إلى أمريكا الجنوبية

كان مقدرًا أن تقوم بنا الباخرة اليوم، لكنها تأخرت لرداءة الجو في المنش وفي بحار كرونا فانتظرناها طيلة يومَي الثلاثاء والأربعاء، وكانت ليلة الخميس ليلة قاسية علينا ونحن ننتظرها على الميناء، والجو قارس البرد وابل المطر، ولبثنا نترقبها إلى منتصف الليل حين تركنا متاعنا في الجمرك للصباح وانصرفتُ عائدًا إلى الأوتيل وسط سيل من المطر، ولشد ما كانت دهشتي حين ألفيت الأبواب مغلقة، ولبثت أطرق الباب ولا من مجيب، وقد كدتُ أغرق بثيابي في ماء المطر فحرت في أمري وأخذت أبحث عن نُزُل آخَر فلم أجد فكلها كانت مغلقة، وحاولت التفاهم مع بعض المارة على هديي إلى مكانٍ أنام فيه، فلم يفهموا قصدي فكان موقفًا قاسيًا حقًّا، وأخيرًا عدت إلى الجمرك وحاولت التفاهم مع بعض الحمَّالين، فقادني إلى نُزُل قريب كان مغلقًا، فأخذ يطرق الباب بشدة ويصفق وينادي حتى وجد رجلًا أودعني غرفة صغيرة نمت فيها إلى الصباح، وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. ليلة أليمة لن أنساها خصوصًا ولم يكن لديَّ ثياب غير المبتلة التي ألبسها، فنمت شبه عار في ذاك البرد القارس إلى الصباح، وظلت الباخرة متأخرة ولم تحضر إلا ظهرًا.

أقلعَتْ بنا الباخرة مونت سارمينتو الساعة الواحدة بعد الظهر، وهي عظيمة حمولتها ١٨ ألف طن، وأظرف ما فيها أنها ذات درجة واحدة؛ جميع المسافرين فيها متساوون يجلسون إلى مائدة واحدة يمرحون في كل مكان، وكان جل ركابها من الألمان والإسبان يناهزون جميعًا الأربعمائة، لكن الباخرة معدة لحمل ٢٥٠٠ مسافر، وكان وسقها من البضائع ثقيلًا جدًّا، وذلك من حظنا؛ لأن اضطراب موج المحيط لم يَكَدْ يؤثِّر فيها، فبينا كنَّا نبصر بالبواخر الأخرى تعلو مع الموج وتهبط كانت باخرتنا تسير في اتزان عجيب. ولبثنا نمخر عباب المحيط الأطلنطي الرهيب طيلة يوم الجمعة ويوم السبت ونحن مستمتعون برفاق مؤنسين وجو جميل وبحر رفيق، وقد أعلن الربَّانُ الجميعَ أن يتأهَّبوا لمناورة بحرية فيلبسوا «أنطقة النجاة» نساءً ورجالًا، ويقف كلٌّ إلى جانب زورق النجاة الخاص بجماعته، ففعلنا جميعًا، وكان منظر الخلق مختلف الأجناس والأزياء جذَّابًا، ولا أنسى سخرية القوم وانفجارهم ضاحكين لما أن أبصروا برجل غليظ الجثة منتفخ البطن والعجز وافدًا يرتدي نطاق النجاة الذي زاده سِمَنًا على سِمَنه، وقد ختم القوم ضحكهم بتصفيق حاد بعد أن قابَلَ الرجل ضحكهم بابتسامة الحليم الرزين، وقد أخذ القوم يردِّدون كلمة «مانيانا كناريا» وهم فَرِحون — أعني: غدًا كناريا.

figure
على ظهر الباخرة الألمانية وسط الأطلنطيق.
تفتحت عيوننا في السادسة صباحًا على صخور جزائر «كناريا» الإسبانية وهي تمتد في سلاسلَ متعاقبةٍ، لبثنا نجانبها ساعة كاملة حتى رسونا وسط ميناءِ أكبرِ بلادها «لاس بالماس»، ومعناها «أشجار النخيل»، أما معنى كناريا «فأرض الكلاب»؛ لأن الروم لما حلُّوها قديمًا استصحبوا إليها قطيعًا من الكلاب cannis فأطلقوا عليها هذا الاسم، فكأني قد انتقلت في ثلاثة أيام من أرض «الأرانب» إلى أرض «الكلاب» — وإسبانيا مشتقة من كلمة رومانية معناها «الأرانب»؛ لكثرة هذا الحيوان فيها، وبخاصة يوم حلَّها الرومان.

رسونا وسط مينائها الذي يحكي شكل ٢ (اثنين)، وتقوم الأبنية على جوانبها وهي تتدرج صعدًا على سفوح منحدراتها، والبلدة ضيقة العرض لكنها تمتد طويلًا على شاطئ الماء، وتتدرج الجبال من ورائها، وأعلاها جبال «تنيريف»، وجلها مجدب عار عن النبت، ويشق البلدة ترام صغير وأهلها من فقراء الإسبان، وكَمْ كان مشهد جموعهم جميلًا وقد التفوا بزوارقهم الصغيرة حول باخرتنا وبسطوا عليها معروضاتهم للبيع، وجلها من أشغال الهند واليابان — أقمشة وحراير ومخرمات وخرط العاج … إلخ — هذا إلى السجائر وبعض الفاكهة، وعجبت من رداءة الفاكهة في تلك البلاد، وحتى في إسبانيا نفسها مع أنها بلاد البحر الأبيض، فنوع الفاكهة عندهم متعدد لكنها جميعًا تفتقر إلى الجودة، وخير ما راقني بها الموز مع أنه وليد بيئة حارة غير بيئتهم، وزاد الموقف مرحًا صياح الصبية «أويجا — أي اسمع»، «كافاليري أو سنيور — أي سيدي» ألقِ في البحر (أو نابسينا) وما كدنا نلقي له القرش في اليم حتى رمى بنفسه وغاص في الماء والتقطه في فمه. ولم نشف من «لاس بالماس» غلة؛ إذ لم يجاوز وقوف الباخرة بها ثلاث ساعات، وفي العاشرة قمنا نشق عباب الماء وقد اكفهرَّ الجو بعض الشيء، وغضب البحر، وعلا الموج، وكادت تعلو وجوه القوم غبرة ووجل لولا أن اتزان الباخرة قد عاد فطمأننا جميعًا.

جلسنا إلى مائدة الغداء وصادَفَ جلوسي في مجاورة عائلة أرجنتينية تقطن بونس أيرس، وكان لهم غلام في الثانية عشرة، وسيم الوجه، نحيل الجسم، ظريف الحاشية، كان سلوتي لأنه يعرف الفرنسية، وقد أدهشني مستوى ثقافته على حداثة سنه، فكان كثير القراءة يستعير الكتاب تلو الآخَر من مكتبة الباخرة، وقد أكبرتُ فيه سعة معلوماته العامة، فلما علم بأني مصري أخذ يحدِّثني عن كثير من آثارنا — الأهرام والكرنك وتوت عنخ — وعن الفراعنة وما أتوا من أعمال، وقال بأن أجدادكم لا شك فتحوا أمريكا قبل كولمب؛ لأنا نعلم أن كل شعوب أمريكا كانت تحكمها ملكة واحدة في المكسيك تُسمَّى «إيزيس»، وتلك إحدى آلهة المصريين، وقد خلف المصريون في المكسيك آثارهم في بعض الأهرام الهائلة والنحوت والنقوش، وأيَّد قوله بأن قارة «أنلنتيكا» كانت تصل الدنيا القديمة بالجديدة — وقد غرقت اليوم — فيرجح أن يكون المصريون قد وصلوا أمريكا بوساطتها أو بواسطة سفنهم. ثم أخذ يفسِّر معاني بعض البلدان — مثل: إسبانيا، كناريا — وقد قال بأن معنى مديرا أرض الغابات لكثرتها هنالك، ولا تزال كلمة «مديرا» بالإسبانية تدل على «الخشب»، ومعنى أرجنتينا أرض الفضة، وريود لبلاتا نهر الفضة — لأن بلاتا هي الكلمة الإسبانية للفضة. ثم جرنا الحديث إلى السيارات والنجوم، فكان عليمًا بالدبَّيْنِ والنجم القطبي الشمالي، وقال بأننا لا نراها في الأرجنتين فلنا برج آخَر هو صليب الجنوب يهدينا إلى النجم القطبي الجنوبي، إلى ذلك فهو يجيد لعب الشطرنج، فقلت في نفسي إن كان ذلك مثل أهل أرجنتينا ومستواهم من الثقافة، فهم إذن يفوقون الأوروبيين علمًا وذكاءً!

أصبحنا والبحر أهدأ من أمس، وإن كانت الريح الشمالية الشرقية تهب في سرعة كبيرة وثبات على اتجاهها، أذكرني بما كانت تفيد عهد الكشف الأول يوم افتقرت السفن الشراعية لدفع الرياح؛ فهي خليقة باسم «التجارية»؛ لأنها لا شك عاونت على نقل السلع والمتاع كثيرًا. وفي الليل وقفت أتكئ على مؤخر السفينة أشاهد نزاعها مع الموج، وقد شقت الماء فأرغى وأزبد وبدا من ورائها نهرًا من اللبن الخالص يمتد إلى الأفق، وقد كان ظلام الليل حالكًا. أخذ الخيال يسرح في ملكوت السماوات والأرض وفي جلال القدرة، وإذا بصيص كثريات الكهرباء تتفتح وتتوهج، ثم لا تلبث أن تخبو وتنطفئ وسط الماء، فخلتها بادئ الأمر نجوم السماء تنعكس على صفحة الماء لكن بريقها كان خاطفًا وعددها وفيرًا كاد يفرش الماء في مؤخر السفينة، فأيقنت بأن تلك جموع «السمك الفسفوري» يضيء ويخبو، ولقد أزعجته السفينة في مقره فاهتاج وأضاء في مشهد جميل رغم دقة هيكله الذي لا تراه عيوننا المجردة.

figure
جراف تسبلين يحلق فوق مياه ريودجنيرو.
نمت ليلتي الفائتة نومًا عميقًا، وقد كنتُ من قبلُ أحلُّ غرفة Cabin بها أربعة أشخاص كلهم من الإسبان الذين تعوزهم النظافة؛ يبصقون ويتمخطون ويغسلون ثيابهم داخل «القمرة Camera» ولا يراعون إحساس الغريب وسطهم، فيتكلمون بصوت مرتفع سواء أكان الوقت مبكرًا في الصباح أم متأخرًا في الليل! ذهبت إلى الرئيس Chief steward ورجوته أن يرحمني بغرفة أقل زحامًا، فكان حظي في غرفة ذات سريرين حللتها أنا وحدي؛ وذلك لأنه علم بأني من رجال التعليم، وقد اعتذر إليَّ بأنه لم يعرف ذلك من قبلُ، وقد أوصى الخادم بي خيرًا.

كان البحر هادئًا والماء كأنه لج من الزيت، على أن سير السفينة بطيء لثِقَل عبئها؛ فقد حملت فوق طاقتها، وكان معدل سرعتها بين ١٣ و١٤ ميلًا في الساعة، وكنا كلما تقدمنا في سيرنا إلى الجنوب بكر غروب الشمس؛ لأن النهار أخذ في القصر تدريجيًّا كي يساوي الليل عند خط الاستواء، على أن ذلك كان يُعوَّض بعض الشيء بسيرنا إلى الغرب، فكلما تقدَّمْنا غربًا تأخَّر الغروب؛ لأن الشمس إذا ذاك تشرق متأخرة وتغرب كذلك متأخرة عن الأماكن الشرقية، وكان ذلك يضطرنا أن نؤخِّر ساعتنا زهاء نصف ساعة كل يوم، وفي التاسعة مساءً لمحنا قبسًا من نور إلى يسارنا، وذاك فنار في أقصى شمال جزر الرأس الأخضر، وعجيب أنا أخذنا نسير إزاء سواحل تلك الجزائر طوال الليل، وفي الصباح تجلى إلى يميننا طرف تلك الجزائر الجنوبي في مخروط بركاني هائل علوه شاهق، وكان يبدو فاترًا وسط رطوبة الجو وانتشار الضباب، وزاده جمالًا بقع من السحاب كَسَتْ وسطه فكنَّا نرى ذراه ناتئة فوق نطاق أبيض من سحاب السماء، وكانت قواعد البركان وشطآن الجزيرة بادية أسفله، يضرب الموج في سواحلها في أناة ورفق.

وبعد الإفطار بدأت الموسيقى تعزف لأول مرة منذ غادرنا فيجو؛ لأن القوم قد أعلنوا الحداد على الرئيس هندنبرج الذي قضى نحبه يوم برحنا فيجو، وكانت وطنية الألمان متوقِّدة؛ كلما جرني الحديث معهم عن ألمانيا ذكروا «هتلر» بأنه منقذ ألمانيا حقًّا، فهو مَثَل أعلى لهم جميعًا، وكفاه فخرًا أنه لا يتقاضى «ماركًا» واحدًا من مال الدولة؛ فهو يعمل للوطن بدون أجر، وهو ليس بالغني، بل يضمن آراءه كُتُبًا ومن مورد أثمانها يعيش. ولقد حدَّثوني عن حركة اليهود لديهم فقالوا بأنهم لم يكونوا يشعرون بالعطف على ألمانيا وحركتها الوطنية الحالية كسائر الألمان، وكان همهم الاستفادة من كل موقف والجري وراء المال فحسب، وقد علَّلوا ذلك بأنهم عنصر آخَر غير ألماني هو العنصر السامي، وذلك ما حدا بهم إلى عدم التعصب لقوميتهم الألمانية، على أني ردَدْتُ حجتهم هذه بأن الإنجليز مثلًا والفرنسيين من الجنس الآري، ومع ذلك فهم معادون لألمانيا، ففكرة الجنسية ليست بذات شأن بل الشعور بالعصبية القومية هو كل شيء، ويظهر أن «مادية» اليهود هي التي أَنْسَتْهم واجبهم القومي، وقد كان يرافقنا على الباخرة جمع من يهود الألمان هاجروا إلى أمريكا بأموالهم، وقد ذكروا بعض الإصلاحات التي قام بها هتلر؛ إذ كلَّفَ أصحابَ الأعمال أن يمدُّوا عمَّالهم بإعانة مالية هي ٢٠ ماركًا في الشهر لكل طفل إلى السادسة عشرة، أعني أن مَن يعول ستة أطفال يتقاضى ١٢٠ ماركًا فوق مرتبه الشهري، أي نحو عشرة جنيهات — الجنيه ١٢ ماركًا — وقالوا بأنه يحتم على النشء جميعًا التدريب الرياضي العسكري؛ كي يعدَّ الألمانَ جميعًا للحرب إن دعت الحال، على أنهم مغالون في عصبيتهم للجنسية؛ فهم ضد فكرة الاختلاط بأي جنس غير «الآري»، وقد ظهر لي الفرق واضحًا بين الألمان وسائر الجنسيات التي في الباخرة — وغالب الآخَرين من الإسبان والبرتغال — فهم أعلى ثقافةً وأرق ذوقًا وأكثر نظافةً، على أنهم ينظرون إلى الغير نظرة من علٍ كأنهم السادة المترفعون، وكأنَّ أجسادهم قد عاونتهم على تلك النظرات العليا؛ فكلهم عمالقة نساءً ورجالًا، والذي يقارب أطوالنا منهم شاذٌّ قزم بينهم.

كنَّا حوالي خط العرض ١٠° شمالًا؛ حيث كادت الشمس تكون فوق رءوسنا ظهرًا؛ لذلك كان الحر شديدًا، على أنَّا في النصف الثاني من النهار لاحظنا تغيُّرًا في اتجاه الريح؛ فقد أضحت جنوبية غربية — وهي الموسمية الصيفية في تلك الأصقاع — فخففت من شدة الحر، وزادت رطوبة الجو، وفي المساء تلبدت السماء بالغيوم وسحَّ المطر وابلًا، حتى إن القوم لزموا مقاعد البهو الكبير في السفينة. وقد أقيمت حفلة راقصة تجلَّى فيها غرام القوم باللهو رجالًا ونساءً، شيبًا وشبَّانًا، يقصد الواحد إلى أية سيدة جالسة حتى ولو كانت مع زوجها يطلبها في رفق ويخاصرها راقصًا وإياها على أنغام الموسيقى، وكنت أدهش للكثير ممَّن كسا الشيبُ رءوسَهم وأحنى الزمان ظهورهم يشاطرون الجمع في الرقص في غير حياء ولا اكتراث، لكن تلك هي الحياة في عرفهم؛ يساهم المرء في حلوها ما استطاع إلى النهاية. كذلك كان يدهشني بعض الأزياء التي يرتدونها في أشكال قد تكون مُضحِكة، وقد يكون الرجل كهلًا والمرأة منفرة السحنة كئيبة المنظر عجوزًا شمطاء، لكنك تراها آنًا في سراويلَ وأربطةٍ للرقبة تحكي أزياء الرجال، إلا في ألوانها الفاضحة، وبعد ساعة أو اثنتين تراها تسير شبه عارية، وآنًا في الأردية المهفهفة، وحتى قسس الباخرة — وكان يزاملنا ثلاثة، منهم اثنان من الكاثوليك، وآخَر من البروتستانت — كانوا يشاطرون في الرقص وفي تغيير الأزياء، وفي مسامرة النساء ذهابًا وجيئة على سطح السفينة شأن جميع المسافرين.

figure
ميناء ريودجنيرو.

أصبحنا والجو أخف حرارةً والريح الجنوبية الغربية تهب في انتظام، وكان القوم يتأهبون لاستقبال خط الاستواء، ويعدُّون العدة لإقامة حفلٍ ابتهاجًا بعبوره — ويسمونه عيد خط الاستواء — وقد اكتتب الركاب في شراء بعض الجوائز التي ستُوزَّع على الفائزين، ويشتمل الحفل على التعميد والرقص وعرض الألعاب.

أقام البحَّارة في سطح السفينة حوضًا عميقًا من القماش مُلِئ من ماء المحيط، ثم لبس بعضهم أردية الهنود الحمر بشعورهم الهادلة وجوههم المحمرة وثيابهم المهلهلة التي لا تكسو من الأجساد شيئًا، وقد أمسكوا بحرابهم، وكان رئيسهم يمثِّل نبتون إله الماء بلحيته الهادلة ومعه أنصاره وقضاته، وطافوا يصيحون صيحات مزعجة، ثم صفوا إلى جوار الحوض وقام سيدهم يخطب، ثم تلاه آخَر ينادي أسماء مَن يريدون التعميد، فكان يجلس الواحد على حافة الحوض، ثم يتقدَّم الحلاق ويمسح وجهه بفرشة كبيرة كساها بعض العجين بدل الصابون، ثم يلقي به في الحوض بشدة مخيفة، فيتناوله في الماء آخَران يغوصان به طويلًا وهو يحاول النجاة حتى يفرَّ بنفسه ويجري من الجانب الآخَر وهو يقطر ماءً، كان مشهدًا جميلًا ومخيفًا لبث زهاء ساعتين وجمهور المسافرين يتزاحمون حوله ويغرقون في الضحك والسرور. ثم أقبل المساء وقد زُيِّنَ البهو الكبير بالثريات البديعة في ألوان عدة تحوطها أُطُر من الحرير والورق الملوَّن، ثم عزفت الموسيقى وأقيم المرقص في مهرجان ما شهدت أبدع منه من قبلُ؛ لبس القوم نساءً ورجالًا أردية عجيبة، فبعضهم بدا في أردية مهلهلة، وآخرون في أردية الهنود، والبعض ارتدى الطرابيش التركية القديمة عليها الهلال، والبعض بقبعات للسخرية لا يتمالك الواحد نفسه من الضحك لمجرد النظر إليها، وقد طَلَوا وجوهَهم بمختلف الألوان، وكان بينهم الكهول الشيب من الرجال واللواتي رددن إلى أرذل الأعمار من النساء، وبعض النساء ظهرن في زي الرجال وبعض الرجال في أزياء النساء! وقد نال الخمر من لُبِّهم جميعًا، وكان يتخلل أدوار الرقص مقطوعات مضحكة يلقيها البعض وسط قهقهة الجميع، وظلَّ هذا الحفل الغريب البديع إلى الساعة الثانية صباحًا، وكان يرأسه ربَّان السفينة — القبطان — نفسه.

وفي الصباح أُقِيمت حفلة الألعاب، ساهَمَ فيها الصبية والفتيات والأطفال والنساء والرجال كل طائفة في دورها، وغالب الألعاب كانت مُضحِكة مسلية؛ منها أن توضع الجائزة تحت إناء من صفيح ثم يغمى الغلام بمنديل ويمسك بعصا ويسير صوب الإناء ليضربه بالعصا، فإن أصاب خلال ثلاث ضربات أخذ الجائزة وإلا آبَ خاسرًا. ومنها أن توضع كرة من البطاطس في ملعقة يمسكها الفتى ثم يجري إلى جوار أقرانه ذهابًا ورجعة إلى حد معين، ومَن سبق فاز. ومنها أن يرسم خنزير بالطباشير مكبرًا على الأرض ويغمى الواحد وبيده الطباشير ويخطو إليه، ثم يقف حيث شاء ويعين بالطباشير صليبًا، فإن أصاب عين الخنزير أو كان أقرب إليها من إشارة غيره فاز. وللأطفال لعبة المربى يجرون إليها ويلعقونها ثم يحمل كلٌّ طبقَه عائدًا، ومَن سبق فاز، وللسيدات يجلسن وبيدهن الخيط ويجري إليهن الرجال بالإبر «فتلضم»، ثم يحملونها عائدين جريًا، أو يجلس النساء ومعهن علب الثقاب ويجري الرجال إليهن وبأفواههم اللفائف يشعلونها لهم، ثم يجرون عائدين والأسبق هو الفائز. ثم خُتِمت الألعاب «بشد الحبل» للنساء والرجال والفتيات والفتيان، كل طائفة بدورها، وقد وُزِّع برنامج هذه الألعاب على أربعة أيام، فكانت تسلية جميلة تتخللها فترات الموسيقى، وفي المساء الرقص.

ولبثت تلك الألعاب تقام أربعة أيام حتى نرسو على أول ثغر بعد عبور خط الاستواء «ريودجَنيرو»، وتلك الحفلات لم أشهدها من قبلُ رغم أني عبرت خط الاستواء من قبل أربع مرات، ويظهر أن الألمان قوم يفوقون غيرهم في ميلهم للمرح والاستمتاع ما استطاعوا، وهم كَلِفون بسماع الموسيقى التي كانت تُعزَف في الباخرة كل آنٍ؛ ضحًى وظهرًا وعصرًا ومساءً وفي أبهاء الطعام عند الوجبات، وقد كنتُ أخال الألمان — وهم من شعوب الشمال — أقرب إلى الجد والتقطيب وأبعد عن المرح واللهو، وإذا بهم في ذلك مفرطون مغالون في سويعات فراغهم.

figure
تمثال المسيح يُشرِف على ريودجنيرو.
وفي أصيل الثلاثاء صُفَّتِ الجوائزُ وتقدَّمَ الربان وأخذ يسلم كلًّا جائزته ويحيِّيه، وآخِر الجوائز شهادات التعميد طُبِعت في شكل جميل وكُتِبت بالخط الكبير المزيَّن بالألوان، بعضها بالألمانية والبعض بالإسبانية، بحيث توهم بأنها من شهادات الجامعات الكبيرة، وهذه ترجمة ما ورد فيها:

نحن نبتون إله الماء في البحر والبحيرة والنقع والنهر … إلخ، نشهد بأن فلانًا قد غمر في مياه خط الاستواء ليطهر من أوضار نصف الكرة الشمالي، ولقد مُنِح اسم (أي حيوان بحري) وأُعطِيَ هذه الشهادة في سنة ١٩٣٤.

١٠ / ٨ /١٩٣٤ 
الإمضاء
نبتون
وقد تسلَّمْتُ أنا شهادتي شاكرًا.

أعلن الربان نبأ عبور المنطاد «جراف تزبلين» فوق باخرتنا الساعة الرابعة مساءً، وقد اتصل به لاسلكيًّا فتأهبنا للقائه، وفي الرابعة إلا ربعًا بدا في الأفق الجنوبي الشرقي كأنه طائر فضي صغير، وفي أقل من عشر دقائق كان فوق رءوسنا بهيكله الهائل ومراوحه الخمس، وقد حاكى القنبلة المستطيلة أو الحوت الهائل، وكان يُقلُّ خمسين مسافرًا لوَّحُوا لنا بمناديلهم وبالعلم الألماني، وقد حيته الباخرة بصيحاتها الثلاث، وكان الجميع من الألمان يصيحون صيحات الفرح والفخار، وكيف لا، وزبلين هو الذي سودهم في عالم الجو على سائر الدول؟! فكان رفقائي بين آونة وأخرى يسألونني: كيف رأيت منطادنا؟ فأقول: عظيم وجدير هو ومنشئه ومنبت بانيه بكل إكبار وإجلال، وهو خير شهيد بأن ألمانيا لا شك سيدة الجو والهواء. والمنطاد يقوم مرة كل اثني عشر يومًا بين ألمانيا وريودجانيرو، زهاء ستة آلاف ميل يقطعها في سبعين ساعة أي أقل من ثلاثة أيام — والباخرة تقطعها في عشرين يومًا — ويحمل خمسين مسافرًا أجر الواحد زهاء ١٣٠ جنيهًا، وقد أُعِدَّ بغرف النوم والطعام وأبهاء اللهو والراحة، وفي الأيام الباقية يقوم برحلات خاصة يدرس فيها حالة الجو درسًا دقيقًا، ولألمانيا مناطيد أخرى أقل شأنًا من زبلين تصل أمريكا الجنوبية في ثمانية أيام وتسلك سبيلًا آخر؛ إذ تجانب البر إلى أفريقيا عند خط الاستواء، ثم تعبر المحيط وتقف في المطار الألماني الثابت الذي أُقِيمَ في باخرة وسط المحيط في منتصف الطريق ليزود بحاجته، ولما سألتهم: لِمَ لا يسير زبلين بين أوروبا وأمريكا الشمالية، وحركة النقل والمسافرين فيها أروج؟! قالوا بأن السفن هناك سريعة تقطع المسافة في أربعة أيام، لذلك فهي تنافس المناطيد كثيرًا؛ لأن أجرها زهيد إذا قِيسَ بأجور الطيارات.

اشتدَّ عصف الريح من الجنوب الشرقي — التجارية الجنوبية الشرقية — في المساء، فاهتاج البحر وأخذت الباخرة تترنح قليلًا، وقد بدت على الأفق الغربي بعض أضواء من الجزائر المُجانِبة لشاطئ البرازيل، وقد لزمنا مقاعدنا من المقصف نشرب المرطبات ونستمع لأنغام الموسيقى الشجية، ثم آوينا إلى مضاجعنا مبكرين لنريح أجسادنا من عناء الليلة السابقة.

ما زال البحر مضطربًا، ومرض البحر يبدو على وجوه الكثيرين، وكان البحر يغص بالسمك الطيَّار، وهو في حجم «السردين» أبيض فضي يقفز في الهواء إلى ارتفاع قدم، ثم يطير أفقيًّا في الهواء بضعة أمتار، ويعود إلى مقره من الماء في زُرَافات لا تدخل تحت حصرٍ، وظلَّ الجو عاصفًا والهواء باردًا والموج مضطربًا هائجًا، والسفينة تترنح، وخُيِّلَ إليَّ أني في شتاء مصر، السماء تنتثر بالسُّحُب، والبرد متزايد أشعرني بضرورة لبس الأردية الثقيلة، ولم نصل بعدُ إلى خط العرض ٢٠°ﺟ، فكان ذلك نذيرًا بشدة البرد إذا وصلنا بونس أيرس، وهي على خط ٣٥°ﺟ تقريبًا؛ ذلك لأن تلك الشهور هي فصل الشتاء في نصف الكرة الجنوبي.

figure
ربوة كركوفادو نصعدها بالترام المعلق في ريودجنيرو.

(١) بلاد البرازيل

بدت صخور شواطئ البرازيل منذ الصباح في سلاسل جبلية مجدبة الرُّبَى أو مخروطتها، وعلى علو كبير يحفها شاطئ رملي ضيق.

وبلاد البرازيل أخطأها كاشفوها من البرتغال، فحسبوها إحدى جزائر الهند وأسموها جزائر الصليب الحقيقي Ilha de Vera Cruz، ولما تم كشفها وصدَّرت لأوربا كثيرًا من خشب الصبغة الحمراء الذي يُتَّخَذ من شجر اسمه «برازيل»، أُطلِق على تلك البلاد، وهي هائلة الامتداد تقرب من نصف القارة، وأكبر من أستراليا، وتلمس حدودها كل دول أمريكا الجنوبية ما خلا شيلي وإكوادور وأهلها زهاء مليونًا، وما وافت الساعة التاسعة حتى كنا على أبواب …

ريودجنيرو

تلك التي راع جمالُها ماجلانَ سنة ١٥١٩، فلبث فيها أربعة عشر يومًا، وقد بدت طلائعها في خليج بديع كأنه الهلال العظيم تحفه رُبًى مسنَّنة مخروطة الشكل، وهي خير ما يميِّز البلدة، وقد أغرى ذاك الخليجُ بجماله الكاشفين، وقد رأوا في وسطه ثلمة مستطيلة من البحر حسبوها نهرًا، لذلك عجلوا بتسميتها — بنهر يناير — وقفنا وسط الماء قليلًا حتى أنجز رجال البوليس والصحة عملهم ثم سرنا إلى جانب البر، فظهرت الميناء بحركتها الصاخبة وامتدادها العظيم، وموقعها وسط الألوان الساحرة ليس له نظير، وهي تمتد ستة أميال على طول ساحل هشمته الأمواج، فصاغت منه آياتٍ فنيةً وخضرة المرتفعات وراءها تبدو كأنها تناقض سمرة الصخور التي يضرب فيها الماء، وأجمل صخورها قمع السكر الجرانيتي (١١٠٠ قدم)، كركوفادو (٢٣٠٠ قدم) وعليه تمثال المسيح الهائل، وعلى بُعْد ثلاثين ميلًا تبدو جبال Organ بأسنانها الخمس التي تُسمَّى «أصابع الله» فمظهر الميناء لا يُبارَى.
figure
حتى أفاريز الطرق تزينها تلك النقوش في ريودجنيرو.
وقد استرعى نظرنا بالمدينة أن غالب أبنيتها على حافة الماء في امتداد هائل، وبعضها كاد يحاكي ناطحات السحاب وأعلاها بناء الليل Anoitè الذي يواجه الماء، ويقف كأنه العملاق بأدواره الاثنين والعشرين، ولقد زُوِّد بأربعة مصاعد: اثنان منها سريعان «إكسبريس» لا يقفان إلا بعد الطابق الثاني عشر صعدناه، فإذا منظر الخليج والبلدة من فوقه رائع، وقليل من أبنية المدينة تقوم فوق المنحدرات، ولذلك كان طول المدينة وهي تجانب حافة الماء بالغًا حدًّا كبيرًا، غادرنا الميناء وسط أبنية فاخرة، وسرعان ما تقبلنا شارع البلد الرئيسي «ريوبلانكو Rio Blanco» في حركة لا تهدأ وامتداد لا حدَّ له، وأبنية تسترعي الأنظار بجمال هندستها وشاهق بنيانها، وحتى أرصفته العريضة نُسِّقت بالحجارة الملونة، ومن أول ما يسترعي نظر السائح أن الناس يبدو بينهم السود بكثرةٍ، وبعضهم لا يزال حالكًا صافيًا، والغالب امتزج بالبرتغال فنشأ عنهم لون أسمر، وسواء أكانوا سودًا أم سمرًا فكلهم يلبسون الأردية الإفرنجية ويسيرون في تأنُّق ونظافة لا تقل عن البيض، وهم على جانب كبير من الثقافة؛ إذ يؤمون المدارس والكليات مع البيض على حدٍّ سواء. ومن أجمل ما يميِّز تلك البلاد خلوُّها من الفوارق الجنسية ومشكلاتها التي لا يزال يئن تحت ويلاتها كثيرٌ من البلاد الأخرى، فالبرازيلي اليوم وليد ثلاثة أجناس وتتمثل فيه صفاتهم الواضحة: ذكاء البرتغالي ورقته، وحرارة الزنجي وحبه للأسرة، ومكر الهندي وعواطفه الوثَّابة.
ومن المعروضات التي تروق السائح في الحوانيت جلود الأفاعي وما يُعمَل منها من سلع، والطيور المصبرة البديعة، وكذلك ضروب الفراش، وقد اختصوا بعمل الأواني كمطافئ الطباق «والصواني» وما إليها من أجنحة الفراش، يُكسَى بالزجاج وتزيِّنه أُطُر من المعدن أو الخشب البرازيلي القيِّم، فيبدو كأنه الصدف في ألوان عدة، ويكاد يعرض ذلك في كلِّ الحوانيت إلى ذلك الأحجار الكريمة يُعرَض بعضها غفلًا والبعض مجهزًا، ولقد أقَلَّتْنا سيارة خاصة طافت بنا البلدة وبعض ضواحيها في أربع ساعات، فزاد جمال البلدة في عيوننا، فتكاد تكون كلُّ أحيائها نظيفة أنيقة تزيِّنها ميادين فسيحة زُوِّدت بالتماثيل والمتنزهات وبخاصة الأحياء المجانبة لشاطئ البحر رغم امتدادها الهائل، ومن الرُّبَى الشهيرة بها اثنتان؛ إحداهما وهي أعلى مكان بها قد تُوِّجَتْ بتمثال المسيح عليه السلام مصلوبًا نُحِتَ من مرمر براق في ارتفاع هائل هو أربعون مترًا، ومدى ذراعيه ثلاثون مترًا، وطول يده خمسة أمتار، وعلو الصخرة ٧٢٠ مترًا، ويُشرِف على البلدة كلها من كل مكان كأنه الحارس الأمين، صعدنا إليه في طرق قُدَّتْ على جوانب الصخرة تحفُّها الغابات الكثيفة المغلقة، وكان يتخلَّل الطريق بعض المقاهي والأنزال، ولا يمكن الصعود إلى الذروة إلا بقطارٍ مسنَّن العجل، وقد جلسنا إلى جوار أقدام المسيح، فكان المنظر من دوننا جديرًا بخيال الشعراء لا بقلمي الكليل. أما الربوة الثانية فتُسمَّى «قمع السكر» Pan de azucar؛ لأنها تحاكي القمع من بعيد، وتلك لا يمكن الوصول إليها إلا من ربوةٍ أوطأ منها قد وُصِلت ذروتها بذروة ذاك القمع بترام كهربائي معلق، ركبناه وسار بنا في الهواء مسافة هائلة، وقلوبنا ترتجف كلما طوحت أنظارنا إلى الهُوَى السحيقة من دوننا، ونحن معلقون في الهواء وقد وصلنا به إلى المحطة الأولى، وعندها انتقلنا إلى آخَر، وهناك جلسنا نشرب القهوة البرازيلية اللذيذة في أكواب صغيرة أذكرتني بقهوتنا المصرية الشهية، وكانت المناظر من حولنا أروع من أن تصفها الأقلام.

ظلت السيارة تشق بنا دروبًا وليَّات من ربوة إلى ربوة، ومن حولنا الغابات الكثيفة، وبين آنٍ وآخَر كان يُفاجِئنا شلَّال هائل يقف السائحون من دونه ذاهلين، وقد أدهشتنا كثرة الفاكهة وبخاصةٍ الموز والبرتقال، وكنَّا نبتاع الموزتين بمليم والبرتقالة الكبيرة بأقلَّ من مليم، ونحن سائحون يباع لهم بأضعاف الأضعاف، ومن الموز نوع صغير لا يزيد على ثلاثة سنتيمترات، وحلاوته فائقة ورائحته زكية إلى حدٍّ كبير، وكم قطفنا من غابات الطريق من ثمار برية أخَصُّها «الفراولة» ونوعًا أصفر كالبلح لذيذ الطعم.

figure
مثل من قنوات ريودجنيرو ونخيلها.

وفي اليوم التالي قمنا بجولة أخرى بالسيارة زرنا خلالها بعض المتنزهات الهائلة، وحديقة النبات التي غُصًّتْ بأنواع النبت وبخاصة أشجار المنطقة الحارة، وقيل إنها تحوي ستين ألف نوع من النبات. وفي جانب منها زرنا المتحف وقسم منه جيولوجي به بعض الحفريات القَيِّمة، وكثير من الصخور والمعادن والأحجار الكريمة ببلوراتها الهائلة، والقسم الآخَر لمخلفات الهنود الحمر من أنسجة وأردية وأدوات للزينة، وبخاصة عقود الأسنان والعظام والريش الذي يُوضَع في شكل التاج الكبير، ثم أسلحتهم من السهام وزوارقهم المنقورة في غليظ الشجر. وفي مدخل المتحف شهاب هائل سقط هناك وزنته ٥٣٦٠ كيلوجرامًا في صخرة سوداء فاحمة غير منتظمة الشكل، صقل جانب منها فبدا برَّاقًا كصفحة الحديد الصقيل، ويظهر أن غالب مادتها من الحديد. وفي جانب آخَر من الحديقة معرض السمك «الأكواريوم»، وأجمل ما به السمك الشفاف والسمك ذو الأجنحة الحريرية الرقيقة، والسمك الصغير الذي لا يزيد حجمه على عقلة الإصبع، وأنواع أخرى لا تدخل تحت حصر، ثم قصدنا حديقة الحيوان ولا بأس بكبرها وتنسيقها، ومن أغرب معروضاتها أسد أمريكا «البوما»، ونمرها «الججوار»، ثم مجموعة من الأفاعي الكبيرة.

أما في الليل فأضواء البلدة منثورة في كل مكان، وهي ذوات ألوان مختلفة، إلا أن تزاحُمَ القوم ليلًا قليل جدًّا إذا قِيسَ بشدة التزاحم الذي كنتُ أراه في بلاد إسبانيا، على أنَّا لم نلمس جمال تلك الأضواء حقًّا إلا ساعة أن برحت الباخرة المدينة ليلًا؛ فقد كان الخليج الهائل يبدو في عقد هلالي مديد من ثريات إلى قصارى مسارح النظر، وهنا وهناك نجوم من ثريات منثورة فوق حجور الرُّبَى، ويتوِّج كثيرًا من المرتفعات أضواء كأنها هالات من نور، والقسم الرئيسي من البلدة يبدو وسط الهلال ملتهبًا نورًا ملونًا، وأخذت الثريات تتقارب ونطاق الخليج يُحدد ويُحصر كلما نأت الباخرة عنه، وكانت ربوة «قمع السكر» تبدو سوداء كأنها حيوان مارد مخيف أو أبو الهول الرابض، وكان تمثال المسيح يبدو براقًا، وقد انعكست عليه تلك الأضواء المتوهجة، حتى إنك تخاله طائرًا في الهواء؛ لأن أسفل الربى حالك السواد فلا يتمالك المرء نفسه أن يعتقد أنه المسيح يصعد إلى السماء، وهو أول ما يُرَى من دقائق البلدة إذا أقْبَلْتَ عليها، وآخِر ما يختفي من تفاصيلها.

وفي الحق أن ريودجنيرو لتشهد للبرتغال بحسن الذوق وكبير العناية ببلدانهم، وهي تُعَدُّ من أجمل بلاد الدنيا وأكثرها نظافة وتنسيقًا، وهي من أصح بلاد المناطق الحارة، فنسبة الوفيات بها عشرون في الألف ليس غير، وقد زادها جمالًا طبيعة غنية بغاباتها فوق رُبَاها المبعثرة، وبحر أوغل فيها وزودها بشاطئ هلالي عظيم الامتداد، وقد شقَّ القوم وسط البلدة قناةً تصل جانبي البحر، فيمر الماء بها ويطهر أوضار المدينة التي يُلقَى بها في تلك القناة، وتحيط بجوانب القناة صفوف من النخيل الملكي الذي يناطح السحاب بعلوه، ويروق الناظرين ببياض سوقه واستقامتها العجيبة، ومن تلك الصفوف كثير في جهات أخرى من المدينة، وهي من مميزات ريودجنيرو، والناس هناك يتكلمون البرتغالية؛ لأن مستعمريها الأوائل كانوا من البرتغال، أما سائر أمريكا الجنوبية فمن الإسبان على أن غالبهم يتكلم الإسبانية لقرب الشبه بين اللغتين، وكثير يتكلم الفرنسية، وأجد من صعوبة التفاهم ما وجدته في إسبانيا من قبلُ، والمعيشة هناك أرخص منها في بلاد إسبانيا، وكان الواحد منَّا يدفع ثمنًا لطعام الفاخر «خمسة ميل رايس»، والميل رايس يساوي اثني عشر مليمًا أعني ستة قروش، كان الجنيه يساوي ٧٢ ميل رايس، والعجب أن الميل رايس ينقسم إلى ألف رايس، وتستطيع أن تشتري بعُشْره ما تتبلغ به، وكم يهولك اسم تلك العملة عندما تقول: دفعت في المطعم خمسة ميل رايس أي خمسة آلاف رايس، وقد راعني ذلك عند أول سماعه، وإذا بالمبلغ كله ستة قروش!

أقلعت الباخرة في منتصف الساعة السادسة مساء إلى سنتوس، وفي التاسعة من صباح اليوم التالي بدت جبال الشواطئ معقَّدَة شاهقة، ثم أوغلنا في خليج ضيق كأنه النهر الفسيح التوى يمنةً ثم يسرةً، وكان جانباه مختلفي السطح؛ الأيمن جبلي والأيسر سهل فسيح، وعلى جوانب ذاك الجون قامت أبنية سنتوس التي حللناها وجبنا أرجاءها بالسيارة، فإذا بها لا شيء إذا قُورِنَتْ بريودجنيرو؛ فهي بلدة فقيرة بأبنيتها وطرقها، ويعوزها الجمال إلى حدٍّ كبيرٍ، وفي مجموعها تحكي الأحياء القديمة من الإسكندرية، إلا في بعض الرُّبَى القليلة، لذلك عجلنا بالقيام إلى «سان باولو» وهي المدينة الجديرة بالزيارة في تلك المنطقة، فأخذنا نشق بالسيارة سهلًا غُصَّ بالشجيرات البرية والعشب المهمل زهاء عشرين كيلومترًا، ثم بدأنا نتسلق جبالًا معقدة كساها الشجر والغاب الكثيف، وسط طرق ثعبانية عجيبة؛ وكنَّا كلما علونا نرى سهول سنتوس محدودة إلى البحر من دوننا تشقها نقائع منثورة ونهيرات معوجة دقيقة، حتى بلغنا الذُّرَى على علوِّ ثمانمائة متر، وهنا بَدَتِ الهضبة على الجانب الآخَر تمتد إلى الآفاق، وهي تكاد تكون مسطحة إلا في بعض التغضنات القليلة، ولقد حسبتها في البدء صخرية التربة، وإذا بها تتألف من تربة حمراء دقيقة الحبيبات إلى أعماق قد تبلغ مئات الأمتار، وكان هباؤها يتطاير فيدرك كل شيء، وقد عكر علينا صفو الطريق البديع بعض الشيء، وجلُّ تلك المسائح مهمَلٌ يكسوه العشب والشجيرات الوحشية إلا في بعض بيوت ريفية تقوم ومن حولها بعض الزراعات، ومن أكبر مميزات تلك الهضبة كثرة النقائع الآسنة بمائها الرائق الفضي.

figure
تعلو هضبة البرازيل من سنتوس إلى سان باولو.
أخيرًا بعد مسيرة ساعة ونصف، أي بعد ستين كيلومترًا من «سنتوس» بدت مدينة «سان باولو» الهائلة في وهدة ارتفاعها ٣٠٠٠ قدم وسط هضبة البرازيل؛ ولقد بالَغَ القوم في تنسيقها وضخامة بنيانها، فكثير منها يعلو في الجو علوًّا شاهقًا، وقد أخذنا نخترق طرقها الفسيحة تزينها الأشجار والمتنزهات، وتتوسطها الميادين ذات التماثيل بديعة الفن، وكم راقني بناء «دار الأوبرا» التي أُقِيمت على نمط أوبرا باريس تمامًا، والبلدة كلها تُشعِر بحسن ذوق القوم وتوافر ثرائهم، ويُخَيِّل إليَّ أنهم يقتفون أثر الولايات المتحدة في تخطيط بلدانهم، وقد زرنا بعض متنزهاتها البديعة الهائلة، ومررنا بكلية الطب في بنائها الفاخر، وأخيرًا دخلنا معهد Butantan، وهنا راعتنا مجاميع الحيات والأفاعي التي يربيها القوم من كافة الأنواع، وجلها من غابات الأمازون، وقد أُقِيمت لها أبنية في شبه أقبية صغيرة لا تدخل تحت حصر، حولها خندق يجري به الماء، ولقد أخذ الحارس يجر الحيات بخطَّافه حتى كدَّسَ أمامنا زهاء الخمسين في أشكال مختلفة وألوان منوعة، بعضها أخضر زرعي والبعض أحمر منقوش نقشًا بديعًا، وكثير منها فاق قامة الرجل طولًا، وأخذ يعدِّد لنا أسماءها المختلفة، وكان الرجل يلبس في رجليه أحذية إلى الركبتين، وكان كلما حاوَلَ القرب منها هبَّتْ فيه نافرة وحاولت أن تمسك بأفواهها رجليه، ولشد ما راعني مشهد أفعى كبيرة أمسَكَها الرجل من رأسها بيده بعد محاولة طويلة وضغط على فكيها وأدخل بينهما عصاه، فبَدَتِ الأسنان كأنها الإبر الدقيقة الطويلة، ثم عمد الرجل إلى «جفت» ضغط به على جانبَي النابين فأخذ السم يتقاطر إلى الأرض في غزارة أدهشتنا وكان لونه شفافًا، ثم أزاح أغشية اللثة واجتذب الناب فاقتلعه وألقى به إلى الأرض وكأنه شوكة دقيقة طويلة، ثم رمى بالحية إلى الماء. وتلك الحيات تُربَّى وتُجمع في تلك الدار لكي يُستمَد منها السمُّ النقي لاستخلاص المصل الواقي ضد السموم، ويقولون بأنه أكبر معاهد العالم التي أُقِيمَتْ لهذا الغرض، ومن أعجب الأفاعي التي رأيناها «البواكنستركتور» والحية ذات الجرس Rattle snake، أمسك الرجل بطرف ذنبها وهزَّه فإذا برنينه حاكَى مجموعة أصوات كأنها الأجراس الصغيرة، ومن الحيات غير السامة مجموعة كبيرة أُقِيمت لها حظيرة خاصة بها.
figure
الأفاعي وأوكارها في بوتانتان بالبرازيل.

لبثنا في المدينة إلى الساعة الخامسة مساءً، ثم قمنا عائدين إلى سنتوس واخترقنا بعض القرى وكان يبدو على أهلها بعض العوز، وتعوزهم النظافة، فكثير من أبنائهم حفاة إلا أني لم ألاحظ متسولًا واحدًا لا هنا ولا في ريودجنيرو، وكنَّا نرى ونحن راجعون نيرانًا ملتهبة في بقاع نائية، فقيل لنا إنه البن الفائض عن حاجة الأسواق يُتلَف حرقًا، وهو الغلة الرئيسية للبرازيل عامةً ولهذه المنطقة خاصة.

figure
قد تزيد الأفعى على طول قامة الرجل.
والبُنُّ يكثر في التربة الحمراء Terraroxa التي تُرَى في جهات كثيرة خصوصًا حول سان باولو وريودجنيرو التي قد تبلغ ثلاثة الأمتار سُمْكًا، ويبدأ القوم بغرس الفسيل بين نوفمبر وفبراير، وتثمر الشجيرات في سن الرابعة ويكون الجني بين مايو وسبتمبر، والبن ٧٠٪ من صادرات البلاد أو أكثر ويُقدَّر بنحو ٦١٪ من تموين الدنيا كلها، وهو أكبر موارد الدولة، ونحو ٦٠٪ من الصادر من مديرية سان باولو، و٢٧٪ من ريودجنيرو، وتستهلك الولايات المتحدة نحو ٥٧٪ منه، وفرنسا ١٠٪، وألمانيا ١٠٪، وتحكم رقابة الأسواق مصلحة للبُنِّ أو شبه وزارة تشتري المحصول وتخزِّنه للأوقات المناسبة للبيع، وللدولة أن تقيِّد الصادر منه متى شاءت، وبسبب كثرة المحصول الناتج عن كثرة الإنتاج ومن قلة التصريف كان في المخازن محصول سنة برمتها كل عام، ويُقدَّر محصول سنة ١٩٣٤ بنحو ٣٠ مليون كيس، يصدَّر منها ١٨ والباقي يُضحَّى به بعد أن تشتريه الدولة من الفلاح بسعر ٣٠ ميل رايس للكيس، وقد قررت مصلحة البن ألا تزرع شجرة واحدة في البلاد لمدة ثلاث سنين، وأن تصدِّر ٤٠٪ من المحصول، وتبيح للتجار تصدير ٣٠٪، وما بقي وهو ٣٠٪ يحجز أو يتلف، ويُحرَق كل أسبوع نحو ٣٠٠ ألف كيس، وقد بلغ ما أُحرِق ٢٣١٠٦٦٠٥ أكياس، وكان الصادر سنة ١٩٣٣ نحو ١٢ مليون كيس — الكيس ٦٠ كيلوجرامًا — ثمنها مليون جنيه — وقد كان سنة ١٩٢٨، ١٤ مليون كيس ثمنها مليون جنيه.
figure
الجماهير الكثيفة في شوارع سان باولو.

أما الجو فلم يكن صافيًا، فالسماء كان يغشاها سحاب وقد أمطرتنا رذاذًا، وفي اليوم التالي وابلًا، والمطر في تلك الجهات الساحلية يسقط في جميع الفصول بسبب الرطوبة التي تزجيها الرياح التجارية الشاطئية. أما الشتاء هناك فغاية في الدفء، لم يُشعِرني بضرورة تغيير شيء من ملابس الصيف عندنا.

قمت مبكِّرًا أتأهَّب للنزول إلى سنتوس، وإذا السماء ملبَّدَة بالسُّحُب، والجو أغبر، والمطر وابل، ظلَّ هكذا بدون انقطاع إلى الليل، فكان ذلك من سوء حظي؛ لأني لم أتفقد البلدة جيدًا، على أني آثرتُ أن أقوم بجولة فيها رغم ذاك الجو المنفر، لكن المتاجر كانت مغلقةً؛ لأنه يوم الأحد، وعجبت لأن البوليس هناك يمنع البيع في هذا اليوم، وتلك إحدى ظواهر العصبية الكاثوليكية. ولعل أجمل ما في البلدة صخرة تكسوها الغابات تسلَّقْنَاها بترام كهربائي مسنَّن العجل «فونكلير»، وجلسنا في مقهى الذروة وشربنا القهوة البرازيلية الشهية، ولقد كان عبير البن عطرًا جميلًا رغم أن القهوة لم تُعَدَّ على الطريقة المصرية، ولقد بدت البلدة كلها من دوننا مكتظة البيوت، مبسوطة السطح إلى البحر الذي ظهر كأنه النهر العظيم يكاد يفوق ضعفَيْ نيلنا عرضًا.

عدْتُ إلى الباخرة غير آسِف لمصادفة ذاك الجو العكر؛ لأني لم أفقد شيئًا؛ إذ البلدة معروفة بافتقارها إلى المناظر الجميلة، ويكاد يُجمِع الناس على أنها بلدة مقبضة، إلا أن أرصفة مينائها هائلة الامتداد، يقوم على جوانبها خمسة وعشرون مخزنًا كبيرًا للسلع، ويسمونها Armazam وهي محرَّفة عن الإسبانية Almacen، وهذه عن العربية «المخزن».
عدْتُ إلى الباخرة وإذا الألمان في حركة غير عادية، وقد عُلِّقَتْ في لوحات الباخرة كلها «كلمة Ya» بالخط الكبير، تحوطها في الأركان باقات من العشب الأخضر، ولما سألتهم عن ذلك قالوا بأن هذا اليوم يوم التصويت لرئيس الجمهورية الألمانية الجديد بعد وفاة هندنبرج، وقد أعلن بدء الانتخاب باللاسلكي لجميع الألمان في نواحي العالم المختلفة ليعطي كلٌّ صوتَه، وكان الاقتراع على «هتلر» نفسه، وكان قد أعَدَّ قانونًا يقول بأن الرئيس إذا مات خلفه «المستشار» في الرياسة بدون انتخاب، لكن هتلر رفض أن يصبح رئيسًا بدون إجراء الاستفتاء؛ ليقنع العالم أن الشعب الألماني وراءه يؤيِّده، وقد أعلن بأنه لا يقبلها إلا إذا قال الشعب Ya أي «نعم»؛ لذلك كتبوا تلك الكلمة حثًّا للناس على انتخابه. وفي ساعة متأخرة من الليل تمت عملية الانتخاب، وفي الصباح جاءت الأنباء بأن هتلر أحرز ٨٨٫٤٪ من ٩٥٪ من الشعب الألماني، وهم الذين أعطوا أصواتهم، فكان ذلك نصرًا مبينًا للمبادئ الهتلرية، وكم أكبرت تلك الحرية التي يتمتع بها هؤلاء؛ ففي كل أنحاء الأرض لا يضيع صوت ألماني، وكان يتقدَّم الواحد في السفينة ويُدلِي بصوته سرًّا ويُلقِي بورقته إلى الصندوق دون رقيبٍ أو مؤثِّرٍ عليه، ولقد كانت بهجة القوم بذاك الفوز فائقة والبشر بدا على وجوه الجميع ما خلا فئة من يهود الألمان كانت مهاجرة من ألمانيا، وهؤلاء ليس لهم حق التصويت؛ لأنهم لا يحملون جوازات سفر ألمانية.

والحق أن هتلر لجدير بتلك الثقة؛ لأنه يعمل جهده لاستعادة مكانة قومه بين الأمم، فيُعِدُّ أبناءه ويقوم مثلًا للتفاني في التضحية للوطن، ويدربهم على الأعمال الرياضية التي تقوم مقام الحركات العسكرية، ويبعث بالكثير إلى أنحاء الأرض يبثون مبادئه ويثبتون لألمانيا يدًا في كل مكان، إلى ذلك فهم يسمونه نصير الفقير، فهو دائمًا يعمل على تحسين مواردهم، ويُرغِم المموِّلين وأصحاب الأعمال أن يخصوا العمال بأجر حَسَن ومعاش للمستقبل مكفول، وقد بثَّ في الشباب روحًا عجيبًا؛ إذ أعلن أن الشاب من سنِّ التاسعة عشرة يجب عليه أن يتقدَّم ليخدم في معاونة الأعمال الزراعية وفي إصلاح الطرق وتجفيف المناقع بدون مقابلٍ، والحكومة تزوِّده بالطعام والملبس والمسكن، وإن طلب مالًا صُرِف له قرش ونصف في اليوم ليس غير، ومدى تلك الخدمة سنة لكل فرد، فكأنها جندية منظمة لمعاونة مالية الدولة، ودهشت لما علمت أن سيل المتطوعين دافق حتى من غير المحتاجين ومن الطبقات العالية، ومَن كان منهم موظَّفًا في عمل تخلَّى عن عمله لأحد العاطلين أصحاب العائلات مدى عامٍ، ثم يستعيد عمله بعد ذلك!

figure
أكداس البن الذي يُحرَق في سان باولو.

وطنية سامية وإخلاص للوطن يدعو إلى الإكبار! أقلعنا منتصف العاشرة مساءً وسرنا في خليج سنتوس طويلًا، وكانت الأضواء تمتد على أحد جانبيه، ثم خرجنا إلى عرض البحر نسير صوب الجنوب، وفي الصباح كنَّا نرى صخور شواطئ البرازيل إلى يميننا وكان الجو شبيهًا بشتاء مصر، والسماء تنقشها الغيوم المبعثرة الخفيفة، وعند الظهر بدت مجموعة من جزائر صغيرة تكسوها الغابات، ثم أعقبها شاطئ محدود وراءه تقوم مدينةُ «سان فرنسسكو دل سيد» ولم نستطِع النزول إليها؛ لأن الباخرة لم تقف في مياهها سوى ساعتين، وكانت تقف بعيدًا عن البر لأن غور الماء قريب، ثم غادرناها ولبثنا نسير إلى ريوجراند آخِر جهات البرازيل جنوبًا إلى باكورة الأربعاء، ثم انعرجت الباخرة إلى بسيط من الماء لا تميِّزه عن المحيط إلا بلونه العَكِر، وبعد قليل بَدَا إلى يميننا جسر صناعي من الحجر عظيم الامتداد، يجانبه من اليسار صفَّان من «الشمندورات» الصغيرة لتسير السفن وسطها ولا تعدوها، وإلا أوغلت في الصخور والأدغال، ولقد أبصرنا بباخرة كبيرة خانها الحظ العاثر فصدمت طرف الجسر؛ لأنها حادت قليلًا عن طريق «الشمندورات» فشُقَّتْ نصفين، ولا يزال نصفها باديًا فوق الماء والنصف الآخَر غارقًا. وبعد مسيرة زهاء ثلاثة أرباع الساعة وقفنا وسط الماء؛ إذ لا يمكن للبواخر الكبيرة التقدُّم لقرب غور الماء، ثم جاءت البواخر الصغيرة بعضها يحمل المسافرين إلى المدينة والبعض ينقل البضائع والمتاع.

نزلنا نجوب أطراف البلدة، فإذا بها غير جديرة باسمها، حتى إني أسميتها تهكُّمًا «ريوبكونيو» أي ريو الصغيرة بدل جراند — ومعناها كبيرة — فهي مجموعة من شوارع مستقيمة متعامدة، بيوتها جميعًا لا تعلو الطابق الواحد، تميِّزها أُطُر وأسنان من البناء أو تماثيل صغيرة، وبين آنٍ وآخَر كنَّا نرى متنزهًا صغيرًا تتوسطه نافورة، وقد أدهشني سكون البلدة التي بدت وكأنها غير مأهولة، وقليل من حوانيتها غير مفتحة حتى إني خلت يومنا يوم الأحد وإذا به الأربعاء، فكأنها بلدة ميتة، صرفنا في أرجائها يومًا كاملًا لم ندرِ ما نفعل، فعمدنا إلى حانوت فاكهة، وشربنا من الموز والبرتقال شيئًا كثيرًا، وثمنه هناك زهيد للغاية، ولبثنا نأكل حتى ضجت البطون وعافت النفوس، ويبدو على أهل البلدة — وقليل ما هم — الفقر، فكثير من أبنائها يسيرون في خرق بالية عراة الأقدام، على أن البلدة عاصمة أقصى مديريات البرازيل جنوبًا، وهي أغنى جهاتها بالمرعى، وهي تقع على مستنقع هائل من الماء فسيح يبدو كأنه ذراع من البحر، ويكاد يحوط البلد من جميع جهاته. أما جو البلد فرطب كثير السُّحُب والأمطار، شديد الريح باردها، وفي الصباح والمساء يسود الجوَّ ضبابٌ كثيف لا تبدِّده الشمس قبل العاشرة صباحًا، لذلك كانت الباخرة تدق أجراسها دقات متتالية؛ لتدل البواخر الماخرة بجانبها على موضعها من الماء، وقد ظلت باخرتنا تفرغ حمولتها إلى ظهر اليوم التالي، وما كدنا نُعلَن بالإبحار حتى قيل إن الباخرة لا تستطيع السير إلا بعد ثلاث ساعات لقرب غور الماء؛ إذ كانت ساعة الجَزْر، والمد والجزر يتعاقبان مرتين في اليوم: مد فجزر، فمد ثم جزر، فلبثنا حتى علا الماء وظهر المد، ولقد أخذتُ على الربَّان تهاوُنه في معرفة ذلك؛ لأنه أعلننا بالرحيل ثم قيل إنه وقت الجزر، ومواقيت المد والجزر لكل ميناء مدوَّنة معروفة، ومن ألزم واجبات البحَّار أن يكون بها عليمًا؛ لأنه بغيره لا يستطيع السير، وقد يعرِّض سفينته لأخطار أوحال الجزر وصخوره.

(٢) بلاد أرجواي

غادرنا ريوجراند منتصف الرابعة مساء ولبثنا الليل كله ونهار اليوم التالي، وكنَّا نرى السواحل على بُعْد، وقد أخذت جبالها تندر حتى أضحت سهولًا عندما قاربنا «منتفديو»، وقبل رؤية البلدة بنحو ساعتين أخذ الماء لونًا كدرًا يشبه لون ماء نيلنا إبَّان الغيض — التحاريق — ذلك لأنَّا بدأنا ندخل مصبَّ لابلاتا الهائل. في الثالثة مساءً ظهرت على بُعْدٍ أبنية منتفديو ممدودة في سهل لا تتخلله نجاد، اللهم إلا تل وطيء مخروط الشكل تجمع من الثرى وهو أول ما رآه الكاشفون على بُعْدٍ، فصاح أحدهم قائلًا: «مونت، أي: جبل. فيد، أي: أرى. أيو، أي: أنا» أعني: إني أرى جبلًا. ولما حلوا المكان أسموا البلدة بهذا الاسم المضلل. جبت كثيرًا من أرجائها؛ تارة بالأوتوبيس، وطورًا بالترام أو سيرًا على الأقدام، فبدت عظيمة فاخرة شاهقة البنيان، نظيفة الطرق، كثيرة المتنزهات والميادين الفسيحة، أخص بالذكر منها: ميدان الدستور «كنستيتوسيون» الهائل تحوطه الأبنية الفاخرة وبخاصة الكتدرائية ودار المؤتمر «البرلمان»، ثم ميدان الاستقلال ويزينه بناء الحكومة والأوبرا، ثم ميدان «لبرتاد»، وشارع البلدة الرئيسي يفوق شارع فؤاد الأول عندنا في أبهته وروائه ولهيب أضوائه ليلًا، وتخطيط شوارع البلدة يكاد يكون في استقامة واحدة بعضها يوازي البعض، وبعضها يقطعها متعامدًا عليها، وكثير من بيوتها وطيء ذو طابق واحد إسباني في هندسته ونوافذه، والبلدة تُعرَف بكثرة حدائقها وزهورها التي أكسبتها اسم مدينة الورد City of roses، والبلدة تُشعِر الزائر بأنها عاصمة أمة كبيرة، لكني علمت بأنها البلدة الوحيدة في تلك الجمهورية وما عداها في حكم القرى، وقد ضمت من سكان الدولة وهم ١٨٥٠٠٠٠ نحو ٦٥٥٥٩٩ أي فوق ثلث الأهلين، وأورجواي أصغر دول أمريكا الجنوبية، مساحتها ٧٢١٥٣ ميلًا مربعًا، واسمها هندي اختلف في معناه، وقيل إنه مركب من ثلاث كلمات أورو uru أيْ طائر، وا Ua أيْ أجوف، واي أيْ نهر.

وبالمدينة بعض المتاحف الصغيرة لكن محتوياتها قليلة وليست بذات شأن، ومن الناس بعض السود أو المولَّدين لكنهم أقل كثيرًا ممَّن رأيناهم في بلاد البرازيل، وجل البلاد أرض كلأ مبوسطة تمون الماشية ذوات القرون الكبيرة، وتلك عماد صادراتها، والبلاد في نجوة من الصحاري والثلوج والوحوش والأفاعي، على أنها لا تخلو من هجمات الجراد، ومن العواصف والجفاف، وأهلها قصَّابون سفَّاحون، وكثيرًا ما ترى طفلًا يتسلق على ركبة الحصان ليعتلي ظهره، ويجري به ليصيد شاة بحبله «اللاسو» وينحرها ويسلخها على الفور كأنه جزار ماهر، وتلك المهنة مهنة الذبح هي التي يعزى إليها ميلهم إلى سفك الدماء، فسرعان ما يستل الواحد منهم خنجره في المنازعات وحتى في الألعاب، وفي البلاد كثير من الماشية والخيول البرية التي يصيدونها بين حينٍ وآخَر.

وكان تطوُّر أرجواي مدهشًا عجيبًا عن سائر جمهوريات أمريكا؛ فهي دولة ذات حكومة أقدامها ثابتة ومركزها الاقتصادي مدعم بحيث يحسدها الكثير، مع أن استعمارها تأخَّر مائة سنة عن جيرانها بسبب قسوة قبائل تشاروا من الهنود أهلها الأصليين، وهي أول دول أمريكا الجنوبية التي خولت للنساء حق الانتخاب وحق الطلاق والقيام بالوظائف والأعمال الحرة على قدم المساواة مع الرجل، ومنذ سنة ١٩٠٧ ألغت الإعدام، ويقوم نهر أرجواي بخدمات جليلة لها ففضلًا عن أنه الحد الطبيعي لها، فهو خير الوسائل لنقل غلاتها من المرعى.

وأهل البلاد الأصليون «التشاروا» كادوا ينقرضون واتخذ مكانهم اليوم الجوكا بوجهه العريض، ولونه الأحمر، وشعره الأسود المرسل، وعيونه المستديرة المتقدة، وجسمه المفتول القوي، وأكتافه العريضة، ورقبته الغليظة، وعجزه الضامر، وسيقانه المقوسة من كثرة ركوب الخيل، فهو ندُّ الكاوبوي في أمريكا الشمالية وتراه يلبس البونشو poncho، وهو شال مخطط من الصوف يشق وسطه لتدخل الرأس منه ويرتمي على الأكتاف، والبومباتشو bombacho، وهو سروال هائل يُربَط حول الخصر والعرقوبين، وفي الشتاء يحمل فوق ذلك شالًا ثقيلًا من الوبر «كوفية» chirippa يلفه حول وسطه ويدلي أطرافه أمامه إلى القدمين، فيُخَيَّل للمرء أنه لن يستطيع الحراك من عبء الثياب، على أنه يؤدي عمله وهو على ظهر جواده، وتعجب كيف يحتمل الحصان وخزات المهماز الذي يزيد قطره على ست بوصات، ويظهر أن الحصان قد ألف ذلك الوخز وهو خير عون لراكبه إذا ما ألقى بحبله «اللاسو» على حيوان البراري ليصيده، ذاك هو ساكن الريف في أرجواي تراه بمجرد خروجك من منتفديو، على عكس العاصمة التي تخالها جزءًا من باريس في أزياء أهلها وتأنقهم وتنسيق طرقها ومبانيها ومتنزهاتها، وأحب طعام للجوكا هنالك لحم البقر ويشوى في العراء، وقد يكون الجلد لاصقًا به وهم يفضلونه على غيره ويقولون carne con cuero، ويُقدَّر طعام العائلة في العام بما بين ٧٠–١٠٠ رأس من الغنم، ويدمنون شرب الماتي.

وقد كان للحرب الكبرى فضل في زيادة ثروة البلاد؛ إذ ارتفعت أسعار اللحوم واغتنى منها الكثير، فأصبحوا «مليونيرات» وزادوا قطعانهم فبلغت ١٥ مليونًا من الغنم، و٧ من الماشية ونصف مليون من الخيول، لكنهم لم يغيِّروا نظام معيشتهم، ففي الفجر تراه خارجًا على ظهر جواده، وفي الظهر تراه على سريره يستريح قليلًا، وفي الأصيل تراه أمام موقده يتدفأ قليلًا، وفي العاشرة في فراشه، ونظام المعيشة يحكي نظام الإقطاع، والأب أو رئيس البيت هو المتصرف المطلق.

وإلى اليوم لا تزال أراضي المملكة كلها وهي ٧٢ ألف ميل — أي ٣٦ مليون فدان — يملكها ٦٠٠ عائلة، منهم أربعون بريطانيون، أي إن العائلة تملك ستين ألف فدان، والبلاد سعيدة بجو ريفها الجميل الذي يخلو تمامًا من كافة الأمراض المعدية، وجو العاصمة أجمل من جو بونس أيرس؛ لأن البحر يكاد يطوقها فهي لذلك أجدر منها بهذا الاسم، ولقلة المصانع لم تجتذب البلاد كثيرًا من المهاجرين، وهم منشأ الاضطرابات في الدول الأخرى، والطبقات هناك متعادلة، فأنت لا ترى الفقر المدقع أو المتسولين والحفاة بين المارة قط، بل ترى شعوبًا متشابهة. وأول ما أُدخِلت الماشية والخيول سنة ١٥٨٦ حين أطلق Hernado Arias مائة ماشية من ذوات القرون الكبيرة وبعض الخيول، فتكاثر عددها بنسبة عظيمة، ولقد تعلم الهنود ركوب الخيل بعد ذلك فزادت قدرتهم على مغالبة الفاتحين من الإسبان والبرتغال خصوصًا قبائل تشاروا، والقوم يجلون الشعراء أكثر من احترامهم للقادة السياسيين وتلك ذائعة في سائر بلاد أمريكا الجنوبية. وكثير من اللحم يُحضَّر بطريقة بسيطة كأنْ تُشرَّح اللحوم شرائح رقيقة تُنشَر في الجو لتُجفَّف وتُصدَّر إلى الجهات القريبة كأنها سمك «البكالاه».

وفي العاصمة يسمع الإنسان جميع اللغات المتمدينة لكثرة الأخلاط، حتى قيل إنه من كل ثلاثة أطفال يولدون اثنان آباؤهما من الأجانب، على أنها رغم ذلك أقل اختلاطًا من بونس أيرس مثلًا. فترة جميلة تلك التي أمضيناها في عاصمة أوراجواي، ثم أقلعنا الحادية عشرة مساء صوب بلاد أرجنتينا، وقد ساورتني تلك الليلة مخاوفُ عدةٌ؛ فلقد قرأت في دليل عن البلاد مصادَفةً أن الشهادات التي يقدِّمها المسافر إلى تلك البلاد لا يصح أن يزيد تاريخها على شهر وإلا رُفِضت، ولا يباح لحاملها النزول إلى الأراضي الأرجنتينية، وشهاداتي قد مضى عليها زهاء ثلاثة شهور، إلى ذلك فقد علمت أن الطبيب يدقِّق في الكشف على عيون المسافرين جميعًا، ومن كان مصابًا «بالتراكوما» لا يباح له النزول، وأنا لا يزال لذاك المرض عندي بقية رغم أني عالجته زمنًا، لهذه الوساوس لم أتمَّ ليلتي إلا غرارًا، وقد خُيِّلَ إليَّ أنهم لن يبيحوا لي حلول بلادهم، وعندئذٍ أعود من حيث أتيت بعد أن تكبَّدْتُ متاعب السفر ونفقاته الباهظة، ولقد ذكرت موقفي يوم رفَضَ أولو الأمر في ناتال وجنوب أفريقية أن أحلَّ بلادهم وأساءوا معاملتي، فكانت ليلة مريرة.

وفي الصباح كنَّا نجانب شواطئ الأرجنتين الوطيئة، وتيار النهر دافق وماؤه كدر واتساعه عظيم، بدا كأنه المحيط نفسه لا يرى له شاطئ آخَر، وقبل وصولنا بونس أيرس بنحو عشرين كيلومترًا قامت «الشمندورات» وسط الماء لتهدينا طريقنا ونسير وسطها، وفي التاسعة صباحًا رسونا على رصيف الميناء الهائل وتجَلَّتْ لنا البلدة في امتداد عظيم وأبنية شاهقة. هنا أقبل رجال البوليس والطبيب وأخذوا يفحصون الأوراق فحصًا دقيقًا، ولما أن جاء دوري لاحظ الرجل التاريخ فوضع أوراقي جانبًا وأشار إليَّ بالانتظار حتى ينتهي من سائر المسافرين؛ لأن في الأمر شيئًا فأيقنت أنهم سيرفضونني ويلزمونني بالعودة، وأخيرًا تحادثوا في أمري بمجموعتهم، وفحص الطبيب عيوني ولاحَظَ آثار الحبوب «التراكوما» بها، فأسرعت بإخبارهم بأن سياحتي قصيرة ولغرض علمي جغرافي، وأني لا أقصد المقام عندهم طويلًا بل سأعبر إلى شيلي، وأني مدرس في مدارس الحكومة المصرية، وأني موفد بمهمة شبه رسمية إلى وزارة معارف شيلي، وكان معي خطاب توصية من سعادة وزير شيلي في مصر فأطلعتهم عليه، عندئذٍ بَدَتْ عليهم علائم الرضا وتجاوزوا عمَّا اعتزموا وختموا الجواز وأباحوا لي النزول، فكدتُ أطير فرحًا وحمدت لهم ذاك الجميل وتلك المعاملة السمحة، وحتى رجال الجمرك والحمَّالون كانوا في غاية الوداعة وهم باشُّون مؤدَّبون جميعًا، وتلك من مزايا الشعب الأرجنتيني.

(٣) بلاد الأرجنتين أو الجمهورية الفضية: نبذة تاريخية

أرجنتينا

كان يقطن البلاد قوم قساة من الهنود الحمر قتلوا جوان ديازدي سويس الذي كشف مصب لابلات ونزل البلاد بفرقة قليلة العدد، فهاجمهم الهنود وقتلوهم وأكلوا لحومهم. وفي سنة ١٥٣٥ جاء بيدرو دي مندوزا بحملة كبيرة، وأسَّس بونس أيرس وأسماها كذلك لحُسْن هوائها، ولكن مقاومة الهنود كانت قاسية لدرجة أن الإسبان هجروها عاجلًا، وقد تكرَّرَ احتلالها وتَرْكها حتى جاء Juan de Garay سنة ١٥٨٠ وأسَّسها من جديد للمرة الثالثة، ونشر الخيل والمرعى وسرعان ما ضجر القوم من تدخُّل إسبانيا التجاري؛ إذ حتمت عليهم أن تمر تجارة أمريكا الجنوبية عن طريق بيرو وبنما إلى إسبانيا ليكفلوا احتكارها وبخاصة الذهب والفضة، وحرَّموا على أهل لابلات الاتجار مع أوروبا، فلجأ أولئك إلى تجارة التهريب. ولما جاء القرن الثامن عشر بدأ كفاح بين الدول من أجل أسواق العالم، وفي سنة ١٧٧٦ فُصِلت بلاد أرجنتينا وبرجواي وأرجواي وبوليفيا من بيرو، وضُمَّت لحاكم بونس أيرس ونمت التجارة مع إسبانيا وزادت ثروة البلاد، فبدأ التذمُّر يزيد وأخذت النزعة الاستقلالية تنشط، ولما حالفت إسبانيا نابليون دعا ذلك إلى مهاجمة الإنجليز للبلاد، فاحتلوا بونس أيرس سنة ١٨٠٦ لكنهم هُزِموا عاجلًا، فأعادت إنجلترا الكرَّة، لكنها هُزِمت واضطرت إلى ترك بونس أيرس ومنتفديو، فشجَّع هذا النصر أهل البلاد أن يثوروا ضد إسبانيا. وفي يوم ٢٥ مايو سنة ١٨١٠ بدءوا ببثِّ جنودهم في أرجاء البلاد لطرد الإسبان، وفي سنة ١٨١٣ جاء سان مارتين وعاوَنَ بلاد أمريكا الجنوبية على الاستقلال عن إسبانيا ومن بينها أرجنتينا وأرجواي، وفي سنة ١٨١٦ أُعلِن الانفصال عن إسبانيا، ثم جاء رفا دافيا سنة ١٨٢١، وحكم البلاد في حزم وعزم لكن افتقار البلاد لطرق المواصلات لم يمكِّن من إيجاد حكومة مركزية قوية، فتبع ذلك زمن استبدادٍ ظلَّ أربعين عامًا، وأكبر شخصية به Mamel Rosas، وهو من كبار ملاك البامباس، أراد أن يستقل بمقاطعة بونس أيرس ويسودها على سائر المقاطعات.
figure
في ميدان الدستور في منت فديو.
وفي سنة ١٨٦٢ جاء بارثلميوميتري Mitre وأصبح رئيس الجمهورية، وفي عهده نمت ثروة البلاد وضوعف سكان بونس أيرس، ثم جاء Roca وانتصر على متري Mitre، وبعد أن حكم مدة طويلة ترك الحكم، ثم عاد إليه ثانيةً ورفع شأن البلاد ونشر السلم فيها، وفي زمنه حُلَّتْ مشكلة الحدود بينها وبين شيلي، ولما جاءت الحرب الكبرى كانت ميول البلاد مع ألمانيا لكنها ظلَّتْ محايدة ونمَتْ مواردها إلى حدٍّ كبير.

بونس أيرس

حللتُ نُزُلًا سوريًّا لصاحبه إلياس يعقوب في شارع ريكونكيستا، هداني إليه سوري لاقيته على ظهر الباخرة، وهنا شعرت بأني وسط بني قومي كلهم يتكلمون العربية في اللهجة السورية، والنُّزُل عظيم البناء، نظيف الأثاث والطعام عربي، فسرعان ما قُدِّمَ لنا «المحشي الدسم» و«الكبيبة» اللذيذة والكباب الشهي، وحتى الملوخية التي ما كنتُ أحلم بتذوُّقها في بلاد الدنيا الجديدة، والسوريون هناك جالية كبيرة تناهِز الثلاثمائة ألف، وهم نشيطون محبون للعمل، بيدهم كثير من المتاجر والأراضي والعقار، وكثير منهم من كبار الممولين، ورغم أنهم مجنسون بالجنسية الأرجنتينية فهم يحتفظون بالكثير من تقاليدهم، ويحرصون على لغتهم، ولهم بعض الجرائد تُطبَع بالعربية، قرأت إحداها «الزمان»، ومن أبنائهم مجندون وضباط في الجيش الأرجنتيني، وفي البلاد كثير من مختلف الأجانب وبخاصة الطليان، ثم الإسبان، ثم الألمان وكثير غيرهم حتى يخال المرء أنها بلاد عالمية يأتنس الغريب فيها بجمهرة من بني قومه مهما كانت جنسيته.

نزلتُ أجوب بعض أرجاء المدينة فأدهشتني عظمة أبنيتها، وامتداد شوارعها، ونظافة طرقها وأهلها، وشدة حركتها، وفسيح ميادينها، وتنسيق متنزهاتها، وجمال تماثيلها وأنصابها، فهي من أجمل مدن الدنيا وأغناها وأنظمها، تحكي نيويورك ويزيدها جمالًا بيوتها الإسبانية ذوات النوافذ والشرفات الحديدية والأبراج الهائلة. ولقد بدأتُ زيارتي بميدان مايو Plaza de Mayo الهائل يزينه متنزه بديع أُقِيم في وسطه نصب يتوجه تمثال سيدة بيدها حربة، وهي رمز الحرية، وقد كُتِب عليه «٢٥ مايو ١٨١٠» وهو يوم استقلالهم، وتطلُّ على جوانبه من الشرق سراي الحكومة ويسمونها La Casa Rosada؛ لأن لونها أحمر أرجواني، وهي مقر رئيس الجمهورية، وبها من الأبهاء بديعة النقش والتماثيل جميلة الفن ما يحار فيه اللب، ويقف على أبوابها العدة البوليس، وقد لبس أردية يحوطها اللون الأحمر في جمال ورهبة، كذلك تطل على الميدان الكتدرائية التي جُدِّدَتْ مرارًا، وهنا أُقِيمت أقدم كنائس البلدة. ومن الميدان في الجانب المقابل لسراي الحاكم يبدأ شارع مايو Avenida de Mayo قلب المدينة وأعظم شوارعها، ويقولون إنه أجمل شوارع الدنيا الجديدة كلها، وتحته يجري الترام Subway، وفي طرفه الآخَر ميدان المؤتمر Congreso تُشرِف عليه سراي المؤتمر في هندستها الرومانية الإغريقية، تعلو وسطها قبة شاهقة وهي مقر البرلمان، وأمامها في الميدان مجموعة من الأنصاب والتماثيل تحوطها النافورات التي يتفجر الماء منها في أقواس متقاطعة وعلو شاهق، وتنعكس على مياهها ليلًا أضواء قوية ملوَّنة أذكرتني بنافورات قصور فرساي، وتعبر ذينك الميدانين وشارع مايو أغلبُ الشوارع الرئيسية ذات الحركة التجارية الهامة، وقد وُضِع تصميم شوارع بونس أيرس بحيث تخرج مستقيمة من شاطئ النهر في غير انثناءٍ، وتقطعها الشوارع الأخرى متعامِدة عليها، ولقد نظمت الأبنية في كتل مربعة مدى كل كتلة ١٣٠ مترًا، ثم يفصلها من جميع جوانبها عن الكتل المجاورة أربعة شوارع، وقد قُسِّمَ جانب كل كتلة إلى مائة رقم تراها مكبرة على جوانب الطرق.
figure
ميدان المؤتمر الفاخر في بونس أيرس.
وقد تجد من الأرقام ثلاثة آلاف أو أربعة، والعجيب أن رقم ١٢٠ مثلًا في هذا الطريق يقابله تمامًا نفس الرقم في جميع الشوارع الموازية له، وغالب الشوارع ضيق، لذلك لا يباح للعربات أو الترام المرور إلا في اتجاه واحد، وترى سهمًا كبيرًا من «الصاج» دُقَّ في رءوس الطرق، فإن كان الاتجاه في هذا الطريق إلى الشمال كان في الشارع التالي له إلى الجنوب، وهكذا. وكم يهولك مشهد الشارع بأبنيته الشاهقة وامتداده اللانهائي، ومن تلك الطرق شارع Rivadavia أطول شوارع الدنيا، فهو في بونس أيرس وحدها عشرون كيلومترًا، ثم إنه يمتد في الضواحي إلى البلدان الأخرى؛ أما حركة السيارات فمروعة تكاد تسد الطرق كلها في جميع الأوقات، وكلها تسير إلى اليسار لا إلى اليمين كما هي الحال عندنا، على أن خطراتها قليلة؛ لأن السائقين هادئون حَذِرون، وشارع «فلوريدا» القلب التجاري، ويُمنَع فيه مرور العجلات بين العصر والمساء، فترى جموع المارة به إذ ذاك كثيفة متلاصقة، وهو في تلاصق حوانيته ومتاجره يحكي Rue de la Paix في باريس، ويسهل على الغريب تعرف طريقه أينما سار؛ لأنه يسير إلى الرقم الذي يريده، ثم يأخذ الاتجاه المقاطع له حتى يصل الشارع والبيت الذي يريد.

ثم كانت جولتي الليلية في أحياء «باريس أمريكا» كما يسمونها، وما كاد الليل ينتصف حتى أيقنتُ أنه جدير بالفرنسيين أن يسموا عاصمتهم «بونس أيرس» أوروبا؛ لأنها تفوق باريس في مجونها وخلاعتها وملاهيها ووجاهتها، فدور السينما والتياترات لا تدخل تحت حصر، ففي بعض الشوارع تراها متراصة بالعشرات إلى جوار بعضها في أبنية تروع المرء بجمالها وثرائها وحسن تنسيقها، وهم يبالغون في وجاهتها إلى أقصى حدٍّ، فترى الجدران تُكسَى بالمرمر الملوَّن في نقش بديع، وتُفرَش مداخلها ببُسُط وثيرة لا يكاد يسيغ المرء لنفسه أن يطأها بحذائه، أما أضواؤها مختلفة الألوان فتخطف الأبصار، حتى ليُخَيَّل إليك أن الشارع كله شعلة من نيران تتغير ألوانها بين لحظة وأخرى؛ أما المراقص والمقاهي الفاخرة فحدِّث عن كثرتها وجمالها، وفي كثير من المقاهي تعزف جوقة موسيقية في شرفة عالية من دونها مناضد الجالسين؛ وأما جمهور القوم في تلك المحال والذين تراهم يجوبون الطرق فيبدون في هندام أنيق نساء ورجالًا، وهم يبالغون في الوجاهة ويحبون الزهو والفخفخة، ويطربون لاستحسان الناس لأزيائهم وهم غادون أو رائحون، وتلك النزعة يُعرَف بها أهل أرجنتينا كلهم، وقد علمت أن جلهم ينفق ما يزيد على دخله مخافة ألا يبدو وجيهًا بين بني قومه، لذلك كان ادخارهم قليلًا، وهذا قد حدا بالحكَّام أن يبتلعوا من الأموال العامة ما استطاعوا، وجميعهم بين كبير وصغير يميل إلى الارتشاء الميل كله، وبالمال يستطيع المرء أن يستميل الحكَّام ويقضي ما شاء من أعمال، وكثير منهم يمتلك أفخر السيارات ويقطن في قصور غالية الأجور، بلدة يلمس الغريب لمجرد رؤيتها الثراء والغنى، ويحكم بأن أرجنتينا أرض تفوق بلاد أوروبا مالًا وعقلًا، وما كنت أخال بونس أيرس قد بلغت ذاك الشأن؛ فهي في نظري تفوق جميع عواصم أوروبا حتى باريس وبرلين، وغالب ظني أنهم هنا يحتذون مثل أمريكا الشمالية وينسجون على منوالها في كل شيء، ومن الأبنية كثير من ناطحات السحاب إلا أن أعلاها تبلغ طبقاته ستًّا وثلاثين صعدتها إلى الذروة في مصاعد سريعة، ولشد ما هالني مشهد البلدة بشوارعها التي خُطَّتْ في استقامةٍ تامة وتقاطُعٍ عمودي، أما الأضواء مساءً فيزوغ البصر فيها ويحار، وغالب تلك النواطح تضيق تدريجًا في أدوارها العليا حتى يبدو بعضها هرمي الشكل. أما جو البلدة فكان في اليوم الأول ممتعًا هو شبيه بأيام الشتاء المشمسة الدفئة في مصر؛ لذلك حقق في ظني تسمية المدينة «بونس أيرس» أي «الجو الجميل».

figure
شارع مايو أجمل شوارع الدنيا في بونس أيرس.
على أن جو اليوم التالي كان غائمًا باردًا إلى الظهر، عكَّرته الرياح التي يسمونها «البامبيرو» التي تهب من سهول البامباس، وكثيرًا ما تلحق بالبلاد من أضرار خصوصًا إذا رفعت موج النهر الفسيح فأغرقت من شطآن وحطمت من سفن، على أن الجو تحسَّنَ قليلًا بعد ذلك، وليس هذا موسم الزيارة لتلك البلاد بل الربيع والخريف خير المواسم لزيارتها، ولقد استرعى نظري حركة الصحافة وكثرة الجرائد وكبرها، فجريدة La Prensa أي الصحافة تخرج في اثنتين وخمسين صفحة يوميًّا، والكرتيكا Critca وناسيون Nacion في اثنتين وأربعين يوميًّا، وتباع بعشرة سنتافوس — قرش تعريفة — وعدد الجرائد هناك ٥٢٠، والجريدة أربعة أقسام: القسم الرئيسي للأخبار، ثم قسم مصوَّر، وثالث للأطفال، ورابع للأدب، والعجيب أن بعضها يُطبَع أربع طبعات في اليوم في فترات ساعتين أو ثلاث بين كلٍّ، وكلُّ طبعة تضيف ما جدَّ من الشئون والأنباء، والتوزيع اليومي بين نصف مليون ومليون، وللصحافة هناك حرية مطلقة لا يتمتع بها أمثالها في بلاد العالم الأخرى؛ إذ لا تخضع لأية رقابة وذلك بنص الدستور، لذلك كان لها أثر كبير في حرية الأفكار وتثقيف العامة، ومن الجهات الجديرة بالزيارة حديقة الحيوان في جهة متطرفة من البلدة، وبها مجموعة قيِّمَة من حيوان أمريكا وبخاصة البوما أسد أمريكا، وهو يرى نحيلًا كأنه القط الكبير، وليس للذكر تلك المعرفة المهيبة في أسد قارتنا الأفريقية، وكذلك الججوار نمر أمريكا وهو أكبر من البوما حجمًا ويحكي شيتا أفريقيا بجلده الأصفر تزيِّنه بقع سوداء، على أن تنسيق الحديقة دون حديقة القاهرة بكثير؛ فحديقتنا أكبر وأجمل، وإلى جوارها حديقة النبات عظيمة الامتداد. ومن أكبر مميزات بونس أيرس ميادينها الهائلة المتعددة، ويغلب أن تتوسطها جميعًا التماثيل والأنصاب، وأعظمها شأنًا ميدان «مايو»، ثم ميدان البرلمان، ولكثير من الدول تماثيل أهدوها للأرجنتين بمناسبة مرور مائة عام على استقلالها، فإنجلترا أقامت برجًا هائلًا من الآجر الأحمر علوه ٢٠٧ أقدامٍ، تتوجه ساعة بأربعة وجوه قطرها قدمًا، وإذا دقت سمعت نواقيسها من أبعاد مديدة. ولقد أهدت الولايات المتحدة تمثال واشنطون، وإيطاليا تمثال كرستوف كولومب، وأهدت فرنسا تمثال الحرية أسفله أربع سيدات يمثِّلْنَ العلم والصناعة والزراعة والفن.

أما متنزهات البلدة فحدِّث عن كثرتها وبهائها، وأهمها متنزه بالرمو، ويمتد فوق تسعين ألف إيكر تشقه الشوارع البديعة يحف بعضها الصفصاف والبعض النخيل، وتتوسطها النافورات وتقوم حولها أقبية النبت في أشكال هندسية بديعة، وقسم منه خُصَّ بمختلف الزهور اسمه «روزيدال»، ومن أبدعها متنزهات «ديجراي» على ضفاف النهر، وكم يروقك مشهد القوم وهم غادون رائحون في كثافة هائلة طيلة اليوم رغم أنه موسم الشتاء، وتلاحظ مغازلة الشبَّان للسيدات علنًا، فهم يشيرون إليهن ويلقون بالقول مدحًا فيهن، وهن يقابلن ذلك بالبشر والسرور، ولا يُعَدُّ ذلك تعديًا عليهن، كما يعدُّه أقوام آخَرون، بل بالعكس كلما كثرت تلك المغازلة عُدَّ ذلك من حُسْن الذوق والمجاملة!

زرتُ جامعة بونس أيرس في بنائها الضخم وحركاتها العلمية الناشطة، وهناك أدهشتني إحصاءات المدارس والطلبة في أرجنتينا؛ فقد علمت أن المدارس الأولية الابتدائية يبلغ عددها ١١ ألفًا، بها نحو خمسين ألف مدرِّس ومليون ونصف مليون طالب، والتعليم فيها إجباري ومجاني لمدة ست سنين، ومن المدارس الابتدائية الكبيرة ٤٠٠ في أبنية فاخرة، وفيها يُصرَف الخبز واللبن المعقَّم مجانًا، والمدارس الثانوية ٢٠٦ بها ٢٥ ألف طالب والتعليم الثانوي ست سنوات، وهنا يتعلم الطالب اللغات الأجنبية، ولا يُعَدُّ الواحد متعلمًا إلا إذا درس الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، أما الجامعات فخمس، وفيها نحو ٥٨٪ من الطلبة يدرسون الطب، و٢٠٪ القانون، والجامعة تعطي ثلث أصوات إدارتها لكبار الأساتذة والثلث لصِغَارهم والثلث الباقي للطلبة، لذلك كانت سلطة الطلبة كبيرة وكثيرًا ما يتكرر إضرابهم حتى في المدارس الابتدائية. أدهشني ذاك الرقي العلمي، وقد جاوزت نسبة المتعلمين ٦٥٪ من أهل البلاد وعددهم ١٢ مليونًا، ولمَّا يمضِ على استقلال البلاد إلا قرن وربع قرن، ونحن لا نزال نتعثر في نُظُمنا التعليمية ولم نستطِع محوَّ الأمية إلا في نسبة ضئيلة لا تجاوِز ١٣٪، ولن أنسى موقفي من بعض شبان الجامعة هناك حين بدرني أحدهم قائلًا: «أظن أن حالة التعليم في مصر لا تزال متأخرة.» فسكتُّ قليلًا أفكِّر في الجواب، فأسرع هو قائلًا: «أظن أن الأمية عندكم حول ٥٠٪.» فقلتُ على الفور: تقريبًا. وأنا في شدة الخجل.

figure
مثل من ناطحات السحاب في بونس أيرس.
قمتُ بقطار الصباح إلى مندوزا آسفًا شديد الأسف على مغادرة بونس أيرس البديعة التي يطيب للمرء المقام فيها طيلة حياته، فأخذ القطار يشق طريقه وسط البلدة، وبعد قليل أصبحنا وسط سهول مترامية الأطراف ليس فيها من التغضُّن شيء قط، وتكسوها خضرة ملتصقة بالأرض لا يكاد يستقيم لها عود إلى الآفاق، وتلك بداءة سهول البامباس الشهيرة، وظلَّ القطار اليوم كله في تلك المناظر الموحدة التي يملها المسافر لولا وجه الشبه بينها وبين أرضنا المحبوبة، الذي كان يمثِّل لي وطني العزيز فيغلب أنسُ تلك الذكرى وحشيةَ تلك السهول، وبين آنٍ وآخَر كانت تبدو أمامنا حدود الضياع Estancias بشباك السلك الواطئة، تحف مداخلها أشجار باسقة، ولا يغيب عن العين مشهد الخيول والماشية أبدًا، وكثيرًا ما ترى قطعانها يسوقها خيَّال أو اثنين من الجوكا Gauchos، وبعض تلك الأراضي يزرعها القوم وكانوا يحرثونها بمحاريثَ حديثةٍ تجرها مجاميع الخيول.
أما القرى فنادرة وبيوتها تقام من طابق واحد من آجر أحمر لا يكسوه طلاء، وطرقها غير مرصوفة تغوص العجلات الثقيلة في ثراها، وتثير وراءها زوبعة من الهباء، وجلُّ أهلها تعوزهم النظافة في هندامهم المهلهل، وشتَّان بين مظهرهم الرَّثِّ وبين أهل بونس أيرس الأثرياء المتأنِّقين، ويُخَيَّل إليَّ أن تلك القرى قريبة شبه بقرانا المصرية، أما تربة الأرض فسوداء كأرضنا وعلى جانب من الخصب كبير، تعوزها الأيدي الكافية والماء الوفير؛ لذلك ترى غالب الضياع قد أقام دوارات هوائية كالمروحة المستديرة تديرها الربح فترفع بعض الماء الباطني للري، وأرجنتينا ذات مساحة هائلة تعادل ثلث أوروبا، وهي أكبر الدول المتحضرة التي نجهل عنها الكثير، وشهرتها ترجع إلى تصدير اللحوم والذرة والقمح وإلى كثرة الثورات، والطبقة الأرستقراطية تختلف عن نظائرها في سائر بلاد الدنيا؛ فهي أرستقراطية عن طريق المال الذي جاءها عن طريق الزيادة في أسعار الأراضي، ولا تقل مساحة أرض الزرع عن ٢٥٠ مليون إيكر، ومثلها أرض للرعي، وتُقدَّر صادرات اللحوم بنحو ٤٧ مليون جنيه، وكان يقطن البامباس شعوب بهوالتش Pehualches الذين انقرضوا وخلفهم الجوكا، وهم أيضًا آخِذون في الزوال، ولا يزال أثر الرعي في الأهلين واضحًا في نظام سيادة رب العائلة، فالشاب إذا تزوَّجَ يظل في كنف أبيه والحفيد كذلك، وقد تفعل البنت ذلك إذا ما تزوَّجَتْ، والجوكا جمعوا الأدب الإسباني إلى الوحشية الهندية، فتراهم ساعة طروبين لسماع الموسيقى الشجية، وبعد لحظة منهمكين في ذبح حيوان أو عدوٍّ لهم بدون رحمة، ويروقك منظرهم في هندامهم المزركش تزيِّنه الأزرار والمهاميز.
وكم كانت بلاد الأرجنتين موردًا للثروة الخيالية بدون كبير كَدٍّ أو نَصَبٍ، بمجرد ما أدخلت وسائل النقل الحديثة والآلات ومثالج اللحوم برءوس الأموال الأجنبية، ولا تزال تسمع الناس ولا حديث لهم إلا المال ينفقونه عن سعة في بونس أيرس وباريس، ولا تكاد جملة تخلو من كلمة Peso ويَقُصُّونَ عليك غرائب الإثراء الذي ناله الكثير منهم في أمد وجيز، على أن زمان الحصول على الثروة بتلك السرعة قد مضى ولا بد من العمل والجد اليوم، وكثير منهم يعتقد أن خير السُّبُل للحصول على المال أن يصبح من ذوي النفوذ في الحكومة، على أن ذوي النفوذ هؤلاء من ضعاف التصرُّف، وليس من بينهم عباقرة، وذلك ما جعل رجال الحكومة ضعفاء ليسوا جديرين بمراكزهم.

والناس هناك يحبون الإسبان لكنهم يحتقرونهم، ويرون في إسبانيا بلادًا متأخرة رجعية، فهم في نظرهم «وراء الأرجنتين بقرون كاملة في الرقي»؛ لذلك لا يقصدون إسبانيا في رحلاتهم إلى أوروبا إلا نادرًا، وجلهم يقصدون فرنسا وباريس التي يتخذونها المثل الأعلى لهم في كل شيء، اللهم إلا في أدب لغتهم فهم يرجعون فيه إلى مدريد، وتعصُّبهم لقوميتهم فائق الحد فحبُّ الوطن سابق على حبِّ الأبوين، وأنت لا ترى علمًا من أعلامهم رُفِع وسط طائفة تمر في الطريق إلا ويسرع الجميع برفع قبعاتهم احترامًا له، وكلهم فخورون بأسرتهم ومدنيتهم وشعبهم لدرجة الغرور، وكثيرًا ما قال لي بعضهم في الحديث بأن أهل أرجنتينا أرق أناس الأرض، وأن بلادهم أكثر بلاد الدنيا تقدُّمًا ورقيًّا.

figure
رفادافيا أطول شوارع الدنيا.
ولا تزال النساء شبه محجبات، فلا يباح لهن الاجتماع مع الرجال، وقلما يدعو أحدهم صديقًا له أو ضيفًا في بيته، وذلك من أثر الإسبان وما خلفه العرب فيهم. ووحدة قياس المساحات عندهم ٦٤٠٠ إيكر، والمالك قد يحوز ٢٠٠ ألف إيكر عليها قطعان لا يعرف عددها، لكنهم اليوم بدءوا يحصرونها ويعملون على تغذيتها تغذية علمية فزاد إنتاجها، وقد أحال الكثير بعض المساحات إلى الزرع وإنتاج الغلال، وبعد أن كان اعتمادهم على المرعى فحسب، أصبحت بلادهم من أكبر مصدري الغلال، والزراعة آخِذة في الزيادة بنسبة ثلاثة ملايين إيكر في العام، ويقولون بأن ذلك يزيد أكثر لو وجد صغار الفلاحين نصيبًا من الأرض؛ إذ غالبها في ملكيات كبيرة، نعم يُسر المالك بكل مزارع يريد أن يخدم جزءًا من أرضه، لكن الزارع يرى أنه يعمل لغيره، وذلك يضعف من عزيمته على العمل، وتفكِّر الحكومة اليوم في إرغام النزلاء جميعهم على الإقامة في الريف لا المدن. ولمَن أراد أن يتعرف شيئًا صادقًا عن الأرجنتين فَلْيخالط الرعاة ويأكل معهم شواءهم Asado الذي يُوضَع حول سفُّود كاملًا وبجلده Carne con cuèro، وكل واحد يقطع منه شرائح يأكلها طازجة، ويقولون بأن بقاء الجلد يُكسِب اللحم رائحةً زكيةً! والجوكا لا يبدو مرحًا ضحوكًا كما يبدو الإسباني، وحتى في رقصته التي يقف الرجال والنساء فيها دوائر يرقصون ويفرقعون بأصابعهم تجدهم مقطِّبين.

والبامباس

للأرجنتين كالنيل لمصر، فهي موردهم الرئيسي، وفيها استأنس الهنود في البدء اللاما والألباكا والجواناكو، ولم يروا الماشية حتى أدخلها الأخوان البرتغاليان Goes سنة ١٥٥٢ حين أطلقَا سبع بقرات وثورًا، ثم تبع ذلك إطلاق الإسبان لكثيرٍ من الماشية والضأن، وكان قد أطلق بدرودي مندوزا سنة ١٥٣٥ ستة جياد وخمس أمهار، فتكاثرت تكاثرًا عجيبًا بسبب جودة المناخ ووفرة عشب Alfalfa، وكان يبيح القانون للفرد أن يصيد منها اثني عشر ألفًا، فإن أراد الحصول على عدد أكبر لزم أخذ تصريح من الحاكم وإلا عُوقِب بالكيِّ، وإن تكرَّر فالعقاب القتل، وظل الإنسان قرنين كاملين ولا عمل له إلا استئناس الماشية الجامحة، وقد ذبح منها الكثير لأخذ الشحم والجلد فقط! وقد يصيد الرجل رأسًا ليأكل وجبة واحدة فقط! وكان الجندي يصيد بقرة لكي يربط في قرونها خطام فرسه أثناء راحته؛ لأن الشجر معدوم في تلك السهول! وكان الهنود يجتمعون بحرابهم في حلقات تحاصر قطيعًا ثم يضيِّقون عليه الخناق في شكل هلال ويضربون منه ما يستطيعون قبل أن يهرب القطيع كله، ثم يسلخون ما يسقط ويحملون الجلود تاركين اللحم فريسةً للطيور والكلاب البرية، وكانت تدفع أثمان الرقيق المستورد بالجلود.

وأخذ يزيد عدد الغنم لما أن نمت تجارة الصوف حتى بلغت اليوم ٨٠ مليون جنيه، ولما زاد الطلب على اللحوم شجَّعوا تربية الحيوان السمين، وأقاموا مضخات الماء الهوائية للسقي، وكان شحُّ الماء من قبلُ يسبِّب قتل ملايين من الحيوان، وكثيرًا ما شاهد النزلاء الأوائل مواطن المستنقعات غاصة بجثث الحيوان الذي أهلكه العطش في سنة تخلف فيها نبع الماء عن الأنديز، ولانبساط السطح وانتظام هبوب الرياح عليها ضمن الناس دوران المضخات دائمًا؛ وقد بدأ بعضهم يزرع الأشجار كأسوار للمزارع، لكن سرعان ما وقف ذلك لما أن استخدمت الأسلاك في الأسوار، وهي أنفع في منع اختلاط القطعان جيدة الأصل داخل المزرعة بالقطعان الوحشية رديئة النسل خارجها، وذلك زاد في قيمة منتجات المرعى وصادراتها، وكانت زيادة حيوان المرعى سببًا في جذب الججوار والبوما من جوانب الأنديز إلى البامباس. وقد بلغ من كثرة الخيول ورخصها قديمًا أن شوارع بونس أيرس الأولى كانت تضاء بشحم الخيول، وأكبر مصائب البامباس الجفاف والجراد وزيادة المحصول عن حاجة الأسواق والأوبئة، وقبل سنة ١٨٧٠ كانت البلاد تستورد قمحها من الخارج، لكنها اليوم تموِّن أسواق العالم.

وسكان أرجنتينا كانوا سنة ١٨٩٥ أربعة ملايين واليوم اثنا عشر مليونًا، وهناك طبقة من العمَّال المؤقتين يذهبون إلى البلاد من أوروبا لمدة قصيرة ويعودون بأرباحهم إلى بلادهم، وقد أُحصِيَ من هؤلاء إلى اليوم فوق تسعة ملايين، وأكبر الجاليات هناك الطليان، وغالب ملَّاك المساحات الشاسعة أيرلنديون وإنجليز وكثير من أولئك في الريف، أما الألمان والإسبان والسوريون فغالبهم سكان مدن — ونحو نصف سكان أرجنتينا سكان مدن — ولما كان غالب الناس من نزلاء الأجانب، خلص الناس هناك من تقييد التقاليد، فأنبت ذلك شعبًا شجاعًا وثَّابًا مغامرًا، وأضحت أرجنتينا مثلًا لمعجزات الطفرة الاقتصادية بين بلاد الدنيا.

figure
سهول البامباس المملة.

ومن أشهى غذاء الجوكا المدرع «الأرمادلو» يصيدونه بشراك من صفيحة تُدفَن عميقة في الأرض وتُرمَى قطعة من لحم في قاعها، فإذا نزل فيها الحيوان لم يستطع الخروج لنعومة جوانبها، وهو يشوى كاملًا حتى ينضج لحمه داخل أغشيته الخارجية التي تُنزَع ويؤكل ما بها، ويغلب أن يغطي الجوكا سوقه بقِطَع عريضة من الجلد، وقد يغطي أرجل الحصان أيضًا لكيلا يؤذيه الشوك والعشب اليابس، وهم يعلمون صغار القطعان في آذانها بخروق بآلة شبيهة «بخراق التذاكر»، ويعرفها صاحبها بمجرد النظر إليها.

وفي الضيعة يعيش الجوكا معيشة الأصدقاء الأوفياء فيأخذ الواحد حصان جاره بدون علمه أيامًا وأسابيع، والماشية تجمح وتجري عندما ترى أحدًا من الناس راجلًا؛ لأنها تخاله حيوانًا آخَر إذ اعتادت رؤية الجوكا على ظهور الخيل دائمًا، وقلَّمَا يمشي الواحد منهم على رجليه، وقد يسير المرء على ظهور الخيل أيامًا في مزرعة واحدة؛ إذ بعضها يبلغ مئات الفراسخ يمتلكها غني واحد، وقد تضم مليون ماشية ومئات الألوف من الخيل، والجوكا هم خدمها ومأجوروها، وقد لا يعرف مالكها مساحتها بالضبط حتى ولا حدودها إذا حدث وهبَّتِ البامبيرو واكتسحت أسوارها كما يحدث غالبًا، وكثير من مساكن السادة فيها لا تزال كما كانت قديمًا بالطين والعصي لا تشعر بغنى أصحابها أبدًا، وحتى ماء الشرب يُوضَع في براميل ويشرب الواحد منهم بقرون الماشية بدل الأكواب، وجلُّ خفرها من الكلاب التي كانت وحشية واستُؤنِسَتْ، ومن الكلاب الوحشية كثير، وإذا أمضها الجوع هاجَمَتْ في جماعات وطرحت الفارس أرضًا ونهشت لحمه هو وجواده. وجلُّ الملَّاك من الإسبان وزوجاتهم من السود أو سلائل أخلاط السود والهنود، وتحيتهم الماتي تقدِّمه الزوجة والقوم جلوس على مقاعد من جماجم الثيران الكبيرة، وقد يُلاحَظ على أبناء المالك تغيُّر السحن؛ لأنهم من زوجات مختلفات، وغذاؤهم أكواز الذرة المسلوقة واللحم، وفي باكورة الصباح يخرج الأبناء على ظهور جيادهم ليراقبوا القطعان خشية أن تخرج من المزرعة، ويكادون يعرفون كل رأس من ماشية سيدهم التي تُعَدُّ بمئات الألوف ولو لم تكن معلَّمَة، ثم يعودون في الحادية عشرة لتناول الإفطار من اللحم والماتي، وكل الخيول تسرح في المرعى نهارًا إلا واحدًا يظل في البيت استعدادًا للطوارئ.

ويقتني فتيات صاحب المزرعة عادة نعامتين: واحدة من السهول المجاورة، والثانية وهي الأصغر حجمًا من بتاجونيا، ونعام أمريكا لا يُذكَر إلا جانب النعام الأفريقي، فريشه أقل نعومةً ورقةً وجمالًا، وحجمه أصغر إلى النصف، وأقدامه ذوات ثلاث أصابع لا اثنتين كالأفريقي، والعجيب أن الأنثى تضع بيضها مُبعثَرًا هنا وهناك في غير عناية به، والذي يعنى بجمعه في بؤره هو الذكر، وإذا اقترب إنسان من العش هاجَمَه ورفسه بأرجله، وإذا تبعه صيَّاد رمى بنفسه في الماء وأخذ يسبح بعيدًا، وطعام النعامة العشب والجذور والثمر البري، وتبتلع معها بعض الحصى والأصداف لتُعاوِنها على الهضم، وفي الربيع (أكتوبر ونوفمبر) يتخيَّر الذكر إناثه بين ٣ و٨ ويراقبها مراقبةً دقيقةً، ويحارب أي نعام آخَر يقترب منها، وكلها تضع البيض معًا بين ٢٠ و٥٠، بحيث لا يستطيع النعام حضنها، لكن بيض النعام يحتمل تغيُّر الجو كثيرًا، وقد يدحرج الذكر بعض البيض، وعند الفقس يكسر هذا البيض ليجتذب الذباب الذي تأكله أفراخه الصغار، وصيده شاق يتطلب متابعته بالخيل وحصره في دائرة أو استمرار متابعته، وكلما تعب صياد تبعه آخَر حتى إذا أجهد الجري النعام ألقى الرجل عليه اﻟ boliadores، وهي ثلاث كور من خشب أو حجر داخل غشاء من جلد تُربَط كلٌّ إلى طرف حبل ذي ثلاث شعب من عروق الحيوان، ويمسك الرجل بإحدى الكور ويدير الحبل فوق رأسه ثم يلقي به إلى أرجل النعام على بُعْد عشرين مترًا أو ثلاثين، فتعوق سيره ويسقط إلى الأرض، ويمتاز الذكر عن الأنثى بكبر رأسه وسمرة ريشه، وقد يذبح الجوكا النعام ليأكلوه، وأحبُّ أجزائه لديهم الأجنحة والأقدام.
وصيد الخيول البرية من أشق أعمالهم: يركبون الخيول ويسرعون كالبرق وهم يديرون أطراف الخطام في أيديهم ويصيحون صيحات عالية، ثم يرمون باللاسو Lasso حول رقبة الحصان ويلقونه إلى الأرض، فإذا نهض تقدَّمَ غلام آخَر ورمى اللاسو في أقدامه الخلفية فيسقط إلى الأرض ثانيةً، ثم تُكبَّل أرجله ويُفكُّ «اللاسو» منه ويُترَك ضعيفًا على الأرض وهو يرتعد خوفًا، ثم يُوضَع على ظهره سرج وفي فمه «لاسو» ليقوم مقام الخطام، ثم تسترخي القيود تدريجًا ويمسكه رَجُلان من الآذان وتُغطَّى عيونه، وهنا يتقدَّم أشجع الغلمان ويركبه، وعندئذٍ تُفكُّ القيود تمامًا ويضرب الرجل بمهمازه الحاد إلى جوانب الحصان الذي يظلُّ واقفًا مبهوتًا من الخوف والفزع، وبعد عدة ضربات بالمهماز يجري فزعًا كالبرق ويقفز واقفًا على قدميه الخلفيتين، ويدور يمينًا وشمالًا ويهز جسده، كل ذلك محاولًا أن يرمي راكبه إلى الأرض، وقد يحاول الجواد الوقوف على رجليه الأماميتين، وهنا الخطر لأن الراكب إذا هوى قتله الحصان، وبعد ساعة في ذاك الكفاح يجهد الحصان فيقف ثم ينزل الفارس من على ظهره، وتدهش للفَرْق العظيم بين حال الحصان الشرس أولًا وبين هدوئه واستسلامه الآن بعينَيْه المغلقتين وفمه وجوانبه التي يتقاطر الدم منها من أثر اللاسو والمهماز، ومن ثَمَّ يصبح ذلولًا ويُقَاد إلى إسطبل الدار ويظلُّ أيامًا لا يأكل قطُّ، وقد يُعَاد ذاك الدرس القاسي مرتين أو ثلاثًا حتى يتمَّ استئناسه.
figure
ريف أرجنتينا مهمل يحكي ريف مصر.

ومن عاداتهم أن الإناث من الخيل يجب احترامها، فلا تُركَب ولا تُسخَّر مطلقًا؛ لأنها تلد الجياد. ومن ألعابهم بالخيل «المصادرة» وفيها يقف فارسان متقابلين، ثم يهمزان الفرسين ويهجمان بعنفٍ ويضرب كلٌّ بصدره إلى صدر الآخَر، ويعاد ذلك مرات حتى يسقط أحد الفارسين إلى الأرض. ثم لعبة «الحشر» وفيها يقف الخيالة متجاورين، وجسوم خيولهم متلاصقة، ثم يهمزونها فتجري محاوِلًا كلٌّ أن يعطل سير الآخَر حتى يقاربوا الباب والذي يدخله يفوز. ثم لعبة تخطِّي العوائق، وفيها يجري الفارس إلى بابٍ أُقفِلَ بالعوارض الخشبية إلى قامة الحصان، فإذا قارَبَ العارضة لفَّ الرَّجُل نفسه ودار تحت بطن الفرس، ثم دخل الباب وعاد إلى مكانه من ظهر الجواد دون أن يبرحه أو يلمس الأرض.

وحياة الجوكا موحشة منقطعة عن العالم الخارجي، لا يرى حوله شيئًا ولا يختلط بآخَرين غير آلِه لبُعْد الشقة بين المزرعة والأخرى، لذلك ظلَّ متأخرًا غير متعلِّم رجعيًّا لا يعلم عن الخارج شيئًا، وأخصُّ صفاته الكرم والخرافات والخداع وعادة شرب الماتي وحمل سلاح اللاسو والبوليادور نقلًا عن الهنود الأصليين في بتاجونيا.

والعادة عند وفاة المالك أن يوصي بثلث المزرعة للزوجة والباقي للأبناء بالتساوي ذكورًا وإناثًا، والعمَّال يقومون مبكرين زهاء نصف ساعة قبل الشروق، ويشربون الماتي بدون سكر، ثم يركبون خيولهم ليتخيَّروا مكان الرعي هذا اليوم، ثم يسوقون قطعانهم إليه ويراقبونها، وفريق منهم يكبِّل صغار الخيل ليذلِّلها لكيلا ترفس مهما لامَسَها من شيء، وفي الضحى يعود فريق إلى رب المزرعة ليخبره عن حال قطعانه، ثم يحملون الطعام للإفطار، وفي الظهر يعودون لشرب الماتي ولتناول الغداء وللقيلولة Siesta، ثم يعودون في الغسق ليأكلوا الشواء ويشربوا الماتي، ويلف كل جسده في حرامه وينام مفترشًا بعض الفراء الغفل، ولا يغفلون الاحتفاء بيوم «السبت» قط، ومَن يشتغل هذا اليوم يغرم عشرين ريالًا، وفيه يباح اللعب والسكر والمقامرة، وقد ينازل الشبان بعضهم أمام الجماهير، وقد يصاب الكثير بجروح وللمنتصر تقدير الغير، فيكيلون له الخمر كيلًا حتى يصبح ثملًا، فلا يميز في النزال بين الصديق والعدو.
ورداء الرعاة الكامل جميل إلى حدٍّ كبيرٍ؛ فبدل السروال — البنطلون — حِرَام يلف حول العجز ويتدلَّى إلى الركبتين Chiropà ويُربَط بالحزام، ويُغطَّى الساق بقماش من القطن أو الكتان زُوِّدَ بأهداب عدة، ثم في الأقدام الأحذية العالية من جلد الخيل، ويزيِّن العقب مهماز برَّاق له نجمة هائلة مسنَّنَة تعطي رنينًا عاليًا إذا ما مشي الواحد منهم، وحول الصدر قميص وصدار، وفي حزامه يحمل وراءه خنجرًا، والحزام عريض وبه جيوب لحمل الثقاب والطباق، وقد تزيِّنه بعض النقود الفضية أو الذهبية.

والنقل بالعربات الهائلة تجرُّها الخيول أو الثيران، وقد يجر العربة الواحدة أربعة أزواج من الثيران ينخسها الرجل بعكازته الملتوية التي زُوِّدت بأسنان حادة، فإن أراد أن يُدِيرها يمينًا وخَزَها في جانبها الأيمن فتنحدر إلى تلك الناحية، ولا تزال الطرق المتربة الرديئة غير ملائمة لسير السيارات، وبخاصة إذا سقط المطر فأحالها بركًا من الأوحال، وعند أوقات الراحة تُفكُّ الدواب وتُطعَم ثم يُذبَح حيوان ويُقطَّع وتُوضَع القِطَع في أسياخ طويلة تدق واقفة على الأرض وتُوقَد حولها النيران، وعند الأكل يُخرِج كلٌّ خنجرَه وينهش قطعة لحم يمسك أحد طرفيها بأسنانه والآخر بيده، وبيده الأخرى يأخذ خنجره ويقطع منها جزءًا يلتهمه وهكذا. ومن آداب الأكل مع «الجوكا» في البامباس أن الكل يأكلون من إناء واحد، فيضع الواحد ملعقته في وسطه تمامًا، ثم يجرُّ بها قطعة إلى جانب الإناء في استقامة، ثم يتناولها، فإنْ حادَ قليلًا عن ذلك عُدَّ سيئ الأدب، وهم قذرون؛ إذ قلَّمَا يغتسلون لندرة الماء حولهم.

figure
فقراء البامباس حفاة عراة.

ومن حيوان البامباس كلب البراري في حجم الأرنب، ويحكي الضبع في شكله ولونه، وإذا ما هدأت الحركة عند القيلولة أو في المساء خرج من أجحار لا حصرَ لها في جميع أنحاء تلك السهول، وهو لا يشبه الكلب قطُّ، بل أُطلِق عليه ذاك الاسم لأنه ينبح نباحًا يشبه نباح الكلاب الصغيرة.

وبجوار مندوزا في مزارعها رأيت أجحارًا عدة يقطنها الأرمادلو Armadillo المدرع، وهو قارض عليه جلد متحجر كالسلحفاة، لكن له طيات تمكنه من الحركة، وفمه مدبب ويأكلون لحمه وهو أبيض ناصع، ورائحته تحكي رائحة لحم الخنزير الصغير، والهنود يفصلونه نصفين: أعلى وأسفل، ويضعونه في النار حتى ينضج ويأكلونه؛ وقدرتهم على تعرُّف مكانهم إن ضلوا الطريق مُدهِشة؛ إذ يقطف الواحد بعض العشب ويمضغ جذوره فيعرف من ذلك موضعه من الماء العذب أو الملح، ومن حركات الطير والغزلان واللاما يستدلون على جهة قدوم العدو، ومن كثافة التراب على بُعْدٍ يحكم على عدد الأعداء المقبلين عليه، ومن تحليق طيور العقاب والرخ يستنبطون مكان معسكر رحل عنه أهله قريبًا، أو مكان جيفة لحيوان قُتِل، وهم متعصِّبون دينيًّا وخاضعون لقسسهم الذين يعمدون إلى تمثال المسيح في موسم خاص ويصلبونه، والناس من حولهم يندبون ويلطمون صدورهم، والنساء يكثرون من اعترافاتهن بالذنوب للقسس كل يوم.
figure
الجوكا حول شواء من اللحم بجلده.
بتنا ليلتنا في القطار وفي باكورة الصباح أبصرنا بمنابت فسيحة للكروم، وكثير من شجر الصفصاف والحور poplar، وعند الأفق الغربي رأينا مرتفعات الأنديز الرائعة، وقد أُقِيمت مندوزا في حجرها منذ سنة ١٥٦١ لكن زلزالًا عاتيًا دمَّرها تمامًا سنة ١٨٦١ فأُعِيد بناؤها، وهي تضم اليوم فوق مائتَيْ ألف نفس. دخلنا البلدة بعد سفر عشرين ساعة، ونزلتها في أوتيل Plaz الفاخر، ثم جبتُ أرجاءها يومًا كاملًا فبدَتْ شبيهةً بحلوان في أبنيتها التي لا تعدو الطابق الواحد، غير أن شوارعها محفوفة بالشجر الذي كان يابسًا ورقه مما أنقص من جمالها، وعلى جانبَي الطرق إزاء الإطارين مجاري مكشوفة يتدفَّق فيها ماء عَكِر يفد من أعالي جبال الأنديز ويستمد القوم منه حاجتهم، فأذكرني ذلك بطهران وسائر بلاد فارس، إلا أن القوم هنا لا يشربون من ذلك الماء قبل تقطيره. وأجمل شوارع البلدة «سان مارتين» وفيه غالب المتاجر الكبيرة، وخير متنزهات البلدة «متنزه سان مرتين» الفاخر، دخلناه من باب حديدي ثقيل طُلِي باللون الذهبي وشمل بابًا وسطًا على جانبَيْه آخَرَيْن للسيارات، وعلى جانِبَيْ هذين آخَرَيْن للمارة، ومنظره في غاية الفخامة، وقد علمت أنه قد صنع في إنجلترا لسلطان تركيا، لكن لما دالت دولته شرته تلك البلدة، أما «البارك» من داخله فجنة حقًّا وهو مفخرة لمندوزا؛ إذ يندر وجود مثاله بطرقاته الهائلة، يحفها الشجر الباسق ونافوراته الجميلة وجواسقه المنسقة وامتداده اللانهائي، وفي داخله حديقة الحيوان ومستشفى الأطفال.
أما أهل البلدة فيبدو على كثيرٍ منهم العوز؛ فالمتسولون كثيرون ولا تمرُّ بجانب شارع دون أن ترى جمهرة من مسَّاحِي الأحذية في أشكالهم القَذِرة. أما نظام الأبنية فكتل منمرة على نظام بونس أيرس تمامًا، ولا يعلو منها عن طبقة واحدة إلا النادر، ولمندوزا شهرة بالنبيذ الأحمر لكثرة ما يحوط منحدراتها من كروم؛ فهي تعصر في العام أربعة ملايين «برميل»، كذلك تكثر منابت الفاكهة والزهور البديعة التي أكسبتها اسم «جنة الأنديز»، ويعدها القوم أجمل بلاد الأرجنتين بعد بونس أيرس، وإنْ بَدَا لي في ذلك بعض المغالاة، ويكثر حولها نبات الماتي الذي شاهدنا شجره وكأنه شجر البرتقال شكلًا وورقًا، إلا أنه أكبر قليلًا وورقه أرق، تُقطَف أوراقه وتُقطع بعض فروعها وتُجفَّف بإشعال النيران حول كومات منها، وبعد ٢٤ ساعة يُضغَط وتُشحَن الأوراق إلى المزرعة حيث تُضغَط ثانيةً وتُشحَن، والنبات في نجوة من الآفات جميعًا ومن الجراد، وقيل لنا إنه يُزرَع في مساحات شاسعة في شمال أرجنتين، أما في جنوب البرازيل فينمو بريًّا فطريَّا، وكلمة ماتي تدل على الإناء الذي يشرب منه، وهو شبه جوزة أو قرعة بيضاء يحتسيه الرجل بأنبوبة يسمونها bombilla في أسفلها مصفاة مخرمة منتفخة، وهذا الشراب هو الذي أنقذ أمريكا الجنوبية من ويلات الخمور، ويشتمل على مادة أزوتية «نيتروجينية» مغذية من جهة ومنقذة ضد المرض من جهة أخرى، وهي لا تجهد الجهاز الهضمي قطُّ، وبها مادة مخاطية تلطف الغشاء المخاطي للبلعوم، وله تأثير مدهش في إنعاش الجهاز الهمضي.
figure
ترويض الخيل البرية الجامحة في البامباس.

قمتُ أغادر بلاد الأرجنتين تلك التي أثارَتْ في نفسي آلامًا جمةً عندما ذكرت بلادنا الأسيفة إلى جانبها، وكلانا يعتمد على ما تنبت الأرض، وتثقله الأموال الأجنبية، فللأجانب هناك فوق ٨٠٠ مليون جنيه تُوظَّف في مختلف المشروعات، وحياتنا الريفية تحكي حياتهم في سذاجتها وبقائها في كثير من نواحيها فطريةً، ومع ذلك فعزتهم القومية بالغة الحد، ورقابتهم على وسائل الإنتاج والاستفادة منها عظيمة، ومستوى التعليم والثقافة عندهم كبير، ونحن لا نزال في حالة يُرثَى لها، ولكن ذلك لا شكَّ من أثر اليد الأجنبية غير المخلصة، فهي هنا تُفسِد كل شيء، أما هناك فخاضعة لتشريع البلاد خضوعًا تامًّا، والعجيب أنهم لا يخشون زيادة النزلاء من الأجانب سنة بعد أخرى، لا بل يساعدون ذلك ويرغبون الأجانب على التوطُّن في بلادهم، فقانونها يذلل الهجرة للمزارعين والعمَّال ممَّن هم دون ٦٠ سنة في العمر، وكانت تُعِدُّ لهؤلاء النزلاء مقامًا وتموِّنهم بالغذاء لمدة الخمسة أيام الأولى، ولا يزال نُزُل المهاجرين يئوي ٤٠٠٠ نفس، ويُعفَى متاعهم من ضرائب الجمارك، ويُنقَل المهاجر وعائلته بسكة الحديد مجانًا إلى الجهة التي يريد المقام فيها، وتُعالَج أمراضه على حساب الدولة، لكن ذلك قُيِّدَ اليوم لكثرة البطالة في البلاد، ولا بد للمهاجر أن يحمل عقدًا يضمن له العمل حتى يذلل له الدخول.

figure
يصيدون النعام والخيول بتلك الحبال المعقدة في البامباس.

ومن مساحة البلاد نحو ٣٨٤ مليون إيكر تصلح للزرع والرعي، وذلك يستطيع أن يموِّن مائة مليون من الناس، ولا تزال شروط الحصول على الأراضي سهلة جدًّا على أن الأرض كلما قاربَتِ العمران كانت أثمانها مرتفعة، فإلى مائة ميل من بونس أيرس يباع الإيكر بنحو ١٥ جنيهًا، وعلى بُعْد ٢٥٠ ميلًا بنحو ٨ جنيهات، وفي البامباس بين جنيه وثلاثة، وللدولة كثير من الأرض تبيعها بأقساط غاية في السهولة، ولا تزال الملكية كبيرة؛ إذ يفضِّل الناس أن يشاطر المزارع المالك في الإنتاج، ويقول الكثير إن الوقت قد حان لضرورة تقسيم الضياع الكبيرة إلى إقطاعات صغيرة ليخدمها صغار الملَّاك كما يجب، وغالب شركات سكة الحديد تمتلك الأراضي التي تشقها وتسهل بيعها وتوطنها لمَن أراد، وقد تقدِّم لبعضهم القروض لتعاونهم على الإنتاج. على أن نفقة المعيشة في أرجنتينا غالية على وجه العموم.

عبر الأنديز الرائعة

لقد كان من أحلامي التي خلتها منذ أمد بعيد خيالًا بعيد المنال، أن أعبر جبال الأنديز وأمتع النظر بمشهد «أكونكاجوا» ثانيةِ ذُرَى العالم علوًّا، وكانت تعاودني تلك الأمنية سنة بعد أخرى، حتى شاءت المقادير فحققت لي ذاك الأمل في الصيف الماضي، وكم كثرت الأراجيف وأنا على ظهر الباخرة إلى «الأرجنتين» بأن الطريق معطَّل ولن يمكن عبوره اليوم، وما كدت أصل إلى بونس أيرس حتى قصدتُ على الفور دارًا للسياحة مستعلمًا، فقيل لي إن الطريق معطَّل على أثر السيول والثلوج التي اجتاحت منه اثني عشر ميلًا بقطرها ومحاطها وقناطرها، ولن يمكن عبوره في ذاك الجزء إلا على متون البغال الممضة وسط السهول الرهيبة مدى أسبوع، فأخذتني الدهشة وكاد يتطرق اليأس إليَّ، لكنني عدتُ فاعتزمت القيام بتلك التجربة حتى لا أحرم رؤية مجاهل الأنديز الرهيبة، وبعد لَأْيٍ ما قبلَتْ شركة السياحة أن تبيعني التذكرة، وقد اشترطَتْ ألَّا تتحمَّل أية مسئولية إذا حدث لي حادث في الطريق، وكم سرح الخيال في تلك المجاهل بقية يوم السبت وطيلة الأحد، فكان تارةً يبدو الأمر قاتمًا مخيفًا، وطورًا يضيء الأمل فتبدو الرحلة ناجحة شائقة. قصدتُ دار الشركة صباح الاثنين لأتسلَّم التذكرة، وما كاد يراني الرجل حتى صاح باسمًا أنْ قد فُتِح الطريق لأول مرة، وأني سأعبر المنطقة المنهارة على السيارات المريحة بدل البغال الخَطِرة، وذاك أول يوم يُستأنَف فيه السفر المأمون بعد أكثر من نصف عام، ومن العجيب أني لم أقابل ذاك النبأ بما يستحقه من الفرح والبهجة؛ إذ كانت النفس تطمح إلى ركوب البغال وسط الثلوج، فتكون مخاطَرَة جديرة بالتجربة. ابتعتُ التذكرة إلى سانتياجو ودفعتُ زهاء ستة عشر جنيهًا مصريًّا ثمنًا لها.

قمنا في الساعة السابعة صباحًا بالسيارة نبرح مندوزا صوب جبال الأنديز، وما كدنا نغادر جوانب البلدة حتى أوغلنا في سهول شبه صحراوية يكسوها الحصى وتتخللها أعشاب وشجيرات قصيرة شائكة يابسة، وكانت تقوم جبال الأنديز أمامنا في صفحة قاتمة منفرة عريت عن النبت، ولبثنا نسير صعدًا على ليَّاتِ أحدِ وديانها الغائرة الجافة حتى فاجأنا شبه سهل في وسط الجبال به بعض الزرع والشجر الأخضر، فبدا كأنه الواحة وسط الصحراء، وتلك محطة «أسباياتا Uspallata»، وهنا بدت الجبال العاتية تكسوها الثلوج المشرقة يسيل ماؤها في وادٍ ضيق، جوانبه مشرفة عاتية مجدبة، ويجري في أسفله ماء شحيح — وهو نهر مندوزا — وهذا ممر أسباياتا الذي سلكه الإنسان منذ حلَّ أمريكا في العصور البائدة مخترقًا به تلك الجبال، ولما جاء الإسبان اتخذوه طريقهم على متون البغال ثلاثة قرون، حتى أُقِيمت سكة الحديد، وقد شاهدنا قنطرة صغيرة محدبة من عمل الهنود الحمر قديمًا، ولا يزال يسمِّيه القوم Andes Camina de Los أي طريق الأنديز، بعد ذلك أخذت السيارة تصعد في منعطفات وعرة دونها هوًى سحيقة، وأمامها نجاد شاهقة تجللها الثلوج الناصعة في مشهد يأخذ بالألباب، وكثيرًا ما كنَّا نلمح على بُعْدٍ جواناكو يسرع بالهروب بمجرد إحساسه بنا وهو كاللاما من فصيلة الجمل، وبعد مسيرة ست ساعات بسياراتنا وصلنا محطة «لاس فاكاس»، وكنا نشاهد فلول القضبان والقناطر مهشمة أيما تهشيم.
figure
نبرح مندوزا صوب جبال الأنديز.
وقفنا ننتظر القطار والريح عاصفة والبرد قارس زمهرير، وكنَّا نرى على بُعْد قمة Tupungato بهامتها المدببة البيضاء، وهي من أعلى ذُرَى الأنديز؛ إذ يبلغ علوها ٢٢١٣٦ قدمًا.
figure
وسط ممر أسباياتا في الأنديز.
أقبل القطار وكان مقدمه مغطًى بالثلوج كأنه يحمل وسقًا من الجليد الناصع، وحللت مكاني من الدرجة الأولى وهي تقارب الدرجة الثانية عندنا، وليس بالقطار سوى درجتين، وكان قد أمَضَّني الجوع؛ إذ كانت الساعة الثانية بعد الظهر، فلجأتُ فورًا إلى عربة الطعام وتناولت الغداء الشهي الجيد، وكان ثمنه زهيدًا لا يجاوز ثمانية قروش، وذلك من أثر الرخص الذي كنَّا نسمع عنه في بلاد شيلي. وفي منتصف الطعام فاجأنا منظر غريب؛ مجموعة من أسنان الصخر بعضها فوق بعض تتوجها صخرة كبيرة حاكت الدير على بُعْد، والأسنان شابهت الرهبان الصاعدين إليه، ومن ثَمَّ أطلق عليها القوم اسم Penitentes، ثم وقف بنا القطار في محطة «بونتادل إنكاس» ومعناها جسر الأنكا، فنزلنا سراعًا نحو الجسر العجيب، فإذا به صخرة متصلة بالجوانب، تحتها وادٍ فسيح يجري به ماء، بعضه مستمَد من عيون حارة عظيمة النفع في الاستشفاء، والجسر طبيعي عظيم الاتساع، يمكن ثلاث عربات متجاورة من المرور، فعرضه تسعون قدمًا وعلوُّه ٥٦ وسمكه ٧٠، وقد عُرِف منذ القرن الخامس عشر وأُحِيط بالخرافات وأنه مقر الأبالسة في عرف الهنود الحمر، وأُطلِق عليه اسم أحد قواد الأنكا «توباك توباكوي Tuppac Tupaqui»، وقد وقفنا بعد قيام القطار نترقَّب قمة «أكونكاجوا» أعلى ذرى الدنيا الجديدة «٢٣٣٠٠ قدم»، وأول ما تسنم الإنسان هامتها في ١٤ يناير سنة ١٨٩٧، ظهرت تشمخ باسقة في السماء ومن حولها جمهرة من الذُّرَى الأخرى يجللها جميعًا بياض الثلج الناصع، وبين فترة وأخرى كان يحلق فوق رءوسنا طائر الرخ الهائل ملك المرتفعات وأقدر الحيوان على احتمال عصف الريح وقر البرد، وكان الثلج يسود الأرجاء كلها، اللهم إلا في بعض الشجيرات القصيرة ونبات الصبار «الكاكتاس» في شكله العجيب وكأنه أسطوانات تقوم متجاورة، ويكسوها زغب من شوك طويل، وكنَّا كلما تقدمنا زادت كثافة الثلج، حتى إن القطار كان يجري بين جدران خانق من الجليد الناصع كان يغطي العربات إلى نصف ارتفاعها.
figure
ضرب من الصبار الهائل في الأنديز.

وفي محطة «لاس خويفاس» دخل القطار ظلة أُقِيمت من الحديد المجزع تفاديًا من ثقل الثلج، وهنا تعدَّدَتِ الربى، فكانت كأنها الهامات الشم جلَّلَها الشيب الناصع، ومن ألسنة جليدها كان يسيل لعابها في زرقة مستملحة يزيِّنها زبد أبيض، وكم تكاثر الثلج على أسلاك غلاظ وصفائح قاسية فقوضها، وأنت ترى بقع الثلج الأبيض كمندوف القطن تملأ التجاويف الواحدة تحت الأخرى، والماء يسيل من هذه فيهوي في جنادلَ وشلالات إلى الأخرى فيغذيها، وقد يجمد بعض الماء الهاوي فيظهر في زوائد وأسنان بلورية، وفي الهُوى الغائرة يتجمع الماء ويجري في وادٍ ضيق، وفي كثير من البقاع كان يقام للقطار نفق من حديد مخافة تكاثر الثلج، وفي هذا الجزء كان القطار يسير على ثلاثة قضبان، الأوسط منها مسنن لكي تشتبك به تروسه خشية وعورة المنحدر.

figure
ليات الطرق فوق الأنديز المجدبة.

دخل بنا القطار نفقًا طوله ميلان تقريبًا، ومن غريب المصادفات أن ارتفاعه عن سطح البحر ميلان أيضًا، وهو أعلى جهات سكة الحديد، فهي هنا ١٠٥١٢ قدمًا فوق سطح البحر، وفي وسط النفق الحد الفاصل بين الأرجنتين وشيلي، وبمجرد عبور القطار بنا هذا الحد داخل النفق، سمعنا صليل أجراس تدق من تلقاء نفسها عندما يضغط القطار على أسلاكها؛ وذلك إيذانًا بتخطي الحدود. ولما أن خرج القطار من النفق إلى ضوء الشمس أشار القوم أن ها هو «الكريستو» إلى يميننا، وهو تمثال هائل للمسيح أُقِيم في سنة ١٩٠٤ حينما احتكم الخصمان في مشكلة الحدود إلى ملك إنجلترا إدوارد السابع، والذي توسَّط في حسم النزاع وعرضه للتحكيم نساء الفريقين وقساوستهم على أن تُنفَق نقود الحرب في تحسين الطرق على الأنديز، وبجزء من ذلك المال أُقِيمت سكة الحديد، ثم اكتتبوا لهذا التمثال، وقضى ملك الإنجليز بجعل الحد عند تقسيم المياه بين الدولتين، وهي هنا على علو ١٢٨٠٠ قدم، والتمثال من البرونز القاتم صيغ من بعض المدافع الحربية القديمة التي أخذوها من الإسبان في حرب الاستقلال رمزًا للسلم وتحطيم أدوات الحرب، ويقوم على قاعدة من جرانيت وعلوه ٢٦ قدمًا، وقد نُقِش على قاعدة التمثال، وتحت أقدام المسيح ما معناه: «لقد أقسم رجال الأمتين بين يدي المسيح ألَّا يُنقَض عهد السلام بينهما، حتى ولو دُكَّتْ تلك الجبال فصارَتْ هباءً.» على أن التمثال كادت تكسوه الثلوج فتخفيه.

figure
قطار الأنديز وسط الثلوج.
أخذنا في الانخفاض من منحدرٍ وعرٍ، ما كان القطار ليستطيعه لولا القضبان المسننة، ومن دوننا وادي أكونكاجوا الغائر، وبين محطتي كاراكوس وبورتيليو فاجأتنا مجاميع الربى في تعقيد رهيب تتوسطه بحيرة الأنكا على علوِّ ٩٠٠٠ قدم، ويقولون بأن ماءها ثابت المقدار لا يزيد ولا ينقص طيلة العام، وذاك ما زاد قدسيتها عند الهنود! ولن يستطيع قلم مهما أُوتِيَ من البيان والإفصاح أن يُعرِب عمَّا يحسه المسافر من رهبة وجلال تتمثل في عظمتها القدرة الإلهية التي تزري بكل شيء، وما الوصف بمجدٍ شيئًا، فلن يأخذ القارئ من قولي إلا قبسًا ضئيلًا، وعليه إذا أراد الوقوف على شيء منها أن يمتع نظره بمرآها؛ كي يحس ما أحسستُ، ويقولون إن أجمل ما ترى مناظر الصخور وأروعها في العالم بين تينك المحطتين. أخذنا نمر بالمحاط الشيلية، وكلما هبطنا ندر الثلج وزادت القرى وتعددت المسايل المائية، وقد بدا هذا الجانب من الجبال أغنى بعناصر الحياة بين إنسان وحيوان ونبت وشجر من الجانب الشرقي؛ لأن رياح الباسفيك تدرُّ عليه من بللها ماءً وفيرًا على نقيض الجانب الآخَر الشرقي. ومن الأنهار التي استرعت أنظارنا «الريوبلانكو» أو النهر الأبيض، وسُمِّي كذلك لكثرة ما يعترض ماءه من صخور يرغي فوقها فيبدو أبيضَ ناصعًا. ثم وقفنا طويلًا في محطة Los Andes وعندها غيَّرنا القطار الضيق إلى آخَر، ثم خيَّم المساء فحرمنا الاستمتاع بجمال الطبيعة بين هذه وسانتياجو، ولقد غيَّرنا القطار مرة أخرى في محطة «لاي لاي»، وهنا يرى أول قبس من مياه المحيط الهادي إلى يمين المسافر.
figure
نجتاز نفق الحدود بين أرجنتينا وشيلي.

وفي منتصف الثانية عشرة مساءً دخلنا سانتياجو بعد مسيرة زهاء سبع عشرة ساعة من مندوزا أو سبع وثلاثين ساعة من بونس أيرس، وكان مقدرًا لعبور القارة كلها من بونس أيرس إلى سانتياجو ثلاثون ساعة بالقطار مسافة قدرها ٨٨٨ ميلًا أو تزيد.

(٤) بلاد شيلي

حللْتُ نُزُل Astoria الكبير ودهشت لرخصه؛ إذ أجره ثمانية عشر بيسو شيليًّا — والجنيه ١٢٤ بيسو أي إن البيسو يساوي ثمانية مليمات — وأجر اليوم في النُّزُل بما في ذلك الطعام نحو خمسة عشر قرشًا، ولقد أحسست الفرق الشاسع بين الأسعار هنا وبينها في البلاد السالفة؛ فكل شيء رخيص إلا الواردات الأجنبية وجلها من الأقمشة والآلات، فأجر الترام عشرون سنتافا أي أقل من مليمين ومسح الحذاء كذلك، ولقد استرعى نظري بوجه خاص رخص الأحذية؛ فأنت تستطيع شراء حذاء جميل بثلاثين قرشًا، وكذلك رخص لفائف التبغ فالصندوق الذي يحوي ١٤ سيجارًا بستة ملليمات، وغالب ظني أن هذا هو الذي شجع الأطفال على التدخين. ويقع النُّزُل في شارع أهومادا Ahumada أكثر شوارع البلدة حركة في التجارة وتزاحم المارة به خصوصًا وقت الظهر، وعند الأصيل مدهش إذ لا تكاد تشق لك طريقًا وسط الجماهير، ويتضاعف ذاك الزحام يوم الأحد حين ترى الناس في أجمل أزيائهم نساءً ورجالًا، يروحون ويغدون في كثافة تفوق الوصف، وكأن القوم يتخذونه معرضًا للسِّحَنِ والأزياء، وينتهي ذاك الشارع من أحد جانبيه بميدان أرماس Armas الصغير المنسق، وهو أول ما أُنشِئ وقامت حوله المدينة على نظام سابقتها ليما، بالبوائك وبعض المباني ذات الهندسة المورية بأبوابها ونوافذها الكبيرة.
figure
سنتياجو عاصمة شيلي.
وتقوم حوله المباني الفاخرة ولعل أجملها «الكتدارئية» دخلتها يوم الأحد عند الظهر، وكان القوم يصلون فهالتني كثرة المصلين؛ إذ كانت أفنية الكنيسة تُسَدُّ بالناس سدًّا وجلهم من النساء وكثير منهن يحتشمن في الهندام ويتخيرن اللون الأسود، وأثر الكنيسة هناك قوي؛ فهي تشاطر في قسم كبير من مالية الدولة، وتحظر على القوم اللهو أو التسلية مسافة كبيرة حول الكنائس كلها. ثم دار البريد والبرق، ومن وراء الكتدرائية مقر المؤتمر — البرلمان — في أعمدته الشاهقة وهندسته الفاخرة، ومن أفخر مطاعمها La Bahia، ولا بد أن يتذوق المرء هناك أحب طعام لديهم ويسمونه langosta con mayonesa أو سمك السرطان lobster بالمايونيز، corvine salsatartare أي سمك كورفينا بالصلصة، وفي الطرف الآخَر من شارع أهومادا افنيدا دي لاس دلسياس Delicias، ويقسم البلدة شطرين ويمتد بطولها وهو يُعَدُّ من أعظم شوارع العالم، اتساعه يعادل ثلاثة أضعاف شارع الملكة نزلي عندنا، وتتوسطه المتنزهات والزهور والنافورات وتقوم بينها الأنصاب والتماثيل لكثير من مشاهير رجالاتهم وإلى جانبَيْ ذلك الترام، ثم شوارع لمرور العربات ثم الإطاران للرَّجَّالة، وتزينه صفوف الشجر إلا أنه كان يابسًا وبعضه بدأ يورق لأن هذا الموسم بدء الربيع عندهم ونهاية الشتاء، وغالب وزارات الحكومة تقوم على ذاك الطريق في أبنية فاخرة وهو مستراض القوم عند الأصيل في الوسط للطبقات الأرستقراطية، أما في طرفيه فينتهي بأحياء فقيرة، لذلك ترى العامة هناك في جهل وقذارة جلهم في أسمال مهلهلة، وكثير منهم حفاة متسولون، وعدد مساحي الأحذية لا يدخل تحت حصر، وكنت أدهش لكثرة الفقراء هنا مع أن سكان البلاد أربعة ملايين وربع وامتدادها شاسع ومواردها كبيرة، على أن استثمار تلك المصادر يتطلب أموالًا طائلة وجل الاستثمار برءوس أموال أجنبية وبخاصة الولايات المتحدة وإنجلترا.
figure
دلسياس أفخم شوارع سنتياجو.

أما الشعوذة الدينية بينهم فبالغة أشدها، ففي يوم الأحد مثلًا يجمع الرجل جمهرة من الأطفال أو الفتيات ويقرأ في الإنجيل، وبين فترة وأخرى يردد الصغار أنغامًا دينية وبعضهم يقف وبيده القيثار ويرتلون وفق أنغامه، أما سحن الناس هنا فتسترعي النظر بكثرة تنوعها واختلاف تقاطيعها، فبينهم الجمال الفاتن والسحن المنفرة؛ وذلك لكثرة اختلاط أنسابهم مع الغير من الأجانب ومع الهنود الحمر، وذلك أوضح جدًّا في الطبقات الوسطى والدنيا، وأجلى ما يُرَى ذلك في سمرة الوجوه والشعر المغولي الأسود المرسل الذي كان يذكرني في بعض السيدات بشعور بنات اليابان، وقد تصاهر الإسبان الأوائل عندما حلوا البلاد بالهنود؛ إذ لم يحضروا نساءهم معهم، أما الإسبان الأصفياء من أبناء البلاد فيمثِّلون الطبقات الأرستقراطية. ومن المتنزهات المحبوبة هنالك «بارك كوسينيو» في ناحية متطرفة من البلدة عظيم الامتداد كثيف الشجر غير أنه بسيط التنسيق، وفي قلب المدينة رَبْوَتان: سروسان لوسيا وسروسان كرستبال، الأولى صغيرة وعلى ارتفاع أربعمائة قدم ترتقي إلى ذروتها بمجاميع من درج ودهاليز ملتوية في هندسة فاخرة وبين آنٍ وآخَر ينتهي بنا الدرج إلى رحبة زُيِّنَتْ بالنافورات والزهور والتماثيل، والربوة كلها تكسوها الأشجار فتبدو على بُعْد وكأنها القلعة ظللت بالشجر، أما تل كرستبال فأكثر علوًّا وأقل تنسيقًا يكسوه الشجر وقد صعدنا ذروته بترام مسنَّن «فونكلير»، ويتوج ذروة هذا التل تمثال هائل للعذراء تقف باسطة أكفها محدقة في السماء كأنها تطلب للبلد وأهله الرحمة والغفران، وفي قاعدته حجرة بها هيكل وتجاوره كنيسة صغيرة، وكذلك فوق تل لوسيا ترى بعض تماثيل للقديسين.

وأنت لا تمر بمكان لا تلمس فيه أثر النزعة الدينية، فجُلُّ تماثيلهم وأسماء أماكنهم وُضِعت على أسماء القديسين، أما مشهد المدينة كلها من قمة هذين التلين فرائع، ترى البلدة بشوارعها المخططة ومبانيها الوطيئة، وتبدو طرق القسم المستحدث متعامِدة على نظام بونس أيرس، ويبدو نهر سنتياجو الصغير ويُسمَّى نهر «مابوكو» يسيل ماؤه العَكِر دافقًا في شدة عنيفة، غير أنه شحيح الماء، وتعبره مجموعة من قناطر حديدية متجاورة، وقد مُدَّتْ على جوانبه المتنزهات الجميلة إلا أن أحياءه فقيرة قديمة، وتطوق البلدة سلاسل الجبال من جميع الجهات أعلاها في الجانب الشرقي، لذلك تراها تكسوها الثلوج الوضَّاءة التي تتلألأ إذا ما انعكس ضوء الشمس عليها بعد الظهر، وكثير منه يفوق علوه ١٣٠٠٠ قدم، صعدت ذينك التلين مرارًا وكنتُ أتخذ مكاني من الذرى وأستمتع بمشهد سنتياجو البديع في تلك الوهدة التي تحكي السهل بين المرتفعات، أما الجو فكان دفئًا مشمسًا بديعًا، ولم أحس شدة البرد قط رغم أنه كان موسم الشتاء، ورغم أن البلدة على علوِّ ١٧٠٦ أقدام.

figure
منتزه سان لوسيا الفاخر في سنتياجو.

والمدينة تبدو مزدحمةً بالناس عظيمة الحركة؛ لأنها تئوي ثلاثة أرباع المليون في مساحة تقرب من ثمانية أميال مربعة، فأنت أينما سرتَ أدهشتك كثافة الجماهير، لكن شتان بين مظهر الغنى والتأنُّق الذي تراه في بونس أيرس وبين الأهلين هنا، فهناك ترى أفخر الأزياء والمركبات والسيارات، أما هنا فهي دون هاتيك بكثير، وكنتُ أعجب لوقوف الرجال على جانبَي الطرق ساعاتٍ طويلةً في أحسن هندامهم، ولا عمل لهم إلا استعراض المارة من السيدات وإبداء الملاحظات والمغازلات، وقد هالني أمر رجل خلع قبعته وانحنى وصاح في وجه سيدة جميلة، ثم تبعه صحبه ضاحكين والسيدة لم تُبْدِ أيَّ امتعاض، ولم يستنكر أحد الناس هذا العمل. وحرية النساء هناك بالغة الحد، فالسيدة تصادق مَن تشاء على علمٍ من زوجها! ويُخَيَّل إليَّ أنهن لا يقرن في بيوتهن قط؛ لكثرة مَن ترى منهن في الطرقات في كل آنٍ، وقد أذكرني ذلك بإحدى الشهادات التي طلبَتْها مني مفوضيتهم في مصر؛ لتثبت لهم رسميًّا بأنه لم يسبق لي الاشتغال بتجارة الرقيق الأبيض، ويظهر أن ذلك كثير الانتشار عندهم.

قمتُ إلى فلبريزو في قطار الحادية عشرة والنصف صباحًا فوصلتها في أربع ساعات، والأجرة بالدرجة الأولى ٣١ بيسو — ٢٦ قرشًا — وقد أمضينا الساعة الأولى وسط سهول فسيحة منزرعة وهي بقية امتداد الوهدة التي تقام عليها العاصمة، وكان الفلاحون يفلحون الأرض بمحاريث عتيقة شبيهة بمحاريثنا في مصر. والخيول الضخمة المرسلة الشعور مطيتهم الرئيسية حتى في قلوب المدن الكبيرة، وتسترعي النظر شيلانهم وملافحهم، فالشال أو المعطف قطعة كبيرة من صوف يفتحون في وسطها دائرة تدخل الرأس منها دون أكمام أو أزرار، وسحنهم سمراء مستطيلة وشعورهم لامعة سوداء مرسلة تؤيِّد شديد اختلاطهم بالهنود الحمر. بعد ذلك أخذ القطار الفاخر يوغل في الجبال والربى البديعة تكسوها الخضرة والشجر وصبار الكاكتس وتتدفق على جوانبها المسايل السريعة، وبين آنٍ وآخَر كان يُباغِتنا أحد الوديان الملتوية أو إحدى الوهاد المنزرعة، وكانت زهور طلائع الربيع تنقش صفحات الجبال الجذابة، وفي محطة «لاي لاي» في منتصف الطريق بدأنا نسير غربًا صوب المحيط الأعظم ونخترق أنفاقًا عدة، على أن الجو هنا بدأ يتغيَّر وتلبَّدَتِ السماء بالغيوم التي تزجيها رياح المحيط الهادي، والتي كانت سنتياجو في نجوة من وابلها وطلها. وفي منتصف الرابعة بَدَا خليج فلبريزو الساحر الذي أذكرني بخليج نابلي تمامًا في امتداده الهلالي، وظهرت أبنية البلدة على طول منحدره تتدرج علوًّا.

figure
ربوة سان كرستبال نصعدها بترام معلق.

فلباريزو

أو Valde Paraiso أي Vale of paradise «وادي الجنة»، هي جنة حقًّا بمشاهدها الطبيعية الساحرة، وقد شبَّهوها بماسة هائلة غرست وسط متسع من الزمرد يدعمها مؤخر جذاب من فيروز أزرق؛ نزلت أجوب بعض أرجائها فتجلت البلدة أمامي قوسًا هلاليًّا، جزؤها الأسفل سهل قليل العرض عظيم الامتداد، ومن ورائه مباشرة الجبال التي تكتظ بالمباني المدرجة والشجر الكثيف، فهي بلدتان: السفلى والعليا، ففي السفلى غالب الحركة التجارية، وفي العليا غالب المساكن، وشوارع البلدة تمتد مقوسة بحذاء الشاطئ الواحد تلو الآخر، وهي لا تكاد تزيد على الأربعة إلا في بقاع نادرة، وبين فترة وأخرى ترى متنزهًا بديعًا نُسقت منابته وقامت فيه التماثيل والجواسق والمقاعد، وتؤدي غالب الشوارع الطولية إليه، وتكاد تقتصر حركة المرور في كل شارع على جهة واحدة، وهذه تخالف جهة السير في الشارع المجاور وهكذا. أما البلدة العليا فترتقي إليها بالروافع «فنكلير» بأجر لا يزيد على المليم، وهي في جميع الأرجاء؛ ولمَن يريد الصعود راجِلًا درج ملتوٍ شاهق، أما مناظر البحر والربى والغابات من فوق تلك المرتفعات فساحر، ولقد أعدَّ القوم بعض المتنزهات والمقاعد تطلُّ على الخليج، يجلس الإنسان فلا يتمالك أن يسرح به الخيال في شبه ذهولٍ الساعةَ تلو الأخرى، وكثيرًا ما شبَّهَها القوم بنابلي، لكنها في نظري أكثر خفةً وأبهى منظرًا؛ ومن أفخر ضواحيها «فينادل مار Vinadel mar» مسكن الطبقة الأرستقراطية بفلاتها الفاخرة، وأهم ما يذكرها به الزائرون «الكازينو» شبيه كازينو مونت كارلو، وكثيرًا ما يطلقون عليه اسم ليدو أمريكا الجنوبية، وفيه من ضروب الملاهي وملاعب الميسر شيء كثير، ثم «البلاج» للاستحمام، وسكان تلك الضاحية وحدها خمسون ألفًا، وهي أفضل جوًّا من فلبريزو لأنها أقل تعرُّضًا للعواصف.
figure
تزاحم المصلين في كنيسة سنتياجو.

ويبدو على فلبريزو كثرة تزاحم الأهلين، فهي على صِغَرها تئوي زهاء ١٩٠٠٠٠ نفس، ومن أظهر الجاليات الأجنبية: الألمان والإنجليز والطليان، على أن الكثير من الأهلين يبدو عليهم العوز والفقر المدقع، فالطرق غاصة بصبية الشوارع وهم حفاة قَذِرون، وفي ثياب مهلهلة والمتسولون في كل مكان، والأحياء الفقيرة كثيرة ولهم سوق في أحد الميادين الفسيحة يفترش الباعةُ الأرضَ بسِلَعهم من خضر وزهور ومأكولات، وبعضهم بقِطَع من حديد صدئ قديم وكثير من سقط المتاع، وتزاحُم البقاء والمكافحة في البيع والشراء هناك بالغة الحد الأقصى، وكم كنتُ أتألم لمظهر البؤس الذي كان يتجلَّى على وجوه الكثير وأزيائهم، وغالب القوم هنا منكَبُّون على إدمان الخمر وعلى الإسراف في اللهو والمجون ليلًا، ويكادون يظلون كذلك حتى الصباح، على أن وسائل اللهو هنا ليست بالكثرة والفخامة التي رأيتها في بونس أيرس؛ لذلك كنت أسائل نفسي: ماذا عسى أن يفعل هؤلاء لو أُوتُوا من الغنى ووسائل اللهو ما أُوتِيه أهل بونس أيرس؟

figure
نصعد إلى فلبريزو العليا بتلك الروافع.

أما مشهد خليج فلبريزو من فوق الربى ليلًا فساحر لم أَرَ أجمل منه، جلست مرارًا على جرف تلك الربى ومن دوني قوس من مصابيح ضخمة ناصعة البياض ضوءها خاطف، ومن خلفها نجوم تتلألأ في كثرة تملأ الربى جميعًا، وسفائن الماء منثورة في عرض الميناء بأضوائها، فكنتُ أجد في تلك الجلسات لذةً كبيرةً واستمتاعًا لا حدَّ له، والمنظر لا يقل روعة عن منظر ريودجانيرو ليلًا، وكم أنقَصَ من جلال تلك المناظر الجوُّ العَكِر الماطر الذي استقبلتنا به فلبريزو على خلاف ما عهدته في تلك المنطقة المتوسطة من شيلي؛ إذ نعلم أنها جنة الدنيا الجديدة، شمسها مشرقة وشتاؤها دفيء جميل، لكنَّ حظِّي لم يكن كاملًا؛ لأن ذاك الجو الرديء نادر في تلك البلاد، فإذا ما هبت بعض عواصف المحيط أو اشتدت ريحه أزجت أبخرة الباسفيك فشبعت الجو وعلت على صفحة تلك الجبال فأشبعتها وابلًا، وهذا ما حدث أيامي الثلاثة التي أقمتها هنالك، وكانت غزارة المطر تشتد في الأصيل والمساء، ولقد كنت أسائل نفسي: ماذا عسى أن تكون حال الجو في القسم الجنوبي من شيلي دائم التعرُّض للرياح الغربية التي تشبعه وابلًا من طلها في جميع الشهور والأيام.

وغالب مباني المدينة حديث عهد بالإنشاء، فكم تعرَّضَتِ البلدة للعواصف والنيران والزلازل التي أبادت منشآتها، لذلك كان القوم يتحاشون إقامة الأبنية الشاهقة خصوصًا في المرتفعات، وكثير منها أُقِيم من الخشب خشية الزلازل. ويظهر أن تلك الظروف القاسية هي التي جعلت القوم في شيلي كلها أميل إلى السكون والتقطيب؛ فأنت لا تكاد تسمع لهم جلبة رغم كثرتهم في الطرقات، وقد رماهم البعض بنزعة الحزن والاكتئاب، وهم في ذلك يشبهون الإنجليز وبخاصة الاسكتش، أما جمال السيدات وتدللهن في السير ففائق الحد، وكثير منهن ممَّن يملن مع الهوى، وبيوت الدعارة لا حصر لها! غير أن البوليس يراقبهن في شدة وصرامة؛ فلا يسمح لإحداهن بالمرور في الطرقات أو معاكسة المارة، غير أنهن يلتمسن غفلته ويجتذبن المارة ويصفِّرْنَ لهم ويُشِرْنَ بأيديهن، والأمراض السرية منتشرة في طول البلاد وعرضها حتى بين صغار الأطفال وبخاصة أبناء السبيل.

figure
سيدات الأروكانا بسحنهن المنفرة.
وسكان البلاد الأصليون — وهم قبائل أروكانا من الهنود لم يغلبوا أبدًا، ولا تزال منهم فئة من مائة ألف في الجنوب ويسمون أنفسهم Mapuches أي أهل البلاد، ويفاخر كثير من أهل شيلي باختلاط دمه مع تلك القبائل، وهم ذوو أجسام ممتلئة وقامات متوسطة، وأجمل ما ترى حفلات الرقص وفيها يقفون في دوائرَ متلاصقي الأكتاف ويدورون في هرولة غريبة على نقرات موسيقية تدق على قطع من خشب، وفي ختام الحفلة تشوى بعض الخيول وتؤكل مع الذرة، ويشرب الخمر في إسراف فظيع. وزعيم الطب لديهم يُسمَّى Machi يمسك طبلة داخلها أجراس يدقها فتذعر عفاريت المرض وتهرب، وتلبس تلك العجوز شالًا أحمرَ، ويُعرَف بينها بعمود يُعلَّق فيه فرع شجرة مقدسة Mapuches وجلد شاة وبعض دم الشاة ضحية للآلهة، ثم تصعده المرأة وتلقي بنفسها من فوقه إلى الأرض، ولما حاوَلَ الإسبان غزو البلاد سنة ١٥٣٥ لاقوا مقاومة عنيفة، وتكررت المذابح بين الفريقين، فكان فالديفيا يأمر رجاله أن يقطعوا أنوف الأسرى من الأروكانا وأيديهم ويطلقوهم يعودون لأهلهم، فكان الأروكانا يقابلون ذلك بصب الذهب المصهور في أفواه أسراهم من الإسبان، ولم يفلح الإسبان في غزوهم إلا بالمصاهرة معهم، وقد ساعَدَ على ذلك أن الإسبان لم يحضروا نساءَهم معهم إلى تلك البلاد، فتزوَّجوا من الهنود، ولقد نتج عن الشعبين الباسلين — الإسباني والهندي الأحمر — أغلبية أهل شيلي اليوم، وهم قوم استقلالٍ وجدٍّ وشرفٍ، لكن أسوأ ما يتعرضون له اليوم إدمان الخمر الذي يبتاعونه بالجلود، وكثير منهم يعيشون على الفطرة خصوصًا في الجنوب، ويؤثرون أكل لحم الخيل، والأمراض منتشرة في شيلي كلها وبخاصة الجدري والكوليرا، ونسبة وفيات الأطفال كبيرة لجهلهم وقذارتهم، فنحو ٤٠٪ منهم أميون، ولا تزال لدى الأمهات الخرافة التي تقول «بأن تسعة ملائكة صغار خير ضمين بدخول الجنة»، أعني أن الأم التي يموت لها تسعة تدخل الجنة، وقيل إن تعصبهم الديني الكاثوليكي عاوَنَ ذاك التأخُّر؛ فالكنيسة تشاطر في قسم كبير من موارد الدولة، أما الطبقة الأرستقراطية فلا تزال من أصفياء الإسبان يحتفظون لأنفسهم بالوظائف وملكية الأرض، والجيش ونظامه — مقتبس من ألمانيا — والأسطول — مقتبس عن إنجلترا — وهم يتركون غالب الأعمال التجارية والزراعية للغير احتقارًا لها. ومما يُذكَر عن شيلي أنها أول منبت للبطاطس الذي نقل منها إلى العالم الخارجي، ولم يكن بها من الحبوب عند الكشف الجغرافي سوى الذرة، ولا من ذوات الأربع سوى الغزال والجواناكو، لكنك ترى اليوم كل أنواع الحبوب وحيوان المرعى والخيول.
قمت أبرح فلباريزو البديعة وغادرت أوتيل Palace Coppola الفاخر الرخيص — ٢٠ بيسو بالطعام يوميًّا أي ١٦ قرشًا — ويعادل أفخر الفنادق عندنا، وحللت الباخرة «سانتا كلارا» لشركة Star line الأمريكية وهي رديئة، فالدرجة الأولى بها دون درجة توريست في «مونت سارمينتو الألمانية»، أما الثالثة فقَذِرة منفرة، ولقد كنا نتهكم على تلك الشركة فنسميها Disgrace line، على أن خير ما في تلك الباخرة سرعتها؛ فهي معروفة بأنها أسرع بواخر الساحل الغربي تقطع المسافة إلى نيويورك في سبعة عشر يومًا، ومواقيت وصولها وقيامها من الثغور دقيقة جدًّا.

قامت بنا في تمام الخامسة وأخذ خليج فلبريزو يتجلى في كامل بهائه وبديع رونقه، وما كدنا نخرج إلى المحيط الأعظم حتى أخذت تترنح وسط موجه الهائج الرهيب، وعرا غالب المسافرين مرضُ البحر، أما أنا فيظهر أن كثرة التجوال وركوب البحار قد أكسبتني مناعة ضد هذا المرض، مع أني كنتُ حسَّاسًا له من قبلُ، وقد نمت ليلتي نومًا عميقًا، وكان الصباح مشمسًا جميلًا لكنَّ نَسِميَه قوي بارد، وكنَّا نرى الشواطئ الأمريكية على بعد طيلة الطريق في سلاسلَ جبليةٍ متعرجة، وأسماك البحر وحيواناته تلعب في كثرة فائقة وأعمها الحوت الذي كان يظهر بين آنٍ وآخَر بنافورته التي تقذف بالماء إلى علو كبير.

وكنا نرى على بُعْدٍ إلى يسارنا بعض جزائر سانتا كلارا الصغيرة التي كانت موطن «روبن سان كروزو»، وفي منتصف الساعة الخامسة رست بنا الباخرة في ميناء «شنارال» إحدى مدن شيلي الصغيرة التي قامت على الشاطئ الغربي، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الإقليم غايةً في الجدب والجفاف؛ أرض جبلية عارية عن النبت حتى الأعشاب الشائكة وجباله تحكي جبال حلوان عندنا تمامًا، وشتان بين مظهر الخصب والخضرة من شجر ونبت في فلبريزو أمس وبين ذاك المنظر اليوم. ولقد ظلت الباخرة إلى منتصف الليل تحمل وسقها من كتل النحاس الغفل الذي يستغل في تلك الجبال، والذي من أجله قامت تلك القرية الصغيرة المنعزلة، وبلاد شيلي ثانية جهات العالم بإنتاج النحاس بعد الولايات المتحدة، وبجوارها أيضًا مناجم للحديد، أما القرية نفسها فليس بها شيء جدير بالذكر؛ فهي تحكي القرى المجانبة للصحاري عندنا، على أنها رغم ذلك تُضَاء بالكهرباء ليلًا فيُخَيَّل إليك أنها ذات شأن بثرياتها المنثورة.

دعانا تلك الليلة أحد الصينيين من ركاب الدرجة الأولى لمشاهدة بعض الأفلام السينمائية التي سيعرضها على ظهر الباخرة، وإذا بها كلها عن الحرب الصينية اليابانية، وكيف اعتدى اليابانيون على بلاد الصين وخربوا أحياء من شنغهاي وقتلوا من الأنفس الصينية البريئة، وقد أظهرت الأفلامُ الصينيين فائزين متفانين في الدفاع عن بلادهم وتلك الأفلام ناطقة، وكان هو وبعض مواطنيه يترجمون لنا ذلك بالإنجليزية، فأكبرت تلك الوطنية والدعاية لصالح بلادهم ضد طغيان اليابان، والرجل يتنقل في بلاد العالم هو وكثير من أمثاله ليُوقِف الناس على افتيات اليابان على حقوق الصين، وتلك وسيلة لا شك فعالة في اكتساب عطف الشعوب واستفزازها ضد ما تفعله اليابان. وعلى الرغم من أني أكاد أكون متحيزًا لليابانيين لشدة حبي لهم وإكباري لإخلاصهم لبلادهم، إلا أني شعرت عند مشاهدة تلك الأفلام بشيء من الاستياء منهم؛ إذ تجلَّى ظلمهم للغير مجسَّمًا، وكذلك كانت حال جميع المسافرين الذين شهدوا تلك الأفلام.

أصبحنا والجو بارد والسماء قاتمة، وإلى يميننا جبال شمال شيلي المجدبة، وهي بدء مناطق السماد المشهورة، وقد كانت تلك البلاد ملكًا لغير شيلي، الجزء الجنوبي منها «انتوفجاستا» لبوليفيا، والشمالي «أكيك» لبيرو، ثم اغتصبتها شيلي عقب انتصارها في حرب السماد أخريات القرن الماضي (١٨٧٩). لبثنا نرى تلك الجبال العاتية المجدية، وقد أخذت تزداد علوًّا وتعقيدًا ويغبر لونها في احمرار منفر حتى رأينا طلائع بلدة …

أنتوفاجاستا

ظهرًا ورسونا في مينائها الصغير على بُعْد من الرصيف؛ لأن غورها ليس بعيدًا، وأقلنا زورق صغير إلى البلدة التي بدت نظيفة صغيرة، طرقها في استقامة وتعامد، وبيوتها لا تزيد على طابق واحد اللهم إلا القليل جدًّا الذي بلغ الاثنين أو الثلاثة، وجلها أُقِيمت من الخشب يُطلَى باللون الأحمر ليحكي لون التربة والجبال من خلفها، ولقد أقام القوم بعض المتنزهات الجميلة في الميادين الصغيرة رغم أنها تكلفهم كثيرًا، فتربة البلاد ملحة كثيرة النترات والصودا ولا تصلح للزرع أبدًا؛ لذلك جلبوا تربة تلك الحدائق من وسط شيلي، أما الماء فشحيح لا بل معدوم لشدة جفاف التربة، ولكثرة أملاحها كانت مياه الآبار مالحة كأنها مياه البحار؛ لذلك يُجلَب الماء في أنابيب من قرب حدود أرجنتينا على مسافة ثلاثمائة كيلومتر، ولهذا كان الماء غاليًا يباع المتر بأربع بيسات أي فوق ثلاثة قروش.

والبلدة تقوم على تجارة النترات، وتصلها بسائر بلاد شيلي سكة الحديد، وكذلك منها إلى لاباز عاصمة بوليفيا، وصادف يومنا يوم الأحد، فكانت جميع المتاجر مغلقة وحركة البلدة نادرة، إلا النساء اللواتي كن يشرفن من نوافذ بيوتهن ويحاولن اجتذابنا بالإشارات والنداء والابتسام، وكان هذا اليوم أحد أعياد البلدة الدينية، خرج الجميع فتيات وصبية، في ملابسَ خاصةٍ، والنساء والرجال في الأردية السود، يحمل الجميع الأعلام ويرتلن مقطوعات من الإنجيل، وجمهرة من زعماء القسس تسير في لباس الكهنوت تحت ظلل كبيرة فكان منظرًا جميلًا، والمذاهب الكاثوليكية في تلك البلاد متغلغلة في قلوب القوم إلى الأعماق، غير أن ذلك لا ينسيهم مجونهم، فهم كثيرو الإسراف في أمور النساء والخمر والميسر، وعند مواقيت الصلاة أو الشعائر يتزاحمون على الكنائس في شكل يسترعي الأنظار.

أنجزت باخرتنا حمولتها من كتل النحاس، والبلدة تظهرها منطقة غنية بذاك المعدن، وهي عاصمة مديرية بهذا الاسم، وتتصل بجيرانها بسكة الحديد وخصوصًا لاباز؛ لأنها مصرف تجارة تلك الدولة، وسكانها ستون ألفًا، وكان منظر البلدة أثناء الليل أبهى منه أثناء النهار؛ لأنها تضاء بالكهرباء، فكانت ثرياتها تبدو منثورة في سفح الجبال في كثرة عجيبة، ومما يلفت النظر في بلدان شيلي كلها صغيرها وكبيرها، وفرة الإنارة بالكهرباء؛ وذلك لوفرة منحدرات الماء فيها، لكنها هنا تُولَّد بقوة البترول، والمنطقة غنية به وبالفضة والنحاس. قمنا صباح اليوم مبكرين؛ لنرى ثغر Tocopilla الذي رست عليه باخرتنا، وسرعان ما تقاطرت «صنادل» وسقت ببلورات «نترات الصودا» ويسميه القوم saltpere أو Salitre في لون أبيض ناصع بدا كأنه فتات السكر أو الملح الصافي، وتلك هي الأسمدة ذائعة الصيت في تلك المنطقة الصحراوية بادية اتكاما، وتوجد فوق تلك الجبال تغطيها طبقة صخرية يزيحها القوم، فيبدو من تحتها غشاء صخري يكسرونه بالديناميت ثم ينقلونه إلى المطاحن ليُسحَق ثم يذاب في الماء الساخن ويبرد فترسب البلورات وتُصدَّر على النحو الذي رأيناه؛ وهو بعد ذلك يخضع لعمليات كيميائية أخرى ليُجهَّز مع غيره من المركبات — فوسفات أو بوتاس … إلخ — بالنسبة التي يتطلبها كل نبات. ونترات الصودا الطبيعي تُستخدَم في التسميد والصناعات الكيماوية، وتمتد على مساحة شاسعة جعلت المحصول حكرًا لشيلي تقريبًا — ٤٠٠ ميل طولًا، و٤٠ إلى ١٠٠ في داخل البلاد، وخصوصًا على علوٍّ بين ٣٠٠٠ و٥٠٠٠ قدم — والمادة أهم صادرات شيلي ومن الجمارك التي تجبى عليها أهم موارد الدولة، وقد بدأت سنة ١٨٣٠ بتصدير ٨٠٠ طن، ونمت تجارته حتى موَّنَتْ شيلي العالمَ بنحو ٧٥٪ من حاجته، لكن مزاحمة النترات الكيماوية قد هبط بالصادر اليوم إلى مليون طن، والنترات تمون زهاء ربع مليون من الناس هناك، يحلون تلك المنطقة المجدبة التي عريت حتى عن ألزم ضروريات الحياة من غذاء ووقود وحتى الماء والتربة الأرضية للحدائق والمتنزهات يجب استيرادها ولن ينفد هذا المورد قبل مائة سنة، وقيل إن سهولة استخراجه قد ساعدت على الكسل والخمول بين أهل الصناعة في شيلي، ويظهر أن أصل النترات بركاني، وقيل إن مسارب الماء النازل من جوانب الجبال إلى تلك المنطقة المجدبة يكون مناقع تجف فترسب الأملاح في بطون كوَّنت تلك المادة، والمادة الغفل يسمونها Chuca تخضع للسحق والغليان والتبلور، والطبقة العليا Caliche تتألف من تربة رملية طينية هشة بها بعض سلفات الصودا والجير، وسمكها بين ١٠ و١٦ بوصة، تحتها خليط من الفلسبار والبورفير وملح الطعام تماسكت بالكلس، ويفوق سمكها قدمًا، وتحتها أخرى بها نسبة من النترات قليلة، وتحت هذه طبقات الكاليشي ويتراوح سمكها بين ١٨ و١٢ قدمًا، وخير أنواعها يحتوي على ٥٠٪ من النترات النقي، وقد زاد في قيمة نترات شيلي احتواؤه على …
اليود Iodine: يُستخرَج بكميات تزيد على حاجة العالم — فوق ٩٠٪ من إنتاج الدنيا — على أن زيادة منافعه اليوم في علاج الأمراض وفي التعقيم وفي تغذية الماشية زاد الطلب عليه، ومن فضلات الطيور التي تعيش في الجزائر المجاورة لشيلي وبيرو يتخذ الجوانو، وهو سماد قيم وساعد معيشة تلك الطيور كثرة السمك الذي يجتذبه تيار همبولت البارد، ومنه يتغذى الطير، وبه نسبة كبيرة من النترات والفوسفات — ١١٪، ٧٪.
figure
انتوفجاستا ثغر النترات في شيلي.

أما بلدة توكوبليا فشبيهة أختها السالفة «انتوفجاستا»، لكنها أصغر مدى وجبالها من ورائها أشد عتوًّا وغبرة وأمعن في التغضُّن والجدب والعلو، ولم يسمح لنا بالنزول رغم أنا أقمنا في مياهها زهاء ثمان ساعات؛ ذلك لأنها موبوءة بمرض «التيفوس»، ولا يزال كثير من الأمراض المعدية منتشرًا في بلاد شيلي لجهل كثير من الأهلين، وافتقارهم إلى النظافة.

(٥) بيرو مهد مدنية الأنكا

وصلنا أرض بيرو باكورة هذا الصباح وقد أخرنا ساعاتنا ساعة كاملة لنتمشى مع زمن بيرو، وفي الساعة التاسعة رست باخرتنا وسط بحر مضطرب مائج إلى جوار شواطئ ثغر «موليندو Moliendo» الذي كان يُرى على بُعْدٍ، ذي شاطئ صخري مخيف يضرب الموج فيه فيعلو رشاشه وزبده إلى عنان السماء، ولقد أقَلَّنا إلى البر زورق صغير مسافة طويلة كانت تلعب به الأمواج وتتجاذبه تجاذبًا عنيفًا، وعندما قاربنا تلك الصخور لم نستطع ملامستها؛ بل دارت إحدى روافع الميناء وأدلت كرسيًّا كبيرًا إلى الزورق أمسكنا به، ثم رفعتنا مسافة كبيرة ودارت بنا ناحية البر وألقت بنا فيه، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بها الوصول إلى البر أو إلى البواخر التي تقف بعيدًا. أما البلدة فمجموعة أبنية من خشب جلها من طبقة واحدة أُلقِيت في غير نظام تمر خلالها طرق رملية متربة غير مرصوفة، وكنت أعجب لقلة الحركة بها وندرة الأهلين فكأنها خالية من السكان، وكان يبدو على وجوه الكثير الملامح الهندية، فكثير منهم شديد السمرة مشرف الأنف هادل الشعر، وقد أتيحت لي فرصة زيارة مدرستين: المدرسة الثانوية، وهي قسمان؛ للذكور قسم، وللإناث آخَر، ولا بأس بتموينها وأدواتها، وعدد الطلبة قليل فكان في السنة النهائية أربعة. وثَمَّ المدرسة الابتدائية خليط من الجنسين، وهنا بدا على كثير من الأولاد الافتقار إلى النظافة، وكان بعضهم حفاة الأقدام، وأرض البلدة مموجة مجدبة متربة وتقوم من ورائها تلك الجبال الشاهقة الصحراوية التي عريت عن كل نبت، وتقع على شواطئَ للماء أسوأ ما يمكن أن تنتقى لإقامة مرفأ؛ لأنها مشرفة غائرة، وضرب الماء فيها شديد لا يهدأ ثانية واحدة. على أن مركز البلدة على صِغَرها — ١٠٠٠٠ نفس — هام؛ إذ هي نهاية سكة الحديد الجنوبية بين كزكو العاصمة القديمة للإنكا وإلى بحيرة تتكاكا التي تقع على الحدود بين بوليفيا وبيرو؛ فهي إذن إحدى المنافذ التجارية الهامة لبوليفيا، ومنها يقصد كثير من السائحين زيارة البحيرة والمدينة لرؤية آثار الأنكا.
figure
بركان مستي يُشرِف على أركويبا في بيرو.

وقفت باخرتنا هنا يومين استطعنا خلالهما أن نركب السيارات إلى بحيرة تتكاكا ومدينة كزمو عاصمة الأنكا القديمة، فكنا كلما صعدنا إليها يزيد خصب الإقليم ويكثر نبته، وكانت سكة الحديد تجانبها وهي التي يعدونها في الداخل أعلى سكك حديد العالم أجمع.

وبعد ست ساعات مررنا بقرية «أركويبا» وأجمل ما بها بركان «مستي» المخروطي الشاهق تكسو أعاليه الثلوج ويحوطه الناس بخرافات عجيبة، وبعد ساعتين وصلنا بحيرة تتكاكا التي بدت صفحة ممدودة من مياه زرقاء صافية ذرعها ١٦٠ ميلًا في ٥٠ ميلًا، وعمقها ٨٧٥ قدمًا، وهي أعلى بحيرات العالم العذبة بحيث لا يكاد يعيش في مائها حيوان سوى نوع واحد يحكي السردين، وكنا نرى الجزر تتخللها على بُعْدٍ وتجوبها الزوارق ذوات الشراع العجيب الذي يسمونه بالسا balsas، ومن أشهر جزائرها جزيرة الشمس التي تقع في حدود بوليفيا، وتقول أقاصيصهم بأن «مانكوكاباك» وأخته التي تزوَّجَها خرجَا منها وأسَّسَا عاصمة الأنكا في كزكو. وقد حاولنا أن نركب ماءها لنرى بعض جهات بوليفيا لكنهم رفضوا؛ لأن البلاد كانت في حرب مع براجواي، وكنا نرى أعلى بواخر العالم تمخر عبابها وتصل ما بين القطرين. ولقد كان زمهرير البرد هنالك قارسًا، ولقد أصابني هناك صداع شديد، قيل لي إنه من أثر الارتفاع، ومرض الجبال هناك معروف يشعر الإنسان بصداع يصحبه قيء وحمى واكتئاب وضعف وشعور بالمرض يصعب وصفه، وينفجر الدم من الأنف؛ وذلك راجع إلى تخلخل الهواء، على أن المتمرن عليه لا يكاد يصاب به، وكان بريق ضوء الشمس على الثلوج حولنا خاطفًا، ويقولون بأنه كثيرًا ما يعشي الأبصار فيسرع الهنود إلى علاجه بوضع قطعة من لحم حيوان الفيكونا وهي لا تزال تقطر دمًا. وكنا نرى أهل المرتفعات من قبائل الإيمارا قصار الأجسام أقوياء البنية أشداء على المسير طويلًا فوق تلك الهضبات «التوبلانو»، ومن القبائل الشهيرة «الكوتشوا» أهل الوديان والمنخفضات، وهم أقل سمرة وأكثر مسالمة وأكبر قامات، والارتفاع يساعد على ضمور الجسم وتقوُّس عظام الصدر حتى لَترى بعضها تحكي «البرميل»، ويزيد ذلك في عدد كريات الدم الحمراء كي يستخلص أكبر قدر ممكن من الأكسجين النادر في ذاك الهواء المخلخل؛ لذلك كنا نرى غالب الناس يسيرون وأفواههم مفتحة كأنهم البلهاء لاستنشاق مقدار أكبر من الهواء، ويظهر أن معيشة المرتفعات تطيل العمر؛ فقد قيل إن الإحصاء أثبت أنه لا يزال بين سكان تلك الجهة زهاء ١٢٠٠ شخص جاوزت أعمارهم مائة عام. واصلت السيارة بنا السير ثلاث ساعات أشرفنا بعدها على مدينة …
figure
على مياه تتكاكا أعلى بحيرات العالم.

كزكو

فأخذنا نشق مجموعة من شوارع مختنقة منحدرة ترصف أرضها بالحجارة منذ عهد الأنكا، ولا تستطيع العربات اختراقها، بل كنا نرى قطعانًا من حيوان اللاما تسير في كل مكان برءوسها التي تحكي رءوس الجمال، وأجسامها التي تشبه الغنم، وأرجلها التي تقارب أرجل الغزلان، وكم كانت تروقنا مشية اللاما التي يبدو عليها الوقار، فخُيِّلَ إلينا أن الحيوان لا يزال يفاخر بأنه دابة آلهة الشمس معبودة الأنكا، والعجب أنك إذا أغضبت الحيوان بصق في وجهك! وإذا حملته ما لا يطيق برك في الأرض ولم ينتقل حتى تخفِّف من أعبائه. وغير اللاما كنا نرى قطعانًا من الفيكونا والألباكا قريبة شبه منها لكنها أكثر نحولًا، ولا تزال ترى قطعان البغال تُسخَّر في النقل فوق مرتفعاتهم العاتية، والعجب أن عيونها تغمى عند تحميلها لكيلا يزعجها كبر الأحمال، ولم يكد يخلو طريق من المباني القديمة اتخذت أساسًا للجديدة، وحتى كنيسة سانتو دومنجو تقوم وسط جرانيت معبد الشمس الذي قيل لنا إن أبوابه وسقوفه وأرض حدائقه كانت تقام من ذهب خالص! ويدهشك وضع الأحجار بدون مِلاط، واستدارة زوايا الأبنية في إحكام عجيب، ويقول العلماء إن إتقان الهندسة ودقة العمارة في معبد الشمس لا يضارع في أي أثر في الدنيا بشكله المستدير الذي غالب الزلازل العاتية قرونًا، فلم تُحدِث به سوى صدع بسيط في بعض أحجاره الجرانيتية، وأغرب ما لاحظناه في أبنيتهم ميلها كلها نحو المركز كلما علت، واستدارة جوانبها مما أذكرني بمخلفات أجدادنا قدماء المصريين، ولعل أفخر بقاياهم بعض الأحجار الهائلة يقوم إلى جوارها مدرج من حجر كان مقر عرش ملوك الأنكا، ثم حصن ساكسا هوامان الذي يخاله البعض سابقًا لعهد الأنكا، وقد قالوا بأنه خير ند لأهرامنا، لكني ألفيته دون ذلك بكثير، ومن أحجاره ما يزن الواحد ١٧٠ طنًّا، وُضِع الواحد فوق الآخَر بدون مِلاط.

figure
مباني الأنكا قريبة شبه بمباني المصريين القدماء.

وقد دلتنا تلك الآثار على قيام مدنية قد ترجع إلى أربعة عشر ألفًا من السنين، وقبل بتزارو والإسبان بأربعة قرون أسَّس هؤلاء القدماء عاصمتهم في كزكو في وهدة حولها الجبال، ولقد صاغوا الذهب والفضة منذ القِدَم في دقة مدهشة، وزرعوا وديانهم ومدرجاتهم، ونسجوا غزلهم من القطن الذي أنبتوه بكثرة في وديانهم، وكذلك من صوف اللاما، ومنسوجاتهم تضاهي أرقى منسوجات عصرنا، ولقد حار كبار المهندسين اليوم في وسائل الري التي أقاموها في كل مكان، وقد أقاموا المدن وعبَّدوا الطرق، وقد رُصِف بعضها بالفضة لكثرتها في جبالهم، وقد مدوا طريقًا بين عاصمتيهم كيتو وكزكو مسافة ١١٠٠ ميل، وزينوا قصورهم ومعابدهم بالذهب والجواهر، ومدُّوا مُلْكَهم من إكوادور إلى شيلي مسافة تزيد على ١٢ ألف ميل، ولم يستخدموا سوى المحراث الخشبي؛ خشية أن يُظهرَ الحديديُّ النترات والأملاح الغائرة فيميت الزرع، ولا تزال مجاريهم وأرصفتهم باقية، وكذلك مبانيهم الجرانيتية العاتية، وقيل إنهم استخدموا عصير بعض الجذور في قطع الأحجار، وحنطوا الجثث التي رأيناها في المتاحف بعضها حافظًا لشكله إلى الآن! وحفظوا مأكولاتهم من العطب بوضعها في كومات من الثرى المبلل فوق المرتفعات يجمد من حولها ويثلجها، وكانت حكومتهم شيوعية مُصلِحة توزِّع قِطَع الأرض، وتترك ثلث المحصول لرجال الدين، والثلث للزراع، وتأخذ هي الثلث، ومنه تنفق على الدفاع والطرق والمستشفيات والعجزة، وتدخر الغذاء لسنوات القحط في محاط تقام على مسافة أربعين ميلًا، وقد كانوا عليمين بزراعة ستين نباتًا بين نبات المناطق الحارة يزرع في المنخفضات والباردة فوق الهضاب، ولم يستخدموا النقود؛ إذ لم تكن بهم حاجة إليها؛ لذلك نجوا من الآثام والجرائم فلم يدون لهم التاريخ جريمة واحدة؛ لأن المال والطمع فيه هو لا شك أكبر دافع على الإجرام، وقد صاغوا المعادن للزينة، وكانت الدولة تعين لهم الملاعب والحفلات يحضرها الناس مجانًا، وكانت سنتهم اثني عشر شهرًا متساوية الأيام كل شهر ثلاثون يومًا، والخمسة الأيام الأخيرة أعياد رسمية يشترك فيها الناس جميعًا.

figure
التحنيط منذ عشرة آلاف سنة في بيرو.

أليست هذه أسعد حكومة وأهنأ أمة عرفها التاريخ؟! على أنها بذلك لم تعُدَّ الرجال للقتال ولم تُخرِج زعماء أفذاذًا، لذلك لما داهمهم الطاغية بتزارو وقتل ملكهم فزعوا وشتتوا وذهبت ريحُهم، وكانوا يعبدون الشمس، وحتى المسيحية اليوم ليست متمكنة من قلوبهم؛ إذ رأيناهم يحوطون صلبانهم التي في كنائسهم وبيوتهم وفوق أكداس غلالهم في الحقول بهالات تحكي أشعة الشمس، ولهم الحق في عبادتها إذا أدركتُ فعلها السحري في إنضاج زرعهم فوق تلك المرتفعات ذات الثلوج، وما أقسى لياليهم إذا قورنت بنهارهم المشمس الدفيء، ويظهر أنهم كانوا في عبادتهم أقرب إلى التوحيد، يؤيد ذلك بعض أدعيتهم في الصلاة؛ أذكر من بينها: يا رب الكون أين مستقرك؟ لِمَ تختفي وراء شمسك هذه؟! قد تكون فوقنا وقد تكون تحتنا وقد تكون بعيدًا عنا في الفضاء؟ أين تُرَى مقر عرشك العظيم؟ أنصت لقولي؛ فقد تكون بين الأمواه العليا وقد تكون بين الأمواه الدنيا ورمال شطآنها هنا قد يكون موطنك خالق الكون موجد الإنسان.

figure
سلائل الأنكا في بيرو.

لبثت الباخرة تحمل وساقها من الصوف أهم غلات الأقاليم إلى الساعة الثانية بعد ظهر اليوم التالي، ثم أقلعت وسط اضطراب الماء وعنف الريح. أما الجوف فقد أخذ في الدفء قليلًا؛ لأنا كنَّا نقارب عرض ١٦°ﺟ، والسماء يغشاها غطاء من سحاب مجزع حجب ضوء الشمس أو كاد، وقد صادَفَ أن زاملني في الباخرة أستاذ في جامعات نيويورك يحاضر في الجغرافية في عدة جامعات، ويقوم برحلات كبيرة، وكان معه ابنه أحد طلاب الجامعة، وكان من أولى أغراضه أن يُوجِد علاقةً بين طلبة الجامعات والمدارس في جميع بلاد أمريكا الجنوبية وبين جامعته، وقد مضى طلبته على ورقة طويلة يقدِّمها لكل مدرسة يزورها، وطبع شبه شهادة باسم المدرسة والمملكة ورغبتها في تلك الصداقة يمضيها ناظر كل مدرسة ويختمها بخاتم المدرسة، ثم يحملها معه إلى مدرسة نيويورك، وتبدأ من ثَمَّ المخاطبات للمدرسة معطية أخبار الدولة وطرق التعليم والمعلومات عن كلِّ ما يتعلق بتلك البلاد ماضيها وحاضرها؛ ليعلم طلبة أمريكا الشمالية حقيقة تلك البلاد؛ لأن غالبهم يكادون يعتقدون أن أهل أمريكا الجنوبية متوحشون — وذلك شبه ما يعلمون عنَّا في مصر — وقد زار الرجل في رحلته غالب المدارس والجامعات وحمل منها تلك الشهادات، وقد رمز للشهادات برسم صغير «للاما» شعار أمريكا الجنوبية.

figure
المولدون من أهل كزكو في بيرو.

فكرة جميلة يا حبذا لو وُفِّقنا إلى تقليدها بين طلبتنا وطلبة أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لنعطيهم عن بلادنا فكرةً صائبة وهم يجهلونها كلَّ الجهلِ.

وهو يحاضر عن رحلاته الجغرافية في ١٥٠ كلية ومدرسة، ودهشت لما رأيت شعور أهل أمريكا الجنوبية — خصوصًا شيلي وأرجنتينا — ضد الولايات المتحدة؛ لأنهم يتهمونها بإرشاء رجالهم وبتوريطهم في الاستدانة منها؛ كي يصبح لها نفوذ في تلك البلاد، ويظهر أنهم أدركوا ذلك فبدءوا ينشرون من الدعايات ما يحببهم فيهم.

غادرنا مليندو وكان مقررًا ألا نقف إلا في «كلاءو» ثغر ليما؛ لكنا في العاشرة صباحًا دخلنا خليجًا متسعًا، قليلَ الغور، رمليَّ الشواطئ، تحفه عدة جزائر صخرية، وفي وسطه تقوم مدينة Pisco الصغيرة، وهنا غايرت طبيعة الأرض ما سبق من بلدان؛ فهي سهول ممدودة لا تكاد ترى الجبال إلا في الآفاق على بُعْد، وقد بدت الخضرة وبعض الأشجار بعد ذلك الجدب المميت الذي مررنا به من قبلُ، وخير ما تنبته تلك السهولُ القطنَ الذي وقفنا أربع ساعات نحمل وسقنا من بالاته، وهو من أجود الأنواع، وليفته طويلة كما أخبروني، غير أن محصوله قليل لقلة الدراية بزرعه وندرة الماء، فالإقليم جاف صحراوي لكن يُجلَب الماء له من داخل الجبال مسافات بعيدة، وقد كان «الأنكا» يفعلون ذلك من قبلُ، ولقنواتهم أثر لا تزال أنقاضه ظاهرة، وتُعِدُّ الدولةُ مشروعاتٍ للري كبيرة لاستغلال المنطقة المنبسطة خصبة التربة وتخص بزراعة القطن، وجل القطن يُصدَّر إلى لفربول، وهو لا شك سيحل محل بعض قطننا الذي لا سبيل لنا إلى استهلاكه إلا بإنشاء مصانع النسيج عندنا، وبإنقاص زراعة القطن واستبداله بغيره مما نحن له أحوج من الغلات. ولقد أدخل القومُ القطنَ المصريَّ المسمَّى ميت عفيفي وهو ناجح عندهم، وقد علمت أن البلاد صدَّرَتْ من القطن العام الفائت مليونًا ومائة ألف قنطار، ولا تزال زراعته تشجع في نحو ٣٥ من الوديان في تلك البلاد.
أما البلدة نفسها فصغيرة تحكي أختها مليندو إلا في شاطئها الرملي قليل الغور هادئ الماء، وفي أن بيوتها الخشبية تقوم على سهل ممدود حوله المزارع الكثيرة، ثم غادرنا البلدة الثانية مساءً، وفي ساعتين وصلنا ثغرًا آخَر اسمه Cerro azul أصغر من سالفه غير أن بيئته جبلية حوله تقوم الربى العاتية. وتمتد سلاسل من جزائر حجرية مغبرة، وفي وسط ذاك الخليج الضيق قامت مدينة حقيرة غير ذات بال، ولقد حملت منها باخرتنا وسقًا لا بأس به من بالات القطن، ولشد ما كان سروري لما أن فتشت في تلك البالات — ولم أطِقْ صبرًا حتى أعرف مدى جودته بالنسبة لقطننا — وأخرجت بعض الخام فألفيت الليفة قصيرة جدًّا بالنسبة لقطننا غير أن نعومة القطن وبياضه تضاهي قطننا. أما مرسى السفينة فكان وسط الماء المضطرب الذي لبث يميلها يمنة ويسرة، ويدفعها تياره الشديد بعيدًا رغم كبرها، وكانت ثمة بواخر أخرى أصغر منها واقفة، فكان لعب الماء بها مخيفًا، وزاد الطين بلة أن رجال الميناء تلكئوا في ملاقاة البواخر رغم أنها وقفت طويلًا ونفخت في بوقها تناديهم مرارًا، وقد قيل لي إن تلك عادة المواني في بيرو جميعًا يتباطئون في أداء واجبهم كي يطيلوا أمد عملهم، غير آبهين لغضب البواخر وإضاعة سمعتهم التجارية؛ إذ إن ذلك لا شك يعرقل ازدياد العلاقات التجارية مع الغير.
figure
لا تزال القبائل الهندية تعيش على الفطرة في بيرو.

قمنا منتصف الليل، وفي باكورة الصباح دخلنا ميناء كلاءو، ولا ينطقونها كذلك بل «كايَّاؤ»، وعجبت لما علمت أن لهذه الكلمة الإسبانية معنى هو «اخرس؛ لا تتكلم». وتُعَدُّ من أهم المواني على الباسفيك وإن كانت السفن الكبيرة لا تزال ترسو بعيدًا عن المرسى، والعمل قائم على إعدادها بحيث تصلها جميع السفن قريبًا. بدت في سهل لا تبدو حوله الجبال، اللهم إلا في شبح فاتر عند الأفق وفي جزيرة صخرية جنوب الخليج تتخذها الدولة محطة للأسطول الذي رأينا بعض قطعه راسية وسط الميناء. نزلنا المدينة في «لنش صغير»، فكانت حركة الشحن والتفريغ كبيرة، وقاطرات السكة الحديد تروح وتغدو وهي ممتلئة بالسلع في حركة ناشطة. أما أبنية البلدة فقديمة بالية، وطيئة جلها من طابق واحد، وقليل من اثنين، وسكانها ٧٥ ألفًا وحدها، ويصلها بالعاصمة التي تبعد عنها بثمانية أميال القطار والترام والبس، فبعد جولة قصيرة فيها أخذنا الترام الفاخر ذا الفرش الوثيرة من الجلد مسيرة ثلث ساعة إلى ليما عاصمة البلاد، فسار بنا وسط سهل زراعي ممدود إلى الآفاق يكسوه النبت من حشائش وخضر وغيرها، وكانت تقوم بعض أبنية الفلاحين من اللَّبِنِ كبيرِ الحجمِ أو من الطين، وأسوار الحقول كذلك، أما الطريق فغير مرصوف كثير الحصى والتراب. أخيرًا دخلنا …

ليما

دون تغيُّر في انبساط الأراضي الزراعية خصبة التربة التي تنحدر انحدارًا غير محسوس إلى البحر، والتي تحميها جبال الأنديز من برودة القمم النائية القاسية، تخيَّرَ بتزارو موضعها على الهضبة ليكفل الجو الحَسَن، وقبيل مصب نهر Rimec ليكفل سهولة التجارة البحرية، وأسماها مدينة الملوك إحياءً لذكرِ يومِ تخيُّرِها ٦ يناير سنة ١٥٣٥، لكن الاسم الهندي ساد أخيرًا، وهو اسم النهر الذي حرفه الإسبان إلى ليما.

جُبْنَا بعضَ نواحيها فأدهشني ما رأيت من شوارعَ هائلةٍ دونها شارع الملكة نازلي عندنا، تتلاقى في ميادينَ نُسِّقَتْ أيما تنسيق، وقامت وسطها التماثيل والأنصاب أذكر من بينها: ميدان مايو بنصب الحرية الطائر في السماء، وميدان سان مارتين بتمثاله يمتطي حصانًا، وميدان أرماس، وميدان بوليفار وفيه تمثاله على جواده الجاثي على رجليه الخلفيتين، وكثير غيرها؛ أما المباني في تلك الطرق المنسقة ففاخرة وفي طرز من الهندسة مختلفة.

figure
ميدان مارتين الرائع في ليما.

دخلت الكتدرائية، وهي أقدم أبنية البلدة، أقامها «فرنسسكو بتزارو» منشئ ليما سنة ١٥٣٥ في ضخامة تفوق الحد؛ إذ رأيتها من ظاهرها ببرجَيْها الشاهقين وكتلها الهائلة، أما من داخلها فالأقبية والنقوش والمزامير يحار المرء أمامها، وقد كُسِيت المقصورة الرئيسية بجدرانٍ ومقاعدَ من خشب الأرز القاتم في خرط بديع، وفي جانب منها تُدفَن جثة «بتزارو» داخل صندوق فاخر وفوق غطائه تمثاله الذهبي النائم، وحوله جل رجاله وقوَّاده. كشف الرجل لي عن جثته فإذا بها محنطة لا تزال بقايا اللحم والجلد تبدو على العظام، وقد أشار الرجل إلى الإصابتين اللتين أُصِيبَ بهما: واحدة في صدغه الأيمن والأخرى في جانب ثديه الأيمن، وقد ألفت نظري طول جثته، فقال الرجل بأنها ١٨٠سم، وكان أسفل وجهه يبدو مقطبًا منفرًا أذكرني بقسوته التي ضُرِب بها المثل رغم شيخوخته؛ فقد بلغ الخامسة والستين عامًا، والعجيب أنه كان أميًّا، حاول أن يتعلم الكتابة فلم يطق صبرًا عليها، وعرف كيف يكتب إمضاءه فقط، وقيل إنه نسي ذلك وكان سكرتيره يمضي عنه وهو يضع فوق إمضائه ليات ثعبانية خاصة، ولم يتزوج قط، بل حاز ابنة ملك الأنكا «أتاهوالبا»، ورُزِق منها ببنتين وغلام، وقد كان موفَّقًا في انتصاره على الهنود؛ إذ إنه صادف ملك الأنكا عائدًا إلى عاصمته فباغته بعدد من الجند قليل وقبض عليه، فافتدى أتاهوالبا نفسه بأكبر فدية عرفها التاريخ: حجرة من ذهب ذرعها ٢٢ قدمًا في ١٦، وعلوها قامة رجل بأذرعه ممدودة، ولكنه بعد أن أمنه وتسلَّمَ الفدية غدر به وقتله، وقد نقش على صندوقه: مؤسِّس ليما في ١٨ يناير سنة ١٥٣٥، والمتوفى في ٢٦ يونيو سنة ١٥٤١.

ويلاصق الكنيسة بيت «البشوب» زعيم الدين في بناء فاخر تخرج منه الشرفات في خرط من الأخشاب الثقيلة، والبيت يُشعِر بعظيم النفوذ الذي لرجل الدين الكاثوليكي هناك.

ويطلُّ على الميدان نفسه «ميدان أرماس» دار الحكومة في بناء ضخم من هندسة القرون الوسطى، ومن الأبنية الفاخرة بناء المؤتمر Congreso أو دار البرلمان في ميدان بوليفار، وكانت تعقد محاكم التفتيش في جانبه المعد اليوم لمجلس السناتو، ثم قصدت إلى دار الجامعة القديمة التي أُسِّسَتْ سنة ١٥٥١؛ وهي من أشهر جامعات أمريكا الجنوبية وأقدم جامعات الأمريكتين، وكنت أينما سرتُ ألاقي الكنائس التي يهولني بناؤها، وقد علمت أن في ليما وحدها ٦٧ كنيسة، وتجاور الجامعة كنيسة سان ماركو الفاخرة على الميدان المسمى باسمها. وقد زرت المتحف الأهلي في الطابق الأعلى من بناء البلدية، وهو قسمان: قديم وآخَر حديث، ففي القديم كثير من مخلفات الأنكا وصناعاتهم، أخص بالذكر منها: الفخار بديع الصنع، فقد صقلوه صقلًا جميلًا وصاغوا منه تماثيل لحيوانات عدة، ثم النسيج من الكتان والصوف وبعضه دقيق الصنع جدًّا، وعجبت لقدرتهم على تنوُّع الأصباغ زاهية الألوان، خصوصًا في عمل البسط الشبيهة «بالأكاليم»، ثم بعض أدوات موسيقاهم في أنواع من الرباب ومزامير الغاب، وكانوا يستخدمون بعض أنواع «المقلاع» إلى جانب السهام في الصيد، وكذلك نوع من المسرة — التليفون — من أسطوانة ضخمة طويلة «فوق المتر» من خشب جوفت وشُقَّتْ فيها فتحة لها ذؤابات في الجانبين، وبالطرق عليها تعطي أنغامًا مختلفة يفهمها الآخَر على بُعْدٍ فيجيب عنها. أما صوغ النحاس فظهرت قدرتهم فيه حتى في بعض تماثيل الوجه الآدمي، ثم رأيت بعض جثثهم محنَّطة، ويقعد الواحد منهم القرفصاء، ركبتاه عند ذقنه وذراعاه مطبوقتان إلى خده بحيث تلامس الكفان الأذنين، والجثث في حالةٍ من الحفظ لا بأس بها، ولقد أثار ذاك التحنيط إلى جانب هندسة أبنيتهم التي حاكت الهندسة المصرية جدلًا بين العلماء، ويؤيِّد الكثير العلاقة التي كانت لمصر بتلك الجهات قديمًا. أما القسم الحديث للمتحف فمن مخلفات العهد الإسباني، فيه يُعرَض كثير من متاع بتزارو وعهده من أسلحة وفرش وعروش ونقود وبعض صور زيتية فاخرة لرجال الحكم. وفي جانب آخَر من البلدة أقاموا متحفًا صغيرًا «متحف الأنكا» بناؤه في هندسة الأنكا بكتلها الضخمة وحوائطها المائلة إلى الداخل، وعليها نقوش بعض الوجوه الآدمية الغريبة، وبه مجموعة من آثارهم ولباسهم وسلاحهم.
figure
كنيسة ليما وفيها رفات الطاغية بتزارو.
بدت في نظري ليما غير ما كنتُ أعهده؛ إذ كنتُ أخال أني سأرى بلدة متأخرة، فإذا بها من أجمل العواصم بمبانيها الفاخرة التي أُقِيمت لتقاوِم الزلازل العنيفة هناك، وحتى أحياؤها القديمة جميلة إذ كلها في أبنية إسبانية بحتة، ببيوتها ذوات الأبواب الضخمة الثقيلة، والمطارق المعدنية، ونوافذها تغشاها شباك من حديد غليظ، وفناء الدار غير مسقوف تطل عليه الحجرات والشرفات، ويُكسَى بالقيشاني وأصص الزرع، ولقد حقَّقت في نظري ما قاله Prescott عنها: «ليما بلدة الملوك الرائعة، أجمل جوهرة على شواطئ الباسفيك، وأفخر ما خلفه بتزارو وسط الويل والدمار الذي جرَّه هذا الرجل وأتباعه على أراضي الأنكا المقدسة الغالية.» ولقد لبثَتْ بحق عاصمة أمريكا الإسبانية زمانًا طويلًا، وتئوي من الأهلين اليوم ٢٧٢٧٤٢ في موقعها من العرض ١٢ جنوبًا والعلو البالغ ٥٠٠ قدم ليس غير. والأحوال الصحية بها مرعية؛ فنسبة الوفيات لا تجاوز ٢٤ في الألف، أما الأهلون فيسودهم الاختلاط، وفي غالب السحن تتجلى التقاطيع الهندية الأمريكية، وفي كثير من الظروف كنت أحسبهم صينيين، لكنهم سكان البلاد الأصليون اختلطوا بالجنس الأبيض، وقد استرعى نظري ورق أخضر يمضغونه جميعًا وبخاصة الرجال، وهو ورق شجرة الكوكا التي تبلغ المتر علوًّا، ويحرص الناس أن تظل صغيرة بين قدمين وثلاث؛ خشيةَ فساد ورقها، والنبات الصغير ينمو عادةً تحت وقاية شجر الموز، وينتج من السنة الثانية إلى العشرين، وقيمته في ورقه البيضاوي خفيف الخضرة في طول بوصة ونصف، ويحسن نموه على المدرجات، ويُقطَف ورقه ثلاث مرات أو أربعًا في العام، تُربَط وتُصدَّر إلى أوروبا وبخاصة من بوليفيا وبيرو؛ لاستخراج مادة الكوكايين منها، وكثير من مصانعه في ليما التي تصدِّر نحو ٣٣٠٠ رطل من الكوكايين كل عام، وجله يباع لليابان، وأهل تلك البلاد يمضغون الورق كما يمضغ الطباق والبيتل betel في الهند وغيرها، ويقولون عنه بأنه عظيم الأثر في إمداد الناس بالقدرة على العمل واحتمال الجهد والمتاعب؛ إذ بمضغه يستطيع الرجل أن يسير في الجبال أيامًا متتالية دون شعور بتعب، وفي غالب دول غرب أمريكا يشربون منقوعه بالماء الساخن ليسكِّن أوجاع المعدة.
عدتُ آخِر اليوم التالي إلى «كلاءو» تلك البلدة العتيقة التي أذكرتني بغزوات Drake لها في القرن السادس عشر، والتي قاست منه ومن أمثاله طويلًا، وكذلك من عنف الزلازل حولها وأكلتُ من فاكهتها الجميلة، موز وتفاح وبرتقال وخوخ، وبعض أنواع غريبة أذكر منها ضربًا من الشمام الصغير المصفر الشهي لا يزيد حجمه على القثاء، وآخَر من أنواع القشطة اللذيذة، وضروب أخرى من فاكهة البلاد الحارة، شهية المأكل غريبة الشكل والتسمية. وقد برحنا الثغر في تمام الساعة الرابعة مساءً، بعد أن ظلت الباخرة طول مكثها توسق كتلًا من النحاس الغفل وبالات من القطن، أما الجو فكان ملبدًا بالغيوم، خشينا أن يدهمنا بأمطاره، لكني علمت أنه يظل هكذا غالب الأيام، لكن جفونه لا تسح شيئًا؛ لأن البيئة لا زالَتْ صحراوية.

ومنظر بيرو كلها من المحيط منفر مجدب عارٍ عن أي نبت حتى نخيل الصحراء، ولقد قيل إن السماء لم تَجُدْ برخة مطر إلا منذ ستة عشر عامًا! فمنظرها يزهِّد فيها القادم من البحر، لكنك تجد وراء ذلك الشاطئ قطرًا من أجمل أقطار الأرض وأغناها، فوراء الساحل المجدب هضبة ذات وديان خصيبة، ووراء هذه منطقة غابات كثيفة كثيرة المطر الذي يسقط كل يوم تقريبًا «منتانا»، فبيرو بلاد متناقضات حقًّا، وتُرمَى بيرو بأنها «متسول يعيش على جبل من ذهب» بسبب فساد حكومتها التي أفقرت البلاد رغم كنوزها الهائلة، وكلما أوغلنا في الداخل لاقينا شعوبًا أكثر سذاجةً وأبعد عن المدنية، فقرب الساحل سلائل الإسبان الذين لم يختلطوا بالهنود، وهم على جانب كبير من الثقافة والتحضُّر، ونساؤهم أجمل نساء أمريكا الجنوبية، خصوصًا في ليما، أجسامهم أميل إلى السمنة لكثرة استقرارهم في البيوت، ولقلة اشتغالهم بالرياضة، ويكثرون من التزيُّن ولبس الحلي، ويلي الإسبان في بلاد الوسط هنود كوتشوا النشيطون ولغتهم هي السائدة، أما إذا دخلنا مناطق الغابات ساد الهمج من أهل الأحراش بلهجاتهم المتعددة التي تغاير الواحدة الأخرى، وقد قُدِّر عددهم بنحو ٣٠٠ ألف ينقسمون إلى أكثرَ من ٩٠ لهجة مختلفة.

وجو الشاطئ ملبد بضباب كثيف يحجب الشمس غالب الأوقات، لكنا إذا تسلقنا المرتفعات إلى الجبال الوسطى الشاهقة صفا الجو ونقص حره، وغالب أهل البلاد من الهنود في أسمالهم القذرة وسحنهم العجيبة من الكوتشوا والإيمارا الذين كانوا سادة أمريكا قديمًا فأذلهم الإسبان، فانحطوا اليوم إلى ذلك المستوى من التأخُّر؛ لأنهم كانوا أفراد أمة شيوعية لكلٍّ نصيبٌ في مال البلاد، ولا مجالَ لجمع الثروة من كثرة المجهود والعمل، لذلك كان نصيب الفرد من العمل محدودًا قليلًا، لكنهم كانوا في معيشتهم هذه سعداء حتى جاء الإسبان بحضارتهم فتدهور أولئك عاجلًا، وميلهم إلى العمل قليل، فهم إلى الكسل أقرب لقلة حاجاتهم، فلباسهم لا يجاوز قبعة الخوص والشال المسمى Poncho، وكأنه «البطانية» شق في وسطه مكان لدخول الرأس، ونعل من الجلد الغفل يحكي نعال العرب، ولكثرة مضغهم لورق الكوكا قلَّ ذكاؤهم، ولذلك ترى النساء أذكى من الرجال لأنهن لا يمضغنه إلا نادرًا، وتعدُّد الزوجات شائع بينهم؛ خصوصًا حيث يكثر النساء عن الرجال، وبين بعض قبائلهم مَن يعتقدون أنهم إذا قتلوا عدوهم وأكلوا لحمه انتقلت إليهم قوته! وهذا ما حَدَا بهم إلى أكل لحوم البشر أحيانًا — الرجال لا النساء — ومن أقسى عاداتهم إغراق المولود الجديد إذا لم يوافق رغبة الأبوين من حيث نوعه: ذكر أو أنثى، وغالب الدفن لديهم بأن يلقوا الجثث في النهر إلا المقاتِلة فتُحنَّط أجسامهم وتُعرَض تفاخرًا وسط الدار، وبعضهم يُعلِّق جثة القتيل في حبل ثم تُلقَى في ماء النهر، فإذا ما أكل السمكُ اللحمَ وظهرت العظام، حُمِلت إلى البيت وخضبت باللون الأحمر وحُفِظت هنالك، وهؤلاء الهنود مَهَرَة جدًّا في ركوب الزوارق النحيلة — عرضها قدمان وطولها ٣٦ — وسط أنهارهم العدة، وهي منابع الأمازون التي تشق قسمًا كبيرًا من داخل بيرو، وقيل إن مجموع تلك النهيرات يبلغ عشرين ألف ميل في قسم بيرو الداخلي المسمَّى «منتانا»، وكلمة بيرو محرَّفة عن الهندية «بيلو» ومعناها «نهر»؛ لكثرة أنهارها.
وقد صادف يومنا يوم الأحد، وعلمتُ أن ملهى الثيران سيفتح أبوابه، فكانت فرصة جميلة لي أن أشهد ذاك اللعب الإسباني الذي طالما سمعتُ عنه، وفي الصيف وبعض أيام الشتاء تُعقَد حفلات الصراع بكثرة، ويؤم البلاد كبار المصارعين من إسبانيا ويتقاضون أجورًا تكاد تفوق ما يُدفَع لنجوم السينما! دخلت الملهى الهائل المستدير، بعد أن دفعتُ ستين قرشًا ثمنًا للدخول، ولما حان ميعاد اللعب نُفِخت الأبواق وفُتِحت الأبواب الكبيرة إلى اليمين، وتقدَّم المصارعون في أرديتهم البرَّاقة كثيرة الألوان والمجوهرات إلى وسط الحلبة في صف واحد وبأيديهم الشال Capa، ويرافقهم معاونون Picadores يحملون الحِرَاب الطويلة يمتطون الخيول المغماة، فقابلهم الجمهور بزوبعة من التصفيق تبعها سكون عميق أخذ ينبث المصارعون خلاله في حلبة الميدان؛ كلٌّ إلى جانب مأوى خشبي صغير يلجأ إليه وقت الخطر، ثم نفخت الأبواق ثانيةً ففُتِح باب حديدي كبير إلى اليسار وهجم منه ثور أسود تزيِّنه بقع بيضاء، ووقف حائرًا وسط الحلبة ينظر هنا وهناك، حتى إذا ما لمح خرقة يلوح له بها أحد المصارعين اندفع إليه كالأسد الكاسر، وسرعان ما تنحَّى الرجل عنه وشاكسه آخَر بخرقته، وظلت تلك المعاكسة طويلًا والثور يجري من واحدٍ إلى الآخَر حتى طاف بالحلبة فأجهدت قواه، وعندئذٍ ألقى أحدهم بخرقته حول رأس الثور الذي استشاط غضبًا، ثم تركه الرجل حائرًا ومشى غير مكترث إلى مكانه وسط التصفيق الذي يصم الآذان!

عندئذٍ تقدَّمَ مصارِع آخَر في أردية من الجلد وهو يمتطي جوادًا غمت إحدى عينيه المجانبة للثور وبيده حربته، وقارَبَ الثور الذي نظر حائرًا، ثم هجم كاسرًا على الجواد ودفع بقرونه تحت بطنه ورفعه هو وفارسه إلى الجو، وسرعان ما اقترب المصارعون الآخَرون وأخذوا يلوحون للثور بخرقهم ليصرفوه عن الجواد إليهم. هنا صاحت الأبواق فتنحى المصارعون إلا مصارعًا أخذ يلوح فوق رأسه بسهمين، ويضرب الأرض بقدمه، ويصيح في وجه الثور الذي طأطأ رأسه وأخذ يتقدَّم إلى الرجل، والرجل يتقدَّم منه حتى إذا ما كاد يلمسه أحنى الرجل رأسه وبسرعة كالبرق دفع بحربتَيْه إلى عنق الثور وتركهما عالقتين به وتنحى قليلًا، وأعاد الكرة مرات حتى أصبحت رقبة الثور مرشوقة بالسهام التي كانت تؤلمه كلما تحرك، لذلك زهد في الحركة ووقف خائرًا والدم يقطر من جوانبه، هنا صاحت الأبواق ثانية وتقدَّمَ أمهر المصارعين وبإحدى يديه شبه علم لوَّحَ به يمينًا ويسارًا وباليد الأخرى سيفه، ثم ركع على إحدى ركبتيه والثور الغاضب الخائر يهاجمه، وهنا كانت فترة حرجة كادت تودي بحياة المصارع، ولكل حركة يأتيها المصارع الآن معنى خاص واسم يعرفه هواة ذاك اللعب، وما إن أثبت الرجل قدرته في الصراع حتى نفخ في الصور النفخة الأخيرة، ولوَّحَ الرجل للثور بعلمه الأحمر في يده اليسرى، ولما هاجَمَ الثور ذاك العلم بَيَّتَ المصارع سيفه في نقطة معينة من عنق الثور، فترنَّحَ الثور ألمًا وركع وصاح متأوِّهًا والدم يتدفق من فمه وأنفه، وسرعان ما سقط إلى الأرض وسط أصوات من التهليل والابتهاج والتصفيق وسيل القبعات التي انهالت على المصارع وهو يطوف بالحلبة في شبه تفاخُرٍ، ويردد تحية الناس في ابتسام المنتصر الفخور. مشهد تَقْشَعِرُّ له الأبدان وتَشْمَئِزُّ النفوس، وهل أمعن في الوحشية والقسوة من ذلك؟!

(٦) إلى جمهورية خط الاستواء: إكوادور

وفي التاسعة من مساء اليوم التالي رسونا في تالارا Talara، وهي بلدة صغيرة من أعمال بيرو، ثم واصلنا سيرنا وفي السابعة صباحًا دخلنا نهر جوايا الذي تقع عليه جوايا كويل أكبر مركز تجاري في جمهورية إكوادور؛ فهي أكبر من العاصمة وسكانها ١٢٠ ألفًا.
figure
مباني جوايا كويل من خشب تقوم على أعمدة.

وهذا الاسم مشتق من جوايا اسم أحد ملوك هنود ذاك المكان، و«كيل» اسم زوجته إحدى الأميرات.

لم نلاحظ أنَّا دخلنا نهرًا؛ لأن اتساعه هائل بحيث لم يبدُ الشاطئ الآخَر، على أن الماء قد تغيَّرَ لونه وأضحى عَكِرًا، وبعد المدخل بقليل بدت جزيرة «بونا» الهائلة إلى يسارنا وضفة النهر إلى يميننا، وهنا وافانا الدليل «البلوت Pilot»؛ ليسير بالسفينة في مياه النهر الضحلة في بعض بقاعه. لبثنا نسير في النهر ساعتين «٣٠ ميلًا» بين أراضٍ منبسطة تكسوها الغابات المقفلة، وكان بين آونةٍ وأخرى يفاجئنا رافد صغير حوله بعض الأكواخ الخشبية منحدرة السقوف تقوم على عصي أو عمد من شجر، والأهلون نصف عراة في زوارقهم النحيلة المستطيلة أو في عوامات من خشب كالأرماث الممتدة يحملون عليها بعض الأخشاب أو الموز، ومن ذاك الشجر نوع خفيف الوزن جدًّا بحيث يستطيع المرء أن يحمل جذعين منه بسهولة واسمه Balza، وكانت تؤخذ منه شرائح للطيارات ويصنعون منه عواماتهم التي تحمل ذلك الاسم، وقد يتخذها بعضُهم مساكنَ لهم، ثم شجر آخَر يؤتي ثمرًا اسمه جوز العاج Ivory nuts كالجوز الكبير، شديد الصلابة إذا صقل بدا أبيضَ ناصعًا، وتصنع منه الأزرار وبعض خرط العاج فيبدو كأنه العاج الأصيل، ويُصدَّر منه الكثير من تلك البلاد.

أخيرًا بدت جوايا كويل ممدودة على الضفة اليمنى على النهر الذي كان تياره شديدًا وماؤه كثيف الوحل والطمي، وطلائع مساكنها من أكواخ تقوم على العصي، ثم ظهرت أرصفة الميناء عليها قناطر الخشب يؤدي دَرَجُهَا إلى البواخر الصغيرة، وهذه تحمل المتاع والمسافرين إلى وسط النهر حيث تقف السفن الكبيرة، وسعة النهر تعادل نيلنا مرتين أو ثلاثًا. نزلنا البلدة وإذا قسمها المستحدث نظيف حسن الرصف، تزينه بعض المتنزهات تتوسطها التماثيل وتقوم به بعض المباني العالية المستحدثة، أما القسم الداخلي وهو معظم البلدة فطرقه متهدمة مهملة غير مرصوفة، ينبت العشب فيها فتبدو كأنها أجزاء من حقول المزارع، وتقوم عليها بيوت عتيقة من خشب يُطلَى ببعض الجير الملوَّن، وأكبر ما يميز أبنية البلدة جميعًا — حديثة وقديمة — أنها كلها من خشب، وأن واجهاتها تقوم على عمد من جذوع الشجر تزود جوانب الطرق بممار مسقوفة تقي المارة وهج الشمس.

أما حرارة الجو هناك فبالغة الحد: الشمس فوق رءوسنا ظهرًا، ولا يطيق المرء المكث بها دقيقة واحدة، والجو استوائي مرطوب، لذلك كنَّا نشعر بالجهد الشديد إذا سرنا مسافة قصيرة، وقد عجبت لسرعة الفرق، فمنذ يومين كنَّا في جو بارد ثم أصبحنا اليوم في هجير خط الاستواء، ولقد بَدَا أثره السيئ في أجسام الأهلين الناحلة هناك وتقاطيعهم المستطيلة وألوانهم القاتمة الشاحبة، وكنت أرى الكثير منهم يرتمي إلى جوانب الجدران في خمول وسكون، وإذا نظرت إلى داخل أحد البيوت من نافذته أو بابه ألفيت القاطنين به نصف عراة — رجالًا ونساءً — وفي فترة القيلولة يستلقون على أرجوحة من شباك الحبل رُبِط طرفَاها في ركنَي الغرفة، والعرق والتقطيب يعرو وجوههم جميعًا. هنا ذكرت بلاد الملايو وبلاد الهند؛ فهي قريبة شبه بأولئك في الجو والخمول ونحول الأجساد وشحوب الألوان، وقد زاد الشبه قربًا تلك البيوت ذوات الظلل التي تعم الطرق كلها. حقٍّا إن للجو الحار الرطب لأثرًا سيئًا على مجهود الإنسان وإنتاجه؛ فقد أحسستُ ذلك في نفسي عندما كنتُ أحاول أن أفكر أو أكتب هنا كما كنتُ من قبلُ، فلا تجود القريحة إلا بالنزر اليسير، وإني أعزو مظهر الفقر الذي يعم الناس جميعًا في هذا البلد إلى قلة الإنتاج بسبب الجو المنفر.

أما الأهلون فذوو سِحَنٍ مختلفة وإن تشابهت أجسادهم في النحول؛ فمنهم الأسود ومنهم الأسمر بطبقاته العدة، ومنهم الأبيض — وهو قليل — كذلك تقاطيع الوجه تراها مختلفة، لكن المظهر السائد هو التقاطيع الهندية. أما النقود المتداولة هناك فأساسها «السوكر» وهو ريال إكوادور، لكن قيمته كانت في هبوط شديد، فالريال المصري يساوي اليوم عشرة منه أو يزيد، أعني أن السوكر كان يعادل قرشين، وعجبتُ لشدة رخص المأكل بكافة صنوفه، فالوجبة الوافية بسوكرين، أي بأربعة قروش، وكوب الشراب المثلج بمليمين، والفاكهة يهولك رخصها وكثرتها؛ فالموز بالغ الحجم، شرينا «الدستة» بخمسة مليمات، وثم أنواع لا تُحصَى كالأناناس والباباز والقشطة والبرتقال وصنوف أخرى لا أعرف لها اسمًا، والمعيشة كلها رخيصة عدا المصنوعات الواردة، وحتى أجر الترام والأتوبيس خمسة سنتافات، أي مليم واحد، ومسح الحذاء كذلك، وصندوق السجاير «١٢ سيجارة» بثمانية مليمات، لذلك لم أعجب لعدم وجود «تذكرجي» في الترام أو البس، بل صندوق يجاور السائق تضع فيه الأجر عند دخولك، ومما يؤلمني جدًّا كثرةُ البائسين بينهم والمتسولين وأبناء الشوارع الذين تراهم حفاةً عراةً في حالة يُرثَى لها، وقد ناولْتُ سيدةً سألتني إحسانًا عشرةَ سنتافات أي مليمين، فأغرقتني دعاءً وشكرًا وكادت تطير فرحًا!

figure
تكاد تسيطر الكنيسة في إكوادور على كل شيء.

ظلت باخرتنا اليوم كله تحمل وسقها، وجُلُّه من الموز الضخم الذي نقلت منه في جوفها هذا اليوم ٢٤ ألف عرجون، وكانوا ينقلونه من الزوارق إلى الباخرة على جهاز يدور بنفسه ويلقي بالعراجين إلى بطن الباخرة والرجال وقوف لتنظيم صفوفه، وإلى جانب الموز حملنا بعض القطن وصناديق قبعات بنما الشهيرة وبعض الكاكاو والبن.

وقد هالتني كثرةُ الكنائس التي لا يكاد يخلو منها طريق واحد، وجلُّها كبير المساحة شاهق البناء، على أنها كسائر البيوت من الخشب؛ لكثرة وجوده حولهم من جهة، ولأنه يقاوم أثر الزلازل من جهة أخرى، ولكي يقيهم الحر تجد الجوانب المعرضة من البيوت تغشاها شرائح من شبه غاب «خيزران» صقيل. وإكوادور هي القطر الوحيد في أمريكا الجنوبية الذي لم يطرد منه الجزويت؛ فالقسس تراهم في كل مكان ويسودون الآفاق، فهم عشر مجموع السكان، ونحو ربع الأملاك هناك للكنيسة، والبلاد شديدة التأخُّر، وجلُّ أهلها قَذِرون أميُّون رغم أن القانون هناك قد حتَّمَ التعليم الإجباري منذ سنة ١٨٨٠، أعني قبل أن يصدر في إنجلترا نفسها، لكنه لا يكاد ينفذ!

figure
غرائب الموسيقى بين هنود إكوادور.
وجوايا كيل تتصل بكيتو العاصمة بسكة الحديد مدى ٢٩٠ ميلًا فوق ليَّات الجبال، وفي البلاد كثير من ذُرَى الأنديز وبراكينها الشهيرة، نخص بالذكر منها: كوتوباكسي وشمبورازو (٢٠٥٠٠)، وهذا الأخير يبدو بعض الأيام التي يصفو أديمها في أفق جوايا كيل، ولقد لبثنا نترقبه طيلة اليوم فلم نظفر منه إلا بقبس ضئيل متقطع؛ لكثرة السحب التي كانت تغشى جانبه. والقسم الشرقي من إكوادور غابات يقطنها متوحِّشُو الهنود يصيدون الحيوان والعدو بسهامهم المسمومة في أنابيبهم Blow-pipe التي تبلغ أربعة أمتار، والسهم يقتل سمه الفريسة في دقائقَ لكنه لا يفسدها في الأكل، وإذا كان الحيوان المصيد صغيرًا يستخدمون في قتله كورًا صغيرة من الطين المجفف ينفخونه في القصبة نفسها. وأهم القبائل جيفاروس Jivaros، ومن عاداتهم الغريبة أنهم إذا استيقظوا في الصباح دفعوا ريشةً في حناجرهم ليتقيَّئوا ما تخلَّف في معداتهم من طعام اليوم السالف؛ محافظةً على صحتهم، ويُعرَف عنهم أنهم أصحاء ومبالغون في مراعاة صحتهم، ويعيشون على اللحوم المصيدة وعلى مجهزات «الكسافا» التي تشبه البطاطس، ومنها يعدون خمرهم؛ وذلك بأن يمضغ النساء الجذور ويتركونها تتخمر، وهو شراب منعش مهضم يساعد على عدم إضرار اللحوم بجسومهم.

ويتزيَّن رجال الجفاروس بعقود من الأزرار وغاب في الآذان، ويرسلون شعورهم ويضفرون فيها ريش الطير الأصفر، ولا يلبسون سوى قطعة قماش تلفُّ حول الخصر، ونصفهم الأعلى عار وهم أشرس الهنود هناك، ويُطلَق عليهم اسم صيادي الرءوس، ومن أعجب عاداتهم أنهم يقطعون رءوس أعدائهم ويثقبونها من الخلف ويخرجون ما في جوفها، ثم يملئونها رملًا ساخنًا فينكمش الرأس إلى ربع حجمه ويصبح شبه محنط، وعليه الشعر الهادل الطويل، وأجزاء الوجه وبشرته، فيبقى شبه الشخص كاملًا، ثم تعلق هذه في البيوت تفاخرًا بالنصر! ولا بد أن يحضر بعض نساء الأعداء ويكلفن أن يرقصن ويبكين على مشهد من ذاك التشنيع بأهلهن! ولا تزال تلك العادة شائعة بينهم رغم تحريم الحكومة لها، وتباع تلك الرءوس في كثيرٍ من ثغور بيرو وإكوادور خلسةً، وقد غلت أثمانها حتى بلغت ما بين خمسة جنيهات وعشرة؛ لأن القانون يحرِّم بيعها.

figure
قبعات بنما الشهيرة يجدلها الفتيات.

ومن عادات هؤلاء الهنود كثرة الوشم والتجريح والنقش على الوجه بأشكال تدل على قبيلة الفرد منهم، وهي في الرجال أكثر منها بين النساء وكثير من القبائل تُلبِس موتاها أردية جديدة مزركشة لتنفعهم في الآخرة، وهم صيادون مَهَرَة يستدلون على قنصهم بحاسة الشم المرهفة لديهم، وإذا أراد أحدهم الزواج اصطاد قنصًا وألقى به إلى قدمَيْ خطيبته؛ فإن أخذته وطبخته كان دليل الرضا والقبول، وإن أعرضَتْ عنه باحتقارٍ كان عنوان الرفض! وهم يعملون أجيرين في حقول الكاكاو ويخضعون خضوع الرق؛ فالملَّاك يغرونهم على الاستدانة منهم فإن حاوَلَ الواحد الخروج على سيده طلب البوليس ليساعده على إرجاعه وإخضاعه عنوةً، وهذا لا شكَّ نوع من الرق، رغم أن القانون يحرِّم الرقَّ علانيةً، وسيلبثون كذلك حتى يتذوقوا بعض التعليم، وهو مهمل بينهم وإن حتم القانون التعليم الإجباري، والحكومة هناك رديئة جدًّا همها جمع المال بدون كد، فالموظفون يمهرون مرتبات ضئيلة، ولا يستمرون في الحكم إلا إذا ساد حزبهم، فإن تغيَّرَ الحزب والرئيس غيروا جميعًا، لذلك يحاولون جمع المال بالرشاوى مدة حكمهم، وهي أربع سنين حتى يتغير الرئيس، والأهلون يتوقعون الضرائب الجديدة كل آنٍ.

أقلعنا من الميناء الثامنة مساء، وسط أضوائها الكهربائية وتيار نهرها الجارف، وفي العاشرة صباحًا كنا في مياه «مانتا Manta»، وهو ثغر شهير بتجارته في إكوادور رغم صِغَره، فسكانه خمسة آلاف نفس، وقد ظهر ببيوته الخشبية الصغيرة على مدرج رملي بدا كالبقعة الصفراء وسط الجبال المخضرة، وهنا لبثنا إلى الرابعة مساءً نحمل صادرات من البن والكاكاو والقطن وقبعات بنما، وهذه الجهة خير جهات العالم بإنتاج تلك القبعات، وقد هاجمتنا على ظهر الباخرة جماهير الباعة، وأخذوا يعرضون سلعهم وأخصها القبعات وبعض أشغال ذاك «الخوص» من الأحزمة والأحذية «شباشب» وشباك للشعر وحقائب اليد والسلال الملونة، وكلها من خوص نخيل توكيليا، وقبعات بنما أحسن أنواع القبعات البيضاء في العالم، يُصدَّر غالبها لأمريكا وإنجلترا، وقد أُطلِقَ عليها اسم بنما خطأ؛ لأنه في عهد الكشف كانت بنما أكبر المدن التجارية على ساحل أمريكا الغربي، وصناعتها تتطلب مجهودًا كبيرًا كلها باليد، ومتوسط الزمن للواحدة أسبوعان، والنوع الجيد النادر يستلزم عمل ستة شهور — كأنه الطنافس — وعجبتُ لما علمت أنها تباع بالجنيهات، وقد يصل ثمن الواحدة ١٠٠٠ ريال أي ٢٠٠ جنيه، ويقطع خوص ذاك النخيل ويُوضَع في الماء الساخن، وبعد نقاوته من المواد الغروية تقطع شرائح في عرض متعادل وهنا المهارة، ويبدأ الجدل بالناصية التي قد تحتوي ألوف الشرائح، وقد تحوي عشرات فقط حسب دقة الصنع وغلو الثمن، وتلك الصناعة قديمة توارَثَها الحاضرون عن الهنود الأقدمين، ويشاطر إكوادور في صنعها جزء من بيرو وكولومبيا.
وأهم الصادرات الكاكاو الذي يستطيع أن يموِّن كلَّ فرد في مصر بستة أرطال في العام، وشكل ثمره كأكواز الشمام مدبَّب الطرف وفي حجم كبير. وكلمة شكلاتة أصلها من كلمتين هنديتين choco أي زبد أو ريم Lata أي ماء، نقله الإسبان إلى بلادهم ولا يزال يُستخدَم هناك سائلًا، أما في إكوادور فكل فرد يشربه على الدوام، ولقد قيل لي إن من السهل أن يعيش الإنسان في تلك البلاد بدون كلف البتة، فالمناخ الحار لا يتطلب من الملابس إلا اليسير، ويستطيع الإنسان أن يتناول إفطاره من الشكلاتة، وغداءه من الموز والنرجيل، وعشاءه من الأناناس.

(٧) إلى كولمبيا أو غرناطة الجديدة

سرنا بجانب شواطئ كولمبيا وقد بدت نجادها وطيئة لا تُشعِر بعظمة الأنديز وعلوها الذي ألفناه من قبل، وكانت أرضها تُكسَى بالغابات الكثيفة العذراء، ثم دخلنا خليجًا هو مصب نهر «جرايا» الفسيح، لبثنا نسير بين شاطئيه ساعتين والغابات تسد الآفاق سدًّا تتخللها المسايل الصغيرة التي كانت تفاجئنا بين حين وآخر، وأخيرًا ظهر ثغر بوينا فنتورا، وكان اسمها «مالا فنتورا» يوم أن استقبلت أول بعثة إسبانية بتحطيم سفنهم، وهي أكبر ثغور كولمبيا على الباسفيك، وإذا بها مجموعة أكواخ أُقِيمت على عُمُد من الخشب، وكُسِيت سقوفها المنحدرة بالحديد المجزع ونُثِرت في غير نظام، على أن ماء الثغر عميق، لذلك رست باخرتنا إلى جوار الرصيف تمامًا، وتلك أول مرة أمكنها ذلك بعد فلبريزو.

نزلنا البلدة فإذا طرقها متربة غير مرصوفة، تعلو وتهبط في أرض مموجة يكسوها العشب الطبيعي الكثيف، والبيوت كلها من خشب، وغالب الأهلين من السود؛ إذ البيض بينهم أقلية غير واضحة، ولقد أذكرتني هذه البلدة ببلاد شرق أفريقية ووسطها تمامًا في أهلها وبيوتها وطرقها ونبتها، وزاد الشبه حرها اللافح المجهد؛ فقد كان العرق يتصبَّب من جسومنا، وكنا نلهث فنضطر إلى الوقوف وسط تلك الطرق الرديئة رغم أن السحب كانت تحجب وهج الشمس. أما المطر فكان غامرًا لم يكد ينقطع، ولقد منعني البوليس من أخذ آلة التصوير معي؛ وذلك لأن البلاد في شبه حرب مع بيرو، ولقد زرتُ مدرستين من مدارسها الرئيسية، وجلها في يد المبشرين والقسس الذين يسودون الأهلين في كل شيء، والأمية ضاربة أطنابها والبلاد متأخرة جدًّا، تفوق إكوادور وبيرو تدهورًا! أهلها حفاة، تبدو على وجوههم سيماء البساطة والسذاجة، وهم يمقتون الأوروبيين مقتًا؛ لأنهم لا يزالون يذكرون فظائع الإسبان في ذبح أناسهم الذين عبدوا الشمس والقمر، وكانت لهم حفلات غريبة من بينها إيقاد نيران هائلة حول إحدى بحيراتهم المقدسة واسمها جواتافيتا Juatavita، فتحاط شواطئها بسحائب كثيفة من بخور، ويأتي ملكهم المُنتخَب عاريًا ويلطخ بالطين ثم يُكسَى بالتبر، ويركب الماء في عوَّامة من الغاب مزيَّنة، وتكدس تحت أقدامه أكوام من الذهب والزمرد، ويصل إلى قلب البحيرة وسط التهليل والمزامير، وهنا يُقذَف في الماء ويُغسل التبر ويُنثَر الذهب والزمرد في أرجاء البحيرة قربانًا لإله الشمس! ومن ذلك جاءت خرافة الدرادو أو الرجل الذهبي، ويقولون بأن كل ذلك حديث خرافة.

والبلاد من أغنى أقطار الدنيا، لكن دوام الثورات والاضطراب أخَّرَها جدًّا وجعلها من أفقر البلاد، وزاد ذلك عناية الحكَّام بالآداب وإهمال المادة والاقتصاديات؛ إذ يحتقرون الأعمال اليدوية والتجارية كسائر الإسبان، وقد أفادهم فتح قناة بنما؛ إذ قرَّب غلاتهم من الأسواق رغم أنهم ثاروا للفكرة ولاقتطاع منطقة القناة من أملاكهم، والبلاد معروفة بكثرة التماسيح حتى قيل إنك لتستطيع أن تسير أميالًا على ظهورها دون أن تمس الأرض على بعض ضفاف أنهارها!

ولقد لبثَتْ باخرتنا إلى ساعة متأخرة من الليل تحمل منتجاتها من البن والكاكاو وقبعات بنما، وأهم غلاتهم البن وهو أجود من البرازيلي، ويُزرَع بيد صغار الملَّاك غالبًا، وعدد شجيراته بها هائل يبلغ ٥٣١٠١٨٠٠٠، فهي ثانية بلاد العالم إنتاجًا للبن، وتصدِّر ٨٨٪ منه للولايات المتحدة، ويُزرَع على علو ٢٠٠٠–٧٠٠٠ قدم، ومتوسط حمل الشجرة رطل، وأغلى البن ثمنًا في العالم هو من Medallin ويُعرَف باسم Excelso، ويُجنَى في جميع الشهور طول السنة، وهذا ساعد على تنظيم تموين الأسواق وتوزيع عمل المزارع على مدى السنة وسبب التوازن في دخل الفلاح، والحكومة تراقب جودته وتحرم استيراد أية بذرة أجنبية، وتصدِّر في العام ملايين كيس. أبحرنا وسَيْلُ المطر دافِق، ووميض البرق خاطف، ودوي الرعد يصم الآذان.

(٨) إلى قناة بنما

كان حر الليلة الفائتة قاسيًا ممضًّا؛ لذلك لم أنم إلا غرارًا، وكان صباح اليوم مشبعًا بالرطوبة ملبدًا بالغيوم، وبعد تناول الإفطار أنذرتنا عاصفة عاتية بسحابها القاتم الذي أخذ يفد من القارة إلينا، وزاد ظلام الجو فأضحى كأنه الغروب، ثم توالى وميض البرق وعلت قعقعة الرعد وهزيمه الذي ألقى الرعب في قلوبنا، وكانت معنا جمهرة من الصينيين انسلوا جميعًا خائفين إلى مضاجعهم، ثم سحت جفون السماء بوابل لم أعهده من قبلُ، فكأن بحار السماء قد صُبَّتْ على الأرض، ولبثت كذلك طويلًا ولم ينكشف الجو بعض الشيء إلا عصرًا، وفي السادسة مساءً بدت أمامنا بعض الجزائر المنثورة تكسوها الخضرة التي أسفرت عن غابات كثيفة عندما قاربناها ومررنا من بينها وهي تسامت السواحل الجنوبية لبنما، ومن ورائها بدت «بالبوا»، وبنما إلى يميننا بأضوائها المبثوثة هنا وهناك، وغالب البلدة أرض وطيئة ليس بها من المرتفعات إلا تل مخروطي.

figure
الباخرة تشق قناة بنما.

رست الباخرة على أرصفة بالبوا التي سُمِّيت كذلك إحياءً لذكر بالبوا الذي كان أول مَن قطع برزخ بنما وشاهَدَ مياه الباسفيك، هنا تجلَّتِ القدرة الأمريكية في إقامة المدن وحسن تنظيمها، فالمرسى مزوَّد بكل ما تتطلبه السرعة وإسعاف التجارة والأسواق، مخازن شاهقة فسيحة أُقِيمت من الحديد المجزع وزُوِّدت بالإرشادات والعربات الأوتوماتيكية وتخترقها سكة الحديد، وكُتِبت الإرشادات اللازمة في كل مكان لكيلا يضل أحد أو يقع في الخطأ، ولا يُسمَح لغير العمَّال المكلَّفين بالعمل اختراق نطاقها، وفي داخلها تصفُّ البضائع في نظام دقيق وعلى كل لوحة البيانات اللازمة. أما المدينة فقد أدهشني حسنُ نظامها وطرقها الممهدة بالغة النظافة، وبيوتها كلها فلات أنيقة من خشب تغشاها جميعًا شباك السلك الدقيق منعًا للبعوض؛ لأن المنطقة كانت معروفة بأمراضها من قبلُ، وهي تُشعِرك بأنها مسكن طبقة أرستقراطية وفيرة الغنى، ويؤدي منها ترام وعدد من الأتوبيسات إلى بنما عاصمة الجمهورية، وهذه أيضًا حسنة النظام والنظافة، لكنها دون جارتها في ذلك، وبيوتها كلها من الخشب تجانبها الأعمدة لتظل المارة في جوانب الطرق. والبلدة ذات تاريخ قديم؛ إذ أُقِيمت في القرن السابع عشر على أنقاض بلدة قديمة، ولا تزال ترى على بُعْد منها بقايا من الأبنية العتيقة التي كانت معقل قرصان البحر، والبلدتان رغم اختلاطهما هكذا منفصلتان في الإدارة، فالأولى وهي بالبوا داخلة في منطقة القناة، وهي مقر إدارة القناة وهندستها وتحت الحكومة الأمريكية، أما بنما فتابعة لحكومة جمهورية بنما.

أما عن الحياة ليلًا فحدث في دهشة ليس لها حد؛ إسراف في المجون لا يُوصَف، حتى خُيِّلَ إليَّ أن جميع نساء البلدة داعرات يقفن في الطرقات وأمام بيوتهن في كل مكان! ومقاصف الخمر والمراقص تعمُّ البلدة ولا عمل للناس فيها إلا السكر والنساء، وحتى نساء الزنوج تراهن قد غالين في التبختر في المشية والتأنق في الملبس والتبرج في زينة الوجه وطلائه بألوان تؤثِّر في اللون الأسود فتحيله قرنفليًّا، وهنا تجلت الإباحة الأمريكية التي كنتُ أسمع عنها من قبلُ، فهم من الشعوب الذين يستبيحون أن يأتوا في سويعات الفراغ ما يروقهم، ويعطون للنساء من الحرية حدًّا نراه نحن معيبًا. وسكان الإقليم خليط من شعوب عدة جلهم من السود، ثم الإسبان والهنود والصينيين والأمريكيين وأخلاط من كل أولئك، فأنت تدهش لاختلاط الألوان وتغيُّر السحن أينما سرت.

figure
بيوت كولون منثورة وسط الغابات.
قمت مبكرًا لأمتع النظر بمشهد قناة بنما، تلك الأمنية التي طالما حدثت النفس عنها وتمنيتُ لو رأيتها يومًا؛ لأنها تكاد تُعَدُّ من عجائب الدنيا، وهي خير ما أنتجته جبابرة العقول في هذا القرن. أقلعَتِ الباخرة السادسة صباحًا ودخلت بنا خليجًا من الماء كثير الربى، مغضن الشواطئ، يغشاه من العشب والشجر شيء كثير، أخذ الخليج يضيق تدريجًا ثم بدت الأهوسة بعد أن قطعنا ثمانية أميال كلها في مستوى المحيط الباسفيكي، ثم قاربَتِ الباخرة مدخل الهويس، وهو ذو شعبتين منفصلتين متوازيتين، جانب للسفن الذاهبة والآخَر للعائدة، وسعة الهويس لم تزد على عرض الباخرة إلا قليلًا، وهي من البواخر الكبيرة — حمولتها ١٧ ألف طن — وبعد أن أوغلنا فيه أُغلِقت الأبواب الثقيلة المزدوجة التي يناهز وزن بعضها ٧٠٠ طن، وأخذ الماء يزيد من تحتنا فنزيد علوًّا، وذلك كله بالكهرباء أُتوماتيكيًّا، ثم وثقت الباخرة بحبال السلك الثقيلة إلى ثلاثة أزواج من عربات كهربائية، واحدة أمامنا وأخرى وسط السفينة وثالثة خلفها، ومثل هاتيك على الجانب الآخَر، ولما شدت تلك الحبال بها اتَّزَنَتِ الباخرةُ وسط القناة تمامًا، ثم أخذت تلك العربات ويسمونها Mules تتحرك بالكهرباء، وهي تسير على قضبان مسنَّنة ثم علت بنا درجة عن مستوى المحيط، وقد تسلقت ذلك في منحدر وعر بدأ إلى جانبي القناة، ولما انتقلنا إلى الهويس الثاني أعادت الكَرَّة فعلونا مع الماء درجة أخرى، ثم جرتنا العربات خارج الأهوسة وتركتنا في بحيرة صغيرة امتدادها ميل عبرناه إلى هويسين آخَرين علونا في مياههما بالنظام السابق إلى مستوى بحيرة جاتون.
هنا دخلنا قناة ضيقة ليست بذات شقين، ملتوية السير، جوانبها صخرية سوداء من بازلت بركاني مخيف، وتمتد من ورائها الربى والوهاد تكسى جميعًا بالغابات العذراء التي لا تكاد ترى بها من المساكن إلا بعض أكواخ نادرة، لكنها تغصُّ بالحياة الحيوانية وبخاصة الطيور الملونة البديعة، والزهور البرية كانت تتلألأ في كل الأنحاء، وذاك الجزء الصخري قد قدت القناة وسطه إلى امتداد ثمانية أميال ويسمونه Cut، ثم انفسح شيئًا فشيئًا فأضحى بحيرة عظيمة الاتساع، ولبثنا نسير فيها ٢٤ ميلًا إلا قليلًا، وتلك بحيرة جاتون الصناعية نشأت لما أن عمد المهندسون إلى نهر شاجرس Chagres الذي يستمد ماءه من المرتفعات قرب الباسفيك ويجري إلى المحيط الأطلنطي، فأقاموا في وجهه سدًّا حبس ماءه فعلًا وغمر تلك المساحة الكبيرة، فكان خزان جاتون هذا يحجز ٥٠٠ مليار جالون، فهو بذلك أكبر خزان في الدنيا، ويفوق طاقة خزان أسوان عندنا.

أما عن جمال الطبيعة على جوانب تلك البحيرة ومساربها العدة، فذاك ما لا يستطيع قلمي الكليل الإفصاح عنه، وقد مررنا بعدة نهيرات صغيرة تصب فيها من جميع جوانبها ومن بينها نهر شاجرس نفسه، وكان لبعضها مساقط جميلة، وكانت محطة توليد الكهرباء تقوم إلى يسارنا على بحيرة جاتون عند السد، وتلك القوة الهائلة تستمد من انحدار مياه البحيرة، والمنطقة مزوَّدَة بشباك من المصابيح في صفوف أنيقة، وعند نهاية البحيرة أبصرنا بالسد الذي أُقِيم فحبس ماء النهر، ومستوى البحيرة فوق مستوى البحرين بنحو ٨٥ قدمًا، وتلك هي المسافة التي علوناها بالأهوسة السالفة الذكر، ولولا إحداث تلك البحيرة لاضطر المهندسون إلى حفر هذا الجزء الطويل — ٣٢ ميلًا تقريبًا — بقدر علونا عن البحر. ثم ظهرت أهوسة جاتون الثلاثة الواحد دون الآخَر، وقد اخترقناها ونحن ننزل من المستوى المرتفع إلى مستوى أدنى منه، وكانت تجرنا العربات على النظام السالف وتنزل بنا درجة بعد درجة حتى خرجنا إلى قناة متسعة أدَّتْ بنا إلى مدينتَيْ كرستوبال وكولون، رسونا على أرصفة كرستوبال منتصف الساعة الثانية مساء، أعني أنَّا اخترقنا القناة كلها — زهاء خمسين ميلًا — في سبع ساعات ونصف؛ إذ لا يمكن السير بسرعة أكثر من هاتيك، لكنَّا بتلك السرعة البطيئة انتقلنا من المحيط الباسفيكي إلى المحيط الأطلنطي، ولقد كادت تساوي تجارة تلك القناة أهمية قناة السويس؛ إذ مرَّ بها سنة ١٩٣٣، ٤٤٩٤ سفينة حمولتها فوق ١٨ مليون طن، وفي سنة ١٩٣٠ كانت ٣٠ مليون طن.

نزلنا البلدة فإذا بها شبيهة بشقيقتها على الجانب الباسفيكي؛ أرض ممدودة وشوارع نظيفة ونظام أمريكي متقن، وهي تحت الإدارة الأمريكية تدخل في منطقة القناة وتتصل بأختها كولون الخاضعة لحكومة بنما، فلا يدرك المرء فواصل بينهما، والأبنية كلها بالخشب من طبقتين تميِّزها الأعمدة الكبيرة، ويشق البلدة شارع رئيسي أُقِيم وسطه وعلى طول امتداده متنزه بديع فسيح يبدأ عند البحر، وهنا يقوم تمثال كولومب وقد كُتِب عليه «الخالد الذكر كاشف العالم الجديد»، وبعده تمثال نصفي لفردناند دلسبس مبتكر فكرة القناة، وبعده تمثال بوليفار نصير الحرية في أمريكا الجنوبية ثم تماثيل أخرى.

أما عن الأهلين واختلاف صنوفهم وعن المجون أثناء الليل فذاك يكاد يفوق بنما، وتلك البلاد محط رحال العابرين من المسافرين بين المحيطين، وكلهم يتمنَّون لو تمكث الباخرة التي تقلهم هناك طويلًا، واسم هاتين المدينتين اختير لتخليد ذكر كاشف أمريكا فاسمه بالإسبانية «كرستوبال كولون»، ولقد كانت بنما أكثر بلاد الأرض وباءً لكنها استحالَتِ اليوم إلى مزار صحي، فبمجرد امتلاك أمريكا لها أعلنت حربًا شعواء على البعوض واستؤصل الوباء الأصفر والملاريا، وقد باعت الشركة الفرنسية أنقاضها بنحو ٤٠ مليون ريال، ولما طلبَتِ الولايات المتحدة التصريح بالإشراف على منطقة القناة بعد إتمامها، تلكَّأَتْ حكومة كولمبيا وعارَضَ بعض رجالها، فثارت بنما طالبة الاستقلال فأيَّدَتْها الولايات المتحدة واعترفت بها سنة ١٩٠٣، وأخذت ملكية منطقة القناة وبدأت حربها ضد الأوبئة والبعوض، ثم جاءت فكرة: هل تشق القناة إلى مستوى البحر كما كان رأي دلسبس أو تنفذ بطريقة الأهوسة المرتفعة؟ فأرسلت الحكومة بعثة من ثلاثة عشر مهندسًا، فقرَّرَ ثمانية منهم حفرها مثل قناة السويس، لكن تقرير الأقلية هو الذي راق الولايات المتحدة واستلزَمَ ذلك ثلاثة أشياء: الأهوسة الضخمة، وحفر تسعة أميال في صميم الصخر، وخلق بحيرة على علوِّ ٨٥ قدمًا.

وكان الجميع يخشَون فيضان نهر شاجرس الذي ارتفَعَ مرة ٢٥ قدمًا، في يوم واحد، وبما أنه يقطع القناة أضحى خطرًا عليها؛ لذلك رُؤِيَ ضرورة عمل بحيرة جاتون الهائلة ليصبَّ فيها ماءه الكثير، وقُدِّرَتِ النفقات كلها — أمريكية وفرنسية — بنحو ١٤٠ مليون جنيه، نصيب أمريكا منها ٨٠ مليونًا تقريبًا، وقيل إن الردم الذي استُخرِجَ منها يملأ عربات سعة الواحدة عشرون ياردة مكعبة، يمكن صفها في قطار يطوق الأرض حول خط الاستواء ثلاث مرات ونصف! ولقد انتصر روزفلت على معارضي فكرته في فتح القناة، وهي وإن كانت قد فصلت أمريكتين عن بعضهما بالماء إلا أنها وصلتهما من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية، هذا ويقوم اليوم في مدينة بنما معهد لدراسة أمراض المناطق الحارة اختفى بفضله الوباء الأصفر، وكادت تختفي الملاريا.

قمنا نبرح كولون الساعة العاشرة مساءً، وفي الصباح أيقظنا تمايُلُ الباخرة وترنُّحها وسط مياه هوج وأمواج عاتية ورياح شمالية شرقية عاصفة لا يكاد يستطيع الواحد الوقوف أمامها، وقد أخذ اضطراب الباخرة يشتد وحركاتها تتعثر وسط تلك التيارات المتناقضة من دونها، وهنا لأول مرة شعرت بارتباك معدتي ودوار رأسي بعد أن كنتُ قد وثقت بأني أوتيت شيئًا من المناعة ضد مرض البحر، ولم يكن ذاك بمستغرب إذ كنَّا نخترق البحر الكاريبي الذي عُرِف منذ القِدَم بتياراته الغدارة ورياحه العاصفة وزوابعه المدمرة؛ فهو معقل الهركين hurricanes التي لا يكاد يخلو جوه منها، وبخاصة في هذا الموسم، وقد باغتتنا عاصفة من هاتيك ظهرًا فاكفهرت السماء ودارت الأهواء من حولنا، وعلا ماء البحر حتى كاد يغرقنا رشاشه، وكنَّا نرى بقاعًا من البحر علا ماؤها في السماء فاتصل بالسحب في شبه مدخنة مخيفة، وقد لعب البحر إذ ذاك بنا وبباخرتنا — رغم كبرها وعظيم حمولتها — حتى لم نستطع الوقوف، بل كنَّا نشهد منظر البحر من كوى حجراتنا المغلقة، وظلت العاصفة زهاء ساعتين في شدتها ثم تقشعت، أما اضطراب البحر فظلَّ إلى اليوم التالي، ولكي أتقي منغصاته آويت إلى مضجعي اليوم كله.

ظل البحر في اليوم التالي مضطربًا كعادته إلى الظهر حين بدت بعض جزر الهند الغربية الصغيرة، بعضها إلى اليمين والبعض إلى اليسار، وبمجرد اجتيازها انتقلنا إلى بحر هادئ وعادت السفينة إلى اتزانها مما أيَّد لدينا عنف البحر الكاريبي الشديد إذا قارناه بالمحيطين الأطلنطي والهادي، ويُخَيَّل إليَّ أن الباسفيك أهدأ البحار التي اخترقتها فاسمه خير دليل عليه. وهنا ذكرت ماجلان الذي توَّجَه بهذا الاسم «الهادي» بعدما قاسى مرارة الأطلنطي الجنوبي ومضيق ماجلان؛ لأنه قد انتقل إلى بحرٍ ماؤه ساكن ونسيمه عليل. وفي الخامسة مساءً كنا بين الجزيرتين: كوبا إلى يسارنا، وهايتي إلى يميننا، ظهرتا كالحوائط الصخرية الشاهقة تكسوها الخضرة الجميلة.

ظلَّ البحر هادئًا عميق الزرقة، على أني لاحظتُ أننا كلما تقدمنا شمالًا زاد جو البحر دفئًا، مع أنَّا كنَّا نبعد عن خط الاستواء، وذلك من أثر تيار الخليج الدافئ الذي يدفع المياه الاستوائية إلى الشمال فيدفئ الهواء الذي يمر عليه، وكانت تطفو في تلك المياه قطع منثورة من عشب مصفر ذي درنات صغيرة متجاورة كأنها عراجين العنب الصغير «عنب الديب»، وتلك من خصائص المياه الدفيئة خصوصًا في ممر تيار الخليج، ويدهش المرء للفرق بين برودة الماء وهواء البحر على الشاطئ الغربي في مجاورة بيرو وإكوادور في الباسفيك رغم قربهما من خط الاستواء، ودفء الماء وهوائه هنا رغم بعده عن مدار السرطان شمالًا، وذلك يؤيِّد فضل تيار هامبولت Hamboldt أو تيار بيرو الذي يندفع بمياهه من المحيط المتجمد الجنوبي إلى تلك الشواطئ الاستوائية فيلطفها. وقد ظلَّ الحر شديدًا طيلة اليوم التالي، وفي صباح الاثنين كانت السماء ملبدة بالغيوم، وشعرنا كأننا انتقلنا إلى منطقة أخرى تناقِض الأولى مناقَضَةً تامة؛ إذ اشتدَّ البرد فحاكَى أيام الشتاء تمامًا فكأنا خرجنا عن نطاق تيار الخليج؛ إذ لم نشعر بدفء في الهواء قطُّ.

(٩) إلى الولايات المتحدة بلاد العجائب

أخذنا نترقب إلى ساعة متأخرة من ليل أمس أضواء نيويورك، وحوالي العاشرة مساءً بَدَا خط من نور عند الأفق، فقيل لنا هي أضواء نيوجرسي، ثم دخلنا بين صفين من الضوء، إلى اليمين مجموعة من جزائر أقربها إلينا كوني جزيرة الملاهي الشهيرة، وبها لونا بارك أمريكا ذائع الصيت، وهنا وافانا «البيلوت»، ولبثنا نسير فنلقى وسط الماء محاطَّ ثابتة بأضوائها المتوهجة لرسو زوارق الخفارة والمرشدين، وأخذت أضواء «الشمندورات» مختلفة الألوان تدور حول نفسها وتدق أجراسًا لتنبه السفن إنْ غمَّ عليها بسبب الضباب، ثم بدت إلى اليسار أضواء نيويورك المتوهجة، ووقفنا وسط الماء ننتظر إلى الصباح. آويتُ إلى غرفتي وقد عاودتني الوساوس، وأوجست خيفة الكشف الطبي في الصباح، فتخيلتُ أنهم سيرفضونني بسبب «التراكوما» وعندئذٍ تفلت مني فرصة غالية هي رؤية نيويورك؛ لذلك لم أكد أنام ليلتي قطُّ. وفي باكورة الصباح وفد الغلام يتعجلنا إلى موافاة الطبيب، فقمت فزعًا وإذا بالأمر سهل؛ إذ استعرضنا الطبيب بظرفه ونحن وقوف، ولم يلق حتى مجرد نظرة على عيوننا فكدتُ أطير فرحًا، ثم أعقبه رجال المهاجرة ولم يقلوا ظرفًا عنه، ثم تقدَّمت بنا الباخرة إلى الميناء فتجلَّتْ ناطحات الساحب في لون قاتم؛ إذ كان يغشى الجو الضباب، وبدأنا نسمع ضوضاء المدينة وسط ضبابها المتصاعد.

حللنا الجمرك وكان التفتيش في سهولة لم أعهدها وسرعة مدهشة؛ وذلك بفضل الدقة الشديدة وحسن النظام في توزيع الأعمال في تلك البلاد المثالية. حللتُ نُزُل Endicott في شارع «٨١»، وهو قصر فاخر في ثمانية أدوار، لكنه رغم ذلك يبدو قزمًا متواضعًا إزاء ما بجانبه من ناطحات، هنا زُوِّدْتُ بالخرائط والمطبوعات عن البلدة وما فيها، وهي عادة كل الأنزال في تلك البلاد الغنية الشاسعة، وناقشتُ أدلة النُّزُل وهم كثيرون يقفون رهن إشارة الضيف في كل وقت ليلًا ونهارًا، وقد ظهر لي أن تخطيط المدينة يسهل تعرفه؛ فهو في طرق متوازية منمرة بالترتيب إلى ما يقرب من الثلثمائة، وتمتد من الشرق إلى الغرب، وتتعامد عليها طرق أفسح منها يسمونها Avenues. نزلت أجوب بعض جهاتها فأذهلتني ضخامتها وشديد ضوضائها وفخامتها؛ السيارات تكاد تسد الطرق سدًّا في جميع الأوقات، والمارة يتلاصقون فوق إطارات الطرق وهم سائرون في عجلة مدهشة، ووسائل النقل متعددة أخصها القطار المرتفع Elevators، ويشق أغلب المدينة، وهو قائم على شباك من حديد غليظ، ويسير قطار إلى اليمين وآخَر إلى اليسار وثالث في الوسط وهو السريع «إكسبريس»، وله محاطه المختلفة التي يصعد المرء لها درجًا هائلًا، ويوازي سيره عادة الطابق الثالث من المباني، ثم نوع آخَر يسير في شباك تحت الأرض Subway وسرعته مخيفة تفوق الوصف، لذلك يفضله رجال الأعمال عن غيره، ثم ترام الطريق العادي، ثم الأوتوبيس مختلف الأشكال والأنواع، أما عن نظام سير هاتيك فحدِّثْ: دقة تفوق الوصف، وعناية براحة الجمهور يُغبَط القوم عليها.
وأنت لا تبتاع تذكرةً للدخول لأن الوقت ثمين والتزاحم شديد، لكن ألْقِ بالقرش nickel في صناديق الأبواب الممدودة أمامك وادفع الحاجز يَدُرْ بك إلى مكان القطار، ومتى وقف القطار فُتِحت أبوابه أتوماتيكيًّا، ثم دُقَّ الجرس فأُغلِقت وقام ينهب الأرض أو الجو نهبًا، ورغم تلك الوسائل فإن سيارات «التاكسي» تسد الطرق سدًّا، تعلوها أقواس من نور، وقد زُوِّدَتْ بجهاز للراديو تسمعه وأنت مسرع إلى عملك.
بدأت بركوب اﻟ elevator من جانب إلى آخَر للمدينة؛ ولا أكون مغاليًا إن قلتُ بأني لبثتُ جلَّ الطريق ذاهلًا من عظمة ما أرى، وكنتُ كلما أفقتُ أقول: يا لقدرة الإنسان الجبَّار! هل بلغ الرقي والنهوض به إلى هذا المستوى؟ كل شيء حولي عظيم يمثِّل ثراء العقل والمال؛ عمائر تطاوِل السماء علوًّا، كنتُ أقف إلى جانب الواحدة منها وأطوح بنظري إلى السماء فينقطع مدى النظر، وأحس دوارًا في رأسي، فهي حقًّا للسحاب نواطح، ثم لبَّيْتُ دعوة الأستاذ Prof North زميل الباخرة؛ إذ تناولت طعام الغداء معه برفقة جمع من الأساتذة وسيداتهم، ثم قصدت معهم إلى زيارة نادي الكاشفين Discoverers Club الهائل، يضم آلافًا من كبار الكاشفين، وبه مجموعة قيمة من الهدايا من مختلف بلاد الأرض وبخاصة من الشعوب المتوحشة، من جلود وأسلحة وأدوات وملابس، وكلما آبَ أحدهم من رحلته عاوَنَه النادي على طبع مذكراته، وإلقاء محاضراته وتسجيلها، وكثيرًا ما يسعى في تزويدهم بالتوصيات والمعاونات المالية، فقلت في نفسي: أَلَمْ يَحِن الوقت بعدُ أن تأتي بلادنا الغالية مثل ذلك، فتشجع بذلك الكشف، ويصبح اسم مصر علمًا في الخارج؟
ولو نظرت إلى خريطة نيويورك بدت أمامك شبه مستطيل من الشمال إلى الجنوب، وينتهي طرفه الجنوبي بشكل هرم أو مثلث، وإلى يمين ذلك النهر الشرقي EastR، وإلى يساره نهر هدسن. ونظام المباني في كتل تفصلها شوارع متوازية ومتعامدة، ويقسم تلك الشوارع الممتدة من الشرق إلى الغرب Fifth Avenue في وسطها إلى شطرين: شرقية وغربية، وتُعرَف تلك الشوارع بنمرها المسلسلة، إلا في أقصى جنوب المدينة حيث يلتقي النهران، فإن المباني والطرق تصبح مكتظة في غير نظام، وهنا المركز المالي لنيويورك، ثم من الأبنية الضخمة وناطحات السحاب الكثير، ونراها شاخصة شامخة إذا أقبلتَ على المدينة من البحر، وهنا بدأت نيويورك القديمة، ولقد بحثتُ عن مخلفات الماضي في أبنيتها وطرقها فلم أعثر على شيء؛ إذ قد استحالت كلها إلى عمائر مخيفة ومراسي للسفن تراها مرصوصة على حافة النهرين وبخاصة هدسون في ضخامة وحسن نظام، وتلك الجهة كلها يُطلِقون عليها down town وأنت طوال الطريق تسمع down town وup town وكذلك East وWest.
جبتُ كل ذلك في أقلَّ من يوم بفضل سهولة وسائل النقل وسرعتها وتعدُّدها، وخير ما يميز نيويورك: ناطحات السحاب، وتلك في ظني تمثِّل العظمة والضخامة والغنى، لكن يعوزها شيء كثير من الجمال والفن؛ إذ تراها كتلًا غير متساوية العلو ومختلفة الهندسة تشمخ إلى السماء بلونها الأغبر الذي أكسبها إياه تزاحمُ البلد وكثرةُ مصانعه، وما يصعد من هباء ودخان، وقد أَرْخَتْ تلك النواطح على الطرق حجابًا من ظلماتها فبدت قاتمة وكادت تحرم ضوء الشمس، وتبدو الطرق بينها مختنقة رغم اتساعها العظيم. ولقد حاولت مرارًا أخذ صور فُتوغرافية لبعض تلك الطرق الهائلة فكان يعوزها الضوء في منتصف النهار، إلى ذلك فإن تلاصق السيارات وحركة المارة كانت تسد المنظر أمامي؛ لذلك فأنت ترى غالب الصور تُؤخَذ من علٍ. صعدت بعض تلك النواطح، وأروعها: The Empire State وركفلر، والأول أعلاها وأحدثها، أدواره إلى القمة مائة واثنان، وعلوُّه ١٢٤٦ قدمًا أي ما يقرب من أربعمائة متر، وجزؤه الأسفل يشغل مساحة هائلة من الأرض، وكلما علا عشرات الطوابق ضاقت مساحته وتقاربت جدرانه، وتلك هي العادة في غالب تلك النواطح حتى ليبدو شكل بعضها هرميًّا، وقد قدرت مساحة مسطح أدواره كلها بثلاثة وستين فدانًا، وجدران ذاك البناء تكسوها طبقة براقة من شبه مرمر أو رخام قاتم اللون، تربط ما بين قطعها صفائح من معدن أبيض برَّاق كأنه الألمنيوم يمتد مع الأحجار إلى ذروة البناء فيُكسِبه بريقًا جذَّابًا. دخلت الطابق الأسفل فأذهلتني كثرة الإسراف في زخرفه، يبطن بالأحجار الصقيلة الملونة البراقة، وأرضه يكسوها الرخام يحده النحاس الأصفر الجميل، وهنا أخذت أطوف بالمكان أستعرض ما فيه من متاجرَ وسلعٍ، ولما أعياني السير قصدتُ إلى الروافع لتقلَّني إلى أعلاه، فدفعت ريالًا أجرًا لذلك، وتلك ضريبة تدرُّ أرباحًا طائلة؛ إذ سيل الصاعدين لا ينقطع صباح مساء، ومن تلك الروافع العشرات يكتب بالنور على كل واحد منها الأدوار التي يصل إليها، وبعضها سريع لا يقف إلا كل عشرة أدوار مثلًا، والبعض بطيء يقف في فترات أقصر من هاتيك، وفي نهايتها روافع سريعة حملتنا إلى الذروة في سرعة مخيفة، وهناك خرجنا إلى أبهاء القمة وفيها من المقاهي والمقاعد ما يشتهي الإنسان المقام فيها طويلًا.

هنا بدت نيويورك كأنها خريطة اليد ترى طرقها ونواحيها وأنهارها في جلاء تام. أما عن جمال المناظر فذاك ما لا أستطيع وصفه، جلست طويلًا أطوح النظر يمنة ويسرة والعقل حائر في تلك القدرة المالية التي مكَّنَتْ أولئك من إقامة تلك الشوامخ؛ فقد قيل لي إن ذاك البناء كلَّف أربعين مليون ريال، أي ثمانية ملايين من الجنيهات، ويملأ الصلب الذي استُخدِمَ في بنائه قطارًا طوله أحد عشر ميلًا، ويتعمق أساس البناء في الأرض بين ثمانين ومائة متر، وكنتُ أسائل النفس: هل يربح أولئك من وراء إيقاف تلك المبالغ الطائلة كثيرًا؟! لكن الأجور في تلك المنازل باهظة؛ إذ يشغلها عادة رجال الأعمال للتجارة، ويندر أن تكون للسكنى، ويقدرون إيجار القدم المربعة الواحدة بخمسة ريالات في العام؛ أعني أن الغرفة التي تبلغ مساحتها مائة قدم يدفع فيها مستأجروها مائة جنيه في العام؛ أي زهاء ثمانية جنيهات في الشهر، ويناهز مجموع سكان البيت ٢٥ ألف نفس، فكأنه بلدة كاملة.

قصدت إلى بناء ركفلر، ولا يسمونه بناء بل مدينة ركفلر أو Radio City؛ لأنها عدة نواطح متجاورة تشغل قسمًا كبيرًا من ذاك الحي المكتظ، والبناء الأوسط يعلو في السماء سبعين طابقًا، دفعتُ ريالًا ثم رفعني «اللفت» إلى الطابق الستين، وهناك طفنا بشرفات البناء، ثم أقَلَّنَا رافِعٌ آخَر تسعة أدوار أخرى إلى مقهى بديع يؤدي منه سلم إلى الطابق السبعين وهو الأخير، وقد صُفَّتْ به المقاعد في مدرجات جلسنا وسطها، وعالَم نيويورك يُرَى كمملكة النمل من دوننا. وفي جانب من بناء ركفلر محطة الإذاعة اللاسلكية في حجرات لا حصرَ لها، تدخل الواحدةَ فلا ترى بها من الأجهزة شيئًا، اللهم إلا أزرارًا كهربائية تديرها فتسمع العالم كله متنقِّلًا من غرفةٍ لأخرى، وترى جوقات الإذاعة كل طائفة في غرفة خاصة، ومن الغرف ما يُسمِعك كل أولئك مجتمعين أو متفرقين.
وفي الليل تُسلَّط على تلك الناطحات أضواء قوية تُكسِبها رونقًا جميلًا، وما إنْ أقبل الليل حتى كادت تلتهب المدينة ضوءًا، وبخاصة في تلك المنطقة المتوسطة من البلدة على مقربة من أبنية روكفلر والطرق المؤدية بينها وبين برودواي Broad way، وهو الطريق الوحيد الذي يسير معوجًّا فيقطع الشوارع الأخرى شرقية وغربية، ويمتد من أقصى المدينة إلى أقصاها. وهنا تقوم غالب دور الملاهي، وفي الطابق الأسفل لبناء روكفلر ملهى Radio City أفخر ملاهي نيويورك بل والعالم، دخلته خلال أبهاء وممار تُكسَى بأفخر البُسُط وتُبطَّن جدرانُها بالمرمر أحيط بالنحاس البراق، وزُيِّنَتِ السقوفُ بثريات تخطف البصر بضوئها وجمال تنسيقها، والدار من داخلها أبدع وأروع، المقاعد مُدَّتْ في دوائرَ لا يكاد يحصرها النظر لكثرتها، وقد كستها «القطيفة» الحمراء الثقيلة، والأرض بالبُسُط الوثيرة، وأمامنا قام المسرح الهائل، والألعاب تعرض هناك بدون انقطاعٍ ليلًا ونهارًا، يحضرها الواحد متى شاء ويظل حتى إذا انتهى «البُرُجْرَام» وبدأ من جديدٍ، يبرح المكان حسب رغبته، ومتوسط الأجر ريال على أنَّ القيمة في المساء أعلى منها في النهار.
والبرجرام يشتمل على رواية سينمائية متكلمة، ثم تنفتح أبواب وتُرخَى أستار وتُرفَع أخرى، فترى فرقة موسيقية يفوق أفرادها المائة يعزفون على مختلف الآلات الوترية إلى جانب النحاس إلى جانب «الفلوت»، يعزفون تارةً مرةً واحدةً وتارة طوائف، وبعد الانتهاء يهوي المسرح كله بهم فيختفون دفعة واحدة، ثم تلا ذلك Cocktail وهو رقص من شبه عرايا تحوطهن أجنحة من حريرٍ يأتين من الحركات ما يدل على مهارة نادرة، ثم دور العشاء Dinner، واشتمل على تمثيل وليمة إسبانية لتناول العشاء بما أحاطها من رقص ومراسيمَ، وكان المدعوُّون يظهرون في ثياب فاخرة، وقد قصدوا بعد الطعام نادي المساء Nite club ليمثلوا حياة الأندية، وبعد ساعتين ونصف بدأت القصة كلها من جديد، كنتُ أرى تزاحم القوم مدهشًا رغم اتساع المكان؛ إذ وسع ٦٢٠٠ كرسي، والناس وافدون وآخَرون منصرفون في كل دقيقة بدون انقطاع.

خرجتُ أتجول في تلك النواحي ليلًا فكانت دور الملاهي الأخرى غاصة بالجماهير، وكلها في فخامة وزخرف لا يكاد يصدِّقه العقل، أما الأضواء التي تحوطها فتكاد تكسو جدران الشوارع كلها، والأمريكيون معروفون بالإسراف في وسائل الإعلان إلى حدٍّ لا يُبارَى. كنتُ أنظر فأرى مياهًا تتدفق، وأناسًا تجري وتلعب، وحيوانات تتحرك، ومخطوطات تتتابع، كلُّ ذلك من النور المتوهِّج في ألوان متغيرة من لحظة لأخرى، ويظل ذلك الليل كله والحركة لا تنقطع، ودور المقاهي والمطاعم مفتحة، وبعض المتاجر كذلك تظل الليل كله ولا تغلق أبوابها، وبخاصة عند تقاطع «برودواي بشارع ٤٢»، وتُسمَّى تلك البقعة «الطريق الأبيض العظيم»، إذا نظرتها من ذروة إحدى الناطحات شابَهَتْ حفرةً مشتعلة النيران متلونة، ومنظر الناطحات كأنه مساكن أهل المغائر بثقوبها المنيرة ليلًا، على أني لم ألحظ من المجون وابتذال النساء ما لاحظته في البلدان الأخرى، وإني أعزو ذلك إلى الإباحة الشديدة والحرية المطلقة التي تتمتع بها السيدة هناك، مما لم تجد ضرورة معها إلى سلوك ذاك المسلك المبتذل.

ومن الناطحات الجميلة التي تفقَّدْتُها «كريسلر» بطبقاته السبع والسبعين، وسكانه البالغين خمسة عشر ألفًا، وبناء «وولورث» وهو أجملها، أُقِيم على النسق القوطي في ستين دورًا، وأهله ١٢ ألفًا، ومولِّد الكهرباء به يكفي لتموين مدينة أهلها خمسون ألفًا، وبعض روافع تلك الناطحات مزدوج، أي إنه بدورين فيقف على دورين من البناء مرةً واحدةً، ويهولك في تلك البلاد أمر العجلة التي تلحظها أينما حللْتَ؛ الناس يسيرون مسرعين، فإن سألتَ أحدهم شيئًا أجابك ولكن في غير وقوف، فهو يكلِّمك وقدماه تسرعان في السير فتضطر أن تتابعه خطاك، ولا تكاد ترى منهم متسكعًا؛ فالوقت لديهم ثمين حتى في سويعات اللهو، والمقاهي جلها لا تزودك بالمقاعد بل تشرب ما تريد وأنت واقف إلى جوار «البنك»، وكذلك المطاعم فجلُّها من هذا النوع، وكثير منها أوتوماتيكي، تُلقِي بقطع النقود في الصندوق فتأكل ما تريد، وأنت ترى صناديق في المحاط ورءوس الطرق لبيع المأكولات والحلوى وأوراق البريد ولعب الأطفال على ذاك النظام الأوتوماتيكي، دون صاحب أو رقيب يقف إلى جوارها، وتلك المطاعم عديدة لا حصر لها وتجدها في جميع الطرق أينما سرتَ، والطعام فيها جيد ورخيص، فالوجبة بين ٤٠ و٥٠ سنتًا، أي ٨ و١٠ قروش.

ويصل نيويورك بالجزائر المجاورة مجموعة من قناطرَ هائلةٍ، عبرتُ منها اثنتين: «مانهاتان» أغلاها كلفًا؛ إذ كلفت ٣١ مليون ريال، و«بروكلن» أضخمها، وتؤديان إلى جزيرة بروكلن، وتلك الجزيرة «مانهاتان» باعها الهنود سنة ١٦٢٦ بأربعة وعشرين ريالًا، فأصبح ثمنها اليوم مليارين، والقدم تباع في أرضها بمائتين إلى ستمائة ريال، وتلك القنطرة أدهشتني بضخامتها واتساعها وشاهق علوِّها، وهي مع هذا معلقة على شباكٍ من حديدٍ وأسطوانات قد يفوق قطرها الذراع، وبها طريق للسيارات يليه آخَر للترام ثم ثالث للإلفيتر، هذا إلى اليمين ومثل هذه إلى اليسار، والطريق المتوسط للمارة على الأقدام، وهو أعلى مستوى من الطرق السالفة، ومنظر نيويورك وناطحاتها — وبخاصة القسم المالي — من فوق تلك القنطرة رائع.

وبالمدينة مجموعة لا تُحصَى من معارضَ ومتاحفَ، زرتُ من بينها: متحف الأحياء المائية Aquarium، في هندسته المستديرة يطل على الميناء، وقد كان من قبلُ حصنًا وبه من أنواع السمك والطيور والزواحف المائية شيء لا يُحصَى، وأعجبه السمك الكهربائي Electric fish يشبه حوت النيل الأغبر اللون، لكن له شبه مروحة تحت جسمه يروِّح بها إذا تحرَّك، وطوله ثمان أقدام، ويستطيع أن يُحدِث هزة كهربائية تصرع حصانًا قويًّا، وموطنه الأمزون والأورينكو؛ ثم سمك الراي Ray كالمروحة المستديرة الرخوة، وله ذنب طويل كأنه الشوكة إذا ضرب بها أحدًا آذاه، وجلْدُه يُضرَب بمتانته المثل، وقد تتخذ منه المبارد؛ ثم السمك الذهبي Gold fish بلونه الأصفر وأهدابه الرقيقة كأنها الحرير الأبيض؛ ثم سمك nagel ترى الواحدة «كالبلطي» الكبير لكنها هزيلة تكاد تبدو عظامها كلها، وعيونها كالعنب الأسود الغليظ؛ ثم السمك ذو الرئة Lung fish أسمر كالثعبان يقطن الأمزون وبرجواي، وعند الجفاف يأوي إلى الوحل والطين بعد أن يحوط نفسه بغشاء مخاطي من إفرازه؛ ثم سمك الزبرا Zebra fish مخطط كأنه حمار الوحش، وله شوك بدل الزعانف كأنه القنفذ الكبير؛ ثم سمك الخيط Thread fish وله خيوط دقيقة بالغة الطول. ومن الطيور المائية الغريبة البنجوين القطبي رزين المشية بطيء الحركات، يُومِئ كأنه الإنسان الناطق.

وقد زرتُ متحف التاريخ الطبيعي، وهو يكاد يفوق متحف لندن في أبهته وثروة محتوياته، تُعَدُّ به أبهاء للدراسة ومعامل وافية للبحث، ولمَن شاء من المدارس أن يذهب بطلبته ويستعرض ما يريد كأنه في مدرسته، ولعل أغنى ما به المجموعة الحيوانية وبقايا الإنسان القديم وتطوُّره، تعرض في هياكلها مدرجة العصور، كذلك الحيوان البائد في مختلف العصور، تليها المجموعة النباتية، ثم الصخور المختلفة، وهناك قسم كامل تُعرَض به الأحجار الكريمة، والمدهش أنها كلها من إهداء بعض رجالاتهم، وغالب محتويات متاحفهم مهداةً من هواة الباحثين وكبار العلماء، وهناك غرفة مظلمة بها أجهزة للمجموعة الشمسية والنجوم، ومنها ترى حركات الأرض والقمر والكسوف والخسوف في جلاءٍ تامٍّ.

ثم قصدتُ متحف الفن العالمي Metropolitan Museum of Art، وبه مخلفات العصور والمدنيات جميعًا من آثار قديمة وأسلحة ومنتجات فنية صناعية، ومن أظهرها القسم المصري القديم، وقد خُصِّصَ له خمس عشرة غرفة من بينها مجموعة تماثيل للملكة حتشبسوت تظهرها في جمالٍ فاتنٍ، ثم غرفة كاملة للحلي من ذهب وفضة وأحجار كريمة ومرايا من فضة على حوامل خشبية كُسِيت بالذهب، ولا تقل في طلاء وجهها عن مرايا الزجاج الحالية (الأسرة ١٨)، ثم غرفة خاصة بمجموعة كرنرفون، وأمام المتحف تقوم إحدى المسلات المصرية من الجرانيت، كانت تقوم أمام معبد الشمس بهليوبولس ونُقِلت إلى أمريكا ويسمونها Cleopatras’ Needle، لكن كثيرًا من نقوشها الهروغليفية كادت تمحوها تقلبات الجو وكثرة الأمطار في نيويورك. أما أبنية المتاحف فتهول الزائر بضخامتها وعظيم بنيانها، وبالمتحف قسم كبير للتصوير تُعرَض به تحف لجميع رجال الفن قديمًا وحديثًا.
وفي الطرف الشمالي للمدينة متنزه برنكس Bronx Park الهائل الذي يحكي الغابة المغلقة كثيفة الشجر، تشقها الطرق للمارة وللسيارات، وفي جانب منه حديقة الحيوان، دخلتها وتفقدت أغلب مقاصيرها التي أقيمت لكل طائفة من الحيوان في هندسة مختلفة، ومن أعجب ما رأيت من حيوانها الياك Yak الذي يحكي الجاموس الأمريكي «البيسون» إلا في أن رأسه مطأطأ بقرونه إلى الأرض، وأن شعره الأسود الهادل الطويل لا يكسو جسمه كله، بل القسم الأسفل منه ويكاد يلمس الأرض، وهو دابة الحمل الرئيسية في بلاد التبت، ثم كلب الماء beaver، وبالحديقة مجموعة غنية جدًّا من الطيور والقردة، على أني لا أزال أقول بأن حديقة القاهرة أكثر جاذبية وأعظم تنسيقًا وإن كانت مجموعة الحيوان هناك أكثر.

نياجرا

قصدتُ إلى محطة السكة الحديدية لشركة Grand Central أكبر محطة في العالم وأغلى كلفًا، طاقتها ٢٠٠ قطار و٧٠ ألف مسافر في الساعة ومساحتها ٧٠ إيكرًا، بها: ٤٢ خطًّا للإكسبريس و٢٥ لغيره، والمحاط هناك متعددة لتعدُّد الشركات التي تجري قاطراتها في جميع الأنحاء، وكنت قد سمعت بأنها أجمل محاط الدنيا وأغناها بناء، وقفت داخلها وأنا ذاهل من عظمة ما رأيت؛ إسراف شديد في الضخامة والنقش والزخرف والإضاءة، هنا أبهاء للعرض والتذاكر، وهناك ممار تؤدي بك إلى مختلف وسائل النقل من ترام وقطر تحت الأرض وغيرها، وذاك يؤدي بك إلى الاستراحات الوثيرة والمطاعم الفاخرة، كل ذلك من رخام ملون براق، يتوسط البهو الرئيسي قلم الاستعلام يزودك بكل ما تريد قولًا وكتابة؛ إذ ترى أكداس المطبوعات ذوات الصور والجداول والخرائط تأخذ منها ما تشاء بدون مقابل.
ابتعت تذكرة إلى نياجرا ذهابًا وإيابًا مسافة ٤٦١ ميلًا للذهاب ومثلها للإياب وثمنها ريالًا، ثم دخلت القطار، وسكة الحديد في جميع البلاد درجة واحدة هي الدرجة الأولى؛ لكيلا يكون بين الناس تفرقة، وهي وإن شجعت الديمقراطية إلا أن أثمانها غالية إذا قورنت بغيرها في الممالك الأخرى، والعربات فاخرة مزودة بالفرش الوثيرة والمياه المثلجة. وقام بنا القطار صوب الشمال متتبعًا المنخفضات في وادي هدسن الشهير، ثم انعرج بعد الباني Albany عاصمة مقاطعة نيويورك غربًا وراء نهر موهوك، ومناظر الطريق كانت أراضي مموجة تكسوها الأشجار والأعشاب وتتخللها النقائع ومسايل الماء، وغالبها يُرَى مهملًا إلا حيث توجد القرى والمدن حين يزرعها الإنسان بالآلات الحديثة، على أن عدد القرى قليل بالنسبة لسعة تلك الأراضي، وبيوتها فلات خشبية بديعة، أما المدن فكلها هائلة تشعر بالتزاحم والثراء في أبنيتها الضخمة وطرقها الممدودة وحركتها التجارية الناشطة، أما عن المداخن والمصانع المتزاحمة فذاك في كل مكان، ومن المدن الكبيرة المباني سيراكوزا وروشستر مقر كوداك ومصدر أفلامه العالمية.

أخيرًا بعد عشر ساعات أو يزيد دخلنا «بفلو»، وهي من كبريات المدن مظهرها صناعي بحت، وهنا غيَّرنا القطار فسرنا إزاء نهر نياجرا الذي يفوق نيلنا اتساعًا حتى خلته بحيرة إيرى نفسها، وضفافه كلها منسقة الزرع منثورة القرى والمساكن، ومدينة نياجرا نفسها آية في الفن والجمال. هنا أقلتنا سيارة نظير ثلاثة ريالات إلى مناطق الشلال الذي بدا زبده ورذاذه على بُعْدٍ، وأخذنا نقاربه فتستبين جوانبه حتى فوجئنا بمظهره كاملًا فأُرتِجَ علينا وكنَّا جميعًا من السائحين، ولم ينطق أحدنا بكلمة بل لبثنا نرقبه ذاهلين؛ الماء دافق في شدة مروعة، ومسقطه غائر يتقوس الماء فيترك وراءه تجويفًا، دخلناه فكان الماء الهاوي أمامنا، ثم نزلنا إلى قاعدة الشلال وحملتنا إليه باخرة صغيرة، ووقفنا على صخوره المنهارة والماء يساقط أمامنا، وقد أظلنا رذاذه فبلل أجسادنا، وكان دويه يصم الآذان، وللهنود الحق في تسميته نياجرا، وهي كلمة هندية معناها «رعد الماء»، وفي الحق إن مشهده ليأخذ بالألباب، فهو في روعته لا يجاريه غيره في العالم، اللهم إلا شلال فكتوريا على الزمبيزي في أواسط أفريقية، وليس الوصف بمُجْدٍ في إظهار حقيقته؛ فأنت لن تقدِّر عظمته وروعته إلا إذا زرته ومتعت عينيك بمشهده.

figure
شلال نياجرا الرائع.
سارت بنا السيارة على الضفاف الأمريكية للنهر نتفقد جنادله وشطآنه المشرفة، وقد وقفنا عند ضفة Whirlpool التي ينفسح الخانق عندها قليلًا فينفجر الماء ويدور حول نفسه في دوامات مخيفة، ثم يعود بنا إلى اختناقه ويتابع سيره في سرعة مخيفة، والخانق تعبره عدة قناطر معلقة أنيقة عبرنا إحداها إلى حدود كندا، وهناك عرضنا جوازاتنا وكاد الرجل ألا يسمح لي بالدخول؛ خشية ألا تقبلني الولايات المتحدة ثانيةً؛ لأن تأشيرتي الأمريكية كانت تأشيرة مرور لمدة قصيرة فقط، لكني أبقيت جوازي رهينة عنده وجبتُ تلك الضفاف الشعرية في ساعتين، وعدت ثانيةً بعد أن وطئت قدماي جزءًا يسيرًا من أرض كندا، ومشهد الشلال من جانب كندا أروع وأجمل، على أن كلا الشلالين الكندي والأمريكي يراهما الإنسان من كل موضع.
رجعنا ثانيةً إلى جزيرة جوت Goat التي تقف وسط حافة الشلال وتقسمه إلى الجانب الكندي — ويُسمَّى «هورس شو» لمحاكاته لحدوة الحصان، هذا إلى يسارها وإلى اليمين الجانب الأمريكي، وكانت تلك الجزيرة الجميلة التي تكسوها الغابات تُسمَّى من قبلُ جزيرة lris لكثرة أقواس السماء التي تخلفها المياه حولها، وقد سُمِّيَتْ بالاسم الجديد تخليدًا لذكر قسيس راهب حلها وأمضى بها شتاء سنة ١٧٧٠ وسط ثلوجه وقسوته! وتتصل هذه الجزيرة بالشاطئ الأمريكي بقنطرة.
ومن هذا الشلال وخانق نياجرا تنصرف مياه البحيرات العظمى، ذاك البحر الداخلي الذي يشمل نصف المياه العذبة في الدنيا، في مساحة تبلغ ١٥٠ ألف ميل مربع، يمرُّ فائض مائه في نهر نياجرا مسافة ٣٦ ميلًا، ويقع الشلال قبيل نهايته بنحو ١٤ ميلًا، وفي ذاك المدى القصير يهوي الماء ٣٣٦ قدمًا مضطربًا في إرغائه، جميلًا في ألوانه وأقواس السماء التي يخلفها، وكان أول مَن شهده الفرنسي الآب Hennepil سنة ١٦٧٨، ووصفه بأنه أروع مشاهد الطبيعة، وكان قد وفد من كوبك التي كانت عاصمة أمريكا الفرنسية إذ ذاك. ويخرج نهر نياجرا من بحيرة إيري في مجرى فسيحٍ تحفُّه الأشجارُ، وبعد خمسة أميال يهوي إلى متسعٍ قد يبلغ ثمانية أميال، ثم تعترضه مجموعة من جزائر ولا يفتأ بعدُ، يهوي وسط جنادل عدة في دويٍّ مخيفٍ، حتى قيل: إن مشهد تلك الجنادل العليا أروع من مشهد الشلال نفسه. وأخيرًا يصل مسقط نياجرا المخيف الذي راعنا إلى حدٍّ سيجعله ماثلًا في مخيلتنا ما حيينا، ويُقدَّر مجموع الماء الذي يهوي من الشلال في الثانية بنحو ٢١٠ ألف قدم مكعبة، أو مليون جالون، ولا تبيح المعاهدات استخدام أكثر من ٥٦ ألف قدم لتوليد الكهرباء، وما يستغل من كهربائه اليوم مليون حصان كهربائي، والعجيب أن الجانب الأمريكي على اتساعه — ١١٠٠ قدم — لا يمر به من الماء سوى ٥٪، أما جانب كندا واتساعه «٢٣٧٦ قدمًا» فيمر به ما يزيد على ذلك عشرين ضعفًا، وذاك الماء الدافق يحطم طبقات الصخر السفلى وهي طفلية هشة، ويخلف كهوفًا يهوي من فوقها الصخر الجيري المشرف فيتراجع الشلال إلى الوراء بمعدل خمس أقدام في العام.
فلقد كان موضع الشلال منذ أربعين ألف عام دون موضعه الحالي بسبعة أميال، ويقولون بأن مشهد الشلال في الشتاء أروع منه الآن؛ إذ يمثِّل حائطًا من الجليد شاهقًا بأسنانه وحبيباته، وليس له نظير إلا في المناطق المتجمدة، ومدى غور الشلال ١٦٥ قدمًا في جانب كندا، و١٥٩ في الجانب الأمريكي. ومن جانب من جزيرة جوت يمكن النزول إلى أسفل الشلال بترام كهربائي معلَّق إلى مغارة الرياح وراء الماء، فترى مياه الشلال ساقطة أمامك وأنت داخلها، وهي على علوِّ مائة قدم، واتساعها يقرب من ذلك، ومنطقة نياجرا كلها تُعرَف بأنها منطقة شهر العسل Honey moon land؛ لأنها بهدوئها وجمال مناظرها وبديع مناخها خير ما يلائم الزوجين في طليعة حياتهما، ويكاد كل زوجين جديدين يمضيان أيامهما الأولى في تلك الربوع التي وصفها بعض الشعراء بحق فقال: «إنها أفخم مشاهد الأرض، وما الشلال إلا رمز لقدرة الله وعظمته»، وفي ليالي الصيف تُسلَّط على الشلال في مناحيه المختلفة أضواء قوية تناهز ١٣٣٠ مليون شمعة لتزيده روعةً وجمالًا.
عدتُ إلى نيويورك ذاك البلد الممتع الذي لا تقتصر الإقامة فيه على أبناء أمريكا فحسب، بل ومهاجرين من مختلف ربوع الدنيا، وفي البلد أحياء وشوارع كاملة لبعض الجاليات الأجنبية، وكم سمعتُ اللغة العربية السورية يتحادث بها أناس في أمهات طرق نيويورك، أما عن الإسرائيليين وكثرتهم فحدِّثْ؛ فهم يمتلكون جلَّ أموال نيويورك ويديرون كثيرًا من أعمالها ومنشآتها حتى قال لي أحد أبناء نيويورك: إنهم يكادون يسمونها اليوم Jew York! وأنت طوال الطريق تستمع لأقوام يتكلمون الإنجليزية في منطق منفر، فتدرك على الفور أنهم من نزلاء الأجانب، وقد كانت باخرة العودة غاصة بالطليان الذين يروحون ويغدون بين بلادهم وأمريكا.

أعياني البحث عن نيويورك القديمة، فاهتديت إلى بعض الجهات الفقيرة في حي «مانهاتان» في جنوب شرق البلدة، وهنا لاقيت بعض المتسولين ومنهم سيدة كانت تعرض طفلتها في عربة الأطفال الصغيرة وتستجدي بها، وقيل إن ذلك من أثر انتشار البطالة والإفلاس الأخير الذي أخلى نحوًا من ١٢ مليونًا في الولايات المتحدة من عملهم، ولذلك أخذت الدولة تشجِّع العودة إلى الأعمال الزراعية، وبدأ الناس يعودون إلى سكنى الريف، وقد لجأ فورد إلى نظامٍ يخفِّف ويلات البطالة، فأقام بعض المصانع الصغيرة مبعثرةً في الأقاليم، ووظَّفَ بها العمَّال أنصاف أيام، وما بقي من الزمن يصرفه العامل في خدمة الزراعة. على أن مظهر الغنى والثراء هو الظاهر الذي يلحظه الغريب في تلك البلاد، وكل تلك المنشآت من وسائل نقل وأبنية وسفائن ومصارف وما إليها ملك للشركات والأفراد، وقلما يكون للدولة شيء منها، وأنت تلحظ التزاحم أينما سرت في الطرق والمتاجر والمباني والمتنزهات وحتى في المتاحف؛ إذ ترى جموع الطلبة والطالبات يتفقدون ما يدرسون من الموضوعات عمليًّا، ولا تكاد تدخل غرفةً في متحفٍ ولا ترى جمعًا منهم، ومستوى الثقافة في هذا البلد مرتفع جدًّا بفضل رقي التعليم وكثرة المتاحف وتعدُّد المعروضات السينمائية وتنوُّع المطبوعات من كتب وصحف، وقد تدهش إذا علمتَ أن في جامعة كولمبيا بنيويورك ٣٨ ألف طالب، وفي جامعة نيويورك ٣١٥٠٠، وفي جامعة نيويورك كولدج ١٨٣٠٠، وفي جامعة فوردهام ٨٧٢٦ طالبًا وتلك أشهر جامعاتها.

ويهولك الإقبال على ابتياع الصحف والانكباب على قراءتها رغم عددها الذي لا يُحصَى، وكثير منها يظهر فيما يزيد على ثلاثين صفحة يوميًّا، وتُبَاع بأربعة ملليمات، ومن أشهرها «نيويورك تَيمز»، وتظهر فيما بين ٤٢ و٦٢ صفحة يوميًّا، وكذلك الشمس The Sun، وغيرها كثير، وأنت أينما حللت ترى الجرائد مطبوقة وقد تركها صاحبها الذي تصفَّحَها أو قرأها حيث كان لكي يلتقطها مَن شاء ويقرؤها، في القطار والترام وعلى أرصفة الطرق، وفي صناديق المهملات؛ وكثيرًا ما رأيت الواحد من المارة يفتح سلة المهملات ويلتقط منها صحيفة أو اثنتين يقرؤها ويعيد وضعها في مكان آخَر، وكَمْ هالني مشهد نقل الجرائد من دورها والأخذ في توزيعها، ترى إلى جوانب دار الجريدة — وكثير منها من ناطحات السحاب — صفوفًا لا حصرَ لها من «اللوريات» الضخمة تُلقَى إليها أكداس الجرائد، وتسير بها تنهب الأرض نهبًا إلى أطراف المدينة، ولا عجب فسكان نيويورك سبعة ملايين، أي نحو نصف سكان القطر المصري كله.

فالبلد في الواقع بلدَانِ أو ثلاثة بعضها فوق بعض، فالجماهير وحركة النقل تراها تحت الأرض وفي الطرق وبروافع النواطح في الجو إلى السماء.

حدث مرة أني كنتُ أقف على رأس أحد الطرق أشاهد حركة المرور الهائلة، وإذا بدخان وبخار انفجر من تحت قدمي صاعدًا إلى الجو، ففزعتُ وخلته حريقًا أو بركانًا لفظَتْ به الأرض، وإذا بتلك النوافذ من شباك الحديد في كل مكان لتطرد الهواء الفاسد الحار من الطرق تحت الأرض، ثم تعوضه المضخات بأهوية سليمة منعشة، وعجبت من قلة أجناد البوليس في الطرقات، وكنتُ أخال أنهم سيملئون جوانب الطرق ليرقبوا تلك الحركة المائجة، لكنك ترى القليل منهم وفي يد كلٍّ عصاه القصيرة يسير على الإطار ذهابًا ورجعة، ومظهره ليس من الرهبة بالقدر الذي يُلاحَظ في بوليس لندن.

ويظهر حقًّا أن أعظم رجال البوليس دقةً ومهابةً في بلاد الإنجليز والألمان. ومن أهل نيويورك عدد لا بأس به من السود تراهم أينما سرتَ، وغالبهم ممَّن يقومون بأعمال الخدم، على أن هناك نفرًا منهم يزاحمون البيض في الأعمال الكبيرة وعددهم آخِذ في الزيادة؛ لأن أجور الجنس الأبيض عالية، وهم هناك لا تساء معاملتهم كما هي الحال في مقاطعات الجنوب حيث يزيد السود على اثني عشر مليونًا، يمتهنهم الجنس الأبيض ويبغضهم، فيخصِّص لهم مركبات وجوانب من الترام وبعض المطاعم، ولا يسمح لهم بالدخول إلى جانب البيض! وقد ناقشت أحد مثقفي البيض في أمر ذلك، فقال بأنه شعور طبيعي لا يمكنهم مقاومته، يحسب الواحد منهم بأن الأسود دونه مقامًا فلا يسمح لنفسه أن يأتلف به أو يحادثه إلا بقدر ما تدعو الضرورة! على أن السود يقابلون ذاك النفور بمثله، وكثيرًا ما تقع الحوادث بين الفريقين! فقلتُ لصاحبي: لكن أليس من الحكمة التفكير في حلٍّ لإزالة تلك الفوارق بدل الاسترسال في توسيع مدى الخلف والبغضاء؟! قال: ذاك ما لا نظنه يقع يومًا؛ لأن اختلاط الجنسين تمنعه التقاليد فلن يندمج الاثنان أبدًا، وستظل مشكلتهم من أعقد المشاكل أمام حكومات الولايات المتحدة، وقد بلغ من كره البيض لهم أن الأسودَ إنْ أذنب لا يطيقون الانتظار حتى يُصدِر القضاءُ فيه حكمه، بل يهجمون على المجرم وينزلون به أقسى العقوبات! نزعة غريبة لا تتفق وما يُعرَف عن الأمريكيين من الإباحة وتقديرهم للحرية والعمل على نشرها!

ولكي ندلَّكَ على ضخامة نيويورك وعظيم حركتها، نُثبِت تلك الإحصاءات العجيبة: في نيويورك يُولَد طفل كل أربع دقائق وست ثوانٍ، ويُعقَد كلَّ ساعة من ساعات النهار ١٤ عقد زواج، ويزيد عدد السكان ٣٨٩٩ كل شهر، وفي البلدة يفوق النساء الرجال بنحو ١٥ ألفًا، وتستهلك المدينة كل عام من الطعام ملايين طن، أي بمعدل ١٠٠٠ رطل لكل فرد، ويحمله كل يوم إلى المدينة قطار يبلغ طوله ١٢ ميلًا، وما يستنفد من اللبن في اليوم ٢٦٥٩٦٣٢ Quarts — الكوارت ربع الجالون — ومن البيض ٧ ملايين، ومن الماء ٨٧٥٠٠٠٠٠٠ جالون يوميًّا، أي بمعدل ١٤٥ جالونًا لكلِّ فرد، بينا تستهلك لندن بمعدل الفرد ٤٣ جالونًا، ويتكلم بالتليفون كل ثانية ١٩٠ شخصًا أي نحو ٨٢٣٣٠٠٠ مكالمة في اليوم، وإذا مُدَّتْ أسلاك التليفون في استقامةٍ بلغت من المسافة بين الأرض والشمس، أو وصلت ما بين الأرض والقمر بنحو ٣٥ سلكًا متجاورة؛ لأن طولها ٨٣٦٧٠٠٠ ميلًا، ويُضَاف إليها كلَّ عام ٥٠٠٠٠٠ ميل، وعُدَد التليفون في المدينة ١٧٠٠٠٠٠، وهي خُمْس ما في أوروبا جميعًا.
figure
مثل من شوارع ليما مفخرة الإسبان.

ومتوسط ما يُهدَم من المباني يوميًّا ستة وما يقام ٢٣، ولكل أحد عشر شخصًا سيارة، ولا يزال بالمدينة ٥٠٠٠٠ حصان، ويدخل المدينة يوميًّا ٥٠٠٠٠٠ فردٍ من بينهم ٢٠٠٠٠٠ من السائحين، ويركب الترام والبس على اختلاف أنواعها كل يوم ٩ ملايين فرد، ويبلغ عدد السيارات التاكسي ٢٣٦٢٨، وطول مينائها ٩٩٥ ميلًا، وتبرحها نحو ٥٠٠ سفينة كل شهر إلى خمسين جهة مختلفة، وقيمة صادراتها ١٧٦٩٦٨٤٥٧١ ريال، وهو ٣٤٪ من صادرات الولايات كلها، والواردات ١٩٤٩٩٨٢٧٠٧ وهو نصف واردات الولايات، وتنتج مصانعها عُشْر ما تنتجه الولايات، منها ٢٧٠٦٢ مصنعًا يموِّن ٥٥٢٥٠٧ عمال يتقاضون ٩٠٤٦٤٦٤٢٧ ريالًا، وينتجون ما قيمته ٥٧٢٢٠٧١٢٥٩ ريالًا في العام، ومتوسط أجر العامل فيها ١٦٣٧ ريالًا في السنة — ومتوسطه في الولايات المتحدة عمومًا ١٢٩٨ ريالًا — وتسلم مصلحة البريد للأفراد يوميًّا ١٥ مليون رسالة، وفي نيويورك من ناطحات السحاب التي تفوق عشرين طابقًا ١٢٠ بناء. تلك بعض الحقائق والإحصاءات التي تعطي القارئ فكرةً عن نيويورك، فيحكم بأنها أعظم مدن الأرض في كل شيء، على أنها لا تمثِّل سائر بلاد الولايات المتحدة، فتلك فريدة في نوعها. أما الحياة في سائر البلدان الأخرى فلا تبلغ تلك الجلبة، ولا تعطي فكرة الضخامة التي تعطيها نيويورك، وكم لاقيتُ من أهل الولايات المتحدة ممَّنْ وفدوا لزيارة نيويورك لأول مرة، وقد كادت دهشتهم تعادل دهشتي وأنا الغريب عن تلك البلاد! وحياة الريف هناك هادئة ليس بها شيء مما تراه في عاصمتهم.

وكم أدهشني الفرق الشاسع بين الأهلين هناك وبين الإنجليز، رغم أنهم أبناء لسان واحد، فأخلاقهم متباينة؛ فالأمريكي يستنكر من الإنجليزي ترفُّعَه عن الدخول في محادثة الغير ويرميه بأنه أصم خامل الفكر، والأمريكي سريع التعارف ورفع الكلفة مع غيره، ولا يخفي عن الغير حتى دخائل بيته؛ فهو يتحدث للناس عن مبلغ كسبه، وعن نشأته الوضيعة، وعن طريقة إثرائه؛ تلك الأمور التي يجعلها الإنجليز سرًّا مكتومًا، ولعل أميز صفاته شدة بساطته عن أهل أوروبا جميعًا؛ فأنت لا ترى فرقًا بين هندام الممول الكبير والعامل البسيط هناك، كما ترى ذلك واضحًا في أوروبا، ولا تكاد تجد من الأنزال والمطاعم ما يخصُّ طبقةً دون غيرها، فالكل سواسية على عكس ما ترى في إنجلترا مثلًا، وهو في رئاسته للأعمال مدين لكفاياته ودهائه.

والأمريكي نشيط يَقِظ مقدام مغامِر يحاول أن يستعينَ بالنظريات العلمية على تذليل الصعاب كلها، وهو أقل سكَّان الأرض قناعةً؛ فهو أبدًا نَزَّاعٌ إلى السمو والنمو، فهو يعبد النجاح ورمز ذلك المعبود الريال القادر The Almighty Dollar كما يسمونه، ومن العجيب أن ذاك الإخلاص «للدولار» لا يصحبه بخل أو تقتير أو حقد على الغير؛ إذ يرى العامل على صفاء مع مزاحمه يكلمه في غير كلفة كأنه أخ له حميم.

والولايات المتحدة أكبر مصهر للأجناس تندمج فيها خير كفايات العالم؛ فقد كان ينزح إليها إلى طلائع الحرب الكبرى مليون وربع في كل عام، وإنك مدرك هذا الاختلاط العجيب لمجرد قراءة الأسماء التي تُكتَب على رءوس الحوانيت في نيويورك؛ فأنت تكاد تمرُّ على كل اسم من الأسماء المعروفة في كل بلاد العالم المتحضر، فمن اليهود مثلًا في مقاطعة نيويورك وحدها عدد يزيد على يهود فلسطين كلها خمسة عشر ضعفًا، ومن الطليان عدد يفوق سكان روما نفسها.

وفي كليفلند زهاء ثمانين في المائة من السكان من عنصر أجنبي، وتشهر مدينة ملووكي بأنها ثالثة المدن الألمانية في الدنيا، على أن خطر ذلك بَدَا إبَّان الحرب الكبرى حين تجلَّى إخلاص النزلاء لوطنهم الأول، لذلك بدءوا في تحديد عدد المهاجرين إليها، خصوصًا وأن مستوى المعيشة للأمريكي مرتفع جدًّا، وجل النزلاء مستعدون للعمل بأجورٍ أرخصَ من الأمريكي نفسه، وفي هذا خطر الوقوع في كارثة قومية؛ إذ يحطُّ ذلك من قيمة النقود، وإلى تلك المخاوف والاحتياط لإيقاف المهاجرة يُعزَى نظام «سدود المهاجرة» المعروفة باسم Quota System الذي وضعوه سنة ١٩١٧، والذي أثار سخط كثير من أنحاء العالم المتمدين، وبمقتضاه حدد الدخول بنسبة ٣٪ من كل جنسية داخل البلاد في كل عام.

قمتُ مبكرًا أبرح نيويورك العظيمة على مضض مني؛ إذ كنتُ أود أن أقيم بها شهورًا كي أدرس عناصر تلك المدينة النشيطة التي تعدو إلى التقدم بخطى لا يكاد يصدِّقها العقل، وكان الجو عكرًا ماطرًا قاتمًا، ويغلب أن يكون كذلك هناك، وهم يتوقَّعون السحاب والمطر في كل يوم.

قصدتُ الميناء التي بها ٥٦٠ مرسى لمختلف السفن، وكان مرسى باخرتنا رقم ٥٩ في مقابلة شارع ١٨ غرب، وفي طريقي إليه أدهشتني حركة المخازن المجانبة للميناء، وما فيها من شحن للفاكهة والخضر وما حولها من «لوريات» ثقيلة تسد الآفاق سدًّا. بَدَا رقم المرسى واضحًا، وقد كُتِب على كلِّ باب من أبوابها نوع مَن يباح لهم الدخول؛ هذا الباب لركاب الدرجة الأولى، وذاك للثانية، وثالث للثالثة، ورابع للحقائب الصغيرة، وخامس للحقائب الكبيرة. فألقيتُ بحقيبتيَّ داخل باب الحقائب وسرعان ما وضعهما الحمَّالون على الأشرطة المتحركة التي ألقت بهما في قلب الباخرة، ثم حللت الباخرة بعد أن رُوجِعَتْ أوراقي، وهنا أدهشتني ضخامتها؛ فهي الباخرة كونت دي سافويا Conte di Savoia الإيطالية، حمولتها ٤٨٠٠٠ طن، وهي تُعَدُّ من عمالقة بحار الدنيا، وقليل أمثالها، وهي ثانية بواخر تلك الشركة حجمًا؛ إذ أولاها Rex ٥٢ ألف طن، فأكبرتُ في موسوليني عظيم تشجيعه لتلك المشروعات الضخمة التي تكبر قومه في نظر العالم، وقد كان إعجاب الأمريكيين أنفسهم كبيرًا، والباخرة من صنع تريستا وشقيقتها Rex من صنع جنوا، ولا يكاد يفوقهما كبرًا من سفن العالم إلا القليل.

أما عن نظام الباخرة ونظافتها وما كانت تعرضه لنا من وسائل الراحة والتسلية فحدِّث؛ طعام فاخر وغرف للنوم وثيرة الفرش براقة الأثاث إلى ذلك المقاصف الفاخرة والمراقص المنسقة وتعزف الموسيقى الشجية وتعرض أشرطة السينما بين آنٍ وآخَر، هذا إلى مختلف الألعاب وحوض الاستحمام وحدائق الزهور، وسرعتها كبيرة رغم ضخامتها الهائلة؛ فهي تسير ما بين ٢٨، ٣٢ عقدة في الساعة. وكان جلُّ ركَّابها من الطليان، وهم قوم ظرفاء مَرِحون لا تمرُّ بهم فترة دون أن يسروا عن أنفسهم بالموسيقى والرقص والغناء شيبًا وشبانًا، على أنهم تعوزهم النظافة؛ فكم كنتُ أتألم وهم يبصقون جميعًا على أرض الباخرة وفرشها. وقد كان يرافقنا عدد لا بأس به من الأمريكيين يقصد بعضهم إيطاليا لدراسة الفنون، والبعض لدراسة اللاهوت، والبعض لدرس القانون، ويعترفون بأن إيطاليا أرقى في تلك النواحي العلمية من بلادهم. أما عن اتزان الباخرة العجيب فوق ماء الأطلنطيق المائج المضطرب، فكان يُعزَى إلى ضخامتها وعظيم حمولتها، وشتان بين هدوء الماء في الباسفيك العظيم وبين اضطرابه في المحيط الأطلنطي الشمالي الذي لا يكاد يخلو من العواصف والتيارات الشديدة.

جرى الحديث بيني وبين الكثير من الأمريكيين، ولما عرفوا أنني مدرس بدرني أحدهم قائلًا: إذن أنت تدرس في تلك الفصول المكشوفة من الأخصاص المعرضة للهواء الطلق Open air، وإذن تلاميذك يخلعون نعالهم «وقبعاتهم!» إذا دخلوا الفصل وجلسوا أمامك القرفصاء؟! فضحكتُ وقلتُ: من أين لك هذه المعلومات؟! إن مدارسنا لا تقل عن نظام مدارسكم في هندام تلاميذها والعناية بأبنيتها، وكلهم يلبسون كما تراني أمامك الآن. فالتفَتَ الجميع بعضهم لبعض، وقرأتُ في نظراتهم عدم تصديقهم لما أقول، ثم سألني آخَر بمناسبة عرض أحد أفلام السينما على ظهر الباخرة: أظنكم في مصر لا ترون السينما قطُّ؟! قلتُ: وكيف بل عندنا ما عندكم في بلادكم! قال: «Movies & talkies!» قلتُ: نعم. وانفجرت في محدِّثي قائلًا: إن بلادنا لا تقل حضارةً عن معظم بلادكم، وكل مظهر من مظاهر المدنية تراه في مصر كما تراه عندكم. فعرته دهشة وقال: إنَّا لا نعرف عن ذلك شيئًا! وفي صباح يومٍ جاءني طالِب منهم يجري وبيده مجلة طليانية مصورة بها بعض الصور المزرية عن مراكش وأهلها ومساجدها القديمة، فقدَّمَها إليَّ وقال: أليسَتْ تلك المناظر من مصر؟! قلتُ: اقرأ عنوانها. فقال: Maroc، أليست هي ومصر قطرًا واحدًا؟! فدلَّ بذلك على جهله حتى بالجغرافية البسيطة. انظر كيف يجهل القوم في تلك البلاد الراقية كلَّ شيء عن مصر؟ ويظهر أنهم لا يعرفون إلا الأهرام والعربان المجانبين لها بإبلهم وخيامهم وعمائمهم وأقدامهم العارية! فقلت في نفسي: إلى هذا الحد تهمل الدعاية لبلادنا هناك؟ لِمَ لا تعدُّ حكومتنا أفلامًا سينمائية تأخذها خاصة لهذا الغرض، يطوف بها أحد المصريين أو المأجورين من الأجانب يعرضها في تلك البلاد؟ وهل تكلِّفنا بعضُ المطبوعات المصورة عن مصر كثيرًا؟ إني أعتقد أنه إذا عهد لكل سفارة بالقيام بمثل هذا، وبتوزيع تلك المطبوعات بسخاءٍ على جميع الهيئات العلمية من مدارسَ ونواديَ ومعاهدَ وجمعياتٍ تخدمنا خدمة جليلة، ولا يخجل الواحد منَّا أن يوجد في بلد يعتقد أهله فينا ذاك الاعتقاد الخاطئ المزري المشفوع بالاحتقار الذي يخفونه عنَّا في الحديث تأدُّبًا، ولا يظهر إلا إذا رُفِعت الكلفة بيننا، وهنا ذكرت العمل الجليل الذي قام به «البروفسور North» في إيجاد الصلة بين مدارس أمريكا الجنوبية والشمالية، وسيوافون بعضهم البعض بنبذٍ عن بلادهم ومصورات تجلو ما خفي عن علم كلا الفريقين. فنحن أحوج ما نكون لمثل تلك الروابط، ولو أني كُلِّفْتُ بعمل مثل هذا، أو لو كان معي من المطبوعات المشرفة لبلادنا شيء، لَقمتُ بتلك الدعاية خير قيامٍ.
ظلَّ هدوء البحر هذين اليومين متوسطًا، ولو أنه لا يعدل هدوء المحيط الباسفيكي، وفي الساعة الثالثة مساءً مررنا بأقصى جزائر أزورا شمالًا، وهي جزيرة Flores بدَتْ إلى يميننا، وجزيرة Corvo إلى يسارنا في جبال شاهقة بركانية تقوم عليها بعض القرى وتكسوها الخضرة القصيرة، وأرخبيل أزورا مِلك للبرتغال، مساحة جزره ٩٢٢ ميلًا مربعًا، وسكانه ٢٣٥ ألفًا، وتمتد جزره مدى ثلاث درجات عرضية وأربع طولية (٣٦–٣٩ش، ٢٥–٣١غ)، وعددها تسع جزر، وتبعد عن البرتغال ٨٠٠ ميل، وهي عرضة لزلازلَ وبراكينَ قاسيةٍ؛ ففي سنة ١٥٢٢ ثارت حول Villafranca عاصمة سان مشل ودكتها بل ودمرتها تمامًا، وقد وصلها الفينيقيون قديمًا؛ إذ وُجِدت نقودهم مدفونة هناك، وحلَّها الإيطاليون في القرن الرابع عشر، وتملَّكَها البرتغال في القرن الخامس عشر، وحولها مصائد قيمة، وأول إنتاجها الفاكهة خصوصًا الأناناس، وأهم ثغورها اليوم Delgad Ponta في جنوب سان مشل، وقد اتخذتها أمريكا قاعدةً للأسطول إبَّان الحرب الكبرى، ولا تخلو البلاد من دوارات الهواء Windmills، وجل الأهلين من البرتغال، ولقد كشفها كابرال سنة ١٤٣٩. في التاسعة صباحًا بدَتْ سواحل إسبانيا إلى يسارنا في شرفات صخرية عميقة، يضرب الموج في جوانبها بشدة، وأخذت تتقوس إلى الغرب حتى رأس سنت فنسنت الذي ظهر مسنَّنًا ناتئًا، وهو أقصى أراضي أوروبا غربًا.

وكان كثير من ركاب باخرتنا من الأجانب المتجنسين بالجنسية الأمريكية، وهم خليط عجيب أيَّدَ ما نعرفه في جلِّ أهل الولايات المتحدة من أنهم سلائل لشعوبٍ عدةٍ؛ فقد يكون الأب إيطاليًّا والأم أمريكية، وقد تكون هي أجنبية أيضًا لذلك كان منطقهم الإنجليزي جميعًا محرَّفًا، وقد أفسد هذا الاختلاط من اللغة كثيرًا فهي دون الإنجليزية صحة وبيانًا، وكثير من أولئك خانهم الحظ اليوم في الولايات المتحدة فلم يستطيعوا الكسب لكثرة العاطلين، وقد قصوا عليَّ نبأ البؤس المنتشر اليوم في ريف أمريكا، وحتى العمَّال المشتغلون قد لا يعملون في الأسبوع أكثر من يومين، والأيام الباقية عطلة لا يتقاضون عليها أجورًا، وكثير منهم لا يجد الآن قوت يومه، والعجيب أن لكلِّ منهم سيارة لكنهم أصبحوا عاجزين عن دفع ثمن «البنزين»، فأُهمِلت وصدئت وتلفت والكل ناقمون، والنهب والاغتيال في رابعة النهار وفي أمهات المدن وفي الطرق أضحى أمرًا شائعًا في كل تلك الأنحاء، فلم تصبح الإقامة هناك مأمونة لمَن يظن أن لديه مالًا، وبخاصة في شيكاغو وما جاوَرَها، والحكومة لا تستطيع صدَّ ذلك، وكثير من رجال البوليس يُشاطِرون المجرمين إجرامهم.

وصلنا نابلي صبيحة اليوم السابع، وكنتُ أرجو أن أدرك باخرتنا المصرية «النيل» فيطمئن قلبي على نجاح منشآتنا القومية الموفَّقَة، لكنها كانت قد سبقتني عائدةً إلى مصر، فركبتُ الباخرة إسبريا بعد أن بقيت يومًا في نابلي، وفي يومين أقبلنا على أرض الوطن المفدى، الذي غاب عني أنسه نيفًا وأربعة شهور، قطعت خلالها مسافة شاسعة مداها ٢٣١٨٣ ميلًا أو ٣٧٠٩٢٫٨ كيلومترًا، أربعة أخماسها كانت بحرًا والخمس برًّا.

وفي صيف سنة ١٩٣٧ قمتُ برحلة أطوف بها الكرة الأرضية كلها مبتدئًا السير شرقًا إلى أستراليا، فجزائر المحيط الهادي، ثم أمريكا من شواطئها الغربية، وعبرت أمريكا الشمالية مارًّا بالكثير من بلاد كندا والولايات المتحدة إلى الشاطئ الشرقي، وعبرَتْ بنا الباخرة المحيط الأطلنطي، فالبحر الأبيض المتوسط إلى الإسكندرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤