مقدمة الطبعة الأولى
لما أن اعتزمت القيام بجولتي هذا العام إلى بلاد الأمريكتين أخذتني الحيرة: أيهما أفضل؟ وكان طبيعيًّا أن أسارع إلى الشمالية مهد العجائب ومنهل الحضارة، لكني عُدْتُ فآثرت البدء بأمريكا الجنوبية؛ لأنَّا نجهل عن أقطارها الشيءَ الكثير، ولأنها — رغم بُعْدها عنَّا — خير ما يلائم الحياة المصرية إنْ طاب لأبنائنا النزوح والاغتراب، وها قد بدت بوادر تلك الرغبة بين رهط من فتيتنا، فأخذوا يفكِّرون في الاقتداء بالشباب من أهل أوروبا وبلاد الشام، أولئك الذين لا يكاد يخلو منهم قطر في أمريكا الجنوبية، يرتحلون سعيًا وراء رفعة أوطانهم وكسب عيشهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا؛ حتى إني شعرت وأنا في «بونس أيرس» بأني وسط بني قومي من الناطقين بالضاد، ولقد أردْتُ أن أجمع في جولتي بين بلاد المغرب والأندلس وأمريكا الجنوبية؛ لأرى مبلغ أثر الحضارة العربية في تلك البلاد التي حلَّها العربُ، فهم بعد أن سادوا المغرب انتقلوا إلى الأندلس حيث ازدهرَتْ حضارتهم وبلغت أوج منعتها وعزها، وطبعوا أهل البلاد بطابعٍ ميَّزَ الأندلسيين على سائر الأوروبيين، وهؤلاء هم الذين كشفوا أمريكا الجنوبية ونزحوا إليها زُرَافاتٍ لا تزال سلائلهم تمثِّل السواد الأعظم للأهلين هناك.
رغبت في أن أقف على بعض ما بقي للعرب في تلك البلاد جميعًا، فبدا لي أن شمال أفريقية لا يزال يحتفظ بالأثر الشرقي في مجموعه، وإنْ أخَذَ الأثرُ الغربي يَجِدُّ في القضاء عليه حتى كاد يتم له ذلك، وكنت ألمس هذا في مظهر البلاد، وفي نُظُم التعليم، وفي الأزياء، والاختلاط بالفرنسيين والفرنسيات، وفي إغفال القوم — وبخاصة الأحداث — اللغة العربية! وفي تونس لا تزال للشرق بقية تكافح وتناضل، على أن التيار الغربي آخِذ في الغلبة يصرف الشباب عن قوميتهم، ويرغِّب لديهم السفرَ إلى فرنسا واتخاذ الزوجات والخليلات من الفرنسيات؛ أما القديم فيحاوِل الإبقاءَ على العربية في المساجد والصحافة وانتشار المطبوعات المصرية، وهو يقاوم التجنيس الفرنسي الذي فرضَتْه فرنسا على الجزائر وتحاوِل فرضه هنا، لكن بلاد مراكش لم يَكَدْ يُحدِث الغربُ فيها أثرًا؛ فعصبيةُ القوم بالغة، ونفورهم من الأجنبي شديد، وحتى أنا المسلم قد خامَرَهم الشكُّ في أمري وطردوني من مسجدهم في فاس خشية أن أكون دخيلًا عليهم؛ لذلك يرميهم الأوروبيون بأنهم «الطرف الغربي الهمجي من بلاد الشرق»! أما في الأندلس وأمريكا الجنوبية فإني ألفيت الطابع العربي يسودهم إلى أقاصي جبال الأنديز، فالملامح العربية واضحة في تقاطيعهم، وخمرية ألوانهم، وسمرة عيونهم، وسواد شعورهم، وبخاصة النساء اللواتي يلبسن أردية هي أقرب إلينا منها إلى أزياء أوروبا، فهي أردية قصيرة مهفهفة، أفاريزها هادلة منتفخة بعضها فوق بعض، وغالبهن يرخي على الرأس «الطرحة» السوداء فوق تاج من شباك العاج وكأنها شبه حجاب، وهن في رقصهن لا يخاصرن الرجال، بل يرقصن في حلقات والصنج (الصاجات) في أيديهن. أما الموسيقى فأحبها لديهم القيثار، شبيه المزهر (العود) بضخامة رنينه، ويألفون منه نظام «التقاسيم»، ومن الغناء التأوُّه والتوجُّع — كالغناء البلدي عندنا.
أما بيوتهم وهندستها فلا تزال عربية إلى حدٍّ كبير؛ فمدخل البيت يكسوه القيشاني ويلتوي على نفسه كي يحجب الداخل عن أنظار المارة، ويتوسَّطه فناء رئيسي مكشوف تطلُّ عليه أغلب الحجرات والنوافذ في أعمدة وبوائك نحيلة تزيِّنها المصابيح التي تحكي قناديل المساجد تمامًا، وتحلِّي جوانبَها أصصُ الزهور البديعة، وتتوسط هذا نافورة عربية أنيقة، وجميع النوافذ والأبواب تغشاها شباك الحديد الثقيل. وكنتُ ألمس وقار العرب وأدبهم ظاهرًا، فهم يجمعون بين مظهر الأرستقراطية والسيادة والإمارة، وبين بساطة الديمقراطية ورفع الكلفة، واختلاط الغني بالفقير في صعيد واحد.
أليس في كل ذلك ما يؤيِّد سلطان العرب وسيادة عناصر حضارتهم التي بزَّتْ غيرها، وكانت أقرب منالًا من نفوس الناس، وأصلح بقاءً رغم صروف الدهر ومعقباته؟
أتممت تطوافي بالكثير من بلاد شرق أمريكا الجنوبية، ثم اخترقتها إلى أقطارها الغربية وسرت شمالًا عبر قناة «بنما» إلى أمريكا الشمالية، ولم يكن ثمة في الوقت متسع، فطفت بأرجاء «نياجرا» و«نيويورك» التي أثارت عظمتها في نفسي ثائرة لن تهدأ حتى تتاح لي فرصة ثانية قريبة، فأعاودها دارسًا منقبًا عن عناصر تلك المدنية الفتية التي تسير بخطى عاجلة تدفعها عقول جبَّارة، وتدعمها ثروة لا ينضب لها معين.
فها أنا أقص من أنباء الدنيا الجديدة ما أرجو أن يصيب به أبناؤنا خيرًا، سدد الله خطاهم، وجعل من بينهم خلفًا صالحًا يعوضنا عمَّا فرط، ويقوِّم لنا ما اعوجَّ.
والله أسأل أن يهيِّئَ لنا من أمرنا رشدًا.