الفصل الثاني

مظاهر الحضارة في العالم العربي

أخذ العالم العربي يسير صعدًا في طريق الحضارة والعمران التي ابتدأ يسير عليها في القرن الثامنَ عشرَ، فازدهرت البلاد العربية وأخذت مجالي الحضارة الأوروبية تتجلى في معالمها، وقد كان تأثير الحضارة الأوروبية جِدُّ واضح في كافة مرافق الحياة من: تعليم، ومعيشة، ومسكن، وملبس، ونظام إداري. ولا غرو؛ فإن الحضارة الغربية بصورة عامة، والأوروبية منها بصورة خاصة، قد دخلت في كافة مرافق الحياة عن طريق الإرساليات، والمدارس، والبعثات، والكتب، ونشر اللغات الأجنبية، ولو رحنا نستقصي مجالي الحضارة في العالم العربي نجدها ظاهرة في الأمور الآتية:

(١) الصحافة

لم يعرف العرب الصحافة قبل اتصالهم بالحضارة الأوروبية، وكانت رواية الأخبار والقصائد والأشعار في حلقات المنتديات العامة، والمجالس الخاصة هي الوسيلة الوحيدة التي يتناقل بها الجمهور الأخبار العامة.

ومعلوم أن إيطالية ومدينة البندقية بصفة خاصة، هي مركز أول صحيفة أوروبية؛ ففي سنة ١٥٦٦م وبعد انتشار فن الطباعة، وُجدت أول جريدة، ولم تلبث الصحافة أن انتقلت إلى بلدان أوروبة فسائر بلاد الغرب، ولم تصل الصحافة إلى دنيا العرب إلا بعد سنة ١٧٩٩م حينما أسس نابليون في مصر أول جريدة. ثم أنشأ المبشرون الأميركان في بيروت أول مجلة عربية بعنوان مجموع فوائد في سنة ١٨٥١م، وكان للشاميين فضل نشر الصحافة في العالم العربيِّ والإسلاميِّ؛ فهم الذين ساهموا في إنشاء الصحافة في المغرب العربيِّ، والجزيرة العربية، ومصر، وبخاصة حين زاد ضغط الدولة العثمانية على الشام، واضطر نفر من رجالاته المثقفين إلى الهرب منه واللجوء إلى بعض الأقطار المجاورة. لقد هبط مصر نفر منهم ساهموا مساهمة فعَّالة في تكوين الصحافة المصرية الحديثة، فأنشئوا عددًا من المجلات والصحف، وفي طليعتها جريدة الأهرام التي أنشأها سليم وبشارة تقلا سنة ١٨٧٥م، ومجلة الهلال التي أنشأها جرجي زيدان، وما تزالان تصدران، وهناك عدد من المجلات والصحف التي ظهرت ثم توقفت، كالمقطم والمقتطف والمنار والزهراء والإخاء.

وقد عمَّت الصحافة العربية اليوم كافة أقطار العروبة، من صحف يومية ومجلات دورية في كافة حقول العلم والسياسة والاجتماع، وصحافة مصر اليوم هي التي تحتل مكانة الصدارة في الصحافة العربية لعناية أصحاب صحفها بانتقاء أفاضل الكتَّاب، والإغداق عليهم بالمرتبات الجيدة، ومسايرة تطور فن الصحافة العالمي.

(٢) الطباعة

لا ريب في أن رقيَّ الصحافة العربية متوقف على رقيِّ الطباعة، وقد سارت المطبعة جنبًا إلى جنب مع الجريدة والمجلة، فحينما كانت الطباعة راقية مزدهرة كانت الصحافة كذلك. ومن المعلوم أن بلاد الشام — وبخاصة لبنان منها — كانت أول البلاد العربية التي وجدت الطباعة فيها؛ ففي سنة ١٦١٠م أُنشئت أول مطبعة في لبنان أهداها البابا إلى الرهبنة اللبنانية في دير قزحيا، وفي سنة ١٦٩٨م أنشأ الآباء المارونيون أول مطبعة في حلب، ثم أُنشئت مطبعة الشوير في لبنان بعناية الراهب عبد الله زاخر سنة ١٧٣٢م، ثم أُنشئت مطبعة القديس جاورجيوس في لبنان سنة ١٧٥٣م.

ومن الطبيعي أن مطبوعات هذه المطابع لم تكن إلا دينية. وفي سنة ١٨٢٠م أُنشئت المطبعة الأميركية في مالطة، ثم نقلت إلى بيروت في سنة ١٨٣٢م.

وأوَّل مطبعة أُنشئت في مصر هي المطبعة البولاقية التي أنشأها محمد علي في سنة ١٨٢١م، وأُنشئت مطبعة الإرسالية اليسوعية في بيروت سنة ١٨٤٨م. وكانت هذه المطابع الثلاث تطبع الكتب العلمية والأدبية إلى جانب الكتب الدينية. ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذت المطابع تنتشر في الشام ومصر والعراق وشمال أفريقية وبخاصة في فجر القرن العشرين.

ولا ريب في أن الطباعة قد لعبت دورًا هامًّا في تقريب وجهات النظر العربية، وفي توحيد الأهداف ونشر التراث العربيِّ القديم، وكانت المطبعة الوسيلةَ القويةَ التي لجأ إليها المصلحون في هذه الديار لنشر أفكارهم من نثر وشعر، وفي طليعتهم: بطرس البستاني، وناصيف اليازجي، وأحمد فارس الشدياق، وجمال الدين الأفغاني، ومحمود الألوسي، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعبد المحسن الكاظمي، ومعروف الرصافي، وجميل الزهاوي، وجرجي زيدان، ويعقوب صروف، وشبلي الشميل، وأحمد زكي باشا، وأحمد تيمور باشا، ومحمد عبد المطلب، وأحمد الإسكندري، وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وخليل مطران، ومصطفى عبد الرازق، وأحمد لطفي السيد، وعلي يوسف، وأمين الريحاني.

(٣) الفنون الجميلة

رأيت شيئًا من أوضاع الفنون الجميلة، من موسيقى، وتمثيل، ونقش، وتصوير، وبناء، وفصاحة في تاريخ «عصر الازدهار»، وقد استمر بعض هذه الفنون مزدهرًا في العصور التي تلته.

فلما كان عصر النهضة، واتصل العالم العربيُّ بالغرب، انبعثت هذه الفنون بعثًا جديدًا.

فأمَّا الموسيقى العربية القديمة، فقد بقي طرف منها في بعض مدن العالم العربيِّ: كبغداد، والموصل، وحلب، ودمشق، والقاهرة، وطغت عليها الموسيقى التركية في العصر العثمانيِّ. ثم جاءت الموسيقى الغربية في فجر القرن العشرين، فلونتها ألوانًا حديثة منها الجميل الحسن المقبول، ومنها السخيف الثقيل المقبوح.

وأما التمثيل: فما كان العرب يعرفونه على الشكل الذي جاءت به مسارح أوروبة، وإنما كانت للعرب حلقات لهو ورقص، تجري فيها بعض الحركات التمثيلية، والرقص فن قديم عند العرب كالغناء، وقد اشتهر رقص السماع «أو السماح»، وهو رقص إيقاع إجماعي تغنى فيه الموشحات الموروثة الجميلة. ويظهر أن فن التمثيل بالشكل الذي كانت المسارح الأوروبية تقوم به، لم يبدأ في العالم العربي إلا على يدي الفنان السوري أحمد أبو خليل القباني الدمشقي، وقد أنشأ مسرحًا للتمثيل، وكان يؤلف الروايات التمثيلية ويلحنها ويقوم هو ونفر من الفنانين بتمثيلها للنظارة، ولما انتقل إلى مصر تقبَّله الناس وشجعوه، ثم تتابع الناس بعده يمثلون ويؤلفون في هذا.

وأما النقش والتصوير: ففنَّان ازدهرا ازدهارًا رائعًا في العصر العباسي والعصور التي تلته، ويُختصُّ كل قُطر من الأقطار العربية بطابع فنيٍّ خاص، وطراز مستقل سواء في النقش، أو في التلوين، أو الزخرفة، أو التصوير. وقد تجلى هذا الفن الجميل في الأبنية وزخارفها، وفي الكتب وتصويرها وتجليدها، وفي الثياب والمواعين والحلي.

ولما اتصلت الحضارة الأوروبية بالفن العربي وبخاصة بعد حملة نابوليون، تطور الفن التصويري والزخرفي العربي تطورًا ملموسًا.

وأما البناء: فقد استمر طوال العصور العربية مزدهرًا جميلًا، سواء في حالتي بساطته وتعقيده. وطبيعي جدًّا أن تختلف طرز البناء في أقطار العالم العربيِّ، كما اختلفت فنون الريازات Architecture؛ لأن لكل إقليم طبيعة جوية تختلف اختلافًا واضحًا.

وقد كان للفنون العمرانية التي جاء بها الصليبيون إلى بلاد الشام ومصر أثرٌ واضح في طبع البناء العربي بطابع أبنية العصور الوسطى الأوروبية، وبخاصة الإيطالية من حصون وقلاع.

وأما فنون الفصاحة: من شعر ونثر وما إليهما، فقد سارت في فجر هذا العصر سيرًا منسجمًا مع التقدم العام، وانصرف الناس إلى الفنون اللفظية والمحسنات البديعية التي طغت في القرنين الماضيين، وصار «المعنى» الحسن، و«الأسلوب» العربي الفصيح، ودقة الأداء في التعبير هو غاية الأديب الفنان.

ونبغ في الأمة العربية جيل رفيع المكانة في نهاية القرن الثامن عشر، وطوال القرن التاسع عشر كانوا الركيزة القوية التي ترتكز عليها حركتنا الأدبية اليوم.

(٤) التعليم

أطل عصر النهضة على العالم العربي، وفيه نوعان من معاهد التعليم:
  • أولهما: التعليم الديني، وكان محصورًا في المدارس الإسلامية القديمة، وبعض المساجد والجوامع، وكان هدف هذا التعليم تثقيف الفرد ثقافة إسلامية قويمة، يتقن فيها المرء علوم اللغة وآلاتها من «نحو وصرف وبلاغة»، والفقه، والحديث، والكلام، والسيرة النبوية، والمنطق على الأسلوب القديم، وبعض المعلومات الأولية الساذجة في علوم الكون وما وراء الطبيعة والحساب. وهناك تعليم دينيٌّ مسيحيٌّ يهدف إلى تعليم الفتى المسيحيِّ أحكام دينه، وإلى جانب ذلك تعليم بعض اللغات الأجنبية من إفرنسية وإيطالية وألمانية وإنكليزية ولاتينية ويونانية وسريانية.

    وقد أدت هذه المعاهد الدينية بشطريها خدمة جليلة، وبخاصة في عصور الانحطاط، وحين عمدت السياسة العثمانية إلى وقف حركة التعليم على ما أشرنا إليه في حديثنا عن تاريخ فترة السلطان عبد الحميد الثاني.

  • وثانيهما: التعليم المدني، وكان الرواد فيه هم بعض رهبان الأميركان أو اليسوعيين، على ما بينَّاه فيما سبق. ولما رأى المسلمون هذه المدارس المدنية التي يشرف عليها المسيحيون، أخذوا ينشئون مدارس على نمط حديث، كالمدرسة الأهلية في بيروت، ومدارس المقاصد الخيرية في مصر والشام، ومدارس الجمعية الخيرية في حلب، وعمدت الحكومة التركية إلى إيجاد بعض المدارس الابتدائية في حلب ودمشق وبيروت والقدس وبغداد والموصل وبعض مدن شمالي أفريقية الخاضعة لنفوذهم. وكان للوزير التركي المصلح مدحت باشا أثر واضح في إيجاد هذه المدارس المدنية الحديثة، حينما تولى دمشق سنة ١٢٩٥ﻫ.

وقد سار التعليم المدنيُّ صعدًا، وانتشر التعليم الابتدائيُّ الثانويُّ في مصر والعراق والشام وشمالي أفريقية والجزيرة. أمَّا التعليم الجامعيُّ العالي فما يزال محدودًا.

(٥) التجارة والاقتصاد

أطل القرن التاسع عشر وتجارة البلاد العربية عادية محدودة، وكان كل قطر من أقطار العروبة يعيش بوضع اقتصاديٍّ متأخر، ولا رابط يربط بين أجزاء الأقطار العربية، فلا طرق مواصلات قوية منتظمة، ولا تبادل اقتصادي منظم، بل كان كل قطر يعيش منطويًا على نفسه، مكتفيًا بمنتوجاته وفتوحات البلاد المتاخمة له، على عكس ما كانت عليه الحالة في البلاد الأوروبية والأميركية. ولكن ما لبثت الحضارة الأوروبية أن امتدت إلى العالم العربيِّ بإنشاء بعض الخطوط الحديدية، وبتعبيد كثير من الطرق البرية، وكان في طليعة المواصلات التي أجريت الخطُّ الحديديُّ الحجازيُّ الذي أذن السلطان لبعض الشركات الألمانية بمده ما بين المدينة المنورة ودمشق، كما حاول الألمان ربط العاصمة الإسلامية إستانبول بالخليج العربيِّ بوساطة خطٍّ حديديٍّ، وهدفهم الرئيسيُّ من ذلك هو ضرب معقل الاستعمار البريطانيِّ في ذلك الخليج العظيم، وتمكَّن الفرنسيُّون من إقناع الخديوي محمد سعيد بفتح قناة السويس، فأذن لهم بذلك في سنة ١٨٥٤م. وحاولت بريطانية عرقلة هذا المشروع فاستطاعت عرقلته، فلما تولى مصر الخديوي إسماعيل تمكَّن المهندس دلسبس الفرنسي من البدء بمشروع القناة، وتم له ذلك في سنة ١٨٦٩م، ثم أخذت الحكومة العثمانية بإصلاح الموانئ في العالم العربيِّ لتصلح لرسو البواخر الضخمة كميناء غزة، وحيفا، ويافا، وعكا، وصيدا، وصور، وطرابلس، وبيروت، والإسكندرونة، واللاذقية. وأذنت بمدِّ خطٍّ حديديٍّ بين حلب والموصل وبغداد والبصرة، وبين بيروت ودمشق، وبين دمشق وحمص وطرابلس، وبين دمشق وحيفا والعريش والقطر المصري، وهكذا اتصل العراق بالشام ومصر.

واهتمَّت الحكومة الخديوية بإنشاء شبكة من الخطوط الحديدية، وشبكات طويلة من الطرق في القطر المصريِّ، كما عملت الحكومة التركية على فتح طريق تصل بين أجزاء العراق والشام والأناضول. وعُنيت حكومة الاحتلال الفرنسي في شمال أفريقية بإصلاح الموانئ، وفتح الطرقات بين أجزاء الشمال الأفريقي الذي تحتله.

وكان من نتائج هذه الشبكات الحديدية، والموانئ والدروب والمسالك؛ أن اتصل العالم العربي اتصالًا قويًّا، وتبادل أهله السلع والتجارات، وقويت الصلات المالية والاقتصادية بين أجزاء البلاد العربية، فتمكَّنت أواصر الاتصال بينها لتشابك مصالحها التجارية.

(٦) الأخذ بأسباب الرقي والتمتُّع بمخترعات الحضارة الأوروبية

أخذ العالم العربيُّ عن المدنية الأوروبية الحديثة كلَّ ما أنتجته معاملها، وما جادت به قرائح مخترعيها من الآلات البخارية والأوائل الصناعية، والمصانع التجارية والعدد الزراعية، والسفن البحرية، والذخائر والآلات الحربية، والملابس والرياش، وكافة أسباب الحضارة ومتع الحياة وملذاتها، مما لم تعرفه البلاد العربية. وطبيعيٌّ أن يمتنع بعض المتعصبين والمتزمتين المتشددين عن قبول ذلك، أو يبيحوا لأنفسهم أو للآخرين استعمال تلك الآلات الأوروبية، ولكن ما لبثوا أن جرفهم التيار وغزت مخترعات أوروبا كلَّ قطر من أقطار العالم العربيِّ، بل كلَّ بيت فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤