إلى أمريكا الجنوبية
كان مقدرًا أن تقوم بنا الباخرة اليوم، لكنها تأخرت لرداءة الجو في المنش وفي بحار كرونا فانتظرناها طيلة يومَي الثلاثاء والأربعاء، وكانت ليلة الخميس ليلة قاسية علينا ونحن ننتظرها على الميناء، والجو قارس البرد وابل المطر، ولبثنا نترقبها إلى منتصف الليل حين تركنا متاعنا في الجمرك للصباح وانصرفتُ عائدًا إلى الأوتيل وسط سيل من المطر، ولشد ما كانت دهشتي حين ألفيت الأبواب مغلقة، ولبثت أطرق الباب ولا من مجيب، وقد كدتُ أغرق بثيابي في ماء المطر فحرت في أمري وأخذت أبحث عن نُزُل آخَر فلم أجد فكلها كانت مغلقة، وحاولت التفاهم مع بعض المارة على هديي إلى مكانٍ أنام فيه، فلم يفهموا قصدي فكان موقفًا قاسيًا حقًّا، وأخيرًا عدت إلى الجمرك وحاولت التفاهم مع بعض الحمَّالين، فقادني إلى نُزُل قريب كان مغلقًا، فأخذ يطرق الباب بشدة ويصفق وينادي حتى وجد رجلًا أودعني غرفة صغيرة نمت فيها إلى الصباح، وكانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. ليلة أليمة لن أنساها خصوصًا ولم يكن لديَّ ثياب غير المبتلة التي ألبسها، فنمت شبه عار في ذاك البرد القارس إلى الصباح، وظلت الباخرة متأخرة ولم تحضر إلا ظهرًا.
أقلعَتْ بنا الباخرة مونت سارمينتو الساعة الواحدة بعد الظهر، وهي عظيمة حمولتها ١٨ ألف طن، وأظرف ما فيها أنها ذات درجة واحدة؛ جميع المسافرين فيها متساوون يجلسون إلى مائدة واحدة يمرحون في كل مكان، وكان جل ركابها من الألمان والإسبان يناهزون جميعًا الأربعمائة، لكن الباخرة معدة لحمل ٢٥٠٠ مسافر، وكان وسقها من البضائع ثقيلًا جدًّا، وذلك من حظنا؛ لأن اضطراب موج المحيط لم يَكَدْ يؤثِّر فيها، فبينا كنَّا نبصر بالبواخر الأخرى تعلو مع الموج وتهبط كانت باخرتنا تسير في اتزان عجيب. ولبثنا نمخر عباب المحيط الأطلنطي الرهيب طيلة يوم الجمعة ويوم السبت ونحن مستمتعون برفاق مؤنسين وجو جميل وبحر رفيق، وقد أعلن الربَّانُ الجميعَ أن يتأهَّبوا لمناورة بحرية فيلبسوا «أنطقة النجاة» نساءً ورجالًا، ويقف كلٌّ إلى جانب زورق النجاة الخاص بجماعته، ففعلنا جميعًا، وكان منظر الخلق مختلف الأجناس والأزياء جذَّابًا، ولا أنسى سخرية القوم وانفجارهم ضاحكين لما أن أبصروا برجل غليظ الجثة منتفخ البطن والعجز وافدًا يرتدي نطاق النجاة الذي زاده سِمَنًا على سِمَنه، وقد ختم القوم ضحكهم بتصفيق حاد بعد أن قابَلَ الرجل ضحكهم بابتسامة الحليم الرزين، وقد أخذ القوم يردِّدون كلمة «مانيانا كناريا» وهم فَرِحون — أعني: غدًا كناريا.
رسونا وسط مينائها الذي يحكي شكل ٢ (اثنين)، وتقوم الأبنية على جوانبها وهي تتدرج صعدًا على سفوح منحدراتها، والبلدة ضيقة العرض لكنها تمتد طويلًا على شاطئ الماء، وتتدرج الجبال من ورائها، وأعلاها جبال «تنيريف»، وجلها مجدب عار عن النبت، ويشق البلدة ترام صغير وأهلها من فقراء الإسبان، وكَمْ كان مشهد جموعهم جميلًا وقد التفوا بزوارقهم الصغيرة حول باخرتنا وبسطوا عليها معروضاتهم للبيع، وجلها من أشغال الهند واليابان — أقمشة وحراير ومخرمات وخرط العاج … إلخ — هذا إلى السجائر وبعض الفاكهة، وعجبت من رداءة الفاكهة في تلك البلاد، وحتى في إسبانيا نفسها مع أنها بلاد البحر الأبيض، فنوع الفاكهة عندهم متعدد لكنها جميعًا تفتقر إلى الجودة، وخير ما راقني بها الموز مع أنه وليد بيئة حارة غير بيئتهم، وزاد الموقف مرحًا صياح الصبية «أويجا — أي اسمع»، «كافاليري أو سنيور — أي سيدي» ألقِ في البحر (أو نابسينا) وما كدنا نلقي له القرش في اليم حتى رمى بنفسه وغاص في الماء والتقطه في فمه. ولم نشف من «لاس بالماس» غلة؛ إذ لم يجاوز وقوف الباخرة بها ثلاث ساعات، وفي العاشرة قمنا نشق عباب الماء وقد اكفهرَّ الجو بعض الشيء، وغضب البحر، وعلا الموج، وكادت تعلو وجوه القوم غبرة ووجل لولا أن اتزان الباخرة قد عاد فطمأننا جميعًا.
جلسنا إلى مائدة الغداء وصادَفَ جلوسي في مجاورة عائلة أرجنتينية تقطن بونس أيرس، وكان لهم غلام في الثانية عشرة، وسيم الوجه، نحيل الجسم، ظريف الحاشية، كان سلوتي لأنه يعرف الفرنسية، وقد أدهشني مستوى ثقافته على حداثة سنه، فكان كثير القراءة يستعير الكتاب تلو الآخَر من مكتبة الباخرة، وقد أكبرتُ فيه سعة معلوماته العامة، فلما علم بأني مصري أخذ يحدِّثني عن كثير من آثارنا — الأهرام والكرنك وتوت عنخ — وعن الفراعنة وما أتوا من أعمال، وقال بأن أجدادكم لا شك فتحوا أمريكا قبل كولمب؛ لأنا نعلم أن كل شعوب أمريكا كانت تحكمها ملكة واحدة في المكسيك تُسمَّى «إيزيس»، وتلك إحدى آلهة المصريين، وقد خلف المصريون في المكسيك آثارهم في بعض الأهرام الهائلة والنحوت والنقوش، وأيَّد قوله بأن قارة «أنلنتيكا» كانت تصل الدنيا القديمة بالجديدة — وقد غرقت اليوم — فيرجح أن يكون المصريون قد وصلوا أمريكا بوساطتها أو بواسطة سفنهم. ثم أخذ يفسِّر معاني بعض البلدان — مثل: إسبانيا، كناريا — وقد قال بأن معنى مديرا أرض الغابات لكثرتها هنالك، ولا تزال كلمة «مديرا» بالإسبانية تدل على «الخشب»، ومعنى أرجنتينا أرض الفضة، وريود لبلاتا نهر الفضة — لأن بلاتا هي الكلمة الإسبانية للفضة. ثم جرنا الحديث إلى السيارات والنجوم، فكان عليمًا بالدبَّيْنِ والنجم القطبي الشمالي، وقال بأننا لا نراها في الأرجنتين فلنا برج آخَر هو صليب الجنوب يهدينا إلى النجم القطبي الجنوبي، إلى ذلك فهو يجيد لعب الشطرنج، فقلت في نفسي إن كان ذلك مثل أهل أرجنتينا ومستواهم من الثقافة، فهم إذن يفوقون الأوروبيين علمًا وذكاءً!
أصبحنا والبحر أهدأ من أمس، وإن كانت الريح الشمالية الشرقية تهب في سرعة كبيرة وثبات على اتجاهها، أذكرني بما كانت تفيد عهد الكشف الأول يوم افتقرت السفن الشراعية لدفع الرياح؛ فهي خليقة باسم «التجارية»؛ لأنها لا شك عاونت على نقل السلع والمتاع كثيرًا. وفي الليل وقفت أتكئ على مؤخر السفينة أشاهد نزاعها مع الموج، وقد شقت الماء فأرغى وأزبد وبدا من ورائها نهرًا من اللبن الخالص يمتد إلى الأفق، وقد كان ظلام الليل حالكًا. أخذ الخيال يسرح في ملكوت السماوات والأرض وفي جلال القدرة، وإذا بصيص كثريات الكهرباء تتفتح وتتوهج، ثم لا تلبث أن تخبو وتنطفئ وسط الماء، فخلتها بادئ الأمر نجوم السماء تنعكس على صفحة الماء لكن بريقها كان خاطفًا وعددها وفيرًا كاد يفرش الماء في مؤخر السفينة، فأيقنت بأن تلك جموع «السمك الفسفوري» يضيء ويخبو، ولقد أزعجته السفينة في مقره فاهتاج وأضاء في مشهد جميل رغم دقة هيكله الذي لا تراه عيوننا المجردة.
كان البحر هادئًا والماء كأنه لج من الزيت، على أن سير السفينة بطيء لثِقَل عبئها؛ فقد حملت فوق طاقتها، وكان معدل سرعتها بين ١٣ و١٤ ميلًا في الساعة، وكنا كلما تقدمنا في سيرنا إلى الجنوب بكر غروب الشمس؛ لأن النهار أخذ في القصر تدريجيًّا كي يساوي الليل عند خط الاستواء، على أن ذلك كان يُعوَّض بعض الشيء بسيرنا إلى الغرب، فكلما تقدَّمْنا غربًا تأخَّر الغروب؛ لأن الشمس إذا ذاك تشرق متأخرة وتغرب كذلك متأخرة عن الأماكن الشرقية، وكان ذلك يضطرنا أن نؤخِّر ساعتنا زهاء نصف ساعة كل يوم، وفي التاسعة مساءً لمحنا قبسًا من نور إلى يسارنا، وذاك فنار في أقصى شمال جزر الرأس الأخضر، وعجيب أنا أخذنا نسير إزاء سواحل تلك الجزائر طوال الليل، وفي الصباح تجلى إلى يميننا طرف تلك الجزائر الجنوبي في مخروط بركاني هائل علوه شاهق، وكان يبدو فاترًا وسط رطوبة الجو وانتشار الضباب، وزاده جمالًا بقع من السحاب كَسَتْ وسطه فكنَّا نرى ذراه ناتئة فوق نطاق أبيض من سحاب السماء، وكانت قواعد البركان وشطآن الجزيرة بادية أسفله، يضرب الموج في سواحلها في أناة ورفق.
وبعد الإفطار بدأت الموسيقى تعزف لأول مرة منذ غادرنا فيجو؛ لأن القوم قد أعلنوا الحداد على الرئيس هندنبرج الذي قضى نحبه يوم برحنا فيجو، وكانت وطنية الألمان متوقِّدة؛ كلما جرني الحديث معهم عن ألمانيا ذكروا «هتلر» بأنه منقذ ألمانيا حقًّا، فهو مَثَل أعلى لهم جميعًا، وكفاه فخرًا أنه لا يتقاضى «ماركًا» واحدًا من مال الدولة؛ فهو يعمل للوطن بدون أجر، وهو ليس بالغني، بل يضمن آراءه كُتُبًا ومن مورد أثمانها يعيش. ولقد حدَّثوني عن حركة اليهود لديهم فقالوا بأنهم لم يكونوا يشعرون بالعطف على ألمانيا وحركتها الوطنية الحالية كسائر الألمان، وكان همهم الاستفادة من كل موقف والجري وراء المال فحسب، وقد علَّلوا ذلك بأنهم عنصر آخَر غير ألماني هو العنصر السامي، وذلك ما حدا بهم إلى عدم التعصب لقوميتهم الألمانية، على أني ردَدْتُ حجتهم هذه بأن الإنجليز مثلًا والفرنسيين من الجنس الآري، ومع ذلك فهم معادون لألمانيا، ففكرة الجنسية ليست بذات شأن بل الشعور بالعصبية القومية هو كل شيء، ويظهر أن «مادية» اليهود هي التي أَنْسَتْهم واجبهم القومي، وقد كان يرافقنا على الباخرة جمع من يهود الألمان هاجروا إلى أمريكا بأموالهم، وقد ذكروا بعض الإصلاحات التي قام بها هتلر؛ إذ كلَّفَ أصحابَ الأعمال أن يمدُّوا عمَّالهم بإعانة مالية هي ٢٠ ماركًا في الشهر لكل طفل إلى السادسة عشرة، أعني أن مَن يعول ستة أطفال يتقاضى ١٢٠ ماركًا فوق مرتبه الشهري، أي نحو عشرة جنيهات — الجنيه ١٢ ماركًا — وقالوا بأنه يحتم على النشء جميعًا التدريب الرياضي العسكري؛ كي يعدَّ الألمانَ جميعًا للحرب إن دعت الحال، على أنهم مغالون في عصبيتهم للجنسية؛ فهم ضد فكرة الاختلاط بأي جنس غير «الآري»، وقد ظهر لي الفرق واضحًا بين الألمان وسائر الجنسيات التي في الباخرة — وغالب الآخَرين من الإسبان والبرتغال — فهم أعلى ثقافةً وأرق ذوقًا وأكثر نظافةً، على أنهم ينظرون إلى الغير نظرة من علٍ كأنهم السادة المترفعون، وكأنَّ أجسادهم قد عاونتهم على تلك النظرات العليا؛ فكلهم عمالقة نساءً ورجالًا، والذي يقارب أطوالنا منهم شاذٌّ قزم بينهم.
كنَّا حوالي خط العرض ١٠° شمالًا؛ حيث كادت الشمس تكون فوق رءوسنا ظهرًا؛ لذلك كان الحر شديدًا، على أنَّا في النصف الثاني من النهار لاحظنا تغيُّرًا في اتجاه الريح؛ فقد أضحت جنوبية غربية — وهي الموسمية الصيفية في تلك الأصقاع — فخففت من شدة الحر، وزادت رطوبة الجو، وفي المساء تلبدت السماء بالغيوم وسحَّ المطر وابلًا، حتى إن القوم لزموا مقاعد البهو الكبير في السفينة. وقد أقيمت حفلة راقصة تجلَّى فيها غرام القوم باللهو رجالًا ونساءً، شيبًا وشبَّانًا، يقصد الواحد إلى أية سيدة جالسة حتى ولو كانت مع زوجها يطلبها في رفق ويخاصرها راقصًا وإياها على أنغام الموسيقى، وكنت أدهش للكثير ممَّن كسا الشيبُ رءوسَهم وأحنى الزمان ظهورهم يشاطرون الجمع في الرقص في غير حياء ولا اكتراث، لكن تلك هي الحياة في عرفهم؛ يساهم المرء في حلوها ما استطاع إلى النهاية. كذلك كان يدهشني بعض الأزياء التي يرتدونها في أشكال قد تكون مُضحِكة، وقد يكون الرجل كهلًا والمرأة منفرة السحنة كئيبة المنظر عجوزًا شمطاء، لكنك تراها آنًا في سراويلَ وأربطةٍ للرقبة تحكي أزياء الرجال، إلا في ألوانها الفاضحة، وبعد ساعة أو اثنتين تراها تسير شبه عارية، وآنًا في الأردية المهفهفة، وحتى قسس الباخرة — وكان يزاملنا ثلاثة، منهم اثنان من الكاثوليك، وآخَر من البروتستانت — كانوا يشاطرون في الرقص وفي تغيير الأزياء، وفي مسامرة النساء ذهابًا وجيئة على سطح السفينة شأن جميع المسافرين.
أصبحنا والجو أخف حرارةً والريح الجنوبية الغربية تهب في انتظام، وكان القوم يتأهبون لاستقبال خط الاستواء، ويعدُّون العدة لإقامة حفلٍ ابتهاجًا بعبوره — ويسمونه عيد خط الاستواء — وقد اكتتب الركاب في شراء بعض الجوائز التي ستُوزَّع على الفائزين، ويشتمل الحفل على التعميد والرقص وعرض الألعاب.
أقام البحَّارة في سطح السفينة حوضًا عميقًا من القماش مُلِئ من ماء المحيط، ثم لبس بعضهم أردية الهنود الحمر بشعورهم الهادلة وجوههم المحمرة وثيابهم المهلهلة التي لا تكسو من الأجساد شيئًا، وقد أمسكوا بحرابهم، وكان رئيسهم يمثِّل نبتون إله الماء بلحيته الهادلة ومعه أنصاره وقضاته، وطافوا يصيحون صيحات مزعجة، ثم صفوا إلى جوار الحوض وقام سيدهم يخطب، ثم تلاه آخَر ينادي أسماء مَن يريدون التعميد، فكان يجلس الواحد على حافة الحوض، ثم يتقدَّم الحلاق ويمسح وجهه بفرشة كبيرة كساها بعض العجين بدل الصابون، ثم يلقي به في الحوض بشدة مخيفة، فيتناوله في الماء آخَران يغوصان به طويلًا وهو يحاول النجاة حتى يفرَّ بنفسه ويجري من الجانب الآخَر وهو يقطر ماءً، كان مشهدًا جميلًا ومخيفًا لبث زهاء ساعتين وجمهور المسافرين يتزاحمون حوله ويغرقون في الضحك والسرور. ثم أقبل المساء وقد زُيِّنَ البهو الكبير بالثريات البديعة في ألوان عدة تحوطها أُطُر من الحرير والورق الملوَّن، ثم عزفت الموسيقى وأقيم المرقص في مهرجان ما شهدت أبدع منه من قبلُ؛ لبس القوم نساءً ورجالًا أردية عجيبة، فبعضهم بدا في أردية مهلهلة، وآخرون في أردية الهنود، والبعض ارتدى الطرابيش التركية القديمة عليها الهلال، والبعض بقبعات للسخرية لا يتمالك الواحد نفسه من الضحك لمجرد النظر إليها، وقد طَلَوا وجوهَهم بمختلف الألوان، وكان بينهم الكهول الشيب من الرجال واللواتي رددن إلى أرذل الأعمار من النساء، وبعض النساء ظهرن في زي الرجال وبعض الرجال في أزياء النساء! وقد نال الخمر من لُبِّهم جميعًا، وكان يتخلل أدوار الرقص مقطوعات مضحكة يلقيها البعض وسط قهقهة الجميع، وظلَّ هذا الحفل الغريب البديع إلى الساعة الثانية صباحًا، وكان يرأسه ربَّان السفينة — القبطان — نفسه.
وفي الصباح أُقِيمت حفلة الألعاب، ساهَمَ فيها الصبية والفتيات والأطفال والنساء والرجال كل طائفة في دورها، وغالب الألعاب كانت مُضحِكة مسلية؛ منها أن توضع الجائزة تحت إناء من صفيح ثم يغمى الغلام بمنديل ويمسك بعصا ويسير صوب الإناء ليضربه بالعصا، فإن أصاب خلال ثلاث ضربات أخذ الجائزة وإلا آبَ خاسرًا. ومنها أن توضع كرة من البطاطس في ملعقة يمسكها الفتى ثم يجري إلى جوار أقرانه ذهابًا ورجعة إلى حد معين، ومَن سبق فاز. ومنها أن يرسم خنزير بالطباشير مكبرًا على الأرض ويغمى الواحد وبيده الطباشير ويخطو إليه، ثم يقف حيث شاء ويعين بالطباشير صليبًا، فإن أصاب عين الخنزير أو كان أقرب إليها من إشارة غيره فاز. وللأطفال لعبة المربى يجرون إليها ويلعقونها ثم يحمل كلٌّ طبقَه عائدًا، ومَن سبق فاز، وللسيدات يجلسن وبيدهن الخيط ويجري إليهن الرجال بالإبر «فتلضم»، ثم يحملونها عائدين جريًا، أو يجلس النساء ومعهن علب الثقاب ويجري الرجال إليهن وبأفواههم اللفائف يشعلونها لهم، ثم يجرون عائدين والأسبق هو الفائز. ثم خُتِمت الألعاب «بشد الحبل» للنساء والرجال والفتيات والفتيان، كل طائفة بدورها، وقد وُزِّع برنامج هذه الألعاب على أربعة أيام، فكانت تسلية جميلة تتخللها فترات الموسيقى، وفي المساء الرقص.
ولبثت تلك الألعاب تقام أربعة أيام حتى نرسو على أول ثغر بعد عبور خط الاستواء «ريودجَنيرو»، وتلك الحفلات لم أشهدها من قبلُ رغم أني عبرت خط الاستواء من قبل أربع مرات، ويظهر أن الألمان قوم يفوقون غيرهم في ميلهم للمرح والاستمتاع ما استطاعوا، وهم كَلِفون بسماع الموسيقى التي كانت تُعزَف في الباخرة كل آنٍ؛ ضحًى وظهرًا وعصرًا ومساءً وفي أبهاء الطعام عند الوجبات، وقد كنتُ أخال الألمان — وهم من شعوب الشمال — أقرب إلى الجد والتقطيب وأبعد عن المرح واللهو، وإذا بهم في ذلك مفرطون مغالون في سويعات فراغهم.
نحن نبتون إله الماء في البحر والبحيرة والنقع والنهر … إلخ، نشهد بأن فلانًا قد غمر في مياه خط الاستواء ليطهر من أوضار نصف الكرة الشمالي، ولقد مُنِح اسم (أي حيوان بحري) وأُعطِيَ هذه الشهادة في سنة ١٩٣٤.
أعلن الربان نبأ عبور المنطاد «جراف تزبلين» فوق باخرتنا الساعة الرابعة مساءً، وقد اتصل به لاسلكيًّا فتأهبنا للقائه، وفي الرابعة إلا ربعًا بدا في الأفق الجنوبي الشرقي كأنه طائر فضي صغير، وفي أقل من عشر دقائق كان فوق رءوسنا بهيكله الهائل ومراوحه الخمس، وقد حاكى القنبلة المستطيلة أو الحوت الهائل، وكان يُقلُّ خمسين مسافرًا لوَّحُوا لنا بمناديلهم وبالعلم الألماني، وقد حيته الباخرة بصيحاتها الثلاث، وكان الجميع من الألمان يصيحون صيحات الفرح والفخار، وكيف لا، وزبلين هو الذي سودهم في عالم الجو على سائر الدول؟! فكان رفقائي بين آونة وأخرى يسألونني: كيف رأيت منطادنا؟ فأقول: عظيم وجدير هو ومنشئه ومنبت بانيه بكل إكبار وإجلال، وهو خير شهيد بأن ألمانيا لا شك سيدة الجو والهواء. والمنطاد يقوم مرة كل اثني عشر يومًا بين ألمانيا وريودجانيرو، زهاء ستة آلاف ميل يقطعها في سبعين ساعة أي أقل من ثلاثة أيام — والباخرة تقطعها في عشرين يومًا — ويحمل خمسين مسافرًا أجر الواحد زهاء ١٣٠ جنيهًا، وقد أُعِدَّ بغرف النوم والطعام وأبهاء اللهو والراحة، وفي الأيام الباقية يقوم برحلات خاصة يدرس فيها حالة الجو درسًا دقيقًا، ولألمانيا مناطيد أخرى أقل شأنًا من زبلين تصل أمريكا الجنوبية في ثمانية أيام وتسلك سبيلًا آخر؛ إذ تجانب البر إلى أفريقيا عند خط الاستواء، ثم تعبر المحيط وتقف في المطار الألماني الثابت الذي أُقِيمَ في باخرة وسط المحيط في منتصف الطريق ليزود بحاجته، ولما سألتهم: لِمَ لا يسير زبلين بين أوروبا وأمريكا الشمالية، وحركة النقل والمسافرين فيها أروج؟! قالوا بأن السفن هناك سريعة تقطع المسافة في أربعة أيام، لذلك فهي تنافس المناطيد كثيرًا؛ لأن أجرها زهيد إذا قِيسَ بأجور الطيارات.
اشتدَّ عصف الريح من الجنوب الشرقي — التجارية الجنوبية الشرقية — في المساء، فاهتاج البحر وأخذت الباخرة تترنح قليلًا، وقد بدت على الأفق الغربي بعض أضواء من الجزائر المُجانِبة لشاطئ البرازيل، وقد لزمنا مقاعدنا من المقصف نشرب المرطبات ونستمع لأنغام الموسيقى الشجية، ثم آوينا إلى مضاجعنا مبكرين لنريح أجسادنا من عناء الليلة السابقة.
ما زال البحر مضطربًا، ومرض البحر يبدو على وجوه الكثيرين، وكان البحر يغص بالسمك الطيَّار، وهو في حجم «السردين» أبيض فضي يقفز في الهواء إلى ارتفاع قدم، ثم يطير أفقيًّا في الهواء بضعة أمتار، ويعود إلى مقره من الماء في زُرَافات لا تدخل تحت حصرٍ، وظلَّ الجو عاصفًا والهواء باردًا والموج مضطربًا هائجًا، والسفينة تترنح، وخُيِّلَ إليَّ أني في شتاء مصر، السماء تنتثر بالسُّحُب، والبرد متزايد أشعرني بضرورة لبس الأردية الثقيلة، ولم نصل بعدُ إلى خط العرض ٢٠°ﺟ، فكان ذلك نذيرًا بشدة البرد إذا وصلنا بونس أيرس، وهي على خط ٣٥°ﺟ تقريبًا؛ ذلك لأن تلك الشهور هي فصل الشتاء في نصف الكرة الجنوبي.
(١) بلاد البرازيل
بدت صخور شواطئ البرازيل منذ الصباح في سلاسل جبلية مجدبة الرُّبَى أو مخروطتها، وعلى علو كبير يحفها شاطئ رملي ضيق.
ريودجنيرو
ظلت السيارة تشق بنا دروبًا وليَّات من ربوة إلى ربوة، ومن حولنا الغابات الكثيفة، وبين آنٍ وآخَر كان يُفاجِئنا شلَّال هائل يقف السائحون من دونه ذاهلين، وقد أدهشتنا كثرة الفاكهة وبخاصةٍ الموز والبرتقال، وكنَّا نبتاع الموزتين بمليم والبرتقالة الكبيرة بأقلَّ من مليم، ونحن سائحون يباع لهم بأضعاف الأضعاف، ومن الموز نوع صغير لا يزيد على ثلاثة سنتيمترات، وحلاوته فائقة ورائحته زكية إلى حدٍّ كبير، وكم قطفنا من غابات الطريق من ثمار برية أخَصُّها «الفراولة» ونوعًا أصفر كالبلح لذيذ الطعم.
وفي اليوم التالي قمنا بجولة أخرى بالسيارة زرنا خلالها بعض المتنزهات الهائلة، وحديقة النبات التي غُصًّتْ بأنواع النبت وبخاصة أشجار المنطقة الحارة، وقيل إنها تحوي ستين ألف نوع من النبات. وفي جانب منها زرنا المتحف وقسم منه جيولوجي به بعض الحفريات القَيِّمة، وكثير من الصخور والمعادن والأحجار الكريمة ببلوراتها الهائلة، والقسم الآخَر لمخلفات الهنود الحمر من أنسجة وأردية وأدوات للزينة، وبخاصة عقود الأسنان والعظام والريش الذي يُوضَع في شكل التاج الكبير، ثم أسلحتهم من السهام وزوارقهم المنقورة في غليظ الشجر. وفي مدخل المتحف شهاب هائل سقط هناك وزنته ٥٣٦٠ كيلوجرامًا في صخرة سوداء فاحمة غير منتظمة الشكل، صقل جانب منها فبدا برَّاقًا كصفحة الحديد الصقيل، ويظهر أن غالب مادتها من الحديد. وفي جانب آخَر من الحديقة معرض السمك «الأكواريوم»، وأجمل ما به السمك الشفاف والسمك ذو الأجنحة الحريرية الرقيقة، والسمك الصغير الذي لا يزيد حجمه على عقلة الإصبع، وأنواع أخرى لا تدخل تحت حصر، ثم قصدنا حديقة الحيوان ولا بأس بكبرها وتنسيقها، ومن أغرب معروضاتها أسد أمريكا «البوما»، ونمرها «الججوار»، ثم مجموعة من الأفاعي الكبيرة.
أما في الليل فأضواء البلدة منثورة في كل مكان، وهي ذوات ألوان مختلفة، إلا أن تزاحُمَ القوم ليلًا قليل جدًّا إذا قِيسَ بشدة التزاحم الذي كنتُ أراه في بلاد إسبانيا، على أنَّا لم نلمس جمال تلك الأضواء حقًّا إلا ساعة أن برحت الباخرة المدينة ليلًا؛ فقد كان الخليج الهائل يبدو في عقد هلالي مديد من ثريات إلى قصارى مسارح النظر، وهنا وهناك نجوم من ثريات منثورة فوق حجور الرُّبَى، ويتوِّج كثيرًا من المرتفعات أضواء كأنها هالات من نور، والقسم الرئيسي من البلدة يبدو وسط الهلال ملتهبًا نورًا ملونًا، وأخذت الثريات تتقارب ونطاق الخليج يُحدد ويُحصر كلما نأت الباخرة عنه، وكانت ربوة «قمع السكر» تبدو سوداء كأنها حيوان مارد مخيف أو أبو الهول الرابض، وكان تمثال المسيح يبدو براقًا، وقد انعكست عليه تلك الأضواء المتوهجة، حتى إنك تخاله طائرًا في الهواء؛ لأن أسفل الربى حالك السواد فلا يتمالك المرء نفسه أن يعتقد أنه المسيح يصعد إلى السماء، وهو أول ما يُرَى من دقائق البلدة إذا أقْبَلْتَ عليها، وآخِر ما يختفي من تفاصيلها.
وفي الحق أن ريودجنيرو لتشهد للبرتغال بحسن الذوق وكبير العناية ببلدانهم، وهي تُعَدُّ من أجمل بلاد الدنيا وأكثرها نظافة وتنسيقًا، وهي من أصح بلاد المناطق الحارة، فنسبة الوفيات بها عشرون في الألف ليس غير، وقد زادها جمالًا طبيعة غنية بغاباتها فوق رُبَاها المبعثرة، وبحر أوغل فيها وزودها بشاطئ هلالي عظيم الامتداد، وقد شقَّ القوم وسط البلدة قناةً تصل جانبي البحر، فيمر الماء بها ويطهر أوضار المدينة التي يُلقَى بها في تلك القناة، وتحيط بجوانب القناة صفوف من النخيل الملكي الذي يناطح السحاب بعلوه، ويروق الناظرين ببياض سوقه واستقامتها العجيبة، ومن تلك الصفوف كثير في جهات أخرى من المدينة، وهي من مميزات ريودجنيرو، والناس هناك يتكلمون البرتغالية؛ لأن مستعمريها الأوائل كانوا من البرتغال، أما سائر أمريكا الجنوبية فمن الإسبان على أن غالبهم يتكلم الإسبانية لقرب الشبه بين اللغتين، وكثير يتكلم الفرنسية، وأجد من صعوبة التفاهم ما وجدته في إسبانيا من قبلُ، والمعيشة هناك أرخص منها في بلاد إسبانيا، وكان الواحد منَّا يدفع ثمنًا لطعام الفاخر «خمسة ميل رايس»، والميل رايس يساوي اثني عشر مليمًا أعني ستة قروش، كان الجنيه يساوي ٧٢ ميل رايس، والعجب أن الميل رايس ينقسم إلى ألف رايس، وتستطيع أن تشتري بعُشْره ما تتبلغ به، وكم يهولك اسم تلك العملة عندما تقول: دفعت في المطعم خمسة ميل رايس أي خمسة آلاف رايس، وقد راعني ذلك عند أول سماعه، وإذا بالمبلغ كله ستة قروش!
أقلعت الباخرة في منتصف الساعة السادسة مساء إلى سنتوس، وفي التاسعة من صباح اليوم التالي بدت جبال الشواطئ معقَّدَة شاهقة، ثم أوغلنا في خليج ضيق كأنه النهر الفسيح التوى يمنةً ثم يسرةً، وكان جانباه مختلفي السطح؛ الأيمن جبلي والأيسر سهل فسيح، وعلى جوانب ذاك الجون قامت أبنية سنتوس التي حللناها وجبنا أرجاءها بالسيارة، فإذا بها لا شيء إذا قُورِنَتْ بريودجنيرو؛ فهي بلدة فقيرة بأبنيتها وطرقها، ويعوزها الجمال إلى حدٍّ كبيرٍ، وفي مجموعها تحكي الأحياء القديمة من الإسكندرية، إلا في بعض الرُّبَى القليلة، لذلك عجلنا بالقيام إلى «سان باولو» وهي المدينة الجديرة بالزيارة في تلك المنطقة، فأخذنا نشق بالسيارة سهلًا غُصَّ بالشجيرات البرية والعشب المهمل زهاء عشرين كيلومترًا، ثم بدأنا نتسلق جبالًا معقدة كساها الشجر والغاب الكثيف، وسط طرق ثعبانية عجيبة؛ وكنَّا كلما علونا نرى سهول سنتوس محدودة إلى البحر من دوننا تشقها نقائع منثورة ونهيرات معوجة دقيقة، حتى بلغنا الذُّرَى على علوِّ ثمانمائة متر، وهنا بَدَتِ الهضبة على الجانب الآخَر تمتد إلى الآفاق، وهي تكاد تكون مسطحة إلا في بعض التغضنات القليلة، ولقد حسبتها في البدء صخرية التربة، وإذا بها تتألف من تربة حمراء دقيقة الحبيبات إلى أعماق قد تبلغ مئات الأمتار، وكان هباؤها يتطاير فيدرك كل شيء، وقد عكر علينا صفو الطريق البديع بعض الشيء، وجلُّ تلك المسائح مهمَلٌ يكسوه العشب والشجيرات الوحشية إلا في بعض بيوت ريفية تقوم ومن حولها بعض الزراعات، ومن أكبر مميزات تلك الهضبة كثرة النقائع الآسنة بمائها الرائق الفضي.
لبثنا في المدينة إلى الساعة الخامسة مساءً، ثم قمنا عائدين إلى سنتوس واخترقنا بعض القرى وكان يبدو على أهلها بعض العوز، وتعوزهم النظافة، فكثير من أبنائهم حفاة إلا أني لم ألاحظ متسولًا واحدًا لا هنا ولا في ريودجنيرو، وكنَّا نرى ونحن راجعون نيرانًا ملتهبة في بقاع نائية، فقيل لنا إنه البن الفائض عن حاجة الأسواق يُتلَف حرقًا، وهو الغلة الرئيسية للبرازيل عامةً ولهذه المنطقة خاصة.
أما الجو فلم يكن صافيًا، فالسماء كان يغشاها سحاب وقد أمطرتنا رذاذًا، وفي اليوم التالي وابلًا، والمطر في تلك الجهات الساحلية يسقط في جميع الفصول بسبب الرطوبة التي تزجيها الرياح التجارية الشاطئية. أما الشتاء هناك فغاية في الدفء، لم يُشعِرني بضرورة تغيير شيء من ملابس الصيف عندنا.
قمت مبكِّرًا أتأهَّب للنزول إلى سنتوس، وإذا السماء ملبَّدَة بالسُّحُب، والجو أغبر، والمطر وابل، ظلَّ هكذا بدون انقطاع إلى الليل، فكان ذلك من سوء حظي؛ لأني لم أتفقد البلدة جيدًا، على أني آثرتُ أن أقوم بجولة فيها رغم ذاك الجو المنفر، لكن المتاجر كانت مغلقةً؛ لأنه يوم الأحد، وعجبت لأن البوليس هناك يمنع البيع في هذا اليوم، وتلك إحدى ظواهر العصبية الكاثوليكية. ولعل أجمل ما في البلدة صخرة تكسوها الغابات تسلَّقْنَاها بترام كهربائي مسنَّن العجل «فونكلير»، وجلسنا في مقهى الذروة وشربنا القهوة البرازيلية الشهية، ولقد كان عبير البن عطرًا جميلًا رغم أن القهوة لم تُعَدَّ على الطريقة المصرية، ولقد بدت البلدة كلها من دوننا مكتظة البيوت، مبسوطة السطح إلى البحر الذي ظهر كأنه النهر العظيم يكاد يفوق ضعفَيْ نيلنا عرضًا.
والحق أن هتلر لجدير بتلك الثقة؛ لأنه يعمل جهده لاستعادة مكانة قومه بين الأمم، فيُعِدُّ أبناءه ويقوم مثلًا للتفاني في التضحية للوطن، ويدربهم على الأعمال الرياضية التي تقوم مقام الحركات العسكرية، ويبعث بالكثير إلى أنحاء الأرض يبثون مبادئه ويثبتون لألمانيا يدًا في كل مكان، إلى ذلك فهم يسمونه نصير الفقير، فهو دائمًا يعمل على تحسين مواردهم، ويُرغِم المموِّلين وأصحاب الأعمال أن يخصوا العمال بأجر حَسَن ومعاش للمستقبل مكفول، وقد بثَّ في الشباب روحًا عجيبًا؛ إذ أعلن أن الشاب من سنِّ التاسعة عشرة يجب عليه أن يتقدَّم ليخدم في معاونة الأعمال الزراعية وفي إصلاح الطرق وتجفيف المناقع بدون مقابلٍ، والحكومة تزوِّده بالطعام والملبس والمسكن، وإن طلب مالًا صُرِف له قرش ونصف في اليوم ليس غير، ومدى تلك الخدمة سنة لكل فرد، فكأنها جندية منظمة لمعاونة مالية الدولة، ودهشت لما علمت أن سيل المتطوعين دافق حتى من غير المحتاجين ومن الطبقات العالية، ومَن كان منهم موظَّفًا في عمل تخلَّى عن عمله لأحد العاطلين أصحاب العائلات مدى عامٍ، ثم يستعيد عمله بعد ذلك!
وطنية سامية وإخلاص للوطن يدعو إلى الإكبار! أقلعنا منتصف العاشرة مساءً وسرنا في خليج سنتوس طويلًا، وكانت الأضواء تمتد على أحد جانبيه، ثم خرجنا إلى عرض البحر نسير صوب الجنوب، وفي الصباح كنَّا نرى صخور شواطئ البرازيل إلى يميننا وكان الجو شبيهًا بشتاء مصر، والسماء تنقشها الغيوم المبعثرة الخفيفة، وعند الظهر بدت مجموعة من جزائر صغيرة تكسوها الغابات، ثم أعقبها شاطئ محدود وراءه تقوم مدينةُ «سان فرنسسكو دل سيد» ولم نستطِع النزول إليها؛ لأن الباخرة لم تقف في مياهها سوى ساعتين، وكانت تقف بعيدًا عن البر لأن غور الماء قريب، ثم غادرناها ولبثنا نسير إلى ريوجراند آخِر جهات البرازيل جنوبًا إلى باكورة الأربعاء، ثم انعرجت الباخرة إلى بسيط من الماء لا تميِّزه عن المحيط إلا بلونه العَكِر، وبعد قليل بَدَا إلى يميننا جسر صناعي من الحجر عظيم الامتداد، يجانبه من اليسار صفَّان من «الشمندورات» الصغيرة لتسير السفن وسطها ولا تعدوها، وإلا أوغلت في الصخور والأدغال، ولقد أبصرنا بباخرة كبيرة خانها الحظ العاثر فصدمت طرف الجسر؛ لأنها حادت قليلًا عن طريق «الشمندورات» فشُقَّتْ نصفين، ولا يزال نصفها باديًا فوق الماء والنصف الآخَر غارقًا. وبعد مسيرة زهاء ثلاثة أرباع الساعة وقفنا وسط الماء؛ إذ لا يمكن للبواخر الكبيرة التقدُّم لقرب غور الماء، ثم جاءت البواخر الصغيرة بعضها يحمل المسافرين إلى المدينة والبعض ينقل البضائع والمتاع.
نزلنا نجوب أطراف البلدة، فإذا بها غير جديرة باسمها، حتى إني أسميتها تهكُّمًا «ريوبكونيو» أي ريو الصغيرة بدل جراند — ومعناها كبيرة — فهي مجموعة من شوارع مستقيمة متعامدة، بيوتها جميعًا لا تعلو الطابق الواحد، تميِّزها أُطُر وأسنان من البناء أو تماثيل صغيرة، وبين آنٍ وآخَر كنَّا نرى متنزهًا صغيرًا تتوسطه نافورة، وقد أدهشني سكون البلدة التي بدت وكأنها غير مأهولة، وقليل من حوانيتها غير مفتحة حتى إني خلت يومنا يوم الأحد وإذا به الأربعاء، فكأنها بلدة ميتة، صرفنا في أرجائها يومًا كاملًا لم ندرِ ما نفعل، فعمدنا إلى حانوت فاكهة، وشربنا من الموز والبرتقال شيئًا كثيرًا، وثمنه هناك زهيد للغاية، ولبثنا نأكل حتى ضجت البطون وعافت النفوس، ويبدو على أهل البلدة — وقليل ما هم — الفقر، فكثير من أبنائها يسيرون في خرق بالية عراة الأقدام، على أن البلدة عاصمة أقصى مديريات البرازيل جنوبًا، وهي أغنى جهاتها بالمرعى، وهي تقع على مستنقع هائل من الماء فسيح يبدو كأنه ذراع من البحر، ويكاد يحوط البلد من جميع جهاته. أما جو البلد فرطب كثير السُّحُب والأمطار، شديد الريح باردها، وفي الصباح والمساء يسود الجوَّ ضبابٌ كثيف لا تبدِّده الشمس قبل العاشرة صباحًا، لذلك كانت الباخرة تدق أجراسها دقات متتالية؛ لتدل البواخر الماخرة بجانبها على موضعها من الماء، وقد ظلت باخرتنا تفرغ حمولتها إلى ظهر اليوم التالي، وما كدنا نُعلَن بالإبحار حتى قيل إن الباخرة لا تستطيع السير إلا بعد ثلاث ساعات لقرب غور الماء؛ إذ كانت ساعة الجَزْر، والمد والجزر يتعاقبان مرتين في اليوم: مد فجزر، فمد ثم جزر، فلبثنا حتى علا الماء وظهر المد، ولقد أخذتُ على الربَّان تهاوُنه في معرفة ذلك؛ لأنه أعلننا بالرحيل ثم قيل إنه وقت الجزر، ومواقيت المد والجزر لكل ميناء مدوَّنة معروفة، ومن ألزم واجبات البحَّار أن يكون بها عليمًا؛ لأنه بغيره لا يستطيع السير، وقد يعرِّض سفينته لأخطار أوحال الجزر وصخوره.
(٢) بلاد أرجواي
وبالمدينة بعض المتاحف الصغيرة لكن محتوياتها قليلة وليست بذات شأن، ومن الناس بعض السود أو المولَّدين لكنهم أقل كثيرًا ممَّن رأيناهم في بلاد البرازيل، وجل البلاد أرض كلأ مبوسطة تمون الماشية ذوات القرون الكبيرة، وتلك عماد صادراتها، والبلاد في نجوة من الصحاري والثلوج والوحوش والأفاعي، على أنها لا تخلو من هجمات الجراد، ومن العواصف والجفاف، وأهلها قصَّابون سفَّاحون، وكثيرًا ما ترى طفلًا يتسلق على ركبة الحصان ليعتلي ظهره، ويجري به ليصيد شاة بحبله «اللاسو» وينحرها ويسلخها على الفور كأنه جزار ماهر، وتلك المهنة مهنة الذبح هي التي يعزى إليها ميلهم إلى سفك الدماء، فسرعان ما يستل الواحد منهم خنجره في المنازعات وحتى في الألعاب، وفي البلاد كثير من الماشية والخيول البرية التي يصيدونها بين حينٍ وآخَر.
وكان تطوُّر أرجواي مدهشًا عجيبًا عن سائر جمهوريات أمريكا؛ فهي دولة ذات حكومة أقدامها ثابتة ومركزها الاقتصادي مدعم بحيث يحسدها الكثير، مع أن استعمارها تأخَّر مائة سنة عن جيرانها بسبب قسوة قبائل تشاروا من الهنود أهلها الأصليين، وهي أول دول أمريكا الجنوبية التي خولت للنساء حق الانتخاب وحق الطلاق والقيام بالوظائف والأعمال الحرة على قدم المساواة مع الرجل، ومنذ سنة ١٩٠٧ ألغت الإعدام، ويقوم نهر أرجواي بخدمات جليلة لها ففضلًا عن أنه الحد الطبيعي لها، فهو خير الوسائل لنقل غلاتها من المرعى.
وقد كان للحرب الكبرى فضل في زيادة ثروة البلاد؛ إذ ارتفعت أسعار اللحوم واغتنى منها الكثير، فأصبحوا «مليونيرات» وزادوا قطعانهم فبلغت ١٥ مليونًا من الغنم، و٧ من الماشية ونصف مليون من الخيول، لكنهم لم يغيِّروا نظام معيشتهم، ففي الفجر تراه خارجًا على ظهر جواده، وفي الظهر تراه على سريره يستريح قليلًا، وفي الأصيل تراه أمام موقده يتدفأ قليلًا، وفي العاشرة في فراشه، ونظام المعيشة يحكي نظام الإقطاع، والأب أو رئيس البيت هو المتصرف المطلق.
وفي العاصمة يسمع الإنسان جميع اللغات المتمدينة لكثرة الأخلاط، حتى قيل إنه من كل ثلاثة أطفال يولدون اثنان آباؤهما من الأجانب، على أنها رغم ذلك أقل اختلاطًا من بونس أيرس مثلًا. فترة جميلة تلك التي أمضيناها في عاصمة أوراجواي، ثم أقلعنا الحادية عشرة مساء صوب بلاد أرجنتينا، وقد ساورتني تلك الليلة مخاوفُ عدةٌ؛ فلقد قرأت في دليل عن البلاد مصادَفةً أن الشهادات التي يقدِّمها المسافر إلى تلك البلاد لا يصح أن يزيد تاريخها على شهر وإلا رُفِضت، ولا يباح لحاملها النزول إلى الأراضي الأرجنتينية، وشهاداتي قد مضى عليها زهاء ثلاثة شهور، إلى ذلك فقد علمت أن الطبيب يدقِّق في الكشف على عيون المسافرين جميعًا، ومن كان مصابًا «بالتراكوما» لا يباح له النزول، وأنا لا يزال لذاك المرض عندي بقية رغم أني عالجته زمنًا، لهذه الوساوس لم أتمَّ ليلتي إلا غرارًا، وقد خُيِّلَ إليَّ أنهم لن يبيحوا لي حلول بلادهم، وعندئذٍ أعود من حيث أتيت بعد أن تكبَّدْتُ متاعب السفر ونفقاته الباهظة، ولقد ذكرت موقفي يوم رفَضَ أولو الأمر في ناتال وجنوب أفريقية أن أحلَّ بلادهم وأساءوا معاملتي، فكانت ليلة مريرة.
وفي الصباح كنَّا نجانب شواطئ الأرجنتين الوطيئة، وتيار النهر دافق وماؤه كدر واتساعه عظيم، بدا كأنه المحيط نفسه لا يرى له شاطئ آخَر، وقبل وصولنا بونس أيرس بنحو عشرين كيلومترًا قامت «الشمندورات» وسط الماء لتهدينا طريقنا ونسير وسطها، وفي التاسعة صباحًا رسونا على رصيف الميناء الهائل وتجَلَّتْ لنا البلدة في امتداد عظيم وأبنية شاهقة. هنا أقبل رجال البوليس والطبيب وأخذوا يفحصون الأوراق فحصًا دقيقًا، ولما أن جاء دوري لاحظ الرجل التاريخ فوضع أوراقي جانبًا وأشار إليَّ بالانتظار حتى ينتهي من سائر المسافرين؛ لأن في الأمر شيئًا فأيقنت أنهم سيرفضونني ويلزمونني بالعودة، وأخيرًا تحادثوا في أمري بمجموعتهم، وفحص الطبيب عيوني ولاحَظَ آثار الحبوب «التراكوما» بها، فأسرعت بإخبارهم بأن سياحتي قصيرة ولغرض علمي جغرافي، وأني لا أقصد المقام عندهم طويلًا بل سأعبر إلى شيلي، وأني مدرس في مدارس الحكومة المصرية، وأني موفد بمهمة شبه رسمية إلى وزارة معارف شيلي، وكان معي خطاب توصية من سعادة وزير شيلي في مصر فأطلعتهم عليه، عندئذٍ بَدَتْ عليهم علائم الرضا وتجاوزوا عمَّا اعتزموا وختموا الجواز وأباحوا لي النزول، فكدتُ أطير فرحًا وحمدت لهم ذاك الجميل وتلك المعاملة السمحة، وحتى رجال الجمرك والحمَّالون كانوا في غاية الوداعة وهم باشُّون مؤدَّبون جميعًا، وتلك من مزايا الشعب الأرجنتيني.
(٣) بلاد الأرجنتين أو الجمهورية الفضية: نبذة تاريخية
أرجنتينا
بونس أيرس
حللتُ نُزُلًا سوريًّا لصاحبه إلياس يعقوب في شارع ريكونكيستا، هداني إليه سوري لاقيته على ظهر الباخرة، وهنا شعرت بأني وسط بني قومي كلهم يتكلمون العربية في اللهجة السورية، والنُّزُل عظيم البناء، نظيف الأثاث والطعام عربي، فسرعان ما قُدِّمَ لنا «المحشي الدسم» و«الكبيبة» اللذيذة والكباب الشهي، وحتى الملوخية التي ما كنتُ أحلم بتذوُّقها في بلاد الدنيا الجديدة، والسوريون هناك جالية كبيرة تناهِز الثلاثمائة ألف، وهم نشيطون محبون للعمل، بيدهم كثير من المتاجر والأراضي والعقار، وكثير منهم من كبار الممولين، ورغم أنهم مجنسون بالجنسية الأرجنتينية فهم يحتفظون بالكثير من تقاليدهم، ويحرصون على لغتهم، ولهم بعض الجرائد تُطبَع بالعربية، قرأت إحداها «الزمان»، ومن أبنائهم مجندون وضباط في الجيش الأرجنتيني، وفي البلاد كثير من مختلف الأجانب وبخاصة الطليان، ثم الإسبان، ثم الألمان وكثير غيرهم حتى يخال المرء أنها بلاد عالمية يأتنس الغريب فيها بجمهرة من بني قومه مهما كانت جنسيته.
ثم كانت جولتي الليلية في أحياء «باريس أمريكا» كما يسمونها، وما كاد الليل ينتصف حتى أيقنتُ أنه جدير بالفرنسيين أن يسموا عاصمتهم «بونس أيرس» أوروبا؛ لأنها تفوق باريس في مجونها وخلاعتها وملاهيها ووجاهتها، فدور السينما والتياترات لا تدخل تحت حصر، ففي بعض الشوارع تراها متراصة بالعشرات إلى جوار بعضها في أبنية تروع المرء بجمالها وثرائها وحسن تنسيقها، وهم يبالغون في وجاهتها إلى أقصى حدٍّ، فترى الجدران تُكسَى بالمرمر الملوَّن في نقش بديع، وتُفرَش مداخلها ببُسُط وثيرة لا يكاد يسيغ المرء لنفسه أن يطأها بحذائه، أما أضواؤها مختلفة الألوان فتخطف الأبصار، حتى ليُخَيَّل إليك أن الشارع كله شعلة من نيران تتغير ألوانها بين لحظة وأخرى؛ أما المراقص والمقاهي الفاخرة فحدِّث عن كثرتها وجمالها، وفي كثير من المقاهي تعزف جوقة موسيقية في شرفة عالية من دونها مناضد الجالسين؛ وأما جمهور القوم في تلك المحال والذين تراهم يجوبون الطرق فيبدون في هندام أنيق نساء ورجالًا، وهم يبالغون في الوجاهة ويحبون الزهو والفخفخة، ويطربون لاستحسان الناس لأزيائهم وهم غادون أو رائحون، وتلك النزعة يُعرَف بها أهل أرجنتينا كلهم، وقد علمت أن جلهم ينفق ما يزيد على دخله مخافة ألا يبدو وجيهًا بين بني قومه، لذلك كان ادخارهم قليلًا، وهذا قد حدا بالحكَّام أن يبتلعوا من الأموال العامة ما استطاعوا، وجميعهم بين كبير وصغير يميل إلى الارتشاء الميل كله، وبالمال يستطيع المرء أن يستميل الحكَّام ويقضي ما شاء من أعمال، وكثير منهم يمتلك أفخر السيارات ويقطن في قصور غالية الأجور، بلدة يلمس الغريب لمجرد رؤيتها الثراء والغنى، ويحكم بأن أرجنتينا أرض تفوق بلاد أوروبا مالًا وعقلًا، وما كنت أخال بونس أيرس قد بلغت ذاك الشأن؛ فهي في نظري تفوق جميع عواصم أوروبا حتى باريس وبرلين، وغالب ظني أنهم هنا يحتذون مثل أمريكا الشمالية وينسجون على منوالها في كل شيء، ومن الأبنية كثير من ناطحات السحاب إلا أن أعلاها تبلغ طبقاته ستًّا وثلاثين صعدتها إلى الذروة في مصاعد سريعة، ولشد ما هالني مشهد البلدة بشوارعها التي خُطَّتْ في استقامةٍ تامة وتقاطُعٍ عمودي، أما الأضواء مساءً فيزوغ البصر فيها ويحار، وغالب تلك النواطح تضيق تدريجًا في أدوارها العليا حتى يبدو بعضها هرمي الشكل. أما جو البلدة فكان في اليوم الأول ممتعًا هو شبيه بأيام الشتاء المشمسة الدفئة في مصر؛ لذلك حقق في ظني تسمية المدينة «بونس أيرس» أي «الجو الجميل».
أما متنزهات البلدة فحدِّث عن كثرتها وبهائها، وأهمها متنزه بالرمو، ويمتد فوق تسعين ألف إيكر تشقه الشوارع البديعة يحف بعضها الصفصاف والبعض النخيل، وتتوسطها النافورات وتقوم حولها أقبية النبت في أشكال هندسية بديعة، وقسم منه خُصَّ بمختلف الزهور اسمه «روزيدال»، ومن أبدعها متنزهات «ديجراي» على ضفاف النهر، وكم يروقك مشهد القوم وهم غادون رائحون في كثافة هائلة طيلة اليوم رغم أنه موسم الشتاء، وتلاحظ مغازلة الشبَّان للسيدات علنًا، فهم يشيرون إليهن ويلقون بالقول مدحًا فيهن، وهن يقابلن ذلك بالبشر والسرور، ولا يُعَدُّ ذلك تعديًا عليهن، كما يعدُّه أقوام آخَرون، بل بالعكس كلما كثرت تلك المغازلة عُدَّ ذلك من حُسْن الذوق والمجاملة!
زرتُ جامعة بونس أيرس في بنائها الضخم وحركاتها العلمية الناشطة، وهناك أدهشتني إحصاءات المدارس والطلبة في أرجنتينا؛ فقد علمت أن المدارس الأولية الابتدائية يبلغ عددها ١١ ألفًا، بها نحو خمسين ألف مدرِّس ومليون ونصف مليون طالب، والتعليم فيها إجباري ومجاني لمدة ست سنين، ومن المدارس الابتدائية الكبيرة ٤٠٠ في أبنية فاخرة، وفيها يُصرَف الخبز واللبن المعقَّم مجانًا، والمدارس الثانوية ٢٠٦ بها ٢٥ ألف طالب والتعليم الثانوي ست سنوات، وهنا يتعلم الطالب اللغات الأجنبية، ولا يُعَدُّ الواحد متعلمًا إلا إذا درس الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، أما الجامعات فخمس، وفيها نحو ٥٨٪ من الطلبة يدرسون الطب، و٢٠٪ القانون، والجامعة تعطي ثلث أصوات إدارتها لكبار الأساتذة والثلث لصِغَارهم والثلث الباقي للطلبة، لذلك كانت سلطة الطلبة كبيرة وكثيرًا ما يتكرر إضرابهم حتى في المدارس الابتدائية. أدهشني ذاك الرقي العلمي، وقد جاوزت نسبة المتعلمين ٦٥٪ من أهل البلاد وعددهم ١٢ مليونًا، ولمَّا يمضِ على استقلال البلاد إلا قرن وربع قرن، ونحن لا نزال نتعثر في نُظُمنا التعليمية ولم نستطِع محوَّ الأمية إلا في نسبة ضئيلة لا تجاوِز ١٣٪، ولن أنسى موقفي من بعض شبان الجامعة هناك حين بدرني أحدهم قائلًا: «أظن أن حالة التعليم في مصر لا تزال متأخرة.» فسكتُّ قليلًا أفكِّر في الجواب، فأسرع هو قائلًا: «أظن أن الأمية عندكم حول ٥٠٪.» فقلتُ على الفور: تقريبًا. وأنا في شدة الخجل.
والناس هناك يحبون الإسبان لكنهم يحتقرونهم، ويرون في إسبانيا بلادًا متأخرة رجعية، فهم في نظرهم «وراء الأرجنتين بقرون كاملة في الرقي»؛ لذلك لا يقصدون إسبانيا في رحلاتهم إلى أوروبا إلا نادرًا، وجلهم يقصدون فرنسا وباريس التي يتخذونها المثل الأعلى لهم في كل شيء، اللهم إلا في أدب لغتهم فهم يرجعون فيه إلى مدريد، وتعصُّبهم لقوميتهم فائق الحد فحبُّ الوطن سابق على حبِّ الأبوين، وأنت لا ترى علمًا من أعلامهم رُفِع وسط طائفة تمر في الطريق إلا ويسرع الجميع برفع قبعاتهم احترامًا له، وكلهم فخورون بأسرتهم ومدنيتهم وشعبهم لدرجة الغرور، وكثيرًا ما قال لي بعضهم في الحديث بأن أهل أرجنتينا أرق أناس الأرض، وأن بلادهم أكثر بلاد الدنيا تقدُّمًا ورقيًّا.
والبامباس
وأخذ يزيد عدد الغنم لما أن نمت تجارة الصوف حتى بلغت اليوم ٨٠ مليون جنيه، ولما زاد الطلب على اللحوم شجَّعوا تربية الحيوان السمين، وأقاموا مضخات الماء الهوائية للسقي، وكان شحُّ الماء من قبلُ يسبِّب قتل ملايين من الحيوان، وكثيرًا ما شاهد النزلاء الأوائل مواطن المستنقعات غاصة بجثث الحيوان الذي أهلكه العطش في سنة تخلف فيها نبع الماء عن الأنديز، ولانبساط السطح وانتظام هبوب الرياح عليها ضمن الناس دوران المضخات دائمًا؛ وقد بدأ بعضهم يزرع الأشجار كأسوار للمزارع، لكن سرعان ما وقف ذلك لما أن استخدمت الأسلاك في الأسوار، وهي أنفع في منع اختلاط القطعان جيدة الأصل داخل المزرعة بالقطعان الوحشية رديئة النسل خارجها، وذلك زاد في قيمة منتجات المرعى وصادراتها، وكانت زيادة حيوان المرعى سببًا في جذب الججوار والبوما من جوانب الأنديز إلى البامباس. وقد بلغ من كثرة الخيول ورخصها قديمًا أن شوارع بونس أيرس الأولى كانت تضاء بشحم الخيول، وأكبر مصائب البامباس الجفاف والجراد وزيادة المحصول عن حاجة الأسواق والأوبئة، وقبل سنة ١٨٧٠ كانت البلاد تستورد قمحها من الخارج، لكنها اليوم تموِّن أسواق العالم.
وسكان أرجنتينا كانوا سنة ١٨٩٥ أربعة ملايين واليوم اثنا عشر مليونًا، وهناك طبقة من العمَّال المؤقتين يذهبون إلى البلاد من أوروبا لمدة قصيرة ويعودون بأرباحهم إلى بلادهم، وقد أُحصِيَ من هؤلاء إلى اليوم فوق تسعة ملايين، وأكبر الجاليات هناك الطليان، وغالب ملَّاك المساحات الشاسعة أيرلنديون وإنجليز وكثير من أولئك في الريف، أما الألمان والإسبان والسوريون فغالبهم سكان مدن — ونحو نصف سكان أرجنتينا سكان مدن — ولما كان غالب الناس من نزلاء الأجانب، خلص الناس هناك من تقييد التقاليد، فأنبت ذلك شعبًا شجاعًا وثَّابًا مغامرًا، وأضحت أرجنتينا مثلًا لمعجزات الطفرة الاقتصادية بين بلاد الدنيا.
ومن أشهى غذاء الجوكا المدرع «الأرمادلو» يصيدونه بشراك من صفيحة تُدفَن عميقة في الأرض وتُرمَى قطعة من لحم في قاعها، فإذا نزل فيها الحيوان لم يستطع الخروج لنعومة جوانبها، وهو يشوى كاملًا حتى ينضج لحمه داخل أغشيته الخارجية التي تُنزَع ويؤكل ما بها، ويغلب أن يغطي الجوكا سوقه بقِطَع عريضة من الجلد، وقد يغطي أرجل الحصان أيضًا لكيلا يؤذيه الشوك والعشب اليابس، وهم يعلمون صغار القطعان في آذانها بخروق بآلة شبيهة «بخراق التذاكر»، ويعرفها صاحبها بمجرد النظر إليها.
وفي الضيعة يعيش الجوكا معيشة الأصدقاء الأوفياء فيأخذ الواحد حصان جاره بدون علمه أيامًا وأسابيع، والماشية تجمح وتجري عندما ترى أحدًا من الناس راجلًا؛ لأنها تخاله حيوانًا آخَر إذ اعتادت رؤية الجوكا على ظهور الخيل دائمًا، وقلَّمَا يمشي الواحد منهم على رجليه، وقد يسير المرء على ظهور الخيل أيامًا في مزرعة واحدة؛ إذ بعضها يبلغ مئات الفراسخ يمتلكها غني واحد، وقد تضم مليون ماشية ومئات الألوف من الخيل، والجوكا هم خدمها ومأجوروها، وقد لا يعرف مالكها مساحتها بالضبط حتى ولا حدودها إذا حدث وهبَّتِ البامبيرو واكتسحت أسوارها كما يحدث غالبًا، وكثير من مساكن السادة فيها لا تزال كما كانت قديمًا بالطين والعصي لا تشعر بغنى أصحابها أبدًا، وحتى ماء الشرب يُوضَع في براميل ويشرب الواحد منهم بقرون الماشية بدل الأكواب، وجلُّ خفرها من الكلاب التي كانت وحشية واستُؤنِسَتْ، ومن الكلاب الوحشية كثير، وإذا أمضها الجوع هاجَمَتْ في جماعات وطرحت الفارس أرضًا ونهشت لحمه هو وجواده. وجلُّ الملَّاك من الإسبان وزوجاتهم من السود أو سلائل أخلاط السود والهنود، وتحيتهم الماتي تقدِّمه الزوجة والقوم جلوس على مقاعد من جماجم الثيران الكبيرة، وقد يُلاحَظ على أبناء المالك تغيُّر السحن؛ لأنهم من زوجات مختلفات، وغذاؤهم أكواز الذرة المسلوقة واللحم، وفي باكورة الصباح يخرج الأبناء على ظهور جيادهم ليراقبوا القطعان خشية أن تخرج من المزرعة، ويكادون يعرفون كل رأس من ماشية سيدهم التي تُعَدُّ بمئات الألوف ولو لم تكن معلَّمَة، ثم يعودون في الحادية عشرة لتناول الإفطار من اللحم والماتي، وكل الخيول تسرح في المرعى نهارًا إلا واحدًا يظل في البيت استعدادًا للطوارئ.
ومن عاداتهم أن الإناث من الخيل يجب احترامها، فلا تُركَب ولا تُسخَّر مطلقًا؛ لأنها تلد الجياد. ومن ألعابهم بالخيل «المصادرة» وفيها يقف فارسان متقابلين، ثم يهمزان الفرسين ويهجمان بعنفٍ ويضرب كلٌّ بصدره إلى صدر الآخَر، ويعاد ذلك مرات حتى يسقط أحد الفارسين إلى الأرض. ثم لعبة «الحشر» وفيها يقف الخيالة متجاورين، وجسوم خيولهم متلاصقة، ثم يهمزونها فتجري محاوِلًا كلٌّ أن يعطل سير الآخَر حتى يقاربوا الباب والذي يدخله يفوز. ثم لعبة تخطِّي العوائق، وفيها يجري الفارس إلى بابٍ أُقفِلَ بالعوارض الخشبية إلى قامة الحصان، فإذا قارَبَ العارضة لفَّ الرَّجُل نفسه ودار تحت بطن الفرس، ثم دخل الباب وعاد إلى مكانه من ظهر الجواد دون أن يبرحه أو يلمس الأرض.
وحياة الجوكا موحشة منقطعة عن العالم الخارجي، لا يرى حوله شيئًا ولا يختلط بآخَرين غير آلِه لبُعْد الشقة بين المزرعة والأخرى، لذلك ظلَّ متأخرًا غير متعلِّم رجعيًّا لا يعلم عن الخارج شيئًا، وأخصُّ صفاته الكرم والخرافات والخداع وعادة شرب الماتي وحمل سلاح اللاسو والبوليادور نقلًا عن الهنود الأصليين في بتاجونيا.
والنقل بالعربات الهائلة تجرُّها الخيول أو الثيران، وقد يجر العربة الواحدة أربعة أزواج من الثيران ينخسها الرجل بعكازته الملتوية التي زُوِّدت بأسنان حادة، فإن أراد أن يُدِيرها يمينًا وخَزَها في جانبها الأيمن فتنحدر إلى تلك الناحية، ولا تزال الطرق المتربة الرديئة غير ملائمة لسير السيارات، وبخاصة إذا سقط المطر فأحالها بركًا من الأوحال، وعند أوقات الراحة تُفكُّ الدواب وتُطعَم ثم يُذبَح حيوان ويُقطَّع وتُوضَع القِطَع في أسياخ طويلة تدق واقفة على الأرض وتُوقَد حولها النيران، وعند الأكل يُخرِج كلٌّ خنجرَه وينهش قطعة لحم يمسك أحد طرفيها بأسنانه والآخر بيده، وبيده الأخرى يأخذ خنجره ويقطع منها جزءًا يلتهمه وهكذا. ومن آداب الأكل مع «الجوكا» في البامباس أن الكل يأكلون من إناء واحد، فيضع الواحد ملعقته في وسطه تمامًا، ثم يجرُّ بها قطعة إلى جانب الإناء في استقامة، ثم يتناولها، فإنْ حادَ قليلًا عن ذلك عُدَّ سيئ الأدب، وهم قذرون؛ إذ قلَّمَا يغتسلون لندرة الماء حولهم.
ومن حيوان البامباس كلب البراري في حجم الأرنب، ويحكي الضبع في شكله ولونه، وإذا ما هدأت الحركة عند القيلولة أو في المساء خرج من أجحار لا حصرَ لها في جميع أنحاء تلك السهول، وهو لا يشبه الكلب قطُّ، بل أُطلِق عليه ذاك الاسم لأنه ينبح نباحًا يشبه نباح الكلاب الصغيرة.
قمتُ أغادر بلاد الأرجنتين تلك التي أثارَتْ في نفسي آلامًا جمةً عندما ذكرت بلادنا الأسيفة إلى جانبها، وكلانا يعتمد على ما تنبت الأرض، وتثقله الأموال الأجنبية، فللأجانب هناك فوق ٨٠٠ مليون جنيه تُوظَّف في مختلف المشروعات، وحياتنا الريفية تحكي حياتهم في سذاجتها وبقائها في كثير من نواحيها فطريةً، ومع ذلك فعزتهم القومية بالغة الحد، ورقابتهم على وسائل الإنتاج والاستفادة منها عظيمة، ومستوى التعليم والثقافة عندهم كبير، ونحن لا نزال في حالة يُرثَى لها، ولكن ذلك لا شكَّ من أثر اليد الأجنبية غير المخلصة، فهي هنا تُفسِد كل شيء، أما هناك فخاضعة لتشريع البلاد خضوعًا تامًّا، والعجيب أنهم لا يخشون زيادة النزلاء من الأجانب سنة بعد أخرى، لا بل يساعدون ذلك ويرغبون الأجانب على التوطُّن في بلادهم، فقانونها يذلل الهجرة للمزارعين والعمَّال ممَّن هم دون ٦٠ سنة في العمر، وكانت تُعِدُّ لهؤلاء النزلاء مقامًا وتموِّنهم بالغذاء لمدة الخمسة أيام الأولى، ولا يزال نُزُل المهاجرين يئوي ٤٠٠٠ نفس، ويُعفَى متاعهم من ضرائب الجمارك، ويُنقَل المهاجر وعائلته بسكة الحديد مجانًا إلى الجهة التي يريد المقام فيها، وتُعالَج أمراضه على حساب الدولة، لكن ذلك قُيِّدَ اليوم لكثرة البطالة في البلاد، ولا بد للمهاجر أن يحمل عقدًا يضمن له العمل حتى يذلل له الدخول.
ومن مساحة البلاد نحو ٣٨٤ مليون إيكر تصلح للزرع والرعي، وذلك يستطيع أن يموِّن مائة مليون من الناس، ولا تزال شروط الحصول على الأراضي سهلة جدًّا على أن الأرض كلما قاربَتِ العمران كانت أثمانها مرتفعة، فإلى مائة ميل من بونس أيرس يباع الإيكر بنحو ١٥ جنيهًا، وعلى بُعْد ٢٥٠ ميلًا بنحو ٨ جنيهات، وفي البامباس بين جنيه وثلاثة، وللدولة كثير من الأرض تبيعها بأقساط غاية في السهولة، ولا تزال الملكية كبيرة؛ إذ يفضِّل الناس أن يشاطر المزارع المالك في الإنتاج، ويقول الكثير إن الوقت قد حان لضرورة تقسيم الضياع الكبيرة إلى إقطاعات صغيرة ليخدمها صغار الملَّاك كما يجب، وغالب شركات سكة الحديد تمتلك الأراضي التي تشقها وتسهل بيعها وتوطنها لمَن أراد، وقد تقدِّم لبعضهم القروض لتعاونهم على الإنتاج. على أن نفقة المعيشة في أرجنتينا غالية على وجه العموم.
عبر الأنديز الرائعة
لقد كان من أحلامي التي خلتها منذ أمد بعيد خيالًا بعيد المنال، أن أعبر جبال الأنديز وأمتع النظر بمشهد «أكونكاجوا» ثانيةِ ذُرَى العالم علوًّا، وكانت تعاودني تلك الأمنية سنة بعد أخرى، حتى شاءت المقادير فحققت لي ذاك الأمل في الصيف الماضي، وكم كثرت الأراجيف وأنا على ظهر الباخرة إلى «الأرجنتين» بأن الطريق معطَّل ولن يمكن عبوره اليوم، وما كدت أصل إلى بونس أيرس حتى قصدتُ على الفور دارًا للسياحة مستعلمًا، فقيل لي إن الطريق معطَّل على أثر السيول والثلوج التي اجتاحت منه اثني عشر ميلًا بقطرها ومحاطها وقناطرها، ولن يمكن عبوره في ذاك الجزء إلا على متون البغال الممضة وسط السهول الرهيبة مدى أسبوع، فأخذتني الدهشة وكاد يتطرق اليأس إليَّ، لكنني عدتُ فاعتزمت القيام بتلك التجربة حتى لا أحرم رؤية مجاهل الأنديز الرهيبة، وبعد لَأْيٍ ما قبلَتْ شركة السياحة أن تبيعني التذكرة، وقد اشترطَتْ ألَّا تتحمَّل أية مسئولية إذا حدث لي حادث في الطريق، وكم سرح الخيال في تلك المجاهل بقية يوم السبت وطيلة الأحد، فكان تارةً يبدو الأمر قاتمًا مخيفًا، وطورًا يضيء الأمل فتبدو الرحلة ناجحة شائقة. قصدتُ دار الشركة صباح الاثنين لأتسلَّم التذكرة، وما كاد يراني الرجل حتى صاح باسمًا أنْ قد فُتِح الطريق لأول مرة، وأني سأعبر المنطقة المنهارة على السيارات المريحة بدل البغال الخَطِرة، وذاك أول يوم يُستأنَف فيه السفر المأمون بعد أكثر من نصف عام، ومن العجيب أني لم أقابل ذاك النبأ بما يستحقه من الفرح والبهجة؛ إذ كانت النفس تطمح إلى ركوب البغال وسط الثلوج، فتكون مخاطَرَة جديرة بالتجربة. ابتعتُ التذكرة إلى سانتياجو ودفعتُ زهاء ستة عشر جنيهًا مصريًّا ثمنًا لها.
وفي محطة «لاس خويفاس» دخل القطار ظلة أُقِيمت من الحديد المجزع تفاديًا من ثقل الثلج، وهنا تعدَّدَتِ الربى، فكانت كأنها الهامات الشم جلَّلَها الشيب الناصع، ومن ألسنة جليدها كان يسيل لعابها في زرقة مستملحة يزيِّنها زبد أبيض، وكم تكاثر الثلج على أسلاك غلاظ وصفائح قاسية فقوضها، وأنت ترى بقع الثلج الأبيض كمندوف القطن تملأ التجاويف الواحدة تحت الأخرى، والماء يسيل من هذه فيهوي في جنادلَ وشلالات إلى الأخرى فيغذيها، وقد يجمد بعض الماء الهاوي فيظهر في زوائد وأسنان بلورية، وفي الهُوى الغائرة يتجمع الماء ويجري في وادٍ ضيق، وفي كثير من البقاع كان يقام للقطار نفق من حديد مخافة تكاثر الثلج، وفي هذا الجزء كان القطار يسير على ثلاثة قضبان، الأوسط منها مسنن لكي تشتبك به تروسه خشية وعورة المنحدر.
دخل بنا القطار نفقًا طوله ميلان تقريبًا، ومن غريب المصادفات أن ارتفاعه عن سطح البحر ميلان أيضًا، وهو أعلى جهات سكة الحديد، فهي هنا ١٠٥١٢ قدمًا فوق سطح البحر، وفي وسط النفق الحد الفاصل بين الأرجنتين وشيلي، وبمجرد عبور القطار بنا هذا الحد داخل النفق، سمعنا صليل أجراس تدق من تلقاء نفسها عندما يضغط القطار على أسلاكها؛ وذلك إيذانًا بتخطي الحدود. ولما أن خرج القطار من النفق إلى ضوء الشمس أشار القوم أن ها هو «الكريستو» إلى يميننا، وهو تمثال هائل للمسيح أُقِيم في سنة ١٩٠٤ حينما احتكم الخصمان في مشكلة الحدود إلى ملك إنجلترا إدوارد السابع، والذي توسَّط في حسم النزاع وعرضه للتحكيم نساء الفريقين وقساوستهم على أن تُنفَق نقود الحرب في تحسين الطرق على الأنديز، وبجزء من ذلك المال أُقِيمت سكة الحديد، ثم اكتتبوا لهذا التمثال، وقضى ملك الإنجليز بجعل الحد عند تقسيم المياه بين الدولتين، وهي هنا على علو ١٢٨٠٠ قدم، والتمثال من البرونز القاتم صيغ من بعض المدافع الحربية القديمة التي أخذوها من الإسبان في حرب الاستقلال رمزًا للسلم وتحطيم أدوات الحرب، ويقوم على قاعدة من جرانيت وعلوه ٢٦ قدمًا، وقد نُقِش على قاعدة التمثال، وتحت أقدام المسيح ما معناه: «لقد أقسم رجال الأمتين بين يدي المسيح ألَّا يُنقَض عهد السلام بينهما، حتى ولو دُكَّتْ تلك الجبال فصارَتْ هباءً.» على أن التمثال كادت تكسوه الثلوج فتخفيه.
وفي منتصف الثانية عشرة مساءً دخلنا سانتياجو بعد مسيرة زهاء سبع عشرة ساعة من مندوزا أو سبع وثلاثين ساعة من بونس أيرس، وكان مقدرًا لعبور القارة كلها من بونس أيرس إلى سانتياجو ثلاثون ساعة بالقطار مسافة قدرها ٨٨٨ ميلًا أو تزيد.
(٤) بلاد شيلي
أما الشعوذة الدينية بينهم فبالغة أشدها، ففي يوم الأحد مثلًا يجمع الرجل جمهرة من الأطفال أو الفتيات ويقرأ في الإنجيل، وبين فترة وأخرى يردد الصغار أنغامًا دينية وبعضهم يقف وبيده القيثار ويرتلون وفق أنغامه، أما سحن الناس هنا فتسترعي النظر بكثرة تنوعها واختلاف تقاطيعها، فبينهم الجمال الفاتن والسحن المنفرة؛ وذلك لكثرة اختلاط أنسابهم مع الغير من الأجانب ومع الهنود الحمر، وذلك أوضح جدًّا في الطبقات الوسطى والدنيا، وأجلى ما يُرَى ذلك في سمرة الوجوه والشعر المغولي الأسود المرسل الذي كان يذكرني في بعض السيدات بشعور بنات اليابان، وقد تصاهر الإسبان الأوائل عندما حلوا البلاد بالهنود؛ إذ لم يحضروا نساءهم معهم، أما الإسبان الأصفياء من أبناء البلاد فيمثِّلون الطبقات الأرستقراطية. ومن المتنزهات المحبوبة هنالك «بارك كوسينيو» في ناحية متطرفة من البلدة عظيم الامتداد كثيف الشجر غير أنه بسيط التنسيق، وفي قلب المدينة رَبْوَتان: سروسان لوسيا وسروسان كرستبال، الأولى صغيرة وعلى ارتفاع أربعمائة قدم ترتقي إلى ذروتها بمجاميع من درج ودهاليز ملتوية في هندسة فاخرة وبين آنٍ وآخَر ينتهي بنا الدرج إلى رحبة زُيِّنَتْ بالنافورات والزهور والتماثيل، والربوة كلها تكسوها الأشجار فتبدو على بُعْد وكأنها القلعة ظللت بالشجر، أما تل كرستبال فأكثر علوًّا وأقل تنسيقًا يكسوه الشجر وقد صعدنا ذروته بترام مسنَّن «فونكلير»، ويتوج ذروة هذا التل تمثال هائل للعذراء تقف باسطة أكفها محدقة في السماء كأنها تطلب للبلد وأهله الرحمة والغفران، وفي قاعدته حجرة بها هيكل وتجاوره كنيسة صغيرة، وكذلك فوق تل لوسيا ترى بعض تماثيل للقديسين.
وأنت لا تمر بمكان لا تلمس فيه أثر النزعة الدينية، فجُلُّ تماثيلهم وأسماء أماكنهم وُضِعت على أسماء القديسين، أما مشهد المدينة كلها من قمة هذين التلين فرائع، ترى البلدة بشوارعها المخططة ومبانيها الوطيئة، وتبدو طرق القسم المستحدث متعامِدة على نظام بونس أيرس، ويبدو نهر سنتياجو الصغير ويُسمَّى نهر «مابوكو» يسيل ماؤه العَكِر دافقًا في شدة عنيفة، غير أنه شحيح الماء، وتعبره مجموعة من قناطر حديدية متجاورة، وقد مُدَّتْ على جوانبه المتنزهات الجميلة إلا أن أحياءه فقيرة قديمة، وتطوق البلدة سلاسل الجبال من جميع الجهات أعلاها في الجانب الشرقي، لذلك تراها تكسوها الثلوج الوضَّاءة التي تتلألأ إذا ما انعكس ضوء الشمس عليها بعد الظهر، وكثير منه يفوق علوه ١٣٠٠٠ قدم، صعدت ذينك التلين مرارًا وكنتُ أتخذ مكاني من الذرى وأستمتع بمشهد سنتياجو البديع في تلك الوهدة التي تحكي السهل بين المرتفعات، أما الجو فكان دفئًا مشمسًا بديعًا، ولم أحس شدة البرد قط رغم أنه كان موسم الشتاء، ورغم أن البلدة على علوِّ ١٧٠٦ أقدام.
والمدينة تبدو مزدحمةً بالناس عظيمة الحركة؛ لأنها تئوي ثلاثة أرباع المليون في مساحة تقرب من ثمانية أميال مربعة، فأنت أينما سرتَ أدهشتك كثافة الجماهير، لكن شتان بين مظهر الغنى والتأنُّق الذي تراه في بونس أيرس وبين الأهلين هنا، فهناك ترى أفخر الأزياء والمركبات والسيارات، أما هنا فهي دون هاتيك بكثير، وكنتُ أعجب لوقوف الرجال على جانبَي الطرق ساعاتٍ طويلةً في أحسن هندامهم، ولا عمل لهم إلا استعراض المارة من السيدات وإبداء الملاحظات والمغازلات، وقد هالني أمر رجل خلع قبعته وانحنى وصاح في وجه سيدة جميلة، ثم تبعه صحبه ضاحكين والسيدة لم تُبْدِ أيَّ امتعاض، ولم يستنكر أحد الناس هذا العمل. وحرية النساء هناك بالغة الحد، فالسيدة تصادق مَن تشاء على علمٍ من زوجها! ويُخَيَّل إليَّ أنهن لا يقرن في بيوتهن قط؛ لكثرة مَن ترى منهن في الطرقات في كل آنٍ، وقد أذكرني ذلك بإحدى الشهادات التي طلبَتْها مني مفوضيتهم في مصر؛ لتثبت لهم رسميًّا بأنه لم يسبق لي الاشتغال بتجارة الرقيق الأبيض، ويظهر أن ذلك كثير الانتشار عندهم.
قمتُ إلى فلبريزو في قطار الحادية عشرة والنصف صباحًا فوصلتها في أربع ساعات، والأجرة بالدرجة الأولى ٣١ بيسو — ٢٦ قرشًا — وقد أمضينا الساعة الأولى وسط سهول فسيحة منزرعة وهي بقية امتداد الوهدة التي تقام عليها العاصمة، وكان الفلاحون يفلحون الأرض بمحاريث عتيقة شبيهة بمحاريثنا في مصر. والخيول الضخمة المرسلة الشعور مطيتهم الرئيسية حتى في قلوب المدن الكبيرة، وتسترعي النظر شيلانهم وملافحهم، فالشال أو المعطف قطعة كبيرة من صوف يفتحون في وسطها دائرة تدخل الرأس منها دون أكمام أو أزرار، وسحنهم سمراء مستطيلة وشعورهم لامعة سوداء مرسلة تؤيِّد شديد اختلاطهم بالهنود الحمر. بعد ذلك أخذ القطار الفاخر يوغل في الجبال والربى البديعة تكسوها الخضرة والشجر وصبار الكاكتس وتتدفق على جوانبها المسايل السريعة، وبين آنٍ وآخَر كان يُباغِتنا أحد الوديان الملتوية أو إحدى الوهاد المنزرعة، وكانت زهور طلائع الربيع تنقش صفحات الجبال الجذابة، وفي محطة «لاي لاي» في منتصف الطريق بدأنا نسير غربًا صوب المحيط الأعظم ونخترق أنفاقًا عدة، على أن الجو هنا بدأ يتغيَّر وتلبَّدَتِ السماء بالغيوم التي تزجيها رياح المحيط الهادي، والتي كانت سنتياجو في نجوة من وابلها وطلها. وفي منتصف الرابعة بَدَا خليج فلبريزو الساحر الذي أذكرني بخليج نابلي تمامًا في امتداده الهلالي، وظهرت أبنية البلدة على طول منحدره تتدرج علوًّا.
فلباريزو
ويبدو على فلبريزو كثرة تزاحم الأهلين، فهي على صِغَرها تئوي زهاء ١٩٠٠٠٠ نفس، ومن أظهر الجاليات الأجنبية: الألمان والإنجليز والطليان، على أن الكثير من الأهلين يبدو عليهم العوز والفقر المدقع، فالطرق غاصة بصبية الشوارع وهم حفاة قَذِرون، وفي ثياب مهلهلة والمتسولون في كل مكان، والأحياء الفقيرة كثيرة ولهم سوق في أحد الميادين الفسيحة يفترش الباعةُ الأرضَ بسِلَعهم من خضر وزهور ومأكولات، وبعضهم بقِطَع من حديد صدئ قديم وكثير من سقط المتاع، وتزاحُم البقاء والمكافحة في البيع والشراء هناك بالغة الحد الأقصى، وكم كنتُ أتألم لمظهر البؤس الذي كان يتجلَّى على وجوه الكثير وأزيائهم، وغالب القوم هنا منكَبُّون على إدمان الخمر وعلى الإسراف في اللهو والمجون ليلًا، ويكادون يظلون كذلك حتى الصباح، على أن وسائل اللهو هنا ليست بالكثرة والفخامة التي رأيتها في بونس أيرس؛ لذلك كنت أسائل نفسي: ماذا عسى أن يفعل هؤلاء لو أُوتُوا من الغنى ووسائل اللهو ما أُوتِيه أهل بونس أيرس؟
أما مشهد خليج فلبريزو من فوق الربى ليلًا فساحر لم أَرَ أجمل منه، جلست مرارًا على جرف تلك الربى ومن دوني قوس من مصابيح ضخمة ناصعة البياض ضوءها خاطف، ومن خلفها نجوم تتلألأ في كثرة تملأ الربى جميعًا، وسفائن الماء منثورة في عرض الميناء بأضوائها، فكنتُ أجد في تلك الجلسات لذةً كبيرةً واستمتاعًا لا حدَّ له، والمنظر لا يقل روعة عن منظر ريودجانيرو ليلًا، وكم أنقَصَ من جلال تلك المناظر الجوُّ العَكِر الماطر الذي استقبلتنا به فلبريزو على خلاف ما عهدته في تلك المنطقة المتوسطة من شيلي؛ إذ نعلم أنها جنة الدنيا الجديدة، شمسها مشرقة وشتاؤها دفيء جميل، لكنَّ حظِّي لم يكن كاملًا؛ لأن ذاك الجو الرديء نادر في تلك البلاد، فإذا ما هبت بعض عواصف المحيط أو اشتدت ريحه أزجت أبخرة الباسفيك فشبعت الجو وعلت على صفحة تلك الجبال فأشبعتها وابلًا، وهذا ما حدث أيامي الثلاثة التي أقمتها هنالك، وكانت غزارة المطر تشتد في الأصيل والمساء، ولقد كنت أسائل نفسي: ماذا عسى أن تكون حال الجو في القسم الجنوبي من شيلي دائم التعرُّض للرياح الغربية التي تشبعه وابلًا من طلها في جميع الشهور والأيام.
وغالب مباني المدينة حديث عهد بالإنشاء، فكم تعرَّضَتِ البلدة للعواصف والنيران والزلازل التي أبادت منشآتها، لذلك كان القوم يتحاشون إقامة الأبنية الشاهقة خصوصًا في المرتفعات، وكثير منها أُقِيم من الخشب خشية الزلازل. ويظهر أن تلك الظروف القاسية هي التي جعلت القوم في شيلي كلها أميل إلى السكون والتقطيب؛ فأنت لا تكاد تسمع لهم جلبة رغم كثرتهم في الطرقات، وقد رماهم البعض بنزعة الحزن والاكتئاب، وهم في ذلك يشبهون الإنجليز وبخاصة الاسكتش، أما جمال السيدات وتدللهن في السير ففائق الحد، وكثير منهن ممَّن يملن مع الهوى، وبيوت الدعارة لا حصر لها! غير أن البوليس يراقبهن في شدة وصرامة؛ فلا يسمح لإحداهن بالمرور في الطرقات أو معاكسة المارة، غير أنهن يلتمسن غفلته ويجتذبن المارة ويصفِّرْنَ لهم ويُشِرْنَ بأيديهن، والأمراض السرية منتشرة في طول البلاد وعرضها حتى بين صغار الأطفال وبخاصة أبناء السبيل.
قامت بنا في تمام الخامسة وأخذ خليج فلبريزو يتجلى في كامل بهائه وبديع رونقه، وما كدنا نخرج إلى المحيط الأعظم حتى أخذت تترنح وسط موجه الهائج الرهيب، وعرا غالب المسافرين مرضُ البحر، أما أنا فيظهر أن كثرة التجوال وركوب البحار قد أكسبتني مناعة ضد هذا المرض، مع أني كنتُ حسَّاسًا له من قبلُ، وقد نمت ليلتي نومًا عميقًا، وكان الصباح مشمسًا جميلًا لكنَّ نَسِميَه قوي بارد، وكنَّا نرى الشواطئ الأمريكية على بعد طيلة الطريق في سلاسلَ جبليةٍ متعرجة، وأسماك البحر وحيواناته تلعب في كثرة فائقة وأعمها الحوت الذي كان يظهر بين آنٍ وآخَر بنافورته التي تقذف بالماء إلى علو كبير.
وكنا نرى على بُعْدٍ إلى يسارنا بعض جزائر سانتا كلارا الصغيرة التي كانت موطن «روبن سان كروزو»، وفي منتصف الساعة الخامسة رست بنا الباخرة في ميناء «شنارال» إحدى مدن شيلي الصغيرة التي قامت على الشاطئ الغربي، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت الإقليم غايةً في الجدب والجفاف؛ أرض جبلية عارية عن النبت حتى الأعشاب الشائكة وجباله تحكي جبال حلوان عندنا تمامًا، وشتان بين مظهر الخصب والخضرة من شجر ونبت في فلبريزو أمس وبين ذاك المنظر اليوم. ولقد ظلت الباخرة إلى منتصف الليل تحمل وسقها من كتل النحاس الغفل الذي يستغل في تلك الجبال، والذي من أجله قامت تلك القرية الصغيرة المنعزلة، وبلاد شيلي ثانية جهات العالم بإنتاج النحاس بعد الولايات المتحدة، وبجوارها أيضًا مناجم للحديد، أما القرية نفسها فليس بها شيء جدير بالذكر؛ فهي تحكي القرى المجانبة للصحاري عندنا، على أنها رغم ذلك تُضَاء بالكهرباء ليلًا فيُخَيَّل إليك أنها ذات شأن بثرياتها المنثورة.
دعانا تلك الليلة أحد الصينيين من ركاب الدرجة الأولى لمشاهدة بعض الأفلام السينمائية التي سيعرضها على ظهر الباخرة، وإذا بها كلها عن الحرب الصينية اليابانية، وكيف اعتدى اليابانيون على بلاد الصين وخربوا أحياء من شنغهاي وقتلوا من الأنفس الصينية البريئة، وقد أظهرت الأفلامُ الصينيين فائزين متفانين في الدفاع عن بلادهم وتلك الأفلام ناطقة، وكان هو وبعض مواطنيه يترجمون لنا ذلك بالإنجليزية، فأكبرت تلك الوطنية والدعاية لصالح بلادهم ضد طغيان اليابان، والرجل يتنقل في بلاد العالم هو وكثير من أمثاله ليُوقِف الناس على افتيات اليابان على حقوق الصين، وتلك وسيلة لا شك فعالة في اكتساب عطف الشعوب واستفزازها ضد ما تفعله اليابان. وعلى الرغم من أني أكاد أكون متحيزًا لليابانيين لشدة حبي لهم وإكباري لإخلاصهم لبلادهم، إلا أني شعرت عند مشاهدة تلك الأفلام بشيء من الاستياء منهم؛ إذ تجلَّى ظلمهم للغير مجسَّمًا، وكذلك كانت حال جميع المسافرين الذين شهدوا تلك الأفلام.
أصبحنا والجو بارد والسماء قاتمة، وإلى يميننا جبال شمال شيلي المجدبة، وهي بدء مناطق السماد المشهورة، وقد كانت تلك البلاد ملكًا لغير شيلي، الجزء الجنوبي منها «انتوفجاستا» لبوليفيا، والشمالي «أكيك» لبيرو، ثم اغتصبتها شيلي عقب انتصارها في حرب السماد أخريات القرن الماضي (١٨٧٩). لبثنا نرى تلك الجبال العاتية المجدية، وقد أخذت تزداد علوًّا وتعقيدًا ويغبر لونها في احمرار منفر حتى رأينا طلائع بلدة …
أنتوفاجاستا
ظهرًا ورسونا في مينائها الصغير على بُعْد من الرصيف؛ لأن غورها ليس بعيدًا، وأقلنا زورق صغير إلى البلدة التي بدت نظيفة صغيرة، طرقها في استقامة وتعامد، وبيوتها لا تزيد على طابق واحد اللهم إلا القليل جدًّا الذي بلغ الاثنين أو الثلاثة، وجلها أُقِيمت من الخشب يُطلَى باللون الأحمر ليحكي لون التربة والجبال من خلفها، ولقد أقام القوم بعض المتنزهات الجميلة في الميادين الصغيرة رغم أنها تكلفهم كثيرًا، فتربة البلاد ملحة كثيرة النترات والصودا ولا تصلح للزرع أبدًا؛ لذلك جلبوا تربة تلك الحدائق من وسط شيلي، أما الماء فشحيح لا بل معدوم لشدة جفاف التربة، ولكثرة أملاحها كانت مياه الآبار مالحة كأنها مياه البحار؛ لذلك يُجلَب الماء في أنابيب من قرب حدود أرجنتينا على مسافة ثلاثمائة كيلومتر، ولهذا كان الماء غاليًا يباع المتر بأربع بيسات أي فوق ثلاثة قروش.
والبلدة تقوم على تجارة النترات، وتصلها بسائر بلاد شيلي سكة الحديد، وكذلك منها إلى لاباز عاصمة بوليفيا، وصادف يومنا يوم الأحد، فكانت جميع المتاجر مغلقة وحركة البلدة نادرة، إلا النساء اللواتي كن يشرفن من نوافذ بيوتهن ويحاولن اجتذابنا بالإشارات والنداء والابتسام، وكان هذا اليوم أحد أعياد البلدة الدينية، خرج الجميع فتيات وصبية، في ملابسَ خاصةٍ، والنساء والرجال في الأردية السود، يحمل الجميع الأعلام ويرتلن مقطوعات من الإنجيل، وجمهرة من زعماء القسس تسير في لباس الكهنوت تحت ظلل كبيرة فكان منظرًا جميلًا، والمذاهب الكاثوليكية في تلك البلاد متغلغلة في قلوب القوم إلى الأعماق، غير أن ذلك لا ينسيهم مجونهم، فهم كثيرو الإسراف في أمور النساء والخمر والميسر، وعند مواقيت الصلاة أو الشعائر يتزاحمون على الكنائس في شكل يسترعي الأنظار.
أما بلدة توكوبليا فشبيهة أختها السالفة «انتوفجاستا»، لكنها أصغر مدى وجبالها من ورائها أشد عتوًّا وغبرة وأمعن في التغضُّن والجدب والعلو، ولم يسمح لنا بالنزول رغم أنا أقمنا في مياهها زهاء ثمان ساعات؛ ذلك لأنها موبوءة بمرض «التيفوس»، ولا يزال كثير من الأمراض المعدية منتشرًا في بلاد شيلي لجهل كثير من الأهلين، وافتقارهم إلى النظافة.
(٥) بيرو مهد مدنية الأنكا
وقفت باخرتنا هنا يومين استطعنا خلالهما أن نركب السيارات إلى بحيرة تتكاكا ومدينة كزمو عاصمة الأنكا القديمة، فكنا كلما صعدنا إليها يزيد خصب الإقليم ويكثر نبته، وكانت سكة الحديد تجانبها وهي التي يعدونها في الداخل أعلى سكك حديد العالم أجمع.
كزكو
فأخذنا نشق مجموعة من شوارع مختنقة منحدرة ترصف أرضها بالحجارة منذ عهد الأنكا، ولا تستطيع العربات اختراقها، بل كنا نرى قطعانًا من حيوان اللاما تسير في كل مكان برءوسها التي تحكي رءوس الجمال، وأجسامها التي تشبه الغنم، وأرجلها التي تقارب أرجل الغزلان، وكم كانت تروقنا مشية اللاما التي يبدو عليها الوقار، فخُيِّلَ إلينا أن الحيوان لا يزال يفاخر بأنه دابة آلهة الشمس معبودة الأنكا، والعجب أنك إذا أغضبت الحيوان بصق في وجهك! وإذا حملته ما لا يطيق برك في الأرض ولم ينتقل حتى تخفِّف من أعبائه. وغير اللاما كنا نرى قطعانًا من الفيكونا والألباكا قريبة شبه منها لكنها أكثر نحولًا، ولا تزال ترى قطعان البغال تُسخَّر في النقل فوق مرتفعاتهم العاتية، والعجب أن عيونها تغمى عند تحميلها لكيلا يزعجها كبر الأحمال، ولم يكد يخلو طريق من المباني القديمة اتخذت أساسًا للجديدة، وحتى كنيسة سانتو دومنجو تقوم وسط جرانيت معبد الشمس الذي قيل لنا إن أبوابه وسقوفه وأرض حدائقه كانت تقام من ذهب خالص! ويدهشك وضع الأحجار بدون مِلاط، واستدارة زوايا الأبنية في إحكام عجيب، ويقول العلماء إن إتقان الهندسة ودقة العمارة في معبد الشمس لا يضارع في أي أثر في الدنيا بشكله المستدير الذي غالب الزلازل العاتية قرونًا، فلم تُحدِث به سوى صدع بسيط في بعض أحجاره الجرانيتية، وأغرب ما لاحظناه في أبنيتهم ميلها كلها نحو المركز كلما علت، واستدارة جوانبها مما أذكرني بمخلفات أجدادنا قدماء المصريين، ولعل أفخر بقاياهم بعض الأحجار الهائلة يقوم إلى جوارها مدرج من حجر كان مقر عرش ملوك الأنكا، ثم حصن ساكسا هوامان الذي يخاله البعض سابقًا لعهد الأنكا، وقد قالوا بأنه خير ند لأهرامنا، لكني ألفيته دون ذلك بكثير، ومن أحجاره ما يزن الواحد ١٧٠ طنًّا، وُضِع الواحد فوق الآخَر بدون مِلاط.
وقد دلتنا تلك الآثار على قيام مدنية قد ترجع إلى أربعة عشر ألفًا من السنين، وقبل بتزارو والإسبان بأربعة قرون أسَّس هؤلاء القدماء عاصمتهم في كزكو في وهدة حولها الجبال، ولقد صاغوا الذهب والفضة منذ القِدَم في دقة مدهشة، وزرعوا وديانهم ومدرجاتهم، ونسجوا غزلهم من القطن الذي أنبتوه بكثرة في وديانهم، وكذلك من صوف اللاما، ومنسوجاتهم تضاهي أرقى منسوجات عصرنا، ولقد حار كبار المهندسين اليوم في وسائل الري التي أقاموها في كل مكان، وقد أقاموا المدن وعبَّدوا الطرق، وقد رُصِف بعضها بالفضة لكثرتها في جبالهم، وقد مدوا طريقًا بين عاصمتيهم كيتو وكزكو مسافة ١١٠٠ ميل، وزينوا قصورهم ومعابدهم بالذهب والجواهر، ومدُّوا مُلْكَهم من إكوادور إلى شيلي مسافة تزيد على ١٢ ألف ميل، ولم يستخدموا سوى المحراث الخشبي؛ خشية أن يُظهرَ الحديديُّ النترات والأملاح الغائرة فيميت الزرع، ولا تزال مجاريهم وأرصفتهم باقية، وكذلك مبانيهم الجرانيتية العاتية، وقيل إنهم استخدموا عصير بعض الجذور في قطع الأحجار، وحنطوا الجثث التي رأيناها في المتاحف بعضها حافظًا لشكله إلى الآن! وحفظوا مأكولاتهم من العطب بوضعها في كومات من الثرى المبلل فوق المرتفعات يجمد من حولها ويثلجها، وكانت حكومتهم شيوعية مُصلِحة توزِّع قِطَع الأرض، وتترك ثلث المحصول لرجال الدين، والثلث للزراع، وتأخذ هي الثلث، ومنه تنفق على الدفاع والطرق والمستشفيات والعجزة، وتدخر الغذاء لسنوات القحط في محاط تقام على مسافة أربعين ميلًا، وقد كانوا عليمين بزراعة ستين نباتًا بين نبات المناطق الحارة يزرع في المنخفضات والباردة فوق الهضاب، ولم يستخدموا النقود؛ إذ لم تكن بهم حاجة إليها؛ لذلك نجوا من الآثام والجرائم فلم يدون لهم التاريخ جريمة واحدة؛ لأن المال والطمع فيه هو لا شك أكبر دافع على الإجرام، وقد صاغوا المعادن للزينة، وكانت الدولة تعين لهم الملاعب والحفلات يحضرها الناس مجانًا، وكانت سنتهم اثني عشر شهرًا متساوية الأيام كل شهر ثلاثون يومًا، والخمسة الأيام الأخيرة أعياد رسمية يشترك فيها الناس جميعًا.
أليست هذه أسعد حكومة وأهنأ أمة عرفها التاريخ؟! على أنها بذلك لم تعُدَّ الرجال للقتال ولم تُخرِج زعماء أفذاذًا، لذلك لما داهمهم الطاغية بتزارو وقتل ملكهم فزعوا وشتتوا وذهبت ريحُهم، وكانوا يعبدون الشمس، وحتى المسيحية اليوم ليست متمكنة من قلوبهم؛ إذ رأيناهم يحوطون صلبانهم التي في كنائسهم وبيوتهم وفوق أكداس غلالهم في الحقول بهالات تحكي أشعة الشمس، ولهم الحق في عبادتها إذا أدركتُ فعلها السحري في إنضاج زرعهم فوق تلك المرتفعات ذات الثلوج، وما أقسى لياليهم إذا قورنت بنهارهم المشمس الدفيء، ويظهر أنهم كانوا في عبادتهم أقرب إلى التوحيد، يؤيد ذلك بعض أدعيتهم في الصلاة؛ أذكر من بينها: يا رب الكون أين مستقرك؟ لِمَ تختفي وراء شمسك هذه؟! قد تكون فوقنا وقد تكون تحتنا وقد تكون بعيدًا عنا في الفضاء؟ أين تُرَى مقر عرشك العظيم؟ أنصت لقولي؛ فقد تكون بين الأمواه العليا وقد تكون بين الأمواه الدنيا ورمال شطآنها هنا قد يكون موطنك خالق الكون موجد الإنسان.
لبثت الباخرة تحمل وساقها من الصوف أهم غلات الأقاليم إلى الساعة الثانية بعد ظهر اليوم التالي، ثم أقلعت وسط اضطراب الماء وعنف الريح. أما الجوف فقد أخذ في الدفء قليلًا؛ لأنا كنَّا نقارب عرض ١٦°ﺟ، والسماء يغشاها غطاء من سحاب مجزع حجب ضوء الشمس أو كاد، وقد صادَفَ أن زاملني في الباخرة أستاذ في جامعات نيويورك يحاضر في الجغرافية في عدة جامعات، ويقوم برحلات كبيرة، وكان معه ابنه أحد طلاب الجامعة، وكان من أولى أغراضه أن يُوجِد علاقةً بين طلبة الجامعات والمدارس في جميع بلاد أمريكا الجنوبية وبين جامعته، وقد مضى طلبته على ورقة طويلة يقدِّمها لكل مدرسة يزورها، وطبع شبه شهادة باسم المدرسة والمملكة ورغبتها في تلك الصداقة يمضيها ناظر كل مدرسة ويختمها بخاتم المدرسة، ثم يحملها معه إلى مدرسة نيويورك، وتبدأ من ثَمَّ المخاطبات للمدرسة معطية أخبار الدولة وطرق التعليم والمعلومات عن كلِّ ما يتعلق بتلك البلاد ماضيها وحاضرها؛ ليعلم طلبة أمريكا الشمالية حقيقة تلك البلاد؛ لأن غالبهم يكادون يعتقدون أن أهل أمريكا الجنوبية متوحشون — وذلك شبه ما يعلمون عنَّا في مصر — وقد زار الرجل في رحلته غالب المدارس والجامعات وحمل منها تلك الشهادات، وقد رمز للشهادات برسم صغير «للاما» شعار أمريكا الجنوبية.
فكرة جميلة يا حبذا لو وُفِّقنا إلى تقليدها بين طلبتنا وطلبة أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لنعطيهم عن بلادنا فكرةً صائبة وهم يجهلونها كلَّ الجهلِ.
وهو يحاضر عن رحلاته الجغرافية في ١٥٠ كلية ومدرسة، ودهشت لما رأيت شعور أهل أمريكا الجنوبية — خصوصًا شيلي وأرجنتينا — ضد الولايات المتحدة؛ لأنهم يتهمونها بإرشاء رجالهم وبتوريطهم في الاستدانة منها؛ كي يصبح لها نفوذ في تلك البلاد، ويظهر أنهم أدركوا ذلك فبدءوا ينشرون من الدعايات ما يحببهم فيهم.
قمنا منتصف الليل، وفي باكورة الصباح دخلنا ميناء كلاءو، ولا ينطقونها كذلك بل «كايَّاؤ»، وعجبت لما علمت أن لهذه الكلمة الإسبانية معنى هو «اخرس؛ لا تتكلم». وتُعَدُّ من أهم المواني على الباسفيك وإن كانت السفن الكبيرة لا تزال ترسو بعيدًا عن المرسى، والعمل قائم على إعدادها بحيث تصلها جميع السفن قريبًا. بدت في سهل لا تبدو حوله الجبال، اللهم إلا في شبح فاتر عند الأفق وفي جزيرة صخرية جنوب الخليج تتخذها الدولة محطة للأسطول الذي رأينا بعض قطعه راسية وسط الميناء. نزلنا المدينة في «لنش صغير»، فكانت حركة الشحن والتفريغ كبيرة، وقاطرات السكة الحديد تروح وتغدو وهي ممتلئة بالسلع في حركة ناشطة. أما أبنية البلدة فقديمة بالية، وطيئة جلها من طابق واحد، وقليل من اثنين، وسكانها ٧٥ ألفًا وحدها، ويصلها بالعاصمة التي تبعد عنها بثمانية أميال القطار والترام والبس، فبعد جولة قصيرة فيها أخذنا الترام الفاخر ذا الفرش الوثيرة من الجلد مسيرة ثلث ساعة إلى ليما عاصمة البلاد، فسار بنا وسط سهل زراعي ممدود إلى الآفاق يكسوه النبت من حشائش وخضر وغيرها، وكانت تقوم بعض أبنية الفلاحين من اللَّبِنِ كبيرِ الحجمِ أو من الطين، وأسوار الحقول كذلك، أما الطريق فغير مرصوف كثير الحصى والتراب. أخيرًا دخلنا …
ليما
جُبْنَا بعضَ نواحيها فأدهشني ما رأيت من شوارعَ هائلةٍ دونها شارع الملكة نازلي عندنا، تتلاقى في ميادينَ نُسِّقَتْ أيما تنسيق، وقامت وسطها التماثيل والأنصاب أذكر من بينها: ميدان مايو بنصب الحرية الطائر في السماء، وميدان سان مارتين بتمثاله يمتطي حصانًا، وميدان أرماس، وميدان بوليفار وفيه تمثاله على جواده الجاثي على رجليه الخلفيتين، وكثير غيرها؛ أما المباني في تلك الطرق المنسقة ففاخرة وفي طرز من الهندسة مختلفة.
دخلت الكتدرائية، وهي أقدم أبنية البلدة، أقامها «فرنسسكو بتزارو» منشئ ليما سنة ١٥٣٥ في ضخامة تفوق الحد؛ إذ رأيتها من ظاهرها ببرجَيْها الشاهقين وكتلها الهائلة، أما من داخلها فالأقبية والنقوش والمزامير يحار المرء أمامها، وقد كُسِيت المقصورة الرئيسية بجدرانٍ ومقاعدَ من خشب الأرز القاتم في خرط بديع، وفي جانب منها تُدفَن جثة «بتزارو» داخل صندوق فاخر وفوق غطائه تمثاله الذهبي النائم، وحوله جل رجاله وقوَّاده. كشف الرجل لي عن جثته فإذا بها محنطة لا تزال بقايا اللحم والجلد تبدو على العظام، وقد أشار الرجل إلى الإصابتين اللتين أُصِيبَ بهما: واحدة في صدغه الأيمن والأخرى في جانب ثديه الأيمن، وقد ألفت نظري طول جثته، فقال الرجل بأنها ١٨٠سم، وكان أسفل وجهه يبدو مقطبًا منفرًا أذكرني بقسوته التي ضُرِب بها المثل رغم شيخوخته؛ فقد بلغ الخامسة والستين عامًا، والعجيب أنه كان أميًّا، حاول أن يتعلم الكتابة فلم يطق صبرًا عليها، وعرف كيف يكتب إمضاءه فقط، وقيل إنه نسي ذلك وكان سكرتيره يمضي عنه وهو يضع فوق إمضائه ليات ثعبانية خاصة، ولم يتزوج قط، بل حاز ابنة ملك الأنكا «أتاهوالبا»، ورُزِق منها ببنتين وغلام، وقد كان موفَّقًا في انتصاره على الهنود؛ إذ إنه صادف ملك الأنكا عائدًا إلى عاصمته فباغته بعدد من الجند قليل وقبض عليه، فافتدى أتاهوالبا نفسه بأكبر فدية عرفها التاريخ: حجرة من ذهب ذرعها ٢٢ قدمًا في ١٦، وعلوها قامة رجل بأذرعه ممدودة، ولكنه بعد أن أمنه وتسلَّمَ الفدية غدر به وقتله، وقد نقش على صندوقه: مؤسِّس ليما في ١٨ يناير سنة ١٥٣٥، والمتوفى في ٢٦ يونيو سنة ١٥٤١.
ويلاصق الكنيسة بيت «البشوب» زعيم الدين في بناء فاخر تخرج منه الشرفات في خرط من الأخشاب الثقيلة، والبيت يُشعِر بعظيم النفوذ الذي لرجل الدين الكاثوليكي هناك.
ومنظر بيرو كلها من المحيط منفر مجدب عارٍ عن أي نبت حتى نخيل الصحراء، ولقد قيل إن السماء لم تَجُدْ برخة مطر إلا منذ ستة عشر عامًا! فمنظرها يزهِّد فيها القادم من البحر، لكنك تجد وراء ذلك الشاطئ قطرًا من أجمل أقطار الأرض وأغناها، فوراء الساحل المجدب هضبة ذات وديان خصيبة، ووراء هذه منطقة غابات كثيفة كثيرة المطر الذي يسقط كل يوم تقريبًا «منتانا»، فبيرو بلاد متناقضات حقًّا، وتُرمَى بيرو بأنها «متسول يعيش على جبل من ذهب» بسبب فساد حكومتها التي أفقرت البلاد رغم كنوزها الهائلة، وكلما أوغلنا في الداخل لاقينا شعوبًا أكثر سذاجةً وأبعد عن المدنية، فقرب الساحل سلائل الإسبان الذين لم يختلطوا بالهنود، وهم على جانب كبير من الثقافة والتحضُّر، ونساؤهم أجمل نساء أمريكا الجنوبية، خصوصًا في ليما، أجسامهم أميل إلى السمنة لكثرة استقرارهم في البيوت، ولقلة اشتغالهم بالرياضة، ويكثرون من التزيُّن ولبس الحلي، ويلي الإسبان في بلاد الوسط هنود كوتشوا النشيطون ولغتهم هي السائدة، أما إذا دخلنا مناطق الغابات ساد الهمج من أهل الأحراش بلهجاتهم المتعددة التي تغاير الواحدة الأخرى، وقد قُدِّر عددهم بنحو ٣٠٠ ألف ينقسمون إلى أكثرَ من ٩٠ لهجة مختلفة.
عندئذٍ تقدَّمَ مصارِع آخَر في أردية من الجلد وهو يمتطي جوادًا غمت إحدى عينيه المجانبة للثور وبيده حربته، وقارَبَ الثور الذي نظر حائرًا، ثم هجم كاسرًا على الجواد ودفع بقرونه تحت بطنه ورفعه هو وفارسه إلى الجو، وسرعان ما اقترب المصارعون الآخَرون وأخذوا يلوحون للثور بخرقهم ليصرفوه عن الجواد إليهم. هنا صاحت الأبواق فتنحى المصارعون إلا مصارعًا أخذ يلوح فوق رأسه بسهمين، ويضرب الأرض بقدمه، ويصيح في وجه الثور الذي طأطأ رأسه وأخذ يتقدَّم إلى الرجل، والرجل يتقدَّم منه حتى إذا ما كاد يلمسه أحنى الرجل رأسه وبسرعة كالبرق دفع بحربتَيْه إلى عنق الثور وتركهما عالقتين به وتنحى قليلًا، وأعاد الكرة مرات حتى أصبحت رقبة الثور مرشوقة بالسهام التي كانت تؤلمه كلما تحرك، لذلك زهد في الحركة ووقف خائرًا والدم يقطر من جوانبه، هنا صاحت الأبواق ثانية وتقدَّمَ أمهر المصارعين وبإحدى يديه شبه علم لوَّحَ به يمينًا ويسارًا وباليد الأخرى سيفه، ثم ركع على إحدى ركبتيه والثور الغاضب الخائر يهاجمه، وهنا كانت فترة حرجة كادت تودي بحياة المصارع، ولكل حركة يأتيها المصارع الآن معنى خاص واسم يعرفه هواة ذاك اللعب، وما إن أثبت الرجل قدرته في الصراع حتى نفخ في الصور النفخة الأخيرة، ولوَّحَ الرجل للثور بعلمه الأحمر في يده اليسرى، ولما هاجَمَ الثور ذاك العلم بَيَّتَ المصارع سيفه في نقطة معينة من عنق الثور، فترنَّحَ الثور ألمًا وركع وصاح متأوِّهًا والدم يتدفق من فمه وأنفه، وسرعان ما سقط إلى الأرض وسط أصوات من التهليل والابتهاج والتصفيق وسيل القبعات التي انهالت على المصارع وهو يطوف بالحلبة في شبه تفاخُرٍ، ويردد تحية الناس في ابتسام المنتصر الفخور. مشهد تَقْشَعِرُّ له الأبدان وتَشْمَئِزُّ النفوس، وهل أمعن في الوحشية والقسوة من ذلك؟!
(٦) إلى جمهورية خط الاستواء: إكوادور
وهذا الاسم مشتق من جوايا اسم أحد ملوك هنود ذاك المكان، و«كيل» اسم زوجته إحدى الأميرات.
أخيرًا بدت جوايا كويل ممدودة على الضفة اليمنى على النهر الذي كان تياره شديدًا وماؤه كثيف الوحل والطمي، وطلائع مساكنها من أكواخ تقوم على العصي، ثم ظهرت أرصفة الميناء عليها قناطر الخشب يؤدي دَرَجُهَا إلى البواخر الصغيرة، وهذه تحمل المتاع والمسافرين إلى وسط النهر حيث تقف السفن الكبيرة، وسعة النهر تعادل نيلنا مرتين أو ثلاثًا. نزلنا البلدة وإذا قسمها المستحدث نظيف حسن الرصف، تزينه بعض المتنزهات تتوسطها التماثيل وتقوم به بعض المباني العالية المستحدثة، أما القسم الداخلي وهو معظم البلدة فطرقه متهدمة مهملة غير مرصوفة، ينبت العشب فيها فتبدو كأنها أجزاء من حقول المزارع، وتقوم عليها بيوت عتيقة من خشب يُطلَى ببعض الجير الملوَّن، وأكبر ما يميز أبنية البلدة جميعًا — حديثة وقديمة — أنها كلها من خشب، وأن واجهاتها تقوم على عمد من جذوع الشجر تزود جوانب الطرق بممار مسقوفة تقي المارة وهج الشمس.
أما حرارة الجو هناك فبالغة الحد: الشمس فوق رءوسنا ظهرًا، ولا يطيق المرء المكث بها دقيقة واحدة، والجو استوائي مرطوب، لذلك كنَّا نشعر بالجهد الشديد إذا سرنا مسافة قصيرة، وقد عجبت لسرعة الفرق، فمنذ يومين كنَّا في جو بارد ثم أصبحنا اليوم في هجير خط الاستواء، ولقد بَدَا أثره السيئ في أجسام الأهلين الناحلة هناك وتقاطيعهم المستطيلة وألوانهم القاتمة الشاحبة، وكنت أرى الكثير منهم يرتمي إلى جوانب الجدران في خمول وسكون، وإذا نظرت إلى داخل أحد البيوت من نافذته أو بابه ألفيت القاطنين به نصف عراة — رجالًا ونساءً — وفي فترة القيلولة يستلقون على أرجوحة من شباك الحبل رُبِط طرفَاها في ركنَي الغرفة، والعرق والتقطيب يعرو وجوههم جميعًا. هنا ذكرت بلاد الملايو وبلاد الهند؛ فهي قريبة شبه بأولئك في الجو والخمول ونحول الأجساد وشحوب الألوان، وقد زاد الشبه قربًا تلك البيوت ذوات الظلل التي تعم الطرق كلها. حقٍّا إن للجو الحار الرطب لأثرًا سيئًا على مجهود الإنسان وإنتاجه؛ فقد أحسستُ ذلك في نفسي عندما كنتُ أحاول أن أفكر أو أكتب هنا كما كنتُ من قبلُ، فلا تجود القريحة إلا بالنزر اليسير، وإني أعزو مظهر الفقر الذي يعم الناس جميعًا في هذا البلد إلى قلة الإنتاج بسبب الجو المنفر.
أما الأهلون فذوو سِحَنٍ مختلفة وإن تشابهت أجسادهم في النحول؛ فمنهم الأسود ومنهم الأسمر بطبقاته العدة، ومنهم الأبيض — وهو قليل — كذلك تقاطيع الوجه تراها مختلفة، لكن المظهر السائد هو التقاطيع الهندية. أما النقود المتداولة هناك فأساسها «السوكر» وهو ريال إكوادور، لكن قيمته كانت في هبوط شديد، فالريال المصري يساوي اليوم عشرة منه أو يزيد، أعني أن السوكر كان يعادل قرشين، وعجبتُ لشدة رخص المأكل بكافة صنوفه، فالوجبة الوافية بسوكرين، أي بأربعة قروش، وكوب الشراب المثلج بمليمين، والفاكهة يهولك رخصها وكثرتها؛ فالموز بالغ الحجم، شرينا «الدستة» بخمسة مليمات، وثم أنواع لا تُحصَى كالأناناس والباباز والقشطة والبرتقال وصنوف أخرى لا أعرف لها اسمًا، والمعيشة كلها رخيصة عدا المصنوعات الواردة، وحتى أجر الترام والأتوبيس خمسة سنتافات، أي مليم واحد، ومسح الحذاء كذلك، وصندوق السجاير «١٢ سيجارة» بثمانية مليمات، لذلك لم أعجب لعدم وجود «تذكرجي» في الترام أو البس، بل صندوق يجاور السائق تضع فيه الأجر عند دخولك، ومما يؤلمني جدًّا كثرةُ البائسين بينهم والمتسولين وأبناء الشوارع الذين تراهم حفاةً عراةً في حالة يُرثَى لها، وقد ناولْتُ سيدةً سألتني إحسانًا عشرةَ سنتافات أي مليمين، فأغرقتني دعاءً وشكرًا وكادت تطير فرحًا!
ظلت باخرتنا اليوم كله تحمل وسقها، وجُلُّه من الموز الضخم الذي نقلت منه في جوفها هذا اليوم ٢٤ ألف عرجون، وكانوا ينقلونه من الزوارق إلى الباخرة على جهاز يدور بنفسه ويلقي بالعراجين إلى بطن الباخرة والرجال وقوف لتنظيم صفوفه، وإلى جانب الموز حملنا بعض القطن وصناديق قبعات بنما الشهيرة وبعض الكاكاو والبن.
وقد هالتني كثرةُ الكنائس التي لا يكاد يخلو منها طريق واحد، وجلُّها كبير المساحة شاهق البناء، على أنها كسائر البيوت من الخشب؛ لكثرة وجوده حولهم من جهة، ولأنه يقاوم أثر الزلازل من جهة أخرى، ولكي يقيهم الحر تجد الجوانب المعرضة من البيوت تغشاها شرائح من شبه غاب «خيزران» صقيل. وإكوادور هي القطر الوحيد في أمريكا الجنوبية الذي لم يطرد منه الجزويت؛ فالقسس تراهم في كل مكان ويسودون الآفاق، فهم عشر مجموع السكان، ونحو ربع الأملاك هناك للكنيسة، والبلاد شديدة التأخُّر، وجلُّ أهلها قَذِرون أميُّون رغم أن القانون هناك قد حتَّمَ التعليم الإجباري منذ سنة ١٨٨٠، أعني قبل أن يصدر في إنجلترا نفسها، لكنه لا يكاد ينفذ!
ويتزيَّن رجال الجفاروس بعقود من الأزرار وغاب في الآذان، ويرسلون شعورهم ويضفرون فيها ريش الطير الأصفر، ولا يلبسون سوى قطعة قماش تلفُّ حول الخصر، ونصفهم الأعلى عار وهم أشرس الهنود هناك، ويُطلَق عليهم اسم صيادي الرءوس، ومن أعجب عاداتهم أنهم يقطعون رءوس أعدائهم ويثقبونها من الخلف ويخرجون ما في جوفها، ثم يملئونها رملًا ساخنًا فينكمش الرأس إلى ربع حجمه ويصبح شبه محنط، وعليه الشعر الهادل الطويل، وأجزاء الوجه وبشرته، فيبقى شبه الشخص كاملًا، ثم تعلق هذه في البيوت تفاخرًا بالنصر! ولا بد أن يحضر بعض نساء الأعداء ويكلفن أن يرقصن ويبكين على مشهد من ذاك التشنيع بأهلهن! ولا تزال تلك العادة شائعة بينهم رغم تحريم الحكومة لها، وتباع تلك الرءوس في كثيرٍ من ثغور بيرو وإكوادور خلسةً، وقد غلت أثمانها حتى بلغت ما بين خمسة جنيهات وعشرة؛ لأن القانون يحرِّم بيعها.
ومن عادات هؤلاء الهنود كثرة الوشم والتجريح والنقش على الوجه بأشكال تدل على قبيلة الفرد منهم، وهي في الرجال أكثر منها بين النساء وكثير من القبائل تُلبِس موتاها أردية جديدة مزركشة لتنفعهم في الآخرة، وهم صيادون مَهَرَة يستدلون على قنصهم بحاسة الشم المرهفة لديهم، وإذا أراد أحدهم الزواج اصطاد قنصًا وألقى به إلى قدمَيْ خطيبته؛ فإن أخذته وطبخته كان دليل الرضا والقبول، وإن أعرضَتْ عنه باحتقارٍ كان عنوان الرفض! وهم يعملون أجيرين في حقول الكاكاو ويخضعون خضوع الرق؛ فالملَّاك يغرونهم على الاستدانة منهم فإن حاوَلَ الواحد الخروج على سيده طلب البوليس ليساعده على إرجاعه وإخضاعه عنوةً، وهذا لا شكَّ نوع من الرق، رغم أن القانون يحرِّم الرقَّ علانيةً، وسيلبثون كذلك حتى يتذوقوا بعض التعليم، وهو مهمل بينهم وإن حتم القانون التعليم الإجباري، والحكومة هناك رديئة جدًّا همها جمع المال بدون كد، فالموظفون يمهرون مرتبات ضئيلة، ولا يستمرون في الحكم إلا إذا ساد حزبهم، فإن تغيَّرَ الحزب والرئيس غيروا جميعًا، لذلك يحاولون جمع المال بالرشاوى مدة حكمهم، وهي أربع سنين حتى يتغير الرئيس، والأهلون يتوقعون الضرائب الجديدة كل آنٍ.
(٧) إلى كولمبيا أو غرناطة الجديدة
سرنا بجانب شواطئ كولمبيا وقد بدت نجادها وطيئة لا تُشعِر بعظمة الأنديز وعلوها الذي ألفناه من قبل، وكانت أرضها تُكسَى بالغابات الكثيفة العذراء، ثم دخلنا خليجًا هو مصب نهر «جرايا» الفسيح، لبثنا نسير بين شاطئيه ساعتين والغابات تسد الآفاق سدًّا تتخللها المسايل الصغيرة التي كانت تفاجئنا بين حين وآخر، وأخيرًا ظهر ثغر بوينا فنتورا، وكان اسمها «مالا فنتورا» يوم أن استقبلت أول بعثة إسبانية بتحطيم سفنهم، وهي أكبر ثغور كولمبيا على الباسفيك، وإذا بها مجموعة أكواخ أُقِيمت على عُمُد من الخشب، وكُسِيت سقوفها المنحدرة بالحديد المجزع ونُثِرت في غير نظام، على أن ماء الثغر عميق، لذلك رست باخرتنا إلى جوار الرصيف تمامًا، وتلك أول مرة أمكنها ذلك بعد فلبريزو.
والبلاد من أغنى أقطار الدنيا، لكن دوام الثورات والاضطراب أخَّرَها جدًّا وجعلها من أفقر البلاد، وزاد ذلك عناية الحكَّام بالآداب وإهمال المادة والاقتصاديات؛ إذ يحتقرون الأعمال اليدوية والتجارية كسائر الإسبان، وقد أفادهم فتح قناة بنما؛ إذ قرَّب غلاتهم من الأسواق رغم أنهم ثاروا للفكرة ولاقتطاع منطقة القناة من أملاكهم، والبلاد معروفة بكثرة التماسيح حتى قيل إنك لتستطيع أن تسير أميالًا على ظهورها دون أن تمس الأرض على بعض ضفاف أنهارها!
(٨) إلى قناة بنما
كان حر الليلة الفائتة قاسيًا ممضًّا؛ لذلك لم أنم إلا غرارًا، وكان صباح اليوم مشبعًا بالرطوبة ملبدًا بالغيوم، وبعد تناول الإفطار أنذرتنا عاصفة عاتية بسحابها القاتم الذي أخذ يفد من القارة إلينا، وزاد ظلام الجو فأضحى كأنه الغروب، ثم توالى وميض البرق وعلت قعقعة الرعد وهزيمه الذي ألقى الرعب في قلوبنا، وكانت معنا جمهرة من الصينيين انسلوا جميعًا خائفين إلى مضاجعهم، ثم سحت جفون السماء بوابل لم أعهده من قبلُ، فكأن بحار السماء قد صُبَّتْ على الأرض، ولبثت كذلك طويلًا ولم ينكشف الجو بعض الشيء إلا عصرًا، وفي السادسة مساءً بدت أمامنا بعض الجزائر المنثورة تكسوها الخضرة التي أسفرت عن غابات كثيفة عندما قاربناها ومررنا من بينها وهي تسامت السواحل الجنوبية لبنما، ومن ورائها بدت «بالبوا»، وبنما إلى يميننا بأضوائها المبثوثة هنا وهناك، وغالب البلدة أرض وطيئة ليس بها من المرتفعات إلا تل مخروطي.
رست الباخرة على أرصفة بالبوا التي سُمِّيت كذلك إحياءً لذكر بالبوا الذي كان أول مَن قطع برزخ بنما وشاهَدَ مياه الباسفيك، هنا تجلَّتِ القدرة الأمريكية في إقامة المدن وحسن تنظيمها، فالمرسى مزوَّد بكل ما تتطلبه السرعة وإسعاف التجارة والأسواق، مخازن شاهقة فسيحة أُقِيمت من الحديد المجزع وزُوِّدت بالإرشادات والعربات الأوتوماتيكية وتخترقها سكة الحديد، وكُتِبت الإرشادات اللازمة في كل مكان لكيلا يضل أحد أو يقع في الخطأ، ولا يُسمَح لغير العمَّال المكلَّفين بالعمل اختراق نطاقها، وفي داخلها تصفُّ البضائع في نظام دقيق وعلى كل لوحة البيانات اللازمة. أما المدينة فقد أدهشني حسنُ نظامها وطرقها الممهدة بالغة النظافة، وبيوتها كلها فلات أنيقة من خشب تغشاها جميعًا شباك السلك الدقيق منعًا للبعوض؛ لأن المنطقة كانت معروفة بأمراضها من قبلُ، وهي تُشعِرك بأنها مسكن طبقة أرستقراطية وفيرة الغنى، ويؤدي منها ترام وعدد من الأتوبيسات إلى بنما عاصمة الجمهورية، وهذه أيضًا حسنة النظام والنظافة، لكنها دون جارتها في ذلك، وبيوتها كلها من الخشب تجانبها الأعمدة لتظل المارة في جوانب الطرق. والبلدة ذات تاريخ قديم؛ إذ أُقِيمت في القرن السابع عشر على أنقاض بلدة قديمة، ولا تزال ترى على بُعْد منها بقايا من الأبنية العتيقة التي كانت معقل قرصان البحر، والبلدتان رغم اختلاطهما هكذا منفصلتان في الإدارة، فالأولى وهي بالبوا داخلة في منطقة القناة، وهي مقر إدارة القناة وهندستها وتحت الحكومة الأمريكية، أما بنما فتابعة لحكومة جمهورية بنما.
أما عن الحياة ليلًا فحدث في دهشة ليس لها حد؛ إسراف في المجون لا يُوصَف، حتى خُيِّلَ إليَّ أن جميع نساء البلدة داعرات يقفن في الطرقات وأمام بيوتهن في كل مكان! ومقاصف الخمر والمراقص تعمُّ البلدة ولا عمل للناس فيها إلا السكر والنساء، وحتى نساء الزنوج تراهن قد غالين في التبختر في المشية والتأنق في الملبس والتبرج في زينة الوجه وطلائه بألوان تؤثِّر في اللون الأسود فتحيله قرنفليًّا، وهنا تجلت الإباحة الأمريكية التي كنتُ أسمع عنها من قبلُ، فهم من الشعوب الذين يستبيحون أن يأتوا في سويعات الفراغ ما يروقهم، ويعطون للنساء من الحرية حدًّا نراه نحن معيبًا. وسكان الإقليم خليط من شعوب عدة جلهم من السود، ثم الإسبان والهنود والصينيين والأمريكيين وأخلاط من كل أولئك، فأنت تدهش لاختلاط الألوان وتغيُّر السحن أينما سرت.
أما عن جمال الطبيعة على جوانب تلك البحيرة ومساربها العدة، فذاك ما لا يستطيع قلمي الكليل الإفصاح عنه، وقد مررنا بعدة نهيرات صغيرة تصب فيها من جميع جوانبها ومن بينها نهر شاجرس نفسه، وكان لبعضها مساقط جميلة، وكانت محطة توليد الكهرباء تقوم إلى يسارنا على بحيرة جاتون عند السد، وتلك القوة الهائلة تستمد من انحدار مياه البحيرة، والمنطقة مزوَّدَة بشباك من المصابيح في صفوف أنيقة، وعند نهاية البحيرة أبصرنا بالسد الذي أُقِيم فحبس ماء النهر، ومستوى البحيرة فوق مستوى البحرين بنحو ٨٥ قدمًا، وتلك هي المسافة التي علوناها بالأهوسة السالفة الذكر، ولولا إحداث تلك البحيرة لاضطر المهندسون إلى حفر هذا الجزء الطويل — ٣٢ ميلًا تقريبًا — بقدر علونا عن البحر. ثم ظهرت أهوسة جاتون الثلاثة الواحد دون الآخَر، وقد اخترقناها ونحن ننزل من المستوى المرتفع إلى مستوى أدنى منه، وكانت تجرنا العربات على النظام السالف وتنزل بنا درجة بعد درجة حتى خرجنا إلى قناة متسعة أدَّتْ بنا إلى مدينتَيْ كرستوبال وكولون، رسونا على أرصفة كرستوبال منتصف الساعة الثانية مساء، أعني أنَّا اخترقنا القناة كلها — زهاء خمسين ميلًا — في سبع ساعات ونصف؛ إذ لا يمكن السير بسرعة أكثر من هاتيك، لكنَّا بتلك السرعة البطيئة انتقلنا من المحيط الباسفيكي إلى المحيط الأطلنطي، ولقد كادت تساوي تجارة تلك القناة أهمية قناة السويس؛ إذ مرَّ بها سنة ١٩٣٣، ٤٤٩٤ سفينة حمولتها فوق ١٨ مليون طن، وفي سنة ١٩٣٠ كانت ٣٠ مليون طن.
نزلنا البلدة فإذا بها شبيهة بشقيقتها على الجانب الباسفيكي؛ أرض ممدودة وشوارع نظيفة ونظام أمريكي متقن، وهي تحت الإدارة الأمريكية تدخل في منطقة القناة وتتصل بأختها كولون الخاضعة لحكومة بنما، فلا يدرك المرء فواصل بينهما، والأبنية كلها بالخشب من طبقتين تميِّزها الأعمدة الكبيرة، ويشق البلدة شارع رئيسي أُقِيم وسطه وعلى طول امتداده متنزه بديع فسيح يبدأ عند البحر، وهنا يقوم تمثال كولومب وقد كُتِب عليه «الخالد الذكر كاشف العالم الجديد»، وبعده تمثال نصفي لفردناند دلسبس مبتكر فكرة القناة، وبعده تمثال بوليفار نصير الحرية في أمريكا الجنوبية ثم تماثيل أخرى.
أما عن الأهلين واختلاف صنوفهم وعن المجون أثناء الليل فذاك يكاد يفوق بنما، وتلك البلاد محط رحال العابرين من المسافرين بين المحيطين، وكلهم يتمنَّون لو تمكث الباخرة التي تقلهم هناك طويلًا، واسم هاتين المدينتين اختير لتخليد ذكر كاشف أمريكا فاسمه بالإسبانية «كرستوبال كولون»، ولقد كانت بنما أكثر بلاد الأرض وباءً لكنها استحالَتِ اليوم إلى مزار صحي، فبمجرد امتلاك أمريكا لها أعلنت حربًا شعواء على البعوض واستؤصل الوباء الأصفر والملاريا، وقد باعت الشركة الفرنسية أنقاضها بنحو ٤٠ مليون ريال، ولما طلبَتِ الولايات المتحدة التصريح بالإشراف على منطقة القناة بعد إتمامها، تلكَّأَتْ حكومة كولمبيا وعارَضَ بعض رجالها، فثارت بنما طالبة الاستقلال فأيَّدَتْها الولايات المتحدة واعترفت بها سنة ١٩٠٣، وأخذت ملكية منطقة القناة وبدأت حربها ضد الأوبئة والبعوض، ثم جاءت فكرة: هل تشق القناة إلى مستوى البحر كما كان رأي دلسبس أو تنفذ بطريقة الأهوسة المرتفعة؟ فأرسلت الحكومة بعثة من ثلاثة عشر مهندسًا، فقرَّرَ ثمانية منهم حفرها مثل قناة السويس، لكن تقرير الأقلية هو الذي راق الولايات المتحدة واستلزَمَ ذلك ثلاثة أشياء: الأهوسة الضخمة، وحفر تسعة أميال في صميم الصخر، وخلق بحيرة على علوِّ ٨٥ قدمًا.
وكان الجميع يخشَون فيضان نهر شاجرس الذي ارتفَعَ مرة ٢٥ قدمًا، في يوم واحد، وبما أنه يقطع القناة أضحى خطرًا عليها؛ لذلك رُؤِيَ ضرورة عمل بحيرة جاتون الهائلة ليصبَّ فيها ماءه الكثير، وقُدِّرَتِ النفقات كلها — أمريكية وفرنسية — بنحو ١٤٠ مليون جنيه، نصيب أمريكا منها ٨٠ مليونًا تقريبًا، وقيل إن الردم الذي استُخرِجَ منها يملأ عربات سعة الواحدة عشرون ياردة مكعبة، يمكن صفها في قطار يطوق الأرض حول خط الاستواء ثلاث مرات ونصف! ولقد انتصر روزفلت على معارضي فكرته في فتح القناة، وهي وإن كانت قد فصلت أمريكتين عن بعضهما بالماء إلا أنها وصلتهما من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية، هذا ويقوم اليوم في مدينة بنما معهد لدراسة أمراض المناطق الحارة اختفى بفضله الوباء الأصفر، وكادت تختفي الملاريا.
ظل البحر في اليوم التالي مضطربًا كعادته إلى الظهر حين بدت بعض جزر الهند الغربية الصغيرة، بعضها إلى اليمين والبعض إلى اليسار، وبمجرد اجتيازها انتقلنا إلى بحر هادئ وعادت السفينة إلى اتزانها مما أيَّد لدينا عنف البحر الكاريبي الشديد إذا قارناه بالمحيطين الأطلنطي والهادي، ويُخَيَّل إليَّ أن الباسفيك أهدأ البحار التي اخترقتها فاسمه خير دليل عليه. وهنا ذكرت ماجلان الذي توَّجَه بهذا الاسم «الهادي» بعدما قاسى مرارة الأطلنطي الجنوبي ومضيق ماجلان؛ لأنه قد انتقل إلى بحرٍ ماؤه ساكن ونسيمه عليل. وفي الخامسة مساءً كنا بين الجزيرتين: كوبا إلى يسارنا، وهايتي إلى يميننا، ظهرتا كالحوائط الصخرية الشاهقة تكسوها الخضرة الجميلة.
(٩) إلى الولايات المتحدة بلاد العجائب
أخذنا نترقب إلى ساعة متأخرة من ليل أمس أضواء نيويورك، وحوالي العاشرة مساءً بَدَا خط من نور عند الأفق، فقيل لنا هي أضواء نيوجرسي، ثم دخلنا بين صفين من الضوء، إلى اليمين مجموعة من جزائر أقربها إلينا كوني جزيرة الملاهي الشهيرة، وبها لونا بارك أمريكا ذائع الصيت، وهنا وافانا «البيلوت»، ولبثنا نسير فنلقى وسط الماء محاطَّ ثابتة بأضوائها المتوهجة لرسو زوارق الخفارة والمرشدين، وأخذت أضواء «الشمندورات» مختلفة الألوان تدور حول نفسها وتدق أجراسًا لتنبه السفن إنْ غمَّ عليها بسبب الضباب، ثم بدت إلى اليسار أضواء نيويورك المتوهجة، ووقفنا وسط الماء ننتظر إلى الصباح. آويتُ إلى غرفتي وقد عاودتني الوساوس، وأوجست خيفة الكشف الطبي في الصباح، فتخيلتُ أنهم سيرفضونني بسبب «التراكوما» وعندئذٍ تفلت مني فرصة غالية هي رؤية نيويورك؛ لذلك لم أكد أنام ليلتي قطُّ. وفي باكورة الصباح وفد الغلام يتعجلنا إلى موافاة الطبيب، فقمت فزعًا وإذا بالأمر سهل؛ إذ استعرضنا الطبيب بظرفه ونحن وقوف، ولم يلق حتى مجرد نظرة على عيوننا فكدتُ أطير فرحًا، ثم أعقبه رجال المهاجرة ولم يقلوا ظرفًا عنه، ثم تقدَّمت بنا الباخرة إلى الميناء فتجلَّتْ ناطحات الساحب في لون قاتم؛ إذ كان يغشى الجو الضباب، وبدأنا نسمع ضوضاء المدينة وسط ضبابها المتصاعد.
هنا بدت نيويورك كأنها خريطة اليد ترى طرقها ونواحيها وأنهارها في جلاء تام. أما عن جمال المناظر فذاك ما لا أستطيع وصفه، جلست طويلًا أطوح النظر يمنة ويسرة والعقل حائر في تلك القدرة المالية التي مكَّنَتْ أولئك من إقامة تلك الشوامخ؛ فقد قيل لي إن ذاك البناء كلَّف أربعين مليون ريال، أي ثمانية ملايين من الجنيهات، ويملأ الصلب الذي استُخدِمَ في بنائه قطارًا طوله أحد عشر ميلًا، ويتعمق أساس البناء في الأرض بين ثمانين ومائة متر، وكنتُ أسائل النفس: هل يربح أولئك من وراء إيقاف تلك المبالغ الطائلة كثيرًا؟! لكن الأجور في تلك المنازل باهظة؛ إذ يشغلها عادة رجال الأعمال للتجارة، ويندر أن تكون للسكنى، ويقدرون إيجار القدم المربعة الواحدة بخمسة ريالات في العام؛ أعني أن الغرفة التي تبلغ مساحتها مائة قدم يدفع فيها مستأجروها مائة جنيه في العام؛ أي زهاء ثمانية جنيهات في الشهر، ويناهز مجموع سكان البيت ٢٥ ألف نفس، فكأنه بلدة كاملة.
خرجتُ أتجول في تلك النواحي ليلًا فكانت دور الملاهي الأخرى غاصة بالجماهير، وكلها في فخامة وزخرف لا يكاد يصدِّقه العقل، أما الأضواء التي تحوطها فتكاد تكسو جدران الشوارع كلها، والأمريكيون معروفون بالإسراف في وسائل الإعلان إلى حدٍّ لا يُبارَى. كنتُ أنظر فأرى مياهًا تتدفق، وأناسًا تجري وتلعب، وحيوانات تتحرك، ومخطوطات تتتابع، كلُّ ذلك من النور المتوهِّج في ألوان متغيرة من لحظة لأخرى، ويظل ذلك الليل كله والحركة لا تنقطع، ودور المقاهي والمطاعم مفتحة، وبعض المتاجر كذلك تظل الليل كله ولا تغلق أبوابها، وبخاصة عند تقاطع «برودواي بشارع ٤٢»، وتُسمَّى تلك البقعة «الطريق الأبيض العظيم»، إذا نظرتها من ذروة إحدى الناطحات شابَهَتْ حفرةً مشتعلة النيران متلونة، ومنظر الناطحات كأنه مساكن أهل المغائر بثقوبها المنيرة ليلًا، على أني لم ألحظ من المجون وابتذال النساء ما لاحظته في البلدان الأخرى، وإني أعزو ذلك إلى الإباحة الشديدة والحرية المطلقة التي تتمتع بها السيدة هناك، مما لم تجد ضرورة معها إلى سلوك ذاك المسلك المبتذل.
ومن الناطحات الجميلة التي تفقَّدْتُها «كريسلر» بطبقاته السبع والسبعين، وسكانه البالغين خمسة عشر ألفًا، وبناء «وولورث» وهو أجملها، أُقِيم على النسق القوطي في ستين دورًا، وأهله ١٢ ألفًا، ومولِّد الكهرباء به يكفي لتموين مدينة أهلها خمسون ألفًا، وبعض روافع تلك الناطحات مزدوج، أي إنه بدورين فيقف على دورين من البناء مرةً واحدةً، ويهولك في تلك البلاد أمر العجلة التي تلحظها أينما حللْتَ؛ الناس يسيرون مسرعين، فإن سألتَ أحدهم شيئًا أجابك ولكن في غير وقوف، فهو يكلِّمك وقدماه تسرعان في السير فتضطر أن تتابعه خطاك، ولا تكاد ترى منهم متسكعًا؛ فالوقت لديهم ثمين حتى في سويعات اللهو، والمقاهي جلها لا تزودك بالمقاعد بل تشرب ما تريد وأنت واقف إلى جوار «البنك»، وكذلك المطاعم فجلُّها من هذا النوع، وكثير منها أوتوماتيكي، تُلقِي بقطع النقود في الصندوق فتأكل ما تريد، وأنت ترى صناديق في المحاط ورءوس الطرق لبيع المأكولات والحلوى وأوراق البريد ولعب الأطفال على ذاك النظام الأوتوماتيكي، دون صاحب أو رقيب يقف إلى جوارها، وتلك المطاعم عديدة لا حصر لها وتجدها في جميع الطرق أينما سرتَ، والطعام فيها جيد ورخيص، فالوجبة بين ٤٠ و٥٠ سنتًا، أي ٨ و١٠ قروش.
ويصل نيويورك بالجزائر المجاورة مجموعة من قناطرَ هائلةٍ، عبرتُ منها اثنتين: «مانهاتان» أغلاها كلفًا؛ إذ كلفت ٣١ مليون ريال، و«بروكلن» أضخمها، وتؤديان إلى جزيرة بروكلن، وتلك الجزيرة «مانهاتان» باعها الهنود سنة ١٦٢٦ بأربعة وعشرين ريالًا، فأصبح ثمنها اليوم مليارين، والقدم تباع في أرضها بمائتين إلى ستمائة ريال، وتلك القنطرة أدهشتني بضخامتها واتساعها وشاهق علوِّها، وهي مع هذا معلقة على شباكٍ من حديدٍ وأسطوانات قد يفوق قطرها الذراع، وبها طريق للسيارات يليه آخَر للترام ثم ثالث للإلفيتر، هذا إلى اليمين ومثل هذه إلى اليسار، والطريق المتوسط للمارة على الأقدام، وهو أعلى مستوى من الطرق السالفة، ومنظر نيويورك وناطحاتها — وبخاصة القسم المالي — من فوق تلك القنطرة رائع.
وقد زرتُ متحف التاريخ الطبيعي، وهو يكاد يفوق متحف لندن في أبهته وثروة محتوياته، تُعَدُّ به أبهاء للدراسة ومعامل وافية للبحث، ولمَن شاء من المدارس أن يذهب بطلبته ويستعرض ما يريد كأنه في مدرسته، ولعل أغنى ما به المجموعة الحيوانية وبقايا الإنسان القديم وتطوُّره، تعرض في هياكلها مدرجة العصور، كذلك الحيوان البائد في مختلف العصور، تليها المجموعة النباتية، ثم الصخور المختلفة، وهناك قسم كامل تُعرَض به الأحجار الكريمة، والمدهش أنها كلها من إهداء بعض رجالاتهم، وغالب محتويات متاحفهم مهداةً من هواة الباحثين وكبار العلماء، وهناك غرفة مظلمة بها أجهزة للمجموعة الشمسية والنجوم، ومنها ترى حركات الأرض والقمر والكسوف والخسوف في جلاءٍ تامٍّ.
نياجرا
أخيرًا بعد عشر ساعات أو يزيد دخلنا «بفلو»، وهي من كبريات المدن مظهرها صناعي بحت، وهنا غيَّرنا القطار فسرنا إزاء نهر نياجرا الذي يفوق نيلنا اتساعًا حتى خلته بحيرة إيرى نفسها، وضفافه كلها منسقة الزرع منثورة القرى والمساكن، ومدينة نياجرا نفسها آية في الفن والجمال. هنا أقلتنا سيارة نظير ثلاثة ريالات إلى مناطق الشلال الذي بدا زبده ورذاذه على بُعْدٍ، وأخذنا نقاربه فتستبين جوانبه حتى فوجئنا بمظهره كاملًا فأُرتِجَ علينا وكنَّا جميعًا من السائحين، ولم ينطق أحدنا بكلمة بل لبثنا نرقبه ذاهلين؛ الماء دافق في شدة مروعة، ومسقطه غائر يتقوس الماء فيترك وراءه تجويفًا، دخلناه فكان الماء الهاوي أمامنا، ثم نزلنا إلى قاعدة الشلال وحملتنا إليه باخرة صغيرة، ووقفنا على صخوره المنهارة والماء يساقط أمامنا، وقد أظلنا رذاذه فبلل أجسادنا، وكان دويه يصم الآذان، وللهنود الحق في تسميته نياجرا، وهي كلمة هندية معناها «رعد الماء»، وفي الحق إن مشهده ليأخذ بالألباب، فهو في روعته لا يجاريه غيره في العالم، اللهم إلا شلال فكتوريا على الزمبيزي في أواسط أفريقية، وليس الوصف بمُجْدٍ في إظهار حقيقته؛ فأنت لن تقدِّر عظمته وروعته إلا إذا زرته ومتعت عينيك بمشهده.
أعياني البحث عن نيويورك القديمة، فاهتديت إلى بعض الجهات الفقيرة في حي «مانهاتان» في جنوب شرق البلدة، وهنا لاقيت بعض المتسولين ومنهم سيدة كانت تعرض طفلتها في عربة الأطفال الصغيرة وتستجدي بها، وقيل إن ذلك من أثر انتشار البطالة والإفلاس الأخير الذي أخلى نحوًا من ١٢ مليونًا في الولايات المتحدة من عملهم، ولذلك أخذت الدولة تشجِّع العودة إلى الأعمال الزراعية، وبدأ الناس يعودون إلى سكنى الريف، وقد لجأ فورد إلى نظامٍ يخفِّف ويلات البطالة، فأقام بعض المصانع الصغيرة مبعثرةً في الأقاليم، ووظَّفَ بها العمَّال أنصاف أيام، وما بقي من الزمن يصرفه العامل في خدمة الزراعة. على أن مظهر الغنى والثراء هو الظاهر الذي يلحظه الغريب في تلك البلاد، وكل تلك المنشآت من وسائل نقل وأبنية وسفائن ومصارف وما إليها ملك للشركات والأفراد، وقلما يكون للدولة شيء منها، وأنت تلحظ التزاحم أينما سرت في الطرق والمتاجر والمباني والمتنزهات وحتى في المتاحف؛ إذ ترى جموع الطلبة والطالبات يتفقدون ما يدرسون من الموضوعات عمليًّا، ولا تكاد تدخل غرفةً في متحفٍ ولا ترى جمعًا منهم، ومستوى الثقافة في هذا البلد مرتفع جدًّا بفضل رقي التعليم وكثرة المتاحف وتعدُّد المعروضات السينمائية وتنوُّع المطبوعات من كتب وصحف، وقد تدهش إذا علمتَ أن في جامعة كولمبيا بنيويورك ٣٨ ألف طالب، وفي جامعة نيويورك ٣١٥٠٠، وفي جامعة نيويورك كولدج ١٨٣٠٠، وفي جامعة فوردهام ٨٧٢٦ طالبًا وتلك أشهر جامعاتها.
فالبلد في الواقع بلدَانِ أو ثلاثة بعضها فوق بعض، فالجماهير وحركة النقل تراها تحت الأرض وفي الطرق وبروافع النواطح في الجو إلى السماء.
حدث مرة أني كنتُ أقف على رأس أحد الطرق أشاهد حركة المرور الهائلة، وإذا بدخان وبخار انفجر من تحت قدمي صاعدًا إلى الجو، ففزعتُ وخلته حريقًا أو بركانًا لفظَتْ به الأرض، وإذا بتلك النوافذ من شباك الحديد في كل مكان لتطرد الهواء الفاسد الحار من الطرق تحت الأرض، ثم تعوضه المضخات بأهوية سليمة منعشة، وعجبت من قلة أجناد البوليس في الطرقات، وكنتُ أخال أنهم سيملئون جوانب الطرق ليرقبوا تلك الحركة المائجة، لكنك ترى القليل منهم وفي يد كلٍّ عصاه القصيرة يسير على الإطار ذهابًا ورجعة، ومظهره ليس من الرهبة بالقدر الذي يُلاحَظ في بوليس لندن.
ويظهر حقًّا أن أعظم رجال البوليس دقةً ومهابةً في بلاد الإنجليز والألمان. ومن أهل نيويورك عدد لا بأس به من السود تراهم أينما سرتَ، وغالبهم ممَّن يقومون بأعمال الخدم، على أن هناك نفرًا منهم يزاحمون البيض في الأعمال الكبيرة وعددهم آخِذ في الزيادة؛ لأن أجور الجنس الأبيض عالية، وهم هناك لا تساء معاملتهم كما هي الحال في مقاطعات الجنوب حيث يزيد السود على اثني عشر مليونًا، يمتهنهم الجنس الأبيض ويبغضهم، فيخصِّص لهم مركبات وجوانب من الترام وبعض المطاعم، ولا يسمح لهم بالدخول إلى جانب البيض! وقد ناقشت أحد مثقفي البيض في أمر ذلك، فقال بأنه شعور طبيعي لا يمكنهم مقاومته، يحسب الواحد منهم بأن الأسود دونه مقامًا فلا يسمح لنفسه أن يأتلف به أو يحادثه إلا بقدر ما تدعو الضرورة! على أن السود يقابلون ذاك النفور بمثله، وكثيرًا ما تقع الحوادث بين الفريقين! فقلتُ لصاحبي: لكن أليس من الحكمة التفكير في حلٍّ لإزالة تلك الفوارق بدل الاسترسال في توسيع مدى الخلف والبغضاء؟! قال: ذاك ما لا نظنه يقع يومًا؛ لأن اختلاط الجنسين تمنعه التقاليد فلن يندمج الاثنان أبدًا، وستظل مشكلتهم من أعقد المشاكل أمام حكومات الولايات المتحدة، وقد بلغ من كره البيض لهم أن الأسودَ إنْ أذنب لا يطيقون الانتظار حتى يُصدِر القضاءُ فيه حكمه، بل يهجمون على المجرم وينزلون به أقسى العقوبات! نزعة غريبة لا تتفق وما يُعرَف عن الأمريكيين من الإباحة وتقديرهم للحرية والعمل على نشرها!
ومتوسط ما يُهدَم من المباني يوميًّا ستة وما يقام ٢٣، ولكل أحد عشر شخصًا سيارة، ولا يزال بالمدينة ٥٠٠٠٠ حصان، ويدخل المدينة يوميًّا ٥٠٠٠٠٠ فردٍ من بينهم ٢٠٠٠٠٠ من السائحين، ويركب الترام والبس على اختلاف أنواعها كل يوم ٩ ملايين فرد، ويبلغ عدد السيارات التاكسي ٢٣٦٢٨، وطول مينائها ٩٩٥ ميلًا، وتبرحها نحو ٥٠٠ سفينة كل شهر إلى خمسين جهة مختلفة، وقيمة صادراتها ١٧٦٩٦٨٤٥٧١ ريال، وهو ٣٤٪ من صادرات الولايات كلها، والواردات ١٩٤٩٩٨٢٧٠٧ وهو نصف واردات الولايات، وتنتج مصانعها عُشْر ما تنتجه الولايات، منها ٢٧٠٦٢ مصنعًا يموِّن ٥٥٢٥٠٧ عمال يتقاضون ٩٠٤٦٤٦٤٢٧ ريالًا، وينتجون ما قيمته ٥٧٢٢٠٧١٢٥٩ ريالًا في العام، ومتوسط أجر العامل فيها ١٦٣٧ ريالًا في السنة — ومتوسطه في الولايات المتحدة عمومًا ١٢٩٨ ريالًا — وتسلم مصلحة البريد للأفراد يوميًّا ١٥ مليون رسالة، وفي نيويورك من ناطحات السحاب التي تفوق عشرين طابقًا ١٢٠ بناء. تلك بعض الحقائق والإحصاءات التي تعطي القارئ فكرةً عن نيويورك، فيحكم بأنها أعظم مدن الأرض في كل شيء، على أنها لا تمثِّل سائر بلاد الولايات المتحدة، فتلك فريدة في نوعها. أما الحياة في سائر البلدان الأخرى فلا تبلغ تلك الجلبة، ولا تعطي فكرة الضخامة التي تعطيها نيويورك، وكم لاقيتُ من أهل الولايات المتحدة ممَّنْ وفدوا لزيارة نيويورك لأول مرة، وقد كادت دهشتهم تعادل دهشتي وأنا الغريب عن تلك البلاد! وحياة الريف هناك هادئة ليس بها شيء مما تراه في عاصمتهم.
وكم أدهشني الفرق الشاسع بين الأهلين هناك وبين الإنجليز، رغم أنهم أبناء لسان واحد، فأخلاقهم متباينة؛ فالأمريكي يستنكر من الإنجليزي ترفُّعَه عن الدخول في محادثة الغير ويرميه بأنه أصم خامل الفكر، والأمريكي سريع التعارف ورفع الكلفة مع غيره، ولا يخفي عن الغير حتى دخائل بيته؛ فهو يتحدث للناس عن مبلغ كسبه، وعن نشأته الوضيعة، وعن طريقة إثرائه؛ تلك الأمور التي يجعلها الإنجليز سرًّا مكتومًا، ولعل أميز صفاته شدة بساطته عن أهل أوروبا جميعًا؛ فأنت لا ترى فرقًا بين هندام الممول الكبير والعامل البسيط هناك، كما ترى ذلك واضحًا في أوروبا، ولا تكاد تجد من الأنزال والمطاعم ما يخصُّ طبقةً دون غيرها، فالكل سواسية على عكس ما ترى في إنجلترا مثلًا، وهو في رئاسته للأعمال مدين لكفاياته ودهائه.
والولايات المتحدة أكبر مصهر للأجناس تندمج فيها خير كفايات العالم؛ فقد كان ينزح إليها إلى طلائع الحرب الكبرى مليون وربع في كل عام، وإنك مدرك هذا الاختلاط العجيب لمجرد قراءة الأسماء التي تُكتَب على رءوس الحوانيت في نيويورك؛ فأنت تكاد تمرُّ على كل اسم من الأسماء المعروفة في كل بلاد العالم المتحضر، فمن اليهود مثلًا في مقاطعة نيويورك وحدها عدد يزيد على يهود فلسطين كلها خمسة عشر ضعفًا، ومن الطليان عدد يفوق سكان روما نفسها.
قمتُ مبكرًا أبرح نيويورك العظيمة على مضض مني؛ إذ كنتُ أود أن أقيم بها شهورًا كي أدرس عناصر تلك المدينة النشيطة التي تعدو إلى التقدم بخطى لا يكاد يصدِّقها العقل، وكان الجو عكرًا ماطرًا قاتمًا، ويغلب أن يكون كذلك هناك، وهم يتوقَّعون السحاب والمطر في كل يوم.
أما عن نظام الباخرة ونظافتها وما كانت تعرضه لنا من وسائل الراحة والتسلية فحدِّث؛ طعام فاخر وغرف للنوم وثيرة الفرش براقة الأثاث إلى ذلك المقاصف الفاخرة والمراقص المنسقة وتعزف الموسيقى الشجية وتعرض أشرطة السينما بين آنٍ وآخَر، هذا إلى مختلف الألعاب وحوض الاستحمام وحدائق الزهور، وسرعتها كبيرة رغم ضخامتها الهائلة؛ فهي تسير ما بين ٢٨، ٣٢ عقدة في الساعة. وكان جلُّ ركَّابها من الطليان، وهم قوم ظرفاء مَرِحون لا تمرُّ بهم فترة دون أن يسروا عن أنفسهم بالموسيقى والرقص والغناء شيبًا وشبانًا، على أنهم تعوزهم النظافة؛ فكم كنتُ أتألم وهم يبصقون جميعًا على أرض الباخرة وفرشها. وقد كان يرافقنا عدد لا بأس به من الأمريكيين يقصد بعضهم إيطاليا لدراسة الفنون، والبعض لدراسة اللاهوت، والبعض لدرس القانون، ويعترفون بأن إيطاليا أرقى في تلك النواحي العلمية من بلادهم. أما عن اتزان الباخرة العجيب فوق ماء الأطلنطيق المائج المضطرب، فكان يُعزَى إلى ضخامتها وعظيم حمولتها، وشتان بين هدوء الماء في الباسفيك العظيم وبين اضطرابه في المحيط الأطلنطي الشمالي الذي لا يكاد يخلو من العواصف والتيارات الشديدة.
وكان كثير من ركاب باخرتنا من الأجانب المتجنسين بالجنسية الأمريكية، وهم خليط عجيب أيَّدَ ما نعرفه في جلِّ أهل الولايات المتحدة من أنهم سلائل لشعوبٍ عدةٍ؛ فقد يكون الأب إيطاليًّا والأم أمريكية، وقد تكون هي أجنبية أيضًا لذلك كان منطقهم الإنجليزي جميعًا محرَّفًا، وقد أفسد هذا الاختلاط من اللغة كثيرًا فهي دون الإنجليزية صحة وبيانًا، وكثير من أولئك خانهم الحظ اليوم في الولايات المتحدة فلم يستطيعوا الكسب لكثرة العاطلين، وقد قصوا عليَّ نبأ البؤس المنتشر اليوم في ريف أمريكا، وحتى العمَّال المشتغلون قد لا يعملون في الأسبوع أكثر من يومين، والأيام الباقية عطلة لا يتقاضون عليها أجورًا، وكثير منهم لا يجد الآن قوت يومه، والعجيب أن لكلِّ منهم سيارة لكنهم أصبحوا عاجزين عن دفع ثمن «البنزين»، فأُهمِلت وصدئت وتلفت والكل ناقمون، والنهب والاغتيال في رابعة النهار وفي أمهات المدن وفي الطرق أضحى أمرًا شائعًا في كل تلك الأنحاء، فلم تصبح الإقامة هناك مأمونة لمَن يظن أن لديه مالًا، وبخاصة في شيكاغو وما جاوَرَها، والحكومة لا تستطيع صدَّ ذلك، وكثير من رجال البوليس يُشاطِرون المجرمين إجرامهم.
وصلنا نابلي صبيحة اليوم السابع، وكنتُ أرجو أن أدرك باخرتنا المصرية «النيل» فيطمئن قلبي على نجاح منشآتنا القومية الموفَّقَة، لكنها كانت قد سبقتني عائدةً إلى مصر، فركبتُ الباخرة إسبريا بعد أن بقيت يومًا في نابلي، وفي يومين أقبلنا على أرض الوطن المفدى، الذي غاب عني أنسه نيفًا وأربعة شهور، قطعت خلالها مسافة شاسعة مداها ٢٣١٨٣ ميلًا أو ٣٧٠٩٢٫٨ كيلومترًا، أربعة أخماسها كانت بحرًا والخمس برًّا.
وفي صيف سنة ١٩٣٧ قمتُ برحلة أطوف بها الكرة الأرضية كلها مبتدئًا السير شرقًا إلى أستراليا، فجزائر المحيط الهادي، ثم أمريكا من شواطئها الغربية، وعبرت أمريكا الشمالية مارًّا بالكثير من بلاد كندا والولايات المتحدة إلى الشاطئ الشرقي، وعبرَتْ بنا الباخرة المحيط الأطلنطي، فالبحر الأبيض المتوسط إلى الإسكندرية.