلب استقلال العراق استقلالًا تامًّا، على أن يكون بين القطرين الشقيقين اتجاه سياسي اقتصادي.

وقد أعلنت هذه المقررات في الثامن من آذار سنة ١٩٢٠م، الموافق ليوم ١٧ جمادى الثانية سنة ١٣٣٨ﻫ، وبويع الملك فيصل على عرش سورية، ورُفع العلم الجديد، وهو علم الثورة السورية ذو الألوان الثلاثة، يجمع بينها مثلث أحمر، وأُضيفت إليه نجمة، واتخذ السوريون هذا اليوم عيدًا قوميًّا. وما إن بلغت هذه الأخبار مسامع الفرنسيين حتى جُنَّ جنون الجنرال غورو، فأمر قواته بالسير إلى بيروت لاحتلال رياق وبعلبك وشتورة، ثم جهز جيشًا قويًّا وبعث بإنذار شفهيٍّ إلى الملك فيصل يوم ١١ تموز سنة ١٩٢٠م طالبه فيه بقبول الانتداب الفرنسي على سورية بلا قيد ولا شرط، وإيقاف التجنيد الإجباري، وقبول العملة الورقية التي أصدرها جيش الاحتلال الفرنسي في لبنان، والسماح للجيش الفرنسي القادم من قليقية باحتلال حلب. ولم ينتظر جواب الملك على إنذاره، بل أمر جنده بالزحف على دمشق، وبعث إلى الملك فيصل إنذارًا مكتوبًا يوم ١٤ تموز، فجمع الملك أعضاء وزارته فرآهم منقسمين إلى قسمين: قسم يرى قبول الإنذار، وقسم يرى وجوب إهماله. وبعد مذاكرات طويلة قرَّ رأيهم على قبول الإنذار؛ لأن مقاومتهم تكون ضربًا من العبث لعدم تكافؤ الجانبين، ولكنَّ غورو لم يكتفِ بقبول الإنذار، بل أصرَّ على تنفيذ مطاليبه، ثم أمهل الحكومة السورية إلى منتصف ليلة ٢٠ تموز سنة ١٩٢٠م، وإلَّا زحف الجيش على دمشق، فقبلت الحكومة هذا الإنذار، وسرحت جيشها، وأعطى الملك فيصل في الساعة السادسة من بعد ظهر يوم ٢٠ تموز كتابًا مطولًا يشتمل على طريقة تنفيذ الإنذار، وسلم هذا الكتاب إلى ضابط الارتباط الفرنسي «كوس»، فأبرق هذا إلى الجنرال غورو بقبول الحكومة للإنذار، ولكن البرقية لم تصل إلى غورو؛ لأن موظف البرق رفض استلامها بحجة انقطاع الخطوط، فزحفت جيوشه إلى دمشق صباح يوم ٢٠ تموز، واضطرت الحكومة السورية إلى الدفاع عن العاصمة، فلم تستطع أن تجمع أكثر من بضع مئات من الجند النظاميِّ وألفين من المتطوعين، مع أنَّ الجيش الفرنسيَّ كان مؤلفًا من لواءين من جنود السنغال، ولواء من الفرسان المراكشيين، وأربعة من أفواج من المشاة الجزائريين، وسبع بطاريات من المدفعية. وجرت بين الطرفين معركة في «عقبة الطين» غربي ميسلون يوم ٢٤ تموز سنة ١٩٢٠م، فاستشهد وزير الدفاع يوسف العظمة، وارتدت القوات السورية، ودخل الجيش الفرنسي، ثم زحف نحو حمص وحماه وحلب واستولى على البلاد السورية استيلاء تامًّا.

ثم طلب غورو من الملك فيصل أن يغادر البلاد، فتركها وهو آسف، وسرَّح الفرنسيون فلول الجيش السوري واستولوا على أسلحته وألغوا وزارتي الحربية والخارجية، وأقاموا في دمشق مندوبًا عن المفوض السامي الفرنسي المقيم في بيروت ومستشارين في كل الوزارات والدوائر، فكانوا هم الحكامَ الحقيقيين، ثم قسموا دوائر الدولة إلى قسمين: قسم جعلوه تحت إشرافهم المباشر كالجمارك، ومراقبة الشركات الأجنبية، وأحوال المدارس والمعاهد الأجنبية، ومصالح الحدود والبادية، ودوائر الأمن العام، وشئون السياسة الخارجية، ودوائر الجوازات، والجيش، ودوائر البارود والمفرقعات، والمحاجر، والمخترعات. والقسم الثاني سلموه للسوريين وجعلوا في دوائره مستشارين يشرفون على تنظيمه، وهي: دوائر الداخلية، والمالية، والمعارف، والعدل، والأشغال العامة، والأوقاف، والاقتصاد الوطني، والصحة، والإسعاف، والبيطرة، والزراعة، والشرطة، والدرك، والبرق والبريد، والمصالح العقارية، وأملاك الدولة، والقضاء الشرعي.

وأقاموا في البلاد إلى جانب الجهاز الحكومي «جهاز المفوضية العليا ودوائرها»، جعلوا مركزه الرئيسيَّ في بيروت، وأقاموا له فروعًا في دمشق وحلب وسائر المحافظات والأقضية. وكانت دوائر هذا الجهاز هي دوائر الحكام الحقيقيين، وقد تبع هذه الدوائر عدد كبير من التراجمة، تسلطوا على الأهلين تسلُّط الجلادين القساة، وأذاقوهم الأمرَّين طوال فترة الانتداب الفرنسي البغيض.

وحين غادر الملك فيصل سورية عهد برئاسة الوزارة إلى علاء الدين الدروبيِّ، على أن يختار هو وزراءه، ولما بلغ الملك حوران أبرق إليه الدروبيُّ بوجوب مغادرته البلاد فورًا، وإلا ضربت الطيارات مدن حوران، فاضطر جلالته إلى السفر إلى الأردن فالعراق.

أما الأردن فقد جعل إمارة تشتمل على بلاد عجلون والصلت وعمان ومعان، وعلى رأسها الأمير عبد الله بن الحسين، وقد دعيت: «إمارة الشرق العربي».

وأما فلسطين فجعلت بريطانية لها حكومة مختلفة يرأسها مندوب سام بريطاني: هو هربرت صموئيل، على أن يكون له الإشراف أيضًا على إمارة المشرق العربي. وشكَّلت الحكومة البريطانية في فلسطين مجلسًا أسمته مجلس الشورى، مؤلفًا من عشرين عضوًا؛ نصفهم من رجال دوائر الحكومة، ونصفهم من الأهلين، وهم أربعة من المسلمين وثلاثة من كلٍّ من النصارى واليهود، وعمل هذا المجلس استشاريٌّ بحت.

وأما العراق فقد وضع تحت الانتداب البريطانيِّ بموجب مقررات مجلس الحلفاء الأعلى في سان ريمو بنيسيان سنة ١٩٢٠م، وأخذت قوى الاحتلال البريطاني تحكمه حكمًا مباشرًا، فاضطرب أحراره وأعلنوا الثورة على بريطانية، وتزعم الحركة شبان «جمعية العهد» و«جمعية حرس الاستقلال»، والتهب العراق كله — وبخاصة القسم الجنوبي — وفتك بالجيش البريطاني في عدة معارك اضطرت بعدها بريطانية أن تنظر إلى الشعب العراقي نظرة تقدير. وقرر المندوب السامي البريطاني السير برسي كوكس بعد مشاورة حكومة ملكه في ٢٠ حزيران سنة ١٩٢٠م تأليف مجلس شورى، والاعتراف للعراق بالسيادة الوطنية وبكونه عضوًا في جمعية الأمم، على أن تنوب عنه بريطانية ويكون الجيش البريطاني هو المسئول عن أمن العراق. فلم يرض أحرار العراق بهذا الحل الهزيل، وظلت البلاد مضطربة، إلى أن اعتلى عرشها الملك فيصل في ٢٢ آب سنة ١٩٢٢م، فبدأ شكل الحكم يتغير تغيرًا ملموسًا نحو السيادة القومية، وكانت حكومة العراق حكومة ملكية ديموقراطية برلمانية تتألف السلطة التشريعية فيها من مجلسين، هما: مجلس النواب، ومجلس الأعيان. وتضمنت المادة الأولى المعاهدة الموقعة بين ملك العراق وملك بريطانية، ما يضمن العمل على إنشاء حكومة مستقلة ذات سيادة تامة في العراق، وكان من أبرز هذه السيادة الاعتراف بمبدأ التمثيل الخارجي في حواضر العالم ولدى جمعية الأمم.

١  انظر صورة هذا المشروع في كتاب «الوثائق والمعاهدات في بلاد العرب» الذي نشرته جريدة الأيام الدمشقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤