الفصل السادس

الحالة في شمال أفريقيا

رأينا في الفصل الخامس بتاريخ شمال أفريقيا من «عصر الانحدار» أن المغرب العربيَّ كان قبل سنة ١٢٦١ﻫ تحت سلطان دولة الموحدين القوية التي وحَّدت بلاد المغرب كلها من حدود برقة إلى المحيط الأطلسيِّ، ولما أن انحلت عراها قام مقامها في المغرب دويلات صغيرة ضعيفة متنابذة في الجزائر وتونس ومراكش وليبيا، وكانت هذه الدول الصغيرة تتناحر تناحرًا أطمع دول الاستعمار الغربيِّ فيها. وكان الإسبان والبرتغال أنشط تلك الدول الاستعمارية في مدِّ يدهم إلى المغرب العربي، وقد حاول المغاربة وقف سيل الاستعمار المنحدر نحوهم من الساحل الأوروبي، فلم يستطيعوا وقفه، وتمكَّن الإسبان من الاستيلاء على أكثر ثغور تونس والجزائر وطرابلس، كما تمكَّن البرتغال من الاستيلاء على بعض ثغور المغرب الأقصى في مراكش، وأخذ الإسبان والبرتغال يسيئون معاملة الأهلين، فاستغاثوا ولا مغيث، ولمع في تلك الفترة نجم أخوين مغربيين كانا يمتهنان القرصنة في البحر الأبيض المتوسط، وهما خير الدين باربروس (أي ذو اللحية الحمراء) وأخوه عرُّوج، ولما قوي نفوذهما، وكثرت أموالهما من أعمال القرصنة في السواحل الإيطالية والإسبانية والبرتغالية، وقويت شوكتهما عمدَا إلى الاستقرار وأسسَا إمارة غنية قوية، ثم مات عرُّوج وانفرد باربروس، فالتفَّ الناس من حوله وألَّف جيشًا قويًّا استطاع أن يهزم به الإسبان من قلاع الجزائر، ووطد ملكه فيها، ثم أخذ يتوسع نحو الشرق والغرب في شمال أفريقية.

ثم رأى أن يتصل بالسلطان سليمان العثماني، ووضع بلاد الجزائر التي كان يسيطر عليها تحت حماية السلطان العثماني، ثم شجَّعه على الاستيلاء على تونس، وإنقاذها من تخبط الأسرة الحفصية فيها، وتمكَّن من فتحها بسهولة في سنة ١٥٣٤م، واستغاث مولاي الحسن الحفصي بالإمبراطور شارل الخامس، فأمده بأسطول إسباني قوي استطاع به أن يفتح مدينة تونس سنة ١٥٣٥م، وعاد مولاي الحسن الحفصي على العرش التونسي بعد أن وقع مع الإمبراطور شارل الخامس معاهدة كأنها اتفاقية حماية، وغادر الإمبراطور تونس بعد أن ترك فيها ألف جنديٍّ إسبانيٍّ كحامية في البلاد، وفي سنة ١٥٧٤م تمكَّن القائد التركيُّ سنان باشا من الاستيلاء على تونس وأدخلها نهائيًّا في أملاك الدولة العثمانية.

وخضعت الجزائر وتونس للباشاة الأتراك الذين توفدهم الآستانة، ولما وقعت الفتنة بين الأسرة العلوية حاكمة مصر وآل عثمان، انتهز الفرنسيون ضعف الطرفين، فاستولوا على الجزائر أولًا ثم على تونس.

وفي شهر نيسان سنة ١٨٢٧م جرت حادثة تاريخية في قصر القصبة الباشا التركي (الداي) بالجزائر، حين لطم الداي حسين باشا الجزائري وجه المسيو دوفال قنصل فرنسة على أثر مشادَّة عنيفة جرت بينهما، فغضب القنصل الفرنسي وكتب إلى بلاده فثار ثائرها واتخذت ذلك ذريعة للاحتكاك بالجزائر في سنة ١٨٣٠م، فجيشت جيشًا عظيمًا، وأسطولًا ضخمًا، واستطاعت أن تنزل في ميناء الجزائر بعد معارك دامية، وقد دار رحى الحرب سنوات عديدة بين الجيش الفرنسي القوي والقادة الجزائريين وفي طليعتهم الأمير عبد القادر الحسيني، الذي ظل يقاومهم سبعة عشر عامًا، إلى أن اضطر إلى الاستسلام في سنة ١٨٤٧م. ولم يقف جهاد الجزائريين لفرنسة طوال فترة احتلالها للبلاد، وكانت أعنف معارك الجهاد هذه معركة سنة ١٨٧١م التي قتل فيها الأحرار الجزائريون عددًا كبيرًا من الفرنسيين؛ لأن فرنسة كانت ضعيفة في تلك الفترة؛ لخروجها هزيلة من الحرب الألمانية، وما إن تمكَّن الفرنسيون من القضاء على القوى الجزائرية حتى أمعنوا في أهلها ذبحًا وتقتيلًا، وأدمجوا البلاد نهائيًّا بالبلاد الفرنسية.

أما تونس، فإنها بعد أن خضعت للدولة العثمانية وتعاقب على الحكم فيها جماعة من الحامية الانكشارية التركية إلى أن ظهر من بينهم حسن بن علي، فاتخذ لنفسه لقب «باي تونس» وتعاقب أبناؤه على البلاد من بعده.

وحدث في سنة ١٨٨١م أن اعتدت بعض القبائل التونسية على أجزاء من بلاد الجزائر، فاتخذت فرنسة ذلك ذريعة لإرسال حملة عبرت بها الحدود وحاصرت العاصمة التونسية، ولم تفك الحصار عنها إلا بعد أن أملت على الباي محمد الصادق شروط معاهدة الحماية (معاهدة باردو)، فوقعها الباي مرغمًا، ولكنَّ الشعب التونسيَّ ظل يقاوم الحماية الفرنسية، وكانت أولى الحركات الوطنية القوية في مقاومة الاحتلال الفرنسي حركة سنة ١٩٠٥م، ثم حركة «علي باش حميه» في سنة ١٩٠٨م.

ولما انتهت الحرب العالمية الأولى ظنَّ أحرار تونس أن الحكومة الفرنسية ستنصفهم وتقدِّر الجهود التي بذلوها في هذه الحرب، وظنوا كما ظن المصريون والسوريون والعراقيون أن الحلفاء قوم يعرفون معنى الوجدان والحرية والعدالة، ولكن خاب ظنهم، وكان نصيب عبد العزيز الثعالبي زعيم حزب الدستور التونسي النفي والتشريد، كما نفي وسجن عدد كبير من أحرار البلاد وفي طليعتهم الحبيب بورقيبة رئيس الجمهورية التونسية الحالي.

•••

وأما مراكش، فهي الدولة المغربية الوحيدة التي استطاعت — على الرغم من ضعفها — أن تحافظ على استقلالها، وتنجو من الحكم التركي، كما نجت من الضغط الإسباني والبرتغالي طوال القرن التاسع عشر. فلما كان القرن العشرون، أخذت فرنسة تتقرب من سلاطين مراكش زاعمة أنها تريد تدريب جيشها وتقويته، وانخدع مولاي الحسن ١٨٧٣–١٨٩٤ بذلك، فسمَّى بعض الفرنسيين مدربين في جيشه. وفي سنة ١٩٠٤م اتفقت بريطانية وفرنسة على أن تترك الأولى للثانية حرية التصرف في مراكش بشرطين: أولهما؛ أن تكون المنطقة الشمالية الغربية المواجهة لجبل طارق تحت حكم إسبانية، والثاني؛ أن تكون طنجة ميناء دوليًّا محايدًا. وفي سنة ١٩٠٨م اتفقت فرنسة وإسبانية على اقتسام النفوذ في مراكش، وجعلت منطقة الريف تحت النفوذ الإسباني، وقد شجعت هذه الاتفاقات فرنسة على أن تتجاهل احتجاجات ألمانية، إلى أن تولى السلطنة مولاي عبد الحفيظ سنة ١٩٠٨م، فثارت عليه القبائل، فاستعان بفرنسة على إخماد ثورتهم. ولكنَّ الجنود الفرنسيين كانوا جنود احتلال لا جنود نجدة، ودخلت قواتهم مدينة فاس سنة ١٩١١م، وقامت أزمة عنيفة بعدئذٍ انتهت بتسليم ألمانية مركز فرنسة في مراكش.

وفي سنة ١٩١٢ اضطر مولاي عبد الحفيظ إلى أن يوقِّع معاهدة حماية مع فرنسة، فرضت فرنسة بموجبها سلطانها على البلاد وسمَّت الجنرال ليوتي مقيمًا عامًّا، وظلت البلاد تقاسي ويلات الاستعمار الفرنسي إلى أن تولى السلطنة مولاي محمد بن يوسف بن عبد الحفيظ، فأخذ يناوئ الاستعمار الفرنسيَّ إلى أن اعترفت فرنسة باستقلال البلاد.

وأما المنطقة التي تحتلها إسبانية من مراكش، فقد ظهر فيها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابيُّ، وقاد ثورة ضد الإسبان في سنة ١٩٢٣م، وأوقع بالعدو خسائر عظيمة حتى كاد أن يجلوه عن البلاد، ولكنَّ الفرنسيين خافوا أن يصل حدُّ سيفه إلى رقابهم، فتعاونوا والإسبان على سحق قواه، واضطروه إلى الاستسلام، فاستسلم ونفوه إلى جزيرة «رينيون» في المحيط الهندي ثم لجأ إلى مصر.

•••

وأما ليبية، فقد كانت تحت سلطة الأسرة السنوسية التي اتخذت مدينة بنغازي مقرًّا لها، وكان زعيمهم السيد محمد علي السنوسي ذا نفوذ قويٍّ وسلطان عظيم، وقد وضع نظامًا لإدارة البلاد منذ عام ١٨٥١م، ولما مات سنة ١٨٥٩م خلفه ابنه المهدي، وكان ذا نشاط كبير، فعمت الطريقة السنوسية في إقليمي برقة وطرابلس الغرب، والسودان الغربي، فخافته الدولة العثمانية على نفوذها وأخذت تحاربه، واضطر إلى اللجوء إلى واحة جغبوب، ثم اضطر إلى مغادرتها في سنة ١٨٩٤م إلى واحة الكفرة، وازدادت الحركة السنوسية في الجنوب حتى بلغت أعالي السودان، وأخذ الاستعمار الفرنسي يحاربها بعنف حتى مات المهديُّ السنوسيُّ في سنة ١٩٠٢م، فأخذ خلفاؤه يجمعون قواهم إلى أن أراد الإيطاليون احتلال ليبية، فوقفوا في وجههم وقفاتٍ أثبتت صدق وطنيتهم، واستطاعوا أن يحصروا الاحتلال الإيطاليَّ في الساحل.

ولما وقعت الحرب العالمية وانضمت إيطالية إلى الحلفاء، أعلن الليبيون تأييدهم للدولة العثمانية ضد الحلفاء، وجاءتهم المؤن والذخائر من الدولة بوساطة الغواصات الألمانية، وتحرج موقف الإيطاليين، ولكن لم تمض فترة حتى انقسم السنوسيون إلى فريقين: فريق يتزعمه السيد أحمد الشريف السنوسي الذي كان يرى وجوب تأييد الدولة العثمانية على الطليان والحلفاء عامة.

وفريق ثانٍ يترأسه السيد محمد بن المهدي السنوسيُّ الذي كان يقول بوجوب البقاء على الحياد وعدم تأييد فريق على آخر؛ لأن للإنكليز فضلًا على السنوسيين بحمايتهم من ضربات الفرنسيين.

وكان سواد الناس مع الفريق الأول، ولما انتهت الحرب العالمية الأولى اضطر السيد أحمد الشريف إلى اللجوء لتركية ثم للحجاز، وخلفه على زعامة السنوسيين السيد إدريس الملك الحالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤